أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - كما رواه شاهد عيان: الباب السادس















المزيد.....



كما رواه شاهد عيان: الباب السادس


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6838 - 2021 / 3 / 12 - 21:42
المحور: الادب والفن
    


1
بعد عودتي من مهمتي في الإمارة اللبنانية، التي كُرّست للتحدث أمام المجمع الكنسيّ، وجدتُ الدارَ مكتومةَ الأنفاس والزرع في الحديقة على حال من الإملاق بسبب جفاف التربة. أدركتُ عندئذٍ أن الخادمَ ترك المسكنَ عقبَ سفري مباشرةً، لأمرٍ ربما يتعلق بالتطيّر من " الشبح ". ملهوجاً ومذعوراً بدَوري، هُرعت لتفقد الصندوق الحديديّ، المكتنز المال والمجوهرات، وكان مخفياً في الحديقة تحت طبقة من التراب والتبن. أفرخ روعي على الأثر، لما وجدتُ الصندوقَ غير ممسوسٍ. كان الوقتُ عند الأصيل، فما لبثتُ أن شرعتُ بسقي الزرع ومن ثم تهوية الحجرات. بعد ذلك، فكّرتُ بأمر العشاء. وكنتُ قد أصبتُ شيئاً من الطعام، أثناء وقوفنا في بلدة شتورة، لتناول الغداء في استراحة الخان. إلا أنني كنتُ في غاية الارهاق نتيجة السفر، فاستلقيتُ على سريري وسرعان ما صرتُ أهوّم.
بقيتُ نائماً إلى ساعة مبكرة من الفجر، لأفيق على صوت التذكير، المنبعث من منارة المسجد المجاور. كانت العتمة شديدة، وبالكاد عثرتُ على طريقي إلى القنديل الكبير، الموضوع في المشكاة. غبَّ جلوسي في النور، داعبت خيالي فكرةٌ جريئة؛ وهيَ أن أسرع إلى منزل الحبيبة تحت جنح الظلام؛ أنا من برحَ فيّ الشوق، فتركني أيضاً في حال من الإملاق. لكنني طردتُ الفكرة الطائشة من رأسي، واستبدلتها بمراجعة أوراقٍ تضمنتْ انطباعاتي عن الرحلة اللبنانية، كتبتها أولاً بأول لدى مكوثي في تلك البلاد. هكذا بزغ نورُ الفجر في الحجرة، فيما كنتُ غارقاً بالقراءة وتدوين ملاحظات على هوامش الأوراق. كوني لم يُتح لي العشاء بالأمس، دفعني الشعورُ بالجوع إلى القيام إلى المطبخ وإعداد الفطور. وجدت ثمة كسراً من الخبز، فبللتها ثم وضعتها على نار الموقد، وكنتُ قد أشعلته لسلق البيض. غبَّ ملء البطن، إذا بالنعاس يدهمني، ولم يدعني حتى وضعت رأسي من جديد على الوسادة.
في هذه المرة، أفقتُ مع أذان الظهر وكانت الشمسُ قد غمرت جانباً من الرواق والمطبخ. مع أنني نلتُ قسطاً وافراً من النوم، بالأمس واليوم، رأيتني أتكاسل في النهوض من الفراش. لم يزحزحني عن كسلي، سوى حضورُ الخادم غير المتوقّع. لما نهضتُ ولاقيته بنظرةٍ عابسة، تلوّنت سحنته السمراء بحمرة الخجل. قال لي، بعدما هنأني بالرجوع بالسلامة: " أدركُ أنك غاضبٌ مني، كوني تركتُ الدارَ برغم تشديدك عليّ قبل السفر على ضرورة المكوث فيها لحين عودتك. لكنني كنتُ أواظب على الحضور نهاراً "
" نعم، بدليل أنّ الحديقة كادت أن تجف والحجرات مخنوقة! "، أوقفت كلامه بهذه الجملة الحانقة والساخرة. فدافع عن نفسه، بالقول: " السببُ أن الوقتَ في عز الصيف، وليسَ الاهمال. أقسم لك على ذلك "
" حسنٌ، سأذهب الآنَ إلى المقهى وعندما أعود أريد أن أرى الدارَ تلمع نظافةً "
" وماذا عن الغداء، ونحن في منتصف النهار؟ "
" سأتغدى في المطعم، بينما عليك أنت شراء ما يلزم المطبخ من السوق "، قلتها ثم نقدته بعض المال مع توصيته بجلب أنواع معيّنة من اللحوم والخضار. كنتُ أتوقّعُ حضورَ الأصدقاء على السهرة، بمجرد علمهم بعودتي عن طريق جان. هكذا خرجتُ إلى الزقاق، محتمياً من لهيب الشمس بأفياء الجدران، المنهمر على بعضها خصلُ عرائش الياسمين والمجنونة. العمارات العالية، كمنائر المسجد الأمويّ وأبراج القلعة، كانت تتطاول من وراء الجدران، وأبعد في سستوى الأفق، لاحت الجبالُ تحت أشعة الشمس ـ كما لو كانت حواشٍ من الضباب.
