أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميثم الجنابي - البروتوكولات – الصورة المركبة للصهيونية الفعلية - 6















المزيد.....


البروتوكولات – الصورة المركبة للصهيونية الفعلية - 6


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 1630 - 2006 / 8 / 2 - 11:31
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


"الامتحان السياسي والثقافي" لماهية "البروتوكولات"

من الممكن الإقرار نظريا بتناسخ {الحوار…} في {بروتوكولات} وتناسخ "حكماء صهيون" في "راجكوفسكي" لكنها معادلة غير معقولة بالنسبة لأولئك الذين وجدوا في راجكوفسكي عدوا لدودا لليهودية الصهيونية. لهذا اصبح تصويره فردا مغامرا ودجالا أيديولوجيا الصيغة "المعقولة" في مجرى الجدل الدائر حول اصل "البروتوكولات". ومن ثم رسم معالم الصورة التي تجعل من راجكوفسكي، في افضل الأحوال، مزورا ماهرا، لاسيما وأنها المهنة التي لا تخلو منها دهاليز الشرطة السرية في كل مكان.
لكن قبل أن تصل العين "النقدية" الباحثة في كل زاوية عن خيوط "العداء للسامية" لاستنتاجها الانف الذكر، فإنها حاكت قبل ذلك ملابس عديدة، ألبستها مختلف الشخصيات والمراحل والمؤلفات. ففي البداية جرى العثور على "نموذج" "البروتوكولات" في المؤلفات التي أشارت إلى مساعي اليهود للسيطرة العالمية أو تحدثت بإسهاب عنها، مثل رواية ريتكليف (الاسم المستعار لهرمن غودشه) {كلام الحاخام} الصادرة عام 1868، ثم في {احتلال اليهود للعالم} لعثمان بي (الاسم المستعار للكاتب ميلليغين) الصادر عام 1873. ثم في {رسالة كريميه} الصادرة عام 1873، ثم في كتاب برجستسلافسكي {السر العظيم للماسونية} الصادر عام 1882، ثم في تقرير وزارة الداخلية المقدم عام 1895 بعنوان {أسرار اليهود}، ثم في دراسة ليتفين – آفرون {بين اليهود} الصادر عام 1896.
وإذا كانت هذه المحاولات في بداية الأمر جزء من الصراع الفكري "الرفيع المستوى"، أي ذاك الذي حاول أن يبحث عن مؤلفات استمدت منها "البروتوكولات" نموذجها في "تزوير" الوثيقة، فان أولئك الذين كانوا على ثقة تامة من أن "البروتوكولات" هي من صناعة "الحكماء الصهاينة" أو الماسونية اليهودية، قالوا بأنها ليست إلا صيغة متطورة من ممارسة اليهود للسيطرة بتاريخها العريق. ومن ثم، ليست "البروتوكولات" سوى حلقة جديدة اكثر تطورا لما في الوثائق السابقة، وبالأخص "الفايسخاوبته"، التي سبق وان نشرت عام 1787 وكذلك وثيقة "رسالة براغ". بعبارة أخرى ليست "البروتوكولات" سوى حلقة جديدة من حلقات التاريخ اليهودي الصهيوني للاستحواذ والسيطرة العالمية. وهي ظاهرة سبق وان كتب عنها قديما كريتينيو جالي عام 1859 في معرض انتقاده الشديد للقيادات اليهودية في المحافل السرية (الماسونية). كما أشار لها ريتكليف في روايته الشهيرة {روما – بياريتس} (أو كلام الحاخام) المنشورة عام 1868، التي تتحدث في إحدى فصولها (مقبرة براغ) عن كيفية اجتماع رؤساء اليهود في إحدى المقابر اليهودية في مدينة براغ لمناقشة برنامج السيطرة على العالم. وفي وقت لاحق سيقول هرمن غودشه (ريتكليف)، بانه اخذ مضمون هذا الفصل من خطبة لأحد حاخامات اليهود في مدينة لفوف. كما أشار عثمان بي (ميلليغين) الى أن اليهود العاملين في الحركات الثورية ينتمون ويخضعون أساسا "للاتحاد اليهودي العالمي" في أعمالهم ونشاطاتهم.