المدينةُ القديمة، تفتقد للحدائق العامة؛ مع أنها تستعيض عنها بالغوطة، فضلاً عن جنائن المنازل. فكرتي هذه، تواءمت مع استعادتي لجولاتي الباريسية في ربوع حدائق قصريّ اللوفر وفرساي، وكانت عشيقتي الروسية ترافقني في بعض الأحيان. في المقابل، عليّ كان أن أستعيدَ صورةَ عشيقتي الشامية، لتطغى على ما عداها: كأنما كانت كَوليزار، هيَ والشمسُ توأمٌ، كل منهما ينبثق نوره من الداخل، مثلما جذوة النار المؤرّثة من الجمر.
الفكرة الأولى، المُغرية، بمحاولة إظهار نفسي لعينيّ الحبيبة، ما عتمت أن أنتصرت أخيراً. هكذا رأيتُ قدميّ تقودانني إلى جهة بوابة السور، المفضية إلى درب حي القنوات. مشاوير المدينة القديمة، يضيع المرء خلالها في متاهة الأسواق، فيما الطريق إلى الحبيبة تكتنفه الأشجارُ حتى حدود زقاقها. الأرباض، يلوحُ أنها في الأعوام المقبلة ستطوّق المدينةَ القديمة بالدُور عوضاً عن الأشجار، لتندمجا معاً في بوتقة عمرانية واحدة. هذا ما جرى في مدن أوروبية داخلية، كباريس وروما، اللتين تفوقهما دمشقُ في القِدَم والعراقة.
كنتُ ماضياً عبرَ المتاهة الخضراء، تتناهبني الأفكارُ، لحين أن وجدتني في الزقاق المطلوب. كان الدربُ مقفراً، كما أملتُ، في ساعة الهاجرة هذه. لكن آه، رباه! إنها ثمة في عليّتها، منكبّةٌ كالعادة على تطريزٍ في يدها، وتبدو أيضاً مستغرقة في أفكارها. عليّ كان أن أعود أدراجي مرة أخرى، قبل أن ترفع رأسها عما بيدها وتنتبه لحضوري. في الحال، أخرجتُ الساعة المربوطة بالسلسلة، متبعاً ذلك بإشارة من إصبعي، توحي بعودتي إليها في الساعة الواحدة ليلاً. فهمت ولا شك إشارتي، بدليل ابتسامتها وتهلل ملامح سحنتها.

2
ربما كان عليّ، فكّرتُ، أن أدعوها لملاقاتي عند باب الدار، كون الدرب مقفراً من السابلة. لكنني أستدركتُ في نفسي، بأنّ مجردَ رؤيتي لها كانت أمنية عزيزة وتحققت أخيراً. امتلأت نفسي بهذا الإحساس، بحيثُ كدّتُ أسلو المعدة المتطلّبة لولا مروري في السوق من أمام المطاعم، النافثة عبق مأكولاتها الشهية. لكنني اتجهتُ إلى مطعمي المعتاد، فأدهشتُ النادل لما طلبتُ الغداء؛ بما أننا أضحينا عند العصر. وجبات الطعام في هذه المدينة، وهيَ ثلاثة، تعقبُ عادةً الصلاة. آبَ النادل إلى مكاني، ليقول بنبرة المعتذر: " وجبة اليوم نفدت، لأننا وزعنا بقيتها على المحتاجين والمتسولين. لو أردتَ، في الوسع شي بضعة أسياخ من اللحم وتقديمها مع السلطة؟ "
" حسنٌ، هذا يكفيني يا صاحبي "، أجبته بنبرة الصداقة كوني زبوناً دائماً تقريباً. يتعيّن التنويه، بأنني عدتُ لتقمّص شخصية الرجل المسلم، وذلك بتموّهي بملابسه. هذا التقمّص، صارَ يجدُ هوىً في نفسي أكثر مما هوَ ضرورة لغشياني أماكن ممنوعة على " الكفّار ". قصرُ العظم، كان أحد تلك الأماكن، وكنتُ أمرّ من أمامه فيما مضى، وكلّ مرةٍ أتحسّر لأنني غير قادر على اجتياز بوابته. لقد سبقَ لصديقي جان أن وعدني بتدبير زيارة القصر، باعتبار أنه يعرفُ موظفاً مرموقاً يخدم فيه. بحَسَب معلومات أخرى، حصلتُ عليها، أنّ الوالي الحالي يقيم في السرايا؛ فيما القصر عادت ملكيته لأصحابه من آل العظم. أسعد باشا، أشهر ولاة دمشق من تلك الأسرة، خنقَ غيلةً بأمر من الباب العالي، قبل ثلاثة عقود، بعدما أمضى في وظيفته قرابة الخمسة عشرة عاماً. هذا مع أنه لم تكن ثمة دلائل على تفكير الباشا بالاستقلال عن الدولة، على غرار ما فعله ولاة آخرون ـ كالفلسطينيّ " ضاهر العُمر " والمصريّ المملوكيّ " علي بك الكبير ".
عدتُ من السوق على موعد مغيب الشمس، عقبَ قضائي في المقهى وقتاً آخر، ممتعاً، صُحبة الناركيلة والأحاديث المتطايرة حولي باللهجة الدمشقية الجميلة. بالطبع، كنتُ أتكلم مع الأصدقاء بهذه اللهجة، ولعل إصراري على خادمي بالسكنى لديّ كان أيضاً من متطلّبات إجادتي لها. الخادم، استقبلني هذه المرة باسماً، بالنظر لتنفيذه أمري بخصوص نظافة الدار وشراء ما يلزم المطبخ. لكنني تعمدتُ إثارةَ طيرته، عندما سألته: " يلوحُ لي، الآنَ، أنك تصالحت مع شبح الدار؟ "
" إنه لا يتجسّد سوى ليلاً، ويفاجئ من يكون لوحده "، أجاب بنبرة اليقين. استفهمتُ منه، متكلّفاً نبرة جدّية: " ولكنك لم تبقَ في الدار، أثناء سفري، ولا لليلة واحدة؟ "
" بل فعلتُ ذلك في الليلة الأولى، عندما نمت في الرواق. لقد أبصرته عند منتصف الليل، برغم أن العتمة دامسة آنئذٍ، وكان يتجول بين الحجرات والحديقة مع أنني كنتُ قد أوصدت باب المطبخ قبل نومي "
" ربما كنتَ تحلم، أو أنه كابوسٌ دهمك بسبب إفراطك في العشاء؟ "
" لا، لقد رأيته ولم أحلم به. أقسم لك بعينيّ، الذين خلقهما الله كي أبصر بهما! "، قالها وهوَ يوصوصُ بعينيه كمن يخشى أن يداهمه " الشبحُ " على حين غرّة. من النافل التأكيد، أن سخريتي من الرجل لا أساس لها طالما أنني بنفسي حصلتُ على علاماتٍ تفيد بتجوال ذلك الطيف الخفيّ في الدار. لكنني تساءلتُ في سرّي، عن سبب عدم ظهوره لي حال ما فعله مع الخادم ومع بعض الجيران أيضاً.
هذه المسالة، أعدتها على مسمع أصدقائي لما أكتمل حضورهم على ساعة المساء. كمألوف العادة، جاء السيّد خليل لوحده فيما جان وغابي قدما سويةً. بعدما أكتملت طاولة الشراب والمازة، بدأتُ أولاً أقصّ عليهم وقائع سفرتي إلى الإمارة اللبنانية. رويتُ ما جرى معي بإيجاز، لكن بدون حاجة لتشذيب عباراتي.
كالعادة غالباً، كان السيّد خليل أول من علّقَ على روايتي: " بصرف النظر عن اختلاف ديانتي عن ديانتكم، أرى أن الكنيسة تفرضُ واجباتِ العبادة على الرهبان دونَ بقية المؤمنين العاديين. كون أولئك الرهبان نذروا ذواتهم للمسيح، لم يكن بالغريب أن يثقل عليهم بطريركهم بالمزيد من الفرائض مع أن عددها الأصليّ كان سبعين فريضة. بينما لدينا في الإسلام لا توجد رهبنة، وفي التالي، يستوي رجال الدين مع الرعية في عدد الفرائض ونوعها ".