ووجدت هذه الأفكار صداها "المستقبلي" في فرضيات الكاتب مارر (Marr)، الذي تكلم عام 1879 عن إمكانية فوز اليهود على الألمان والقيام في وقت لاحق بالثورة في روسيا. وهي فكرة وجدت القيصرية فيها بعد ثورة 1905 "تنبؤا" وتجسيدا لما في "البروتوكولات"، وبالتالي اعتبارها وثيقة صحيحة مع ما ترتب على ذلك من مواقف سياسية. كل ذلك جعل من "البروتوكولات" وثيقة سياسية خطيرة. حيث أثارت من ذلك الحين الشعور الحذر تجاه القوى الراديكالية التي وضعت نصب عينيها مهمة القضاء على "الزعامات الشرعية" والقومية والدين. وبعد انتصار ثورة شباط عام 1917 في روسيا، وبالأخص بعد ثورة أكتوبر للعام نفسه، والثقل اليهودي فيها، جرى إحياء الاهتمام الجدي "بالبروتوكولات" للدرجة التي لم تعد مجرد وثيقة جزئية من وثائق الصراع الاجتماعي والسياسي والثقافي في روسيا القيصرية، بل و"وثيقة" عالمية من حيث ملامحها وتأثيرها. من هنا المساعي المحمومة في روسيا بعد الثورة لطمس "البروتوكولات" وإزالة آثارها من الذاكرة الاجتماعية والقومية والسياسية. بينما نمت المساعي المحمومة من اجل نشرها وإظهارها وغرسها في الذاكرة الاجتماعية والقومية والسياسية لمختلف الأمم والدول.
ان الثورة البلشفية، التي شكل اليهود في قيادتها الأغلبية المطلقة أستحضرت في ذاكرة الروس "تنبؤ" مارر المذكور سابقا، كما أعطت دفعة هائلة لانبعاث الاهتمام "ببروتوكولات الحكماء الصهاينة"، كما نشرها سيرجي نيلوس في كتابه {عظيم في حقير}. من هنا منعه وتحريمه وتجريمه في روسيا السوفيتية. بينما أدى العثور عليه عند العائلة القيصرية بعد إعدامها عام 1918 إلى جانب {الكتاب المقدس} و{الحرب والسلام} إلى رفع شأنه إلى مصاف الأعجوبة الروحية. وهي معلومات نقلها بيوتر نيكولايفتش شابيليسكي – بورك الضابط في الجيش الروسي، الذي أوكلت إليه مهمة جمع المعلومات المتعلقة بإعدام عائلة القيصر. وسوف يلعب شابيليسكي – بورك المولود في القوقاز عام 1893 (كان أبوه من ملاك الأرض وأمه من أعضاء "اتحاد الشعب الروسي") إلى جانب فيكتور فيكتورفتيتش فينبرغ، المولود في كييف عام 1871 (كان أبوه قائدا لإحدى فرق المدفعية) دورا كبيرا في نشر "البروتوكولات" في ألمانيا. حيث ظهرت استنادا إلى طبعة نيلوس لعام 1911 في مجلة "شعاع النور" الألمانية في عددها الثالث من عام 1920. كما لعب رجال الحركة القومية الروسية، وبالأخص حركة "اتحاد الشعب الروسي" دورا هائلا في هذا المجال. وفي نفس العام ظهرت الطبعة الأولى "للبروتوكولات" باللغتين الإنجليزية والفرنسية. وفي العام 1921 ترجمها عن طبعة نيلوس ونشرها ماردسن الصحفي الإنجليزي المعروف والمتخصص آنذاك بالشئون الروسية ومراسل جريدة "مورننغ بوست". ثم جري إعادة طباعتها مرارا بحيث أصبحت في وقت لاحق المصدر الأساسي لترجمتها إلى مختلف اللغات بما في ذلك العربية. ولعبت دورا كبيرا في نشرها إلى مختلف اللغات، كما أثارت في نفس الوقت جدلا حادا لم ينته لحد الآن.