ردّ عليه جان، بالقول: " لكن الصلوات الخمس لديكم لا تقل ثقلاً على المرء، بخاصّة صلاة الصبح. فيعاني المسلم العاديّ نفس معاناة الراهب المسيحيّ، أليسَ صحيحاً؟ ". فسأله المخاطَبُ بدَوره: " ألا يؤدي النصرانيّ صلاة الصبح، أم أنها مخصصة للرهبان حَسْب؟ "
" بل هي مخصصة للرهبان، مع أن بعض المؤمنين يؤدونها لو أفاقوا نتيجة رؤيتهم مناماً مزعجاً أو شيئاً من هذا القبيل. بكل الأحوال، يلتزم المسيحيّ بتمتمة الصلاة قبل الطعام وقبل النوم وقبل السفر. لكنها صلاة روحية، لا يتدخل الجسد فيها؛ كالقيام والسجود والانحناء والجلوس "
" الصلاة لدينا رياضة جسدية، مثلما هي رياضة روحية "، قالها صديقنا المسلم مبتسماً. عند ذلك تدخلتُ في النقاش، لأسأل هذا الأخير: " هل الصلاة تطرد الأرواحَ؛ وأعني الشبحَ، المقلق سكينة أهل الدار؟ ".

3
اتجهت الأبصارُ إليّ، عقبَ طرحي ذلك السؤال، وكأنما لتستزيد لساني بالكلام. وهذا السيّد خليل، المعنيّ بالجواب، يستفهم مني ما عنيته: " هل ظهرَ لك الشبح مجدداً، أم أنك تتكلم بشكل عام؟ ". بالنظر لاهتمام الجميع بمعرفة خلفية سؤالي، بدأتُ أقصّ عليهم رؤيا خادمي. كون هذا الأخير موجوداً في مكان منامته بالرواق، تكلمتُ بصوتٍ خفيض كيلا يسمعني. علّقَ صديقنا المسلمُ على ما سمعه، بنبرة حذرة: " ثمة أدعية محددة، نستعملها لإبعاد الأرواح عن مجال العين أو لتهدئة الجن. من ناحيتي، مع أعوام عُمري المتجاوزة الثلاثين، لم أحظَ أبداً برؤيةِ شبحٍ أو جنيّ. لكنني سمعتُ كثيرين، يؤكّدون هكذا رؤيا. بكل الأحوال، كتابنا السماويّ يَرِدُ فيه ذكرُ الجان والسحر. ما جعلها مزدهرة، مهنةُ المدّعين قدرتهم على فك السحر وجلب الحظ وإعادة الغائب وجذب الحبيب والاحتفاظ بالزوج وما إلى ذلك من بدع "
" إذاً لو عدنا لموضوع خادمي، فإنّ ما فهمته أنه وقع تحت تأثير رؤيا ولم يرَ حقاً الشبح؟ "، قلتُ ذلك ثم استدركتُ: " إنني بنفسي، حدثت معي ثلاث وقائع ـ ذكرتها لكم في حينه ـ أكّدت وجودَ الشبح في الدار ". لكن السيّد خليل، المعنيّ بالسؤال، لم يجد جواباً سوى التمتمة: " يجوز أنها رؤيا، كما تفضلتَ ". مع هذه الكلمات المقتضبة، كانت السهرةُ قد أذنت على نهايتها.

قبل نحو نصف ساعة من موعدي المفترض مع كَوليزار، غادرتُ الدارَ في طريقي إلى منزلها. وصلتُ تقريباً في الموعد المحدد، وكان الصمتُ العميق يسيطر على المكان. كدأبي كل مرة، راوحتُ قدميّ تحت موضع المشعل، المثبت بجدار القنطرة الخارجيّ، وذلك كي أظهر للحبيبة شخصي، أو ظلّي، لو أنها رمت بنظرها إلى الخارج عبرَ نافذة علّيتها. بينما كنتُ أنتظرُ ظهورها في العليّة أو عند الباب، تناهى لسمعي وقع أقدام آتٍ من جهة القنطرة. قبل أن أترك المكان، مولياً وجهي إلى الجهة الأخرى، رأيتني وجهاً لوجه مع ثلاثة شبان يسيرون كالمترنحين. لما صاروا في النور تحت المشعل، خففوا من اندفاعهم فيما أعينهم ترمقني بفضول. من رائحتهم، تأكدتُ أنهم ثملون. ولعلهم بدَورهم ظنّوا أنني أحد الأتراك الأغراب، بملاحظتهم لهيئتي. أردتُ أن يتحقق ظنّهم، لما بادرتهم بالتحية ومن ثم السؤال: " كنتُ خارجاً من عند أحد الأصدقاء في الحي، لكنني أضعت الدرب المؤدي إلى القيمرية "
" عليك باجتياز هذه القنطرة إلى جهة اليسار، ثم المشي باستقامة إلى أن تخرج من العمران وترى أسوار المدينة "، تولى أحدهم الرد عليّ وقد فاحت من فمه رائحة العرَق. أحنيت رأسي مع كلمة شكر، ثم غادرت مكاني باتجاه عمق القنطرة. بقيت هناك في العتمة للحظات، لحين أن اختفى أثر أولئك الشبان. في حقيقة الحال، أنني كنتُ قد حضّرت مسبقاً مبرراً لوجودي المريب في الزقاق في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل. كذلك كنتُ قد سألت كَوليزار مرةً باستغراب، عن عدم وجود حرس على باب رجلها مع كونه آمر قوات اللاوند. إذاك، أجابتني أن دار إقامته الرئيس يقع في حي العمارة، بين عزوته وعسكره، مثلما أن لديه عدّة نساءٍ وجوارٍ في دور أخرى بالمدينة.
وهيَ ذي تظهرُ، أخيراً. لقد تولت فتحَ باب البيت، وكان يصعب معرفتها في العتمة لولا ثوبَ نومها الناصع البياض وعبق عطرها. لما لامستُ أنفاسها عن قرب، همسَت قائللة: " أنتَ تعرف الطريق إلى العليّة، فسر إليها بتؤدة وحذر ". بعدما أعادت غلق الباب، لحقتني بخطوات سريعة إلى أن اجتازتني عند ارتقاء الدرج. هنالك في حجرتها بالعلّية، تعانقنا مطولاً دونما أن نصدر نأمة. على ضوء الشموع، المبثوثة على أرفف الخزائن، انتبهتُ إلى شحوبها وانطفاء بريق عينيها. سألتها عندئذٍ: " ملاكي، هل مريضة؟ "
" سأبقى مريضة لأشهر أخرى "
" ماذا تعنين؟ "
" أنا حاملٌ بابنك! "
" رباه، ماذا تقولين؟ "، هتفتُ في كثير من الجزع.
" هذه هي الحقيقة. أدركتُ ذلك قبل سفرك بقرابة الأسبوعين، لكنني كنتُ مصممة وقتئذٍ على اسقاط الجنين "، قالت ذلك ثم أردفت في شيء من الحزن: " استعنتُ، عبثاً، بالعطارة وبحيل النساء الأخرى ". بقيتُ صامتاً، وقد خامرني الشك بالرواية كلها. فكّرتُ أنها ربما تكون حاملاً من رجلها، ولم يمض شهرٌ على سفره مع المحمل الشريف.
خرجتُ عن صمتي، لكي استفهم منها عن ردّة فعل نساء المنزل إزاء الخبر. رمقتني بنظرة ملية، قبل أن تجيب ببرود: " تلقيتُ التهنئة منهن، كوني أنتظرتُ لسنوات حظوتي بطفل. بالطبع، يعتقدن أنّ رجلي هوَ والدُ الطفل "
" أعرفُ طريقةً ناجعة للتخلص من الجنين، لكنني لا أعرف سوى الأسماء اللاتينية للأعشاب المطلوبة "
" جربتُ أكثر من وصفة، إلا أن الله يريد بقاء هذا الطفل. مثلما تركني أحيا عندما شاؤوا انتزاع روحي، وكنتُ بعد في بطن أمي، وكذلك بعد ولادتي مباشرةً "، قالتها بصوت مرتعش من التأثر.

4
فكرة أن أغدو أباً لطفل وأنا في الخمسين، لم ترق لي؛ بله وهوَ سيُنجب سفاحاً، ويأخذ اسمَ رجل آخر غيري. لكنني فكّرتُ أيضاً بمغزى هذه السلسلة من المصادفات الغريبة، المؤدية بي إلى عشقي لأم ابني المنتظر، والتي لا تخطرُ لرأس أيّ مؤلّفٍ روائيّ أو مسرحيّ مهما شطح به الخيال. لقد ذكرتُ أنها مصادفاتٌ، بحَسَب منطق الفلاسفة، وكان حرياً بي أن أحيلها إلى الأقدار لو كنتُ على قَدَرٍ معيّن من التديّن والإيمان.