ذلك يعني إن عشرينيات القرن العشرين كانت نقطة الانطلاق بالنسبة لإحياء "البروتوكولات" وتوسع نطاق تأثيرها العالمي، بحيث تحولت من "وثيقة سرية" إلى "وثيقة علنية"، ومن محلية ضيقة إلى أوربية، ومن روسية إلى عالمية. واشتركت مختلف القوى في صراع حام حولها. فقد كتب بوحي تأثيرها هنري فورد كتابه الشهير {اليهودية العالمية} عام 1920، ودوغلاس ريد {جدل حول صهيون}. بينما ردت اليهودية بمختلف ألوانها والصهيونية منها بشكل خاص بالقمع السافر والشامل في روسيا، بحيث لم يبق على قيد الحياة إلا نفر قليل ممن لهم علاقة بنيلوس وممن اهتموا "بالبروتوكولات". كما ردت باستعمال الدعاية والرشوة و"المحاكمة" في أوربا وأمريكا. وأخذت تظهر الردود الأولى على أساس "مذكرات" مختلف الشخصيات التي لم تحترف الكتابة قبل ذلك وكذلك من جانب بعض الصحفيين، كما هو الحال في كتابات دي شايل الفرنسي عام 1921. وفي العام نفسه ظهرت ثلاث مقالات نشرها مراسل صحيفة "التايمز" اللندنية في اسطنبول فيليب غريفز، وحاول فيها البرهنة على أن "البروتوكولات" ما هي إلا صيغة محورة لكتاب موريس جولي {حوار في الجحيم}، الذي كتبه ضد سياسة نابليون الثالث، وطبع للمرة الأولى عام 1864. وكيف انه عثر على هذا الكتب عن طريق الصدفة، عندما عرضه عليه أحد المهاجرين الروس من أنصار الملكية الدستورية، مؤكدا له، بان "البروتوكولات" ما هي إلا نسخة محورة عن كتاب {حوار في الجحيم} لموريس جولي. وعندما قرأ الكتاب تبين له مصداقية الاتهام، وذلك للتشابه الكبير بين اغلب الآراء الأساسية فيهما. وفي عام 1923 يظهر كتاب ديليفسكي في برلين باللغة الروسية تحت عنوان {البروتوكولات الصهيونية. تاريخ وثيقة مزورة} جمع فيه مقالات ومداخلات وذكريات مختلف الأشخاص والكتاب والصحفيين، بما في ذلك بعض الوثائق الرسمية التي نشرتها السلطة السوفيتية بصدد مواقف القيصرية وممارساتها من "القضية اليهودية". وقد كان من بين هؤلاء الذين اشتركوا فيه كل من . ن. ميلوكوف، آ. كارتاشوف، يو. ديليفسكي، غ. سيليوزبيرغ، ف. ل. بور تسف الذي نشر عام 1938 في باريس كتابا بعنوان {بروتوكولات الحكماء الصهاينة. مبرهن على انها منحولة}. كما اتبعت اليهودية الصهيونية أساليب المطاردة والمحاكمة لأولئك الذين نشروا "البروتوكولات" في أوربا وأمريكا، كما هو الحال في محاكمة هنري فورد ومصادرة كتابه {اليهودية العالمية} عام 1927 والدعوة التي أقامتها "الجالية اليهودية" في سويسرا عام 1933 و1935، التي باءت بالفشل في محاولتها تجريم الكتاب واعتباره عملا مزيفا ومسيئا بحق اليهود.