حيال نظرتها المنكسرة، المتعلّقة بفمي، قلتُ لكَوليزار مشفقاً: " ألا تخشين أن يرتاب رجلك بالحمل، وهوَ شخصٌ طاغية وعديم الرحمة؟ ". بدَورها سألتني على الفور، وكأنما سبقَ وفكّرت بالأمر: " هل لديك مخرجٌ لهذا المأزق، غير التخلّص من ابننا؟ "
" لو أنك تشعرين حقاً بخطر على حياتك، ففي وسعي تأمينَ انتقالك إلى بيروت كوني على صلة وثيقة بالقنصل الفرنسيّ "
" لكن عقدَ قراننا محالٌ، ليسَ لأنك نصرانيّ حَسْب، بل وأيضاً لأنني متزوجة "
" من الممكن هناك تدبير أوراق لك، عن طريق القنصل، تتيح سفرك معي إلى إمارة البندقية، أينَ أمتلك داراً تعود لوالدتي الراحلة "
" هل قُدّر عليّ أن أحيا العُمر كله بشخصية مُنتَحلة، مذ لحظة الولادة وإلى لحظة الموت؟ "
" إذاً، نؤجل هذه المقترحات إلى حين عودة رجلك من الحج. ما قولك؟ "، أجبتُ ببعض الحرّج. هزت رأسها بالموافقة، ثم قالت دون حماسة: " أنا متأكدة بأنه لن يشك بأبوّته للطفل، مثلما أنه لن يبتهج كثيراً به كون أولاده من الكثرة ألا يعرف أسماء بعضهم "
" ألن يفرحه أن يُرزق بابنٍ منك، وأنتَ المفضّلة بين نسائه كما علمتُ؟ "
" لا يهمني ذلك، بحال من الأحوال. ما يهمني، أن تكون أنتَ سعيداً بابننا المنتظر "، قالتها هذه المرة بنبرة اتهام وعتاب. فأجبتها حالاً بصدق وحرارة: " لا تشكّي أبداً بسعادتي بطفلنا، وسأكون أسعد لو تربى تحت سقفنا وليسَ تحت سقف ذلك الطاغية الفظ ". لم نواصل النقاش من بعد، وما لبثَ السريرُ أن بدأ يهتز بالعناق والضم والرهز.

في انتظار عودة الحاج من أرض الحجاز، مضت أيامُ الصيف بسرعة فيما كنتُ غارقاً مع الحبيبة في لجّة العشق والوصال. في الأثناء، واصلتُ لقاء أصدقائي في منزلي أو عند أحدهم. كذلك حظيتُ مرةً أخرى بمقابلة سعادة القنصل، الذي حضر إلى دمشق بشكل سريّ كمألوف العادة. اجتمعنا في ضيافة صديقنا جان، وذلك على طاولة حافلة باطباق المازة وأنواع الخمر. بطبيعة الحال، أتى الحديث عن نتائج مجمع دير المخلّص، وفي البدء أشاد القنصل بكلمتي أمام الجاضرين وقال أنها لقيت أيضاً صدىً طيباً في نفس غبطة البطريرك. سألتُ سعادته: " كان غالبية الرهبان المجتمعين يشكون من جور الفرائض الجديدة، الموضوعة عليهم بأمر من البطريرك؛ فهل أمكن التراجع عنها؟ ". هزّ القنصل رأسه إيجاباً، وقال باقتضاب: " لقد تم استبعاد العديد من تلك الفرائض، بفضل تدخل القاصد الرسولي ". ثم استدرك بالقول: " لكن أحداثاً أخرى جرت، عقبَ انفضاض المجمع، وكانت بسبب مؤامرات الجزّار بالدرجة الأولى. إذ تم تحريض الأمير بشير على محاربة المتاولة، وهو استعان في ذلك بعسكر الدروز. لكن هذا العسكر، الأسوأ من المرتزقة الكرد والمغاربة، عمد إلى استباحة الأديرة ونهب ما يجده فيها. أهالي قرى الشوف، القريبة من دير المخلّص، كانوا قد وضعوا مقتنياتهم في الدير بمكان يُدعى ‘ المخباية ‘، وذلك خشية أن ينهبها المتحاربون. أثناء اقتحام الدروز للدير، عثروا على المخباية واستولوا على مقتنيات الأهالي. بالنتيجة، أن المتاولة انتصروا وعساكر الأمير هزمت في أكثر من موقعة ما جعل اسمه مثار السخرية في عموم الإمارة اللبنانية ".
قلتُ ملاحظاً بنبرة سخرية: " كنتُ أحاضرُ في المجمع عن وحشية ثوار باريس، وإذا الأمور هنا في المشرق لا تقل همجية بفعل التنافس على السيادة والثروة والنفوذ "
" نعم، لعلمك أيضاً أن الموارنة سيعقدون بدَورهم مجمعاً بطرياركياً في خريف هذا العام في دير بكركي. يُقال، أن غاية هذا الاجتماع هو مجاولة نقض نتائج المجمع السابق، ومن ثم الطلب من قداسة البابا تثبيت المقررات الجديدة ونفي الأخرى ".
تساءلتُ، وقد اشمأزت نفسي من سيرة رجال الاكليروس: " هل ثمة أخبار جديدة من باريس؟ ". فقال القنصل بنبرة لا تخلو أيضاً من الاشمئزاز، وإن لداعٍ آخر: " لقد خلت فرنسا تقريباً من النبلاء، ولم يعُد متسيّداً سوى مَن كان بلا نسب سواء من الرعاع أو البرجوازيين. يُقال، أنهم يؤسسون جيشاً حديثاً وذلك لتصدير ثورتهم إلى الدول المجاورة عن طريق الحرب والسيطرة. لعلهم يفكرون أيضاً بغزو المشرق، كون البرجوازية تسعى إلى فتح أسواق جديدة لتصريف بضائعها واستيراد خامات المعادن والقطن لمصانعها ".

5
ما عدا ذلك اللقاء بالقنصل، أمضيتُ الأيام التالية دونَ صُحبة تُذكر. من ناحية أخرى، كنتُ أنتظر بقلق موعد عودة رجل كَوليزار من الحج. فيما خادمي، الموسوس والمتطيّر، يتحسّب ظهورَ " الشبح " في أيّ لحظة. كففتُ عن السخرية بأوهامه، بما أنني كنتُ ضحيتها في وقتٍ سابق. سمحتُ له أيضاً بالمبيت في حجرة الإيجار، وذلك في أثناء وجودي في دار الحبيبة. إنه هوَ مَن أفادني ذات صباح، عقبَ عودته إلى الدار، بقرب وصول الوالي من أرض الحجاز. هذا الأخير، وكمألوف العادة، بعث رسولاً كي يبشر الأهالي بسلامة قافلة الحج وذلك كي يتم تزيين المدينة.
في اليوم المحدد لإياب القافلة، رأيتني منقبضَ النفس أذرع بلا هُدى دروبَ المدينة القديمة، كمن يجد علامة تعاسته في أوان البهجة والأفراح. في المقابل، لم أشأ الذهاب لمشاهدة موكب الباشا، المعد مناسبة نادرة تحصل مرة واحدة في العام. ما لبثت أصواتُ الطبول أن وصلت لمكاني في المقهى، أين جلستُ وحيداً تقريباً. كان المقهى شبه مقفر، بسبب هروع معظم المرتادين لرؤية الموكب. جلستُ والرؤى المقيتة تحوم حولي، أحاول إبعادها بنفثات دخان النارجيلة. هذا مع أنني كنتُ قد راهنتُ في نفسي، مسبقاً، على احتمال منطقيّ، بشأن ردة فعل رجل كَوليزار حينَ يعلم بأمر حبلها: إنه ولو شكّ بأبوّته للجنين، لن يعرّض سمعته لسخرية خصومه. وفي التالي، سيكظم ما في داخله، منتظراً فرصة مناسبة للانتقام من ملوّثة شرفه.
" في هذه الحالة، سيشدد الرجلُ من مراقبته لإمرأته، بحيث أضطرُ للانقطاع عن رؤيتها لفترة تطول أو تقصر "، فكّرتُ بكرب. إلا أنّ سلامة الحبيبة، كانت عندي أهم من كل ما عداها، كوني المسئول عما سيحيق بها من خطر محتمل. ولعلني أكونُ مبالغاً في الوهم، فكّرتُ متنهّداً، فيستقبل رجلها خبرَ حبلها كأمر طبيعيّ وبلا علامات استفهام، مشئومة. أساساً كنتُ قد أقنعتها بواقعية الاحتمال الأخير، وذلك عندما التقيتها في يوم سابق. لذا قررتُ أن أمرّ ليلاً من تحت نافذتها كي أحظى منها برسالة، تطمأنني أن كل شيء على ما يرام في منزلها.
على هذه الحال، كنتُ أمضي وقتي في المقهى، أسحب بشيء من التوتر أنفاساً من دخان النارجيلة. وإذا بصدى طلقات نارية تملأ الجو، بحيث طغت على أصوات وقع طبول الموكب. القلة من الرجال، الموجودة في المقهى، أسرعت في مغادرته وعلى ألسنتها عبارات تستغيث المولى بحفظ المدينة من شرور الأصناف والإنكشارية. لكنني آثرتُ البقاء في مكاني، علّني أحظى بخبرٍ يُمكن ربطه بمخاوفي، المَوْصوفة. وهذا نادلُ المقهى، يعترضُ سبيلَ بعض المارة، وكان يلوح عليهم الاضطرابُ. لما آبَ من هناك، أوقفته لأستفهم منه عن جليّة الأمر. فقال لي، وكان يمحضني الاحترام باعتباري زبوناً كريماً: " إنهم يا سيّدي أفرادُ فرقة اللاوند، الذين رافقوا قافلة الحج في الذهاب والإياب، أطلقوا نيرانَ بنادقهم فور مرور الموكب بإزاء أسوار القلعة. لقد سمعوا ولا شك بما جرى في غيابهم بين المتسلّم والانكشارية، فأرادوا التعبير عن ذلك بإطلاق النار ". عندما تركتُ المقهى على الأثر، كان الهدوء قد عاد إلى المدينة، اللهم إلا مظاهر الفرح باستقبال موكب الحج.