ومن بين كل هذه المحاولات العديدة، التي اتسمت بنوع من الثبات والقوة النسبية هي تلك التي سعت للبرهنة على الطابع المنحول "للبروتوكولات" من خلال البحث عن مصدرها ونموذجها في كتاب موريس جولي {حوار في الجحيم}. فقد طبع كتاب {حوار في الجحيم) للمرة الأولى في بروكسل عام 1864، مع أن معطيات الكتاب تشير إلى نشره في جنيف. والاسم الكامل للكتاب هو {حوار في الجحيم بين ميكيافيلي ومونتسكيو}. وقد كان موريس جولي، الذي انتحر عام 1879، ماسونيا ثوريا راديكاليا. وكتب إلى جانب أبحاثه السياسية بضع روايات لم تشتهر ومنها رواية {الجياع} حيث حاول فيها الكشف عن أسباب الثورة والنزعة الراديكالية. وأشار في {مذكراته} التي كتبها عام 1870 إلى أن فكرة كتاب {حوار في الجحيم} راودته للمرة الأولى عندما كان يمشي على نهر السين. حينذاك أراد أن يضع موقفه النقدي من سياسة نابليون الثالث في فرنسا، الذي ضيق على حرية الفكر والممارسة السياسية باستعمال مختلف الأساليب والوسائل، بكتاب يرمز إلى ذلك عن بعد من اجل تجنب التعسف المباشر من جانب السلطة. ووضع ذلك في "حوار" بين ميكيافيلي، الذي يرمز به إلى نابليون وبين مونتسكيو الذي يرمز به إلى نفسه. وقد اكتشفت الشرطة الفرنسية بسرعة مغزى الكتاب مما عرض موريس جولي للسجن حوالي سنة ونصف السنة.
بنى موريس جولي مضمون كتابه على أساس حوار بين مونتسكيو وميكيافيلي من خلال إبراز التضاد بين الأساليب التي يتبعها نابليون وبين المعارضة. وجعل من "ميكيافيلي" لسان حال نابليون الثالث يتكلم عن كيفية استعمال كل الأساليب مازالت تؤدي الى الغرض المنشود وكذلك استعمال كل النظريات بما في ذلك فكرة الديمقراطية والليبرالية من اجل ممارسة القمع، وغيرها من الآراء العامة الشائعة الانتشار والمنسوبة إلى ميكيافيلي. وهي أفكار جرى وضعها في "البروتوكولات" من خلال استبدال كلمة ميكيافيلي بكلمة يهود وأراء ميكيافيلي بنسبها إلى الصهيونية.
ومع أن اوجه الشبه بين بعض الآراء الموجودة في {حوار في الجحيم} و{بروتوكولات الحكماء الصهاينة} معقولة من الناحية الظاهرية، إلا أن تشابهها يبقى في بعض المواقف والمقاطع عرضيا وجزئيا. فمن الناحية الواقعية ليست الآراء الواردة على لسان "ميكيافيلي" في {حوار في الجحيم} أمرا جديدا ولا فكرة مكتشفة ولا أسلوبا غير معلوم. إننا نعثر عليها في كل ممارسات و"مدارس" الاستبداد، كما نعثر عليها في كل الكتب والأبحاث والدراسات والمقالات والروايات والأشعار، التي تناولت واقع الاستبداد وأفكاره وأساليبه. ذلك يعني أن "ميكيافيلية" موريس جولي موجودة في كل مكان وزمان، وقواعد عملها العامة هي هي نفسها. إضافة لذلك، أن البحث في "ميكيافيلي" موريس جولي هو توكيد غير مباشر على أن سلوك وذهنية اليهودية الصهيونية هو سلوك "ميكيافيلي". وذلك لان فكرة عزل السياسة عن الأخلاق استناد الى قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة"، هو أس الفكرة الصهيونية وجوهر قواعدها العملية و"كاتيخيزيسها" الدائم. وهي "قواعد عمل" تبرز في "البروتوكولات" بوصفها منظومة متكاملة لها أساسها "الفلسفي" وغايتها الملموسة وقوتها الخاصة. إذ أن ما يميز "البروتوكولات" هو احتواؤها على "منظومة" متكاملة تتعلق بحوافز وأساليب وغاية العمل المنظم من اجل بلوغ الغاية القصوى: السيطرة اليهودية العالمية. وأعطت لهذه المساعي بعدا "عقائديا" متجسدا في "فلسفة سياسية" لها قوتها الفاعلة (الماسونية) ولغزها السياسي (الليبرالية) ومثالها الملموس (الدولة العالمية)، وأساليب عملها (السرية والتحكم بالوعي الجماهيري واستغلال المال وتوظيف مختلف الأفكار وانعدام الأخلاق في السياسة واستغلال جميع الأقوام والطبقات الاجتماعية والأفراد والأحزاب).
وفيما لو حاولنا طباعة {حوار في الجحيم} لموريس جولي مرارا عديدة، فان أثره سيبقى محدودا وجزئيا، وفي افضل الأحوال لا يتعدى كونه تصويرا معينا "لجحيم" فرنسا في زمن نابليون الثالث، بينما لم تؤد مصادرة وملاحقة ومحاربة ومطاردة ومحاكمة وتحريم وتجريم "البروتوكولات" إلا إلى ازدياد فاعليتها وقوتها، باعتبارها "حوار الجحيم" المعاصر. أما نابليونها المعاصر فهو اليهودي الصهيوني المتربي بتقاليد الشتات والغيتو. وهي فكرة سبق وان حدسها دوستويفسكي ووضعها في {يوميات كاتب} عام 1877، عند تأمله الشخصية اليهودية الصهيونية، أو ما اسماه "دولة داخل دولة". وكتب بهذا الصدد يقول، بأننا ((نستطيع رسم الملامح الظاهرية العامة لهذه "الدولة داخل الدولة" من دون أن نتغلغل في جوهر الموضوع وسبر أغواره العميقة. ومن بين أهم هذه الملامح الاغتراب، والغربة على مستوى العقيدة الدينية، والانغلاق، والإيمان بأنه لا يوجد في الوجود إنسان غير اليهودي، أما الآخرين فان وجودهم كعدمه. "اهجرهم أنقذ نفسك فقط، واعلم انك وحيد الله منذ الأزل! اعدم الآخرين أو استعبدهم أو استغلهم. وثق بفوزك على العالم وخضوع الجميع إليك. أما الآن فعش! واشمئز! واعتزل! وانتظر ثم انتظر…" هذا هو مضمون "دولة داخل دولة". وهو بالطبع جوهر ذاتي له قوانين سرية تحمي هذه الفكرة)). وليست "البروتوكولات" في الواقع سوى هذه "القوانين السرية التي تحمي الفكرة" اليهودية الصهيونية في مساعيها للسيطرة العالمية.
إننا نعثر في "البروتوكولات" على ذهنية ونفسية المؤامرة والمغامرة المركبة والمتناقضة للغيتو والشتات. ولا غيتو عالمي غير الغيتو اليهودي الصهيوني. من هنا استعداده الذاتي لأن يكون "مؤلف" و"واضع" "قواعد العمل" المتجسدة في "بروتوكولات الحكماء الصهاينة". فقد بلغت الصورة والمعنى للغيتو العالمي نموذجها التام في "البروتوكولات"، التي تجسدت في اليهودية الصهيونية المعاصرة على أتم وجه.
ذلك يعني أن "البروتوكولات" هي ليست "وثيقة" مزورة" وليست نتيجة لعمل جهاز "معاد لليهود والسامية" سواء بهيئة فرد أو جماعة أو مؤسسة أو حزب، بل هي جزء من "وثيقة تاريخية كبيرة"، تستمد أصولها من "المرجعيات الثقافية" لليهودية الصهيونية. ومن ثم فلا معنى للبحث عن أصولها وجذورها في مرحلة روسيا ما بين 1881 و1917، أي ما بين اغتيال الكسندر الثاني من قبل اليهود وبين ثورة شباط وأكتوبر، أي في مرحلة "سيطرة الشرطة السرية والمخابرات والمؤامرات والمغامرات حول العائلة المالكة وضمنها". فقد أشار دوستويفسكي إلى ما اسماه "بالقوانين السرية التي تحمي الفكرة اليهودية" الساعية لإقامة "دولة داخل دولة" من اجل الاستغلال والاستعباد والسيطرة وإعدام الآخرين قبل ذلك بفترة طويلة (عام 1877)، ثم أن أحداث القرن العشرين لم توهن هذه الفكرة أو تقلل من شأنها. على العكس! لقد أعادت إنتاجها بصيغ ومستويات ونماذج متنوعة. وفي هذه الاستعادة اشتركت الحركات القومية والشيوعية والديمقراطية والرأسمالية والاشتراكية والفاشية. وهو أمر يصعب فهمه بمعزل عن إدراك واشتراك اليهودية الصهيونية لنفسها في مناصبة الجميع العداء عبر استغلال الجميع.
إن تاريخ اليهودية الصهيونية في كل مكان هو تاريخ استغلال الأفكار والأنظمة من اشتراكية ورأسمالية، ليبرالية وشيوعية وفاشية بالقدر الذي يخدم مصالحها. وهو الأمر الذي جعلها تقع خارج التاريخ الإنساني العام عبر "إبداع" الهامشية والراديكالية بمختلف أصنافها ودرجاتها، التي تشكل "البروتوكولات" صورتها "المجردة" وصوتها الدفين.
فعندما نقف أمام الجدل العلمي عن اللغة التي كتبت بها "البروتوكولات" وعما إذا كان اصلها بالفرنسية ثم ترجمت إلى الروسية، أو أنها كتبت بالعبرية القديمة، كما يقول فيودور فريتش الذي ترجمها إلى الألمانية، أو أنها ألقيت بلغة الايدش في المؤتمر الصهيوني العالمي الأول في بازل، او وضعت بالروسية منذ البداية، فان ذلك يعني من الناحية الرمزية، أنها قابلة للتجسد في مختلف اللغات.
وعندما نقف أمام فرضيات الجدل الدائر عن تباين مراحل كتابتها من أنها استمرار لوثائق وضعها اليهود منذ زمن سليمان، أو أنها نتاج السرية اليهودية من اجل تقويض النصرانية، أو أنها جزء من وثيقة سرية اصلها قبل "الفايسخاوبته" (القرن الثامن عشر) و"رسالة براغ" (بداية القرن التاسع عشر)، أو وضعت ما بين محاكمة دريفوس (عام 1894) وبين المؤتمر الصهيوني العالمي الأول في بازل عام 1897، أو وضعتها الشرطة السرية الروسية في نهاية القرن التاسع عشر، فان ذلك يعني من الناحية الرمزية أنها قابلة للتجسد تاريخيا في مختلف الأزمان والأماكن.
وعندما نقف أمام فرضيات الجدل الدائر عمن كتبها أهو زعماء اليهود و"حكماء صهيون"، أو "يهود متنصرون" مثل ليتفين – آفرون أو ماناسيفتش مانيئيلوف، او إليا صهيون، أو تيودر هرتسل أو أشير غينزبيرغ (آحاد عام)، أو "قوميون روس" مثل غولوفينسكي أو راجكوفسكي أو غيرهم، فان ذلك يعني من الناحية الرمزية أنها قابلة للتصوير من قبل الجميع. فمن حيث هي نتاج ليهود تنّصروا، فهي نموذج "لشهد شاهد من أهلها"، ومن حيث هي نتاج ليهود صهاينة فهي نموذج "لكل أناء ينضح ما فيه"، ومن حيث هي نتاج لمعارضين لليهودية الصهيونية، فإنها تصوير بليغ ودقيق ورسم تام لواقعها ونموذجها المجرد، كما نقول أن "الموناليزا" هي "نموذج" لامرأة واقعية مع فارق المضمون والغاية عما نحن بصدده.
وعندما نقف أمام فرضيات الجدل الدائر عن مصادرها ونماذجها المتنوعة، مثل البحث عنها في {أسرار اليهود} و{بين اليهود} و{احتلال اليهود للعالم} و{كلام الحاخام} و{رسالة براغ} و{حوار في لجحيم} وغيرها، فان ذلك يعني من الناحية الرمزية أن لها تاريخها العريق الموجود في تراث الهامشية الثقافية والسياسية والقومية والدينية.
وعندما نقف أمام التأويلات اليهودية الصهيونية عمن يقف وراءها حاليا، بحيث يجري إلصاق التهمة بالحركات القومية والشيوعية والنصرانية والإسلامية، فان ذلك يعني من الناحية الرمزية أنها مازالت تتمثل وتجسد الذهنية اليهودية الصهيونية و"مرجعيتها الثقافية" في العداء للجميع.
مما سبق نستطيع القول، بان "البروتوكولات" هي وثيقة تاريخية سياسية، شانها شأن كل وثيقة من هذا القبيل لها تاريخها الخاص بها وتاريخ الصراع حولها و"قدرها" أو "أقدارها" في مجاريه. وفيها نعثر على حقيقة الفكرة القائلة، بان اشد الأمور تعقيدا أكثرها سهولة، كما أن أكثرها سهولة اشدها تعقيدا. وهي مفارقة تشبه الحقيقة التي قالها نيلوس بصدد "البروتوكولات" عندما سألوه مرة
- نيلوس! ألا تجد في نفسك حرجا من أن تكون مساعدا على نشر وثيقة منحولة؟!
- وليكن! فان الله يجبر الكذابين على قول الحقيقة، كما أن الإيمان يحول عظام الكلاب إلى ذخيرة الكرامات!
إن التخلص من "البروتوكولات" يفترض التخلص من مصدر ديمومتها الفعلي، أي من اليهودية الصهيونية. لهذا لا معنى للبحث عن مصدرها في قوميات وأحزاب وقوى اجتماعية ودول ومؤسسات وأفراد ونماذج فكرية وأدبية وكتب سياسية. فكما أن القضاء على العبودية والعنصرية يفترض القضاء على فكرة العبودية والعنصرية والقوانين التي تحميها، كذلك الحال بالنسبة "للبروتوكولات"، يفترض القضاء عليها، القضاء على فكرة اليهودية الصهيونية والقوانين التي تحكمها وتحميها. وهو أمر ممكن من خلال "نزع الصهينة" عبر إرجاع اليهود إلى عبرانيتهم الثقافية وذلك بالاشتراك الفعال في معاناة الجامعة الإنسانية وإشكالياتها الكبرى وبدائلها العقلانية، أي بالخروج من حدود "النفس الغضبية" إلى فضاء "النفس العاقلة". حينذاك فقط يصبح لكل انتصار وهزيمة قيمة إيجابية. (انتهى)
*** *** ***



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البروتوكولات – الصورة المركبة للصهيونية الفعلية 5
- البروتوكولات – الصورة المركبة للصهيونية الفعلية - 4
- البروتوكولات – الصورة المركبة للصهيونية الفعلية-3
- المقاومة اللبنانية – نموذج المقاومة العربية الكبرى
- نهاية الأوهام الكبرى وبداية الأحلام الواقعية
- القوى الصغرى والأوهام الكبرى
- العلمانية العراقية – دنيوية المستقبل
- العلمانية العراقية – أوهام الأقلية وأحلام الأغلبية
- الشيطان - الملاك الضائع ودراما الوجود الإنساني
- كتاب جديد للبروفيسور ميثم الجنابي - الحضارة الإسلامية - روح ...
- تأملات مستقبلية حول العملية السياسية في العراق 2
- تأملات مستقبلية حول العملية السياسية في العراق 1
- (2) التشيع العراقي والفكرة العربية
- التشيع العراقي والفكرة الوطنية والقومية-1
- العراق - السقوط والبدائل -2
- لولا سيف الحجاج ولسان الحسن-1
- العراق - السقوط والبدائل وأزمة المرجعيات الكبرى
- حزب إسلامي أم حزب شيطاني
- النخبة السياسية ومهمة البديل الوطني في العراق
- النخبة السياسية في العراق المعاصر – أحزاب الطريق المسدود


المزيد.....




- سعيد يأمر باتخاذ إجراءات فورية إثر واقعة حجب العلم التونسي
- بايدن يخطئ مجددا و-يعين- كيم جونغ أون رئيساً لكوريا الجنوبية ...
- شاهد.. تايوان تطلق صواريخ أمريكية خلال التدريب على المقاتلات ...
- عشرات الجرحى جراء اصطدام قطارين في بوينس آيرس
- في أقل من 24 ساعة..-حزب الله- ينفذ 7 عمليات ضد إسرائيل مستخد ...
- مرجعيات دينية تتحرك قضائيا ضد كوميدية لبنانية بعد نشر مقطع ف ...
- شاهد.. سرايا القدس تستهدف الآليات الإسرائيلية المتوغلة شرق ر ...
- شهداء وجرحى في قصف إسرائيلي لبلدة بشرق خان يونس
- واشنطن: -من المعقول- أن إسرائيل استخدمت أسلحة أميركية بطرق - ...
- الإمارات تستنكر تصريحات نتانياهو بشأن -مشاركتها- في إدارة مد ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميثم الجنابي - البروتوكولات – الصورة المركبة للصهيونية الفعلية - 6