قلقاً، كنتُ أسحبُ بين فينة وأخرى الساعةَ كي أستعلم عن الوقت. عند منتصف الليل، غادرتُ الدارَ في طريقي إلى حي القنوات. لقد سبقَ وحذرني الخادمُ من الخروج في هذه الليلة، بالقول: " أفراد اللاوند، العائدون من أرض الحجاز، برح بهم الشوق للخمر، ويُمكن أن يعترضوا سبيلك ويسلبونك مالك وربما روحك أيضاً ". لكنني لم أعبأ بتحذيره، وخاطبته في داخلي ساخراً: " كيفَ سيكون موقفك، إذاً، لو علمتَ أنني أمضي إلى منزل آمر اللاوند نفسه للقاء امرأته سراً؟ ". جواباً، طلبتُ منه أن يبقى في الدار، كوني سأتأخر ساعة واحدة على أكثر تقدير.
بمجرد وضعي رجلي أمام عتبة الدار، استقبلني تيارٌ ساخن في هذه الليلة الحارة من شهر آب/ أغسطس. ولعلني فكّرتُ عندئذٍ بلحظة استقبال الحبيبة لرجلها، وملاحظته لبطنها المتكّور بالحمل. طردتُ على ألأثر أي فكرة سيئة، وتقدمتُ باتجاه مدخل الحي، المفضي إلى خارج الأسوار. كانت الليلة مقمرة، مرصّعة بالنجوم، تَخففَ حرُّها مع ولوجي الدرب العتم، المكتنف بالأشجار المثمرة. ربع ساعة أخرى، وكنتُ أجتاز القنطرة، الحاملة على منكبها حجرةَ الحبيبة. خفق قلبي بقوة، بفرح طفوليّ لو صحّ هذا التعبير ـ وذلك عندما تراءت لعينيّ النافذةُ، المضاءة بالمصباح ذي النور الغامر. أكتفيتُ بعلامة النجاة هذه، وكنتُ في حالةٍ أخرى أرمي النافذة بحجر صغير كي أعلن عن وجودي.
شعورٌ مُغرٍ، حثّني على الانتظار لدقيقة إضافية، علّني أحظى برؤية الحبيبة. هذا، برغم أننا واصلنا اللقاء، يومياً تقريباً، مذ إيابي من الإمارة اللبنانية. مضت الدقيقة، وكنتُ أهمّ بالتواري في عتمة القنطرة، لما لاحَ جانبٌ من شبحُ كَوليزار وراء نافذتها. خطوتُ إذاك باتجاه جدار القنطرة، المثبت فيه مشعل النور، لكي أظهر نفسي. ومثلما توقعتُ، حطّ منديلٌ معقود عند قدميّ. دونَ حسابٍ للحذر والخطر، فتحتُ المنديلَ لأجد رسالة من بضع كلمات بالخط الجميل لجميلتي: " حبيبي، تحلّ بالصبر في الأيام المقبلة. عند الضرورة، سأرسل إليك خبراً مع الوصيفة ".
مع أنني رجلٌ ريفيّ، يتعجّل في امتلاك ما يرغب فيه، فإنني نزلتُ عند رغبة الحبيبة وحاولتُ التذرّعَ بالصبر ريثما تجدّ سانحةٌ مناسبة للقائها. في الأثناء، رحتُ بين آونة وأخرى في استعادة سيرة حياة كَوليزار، التي روتها لي في الليالي الحارة من هذا الصيف الآيل للرحيل.

6
كان الوقتُ صيفاً أيضاً، عندما اهتزت الدارُ بفعل دويّ عنيف، تبعه أصوات إطلاقات نارية غزيرة ومستديمة. ذلك جرى في أول المساء، وكان صدىً لحدثٍ هزّ بدَوره المدينة: المجاعة، دفعت الأهالي لاجتياح الأسواق ونهب كل ما تقع أيديهم عليه. في غمرة هذه الفوضى، تبادل الوالي وقادة الانكشارية الاتهامات بالتسبب في المسغبة العامة عن طريق احتكار وتخزين المواد الغذائية كي يتضاعف ثمنها. على الأثر، صبّ أولئك الخصوم النارَ على بعضهم البعض من فوهات المدافع والبنادق.
كَوليزار، وكانت آنذاك في سنّ الثانية عشرة، أطلت من باب البيت لتجد نساء الجيران وأطفالهن يخرجن من دورهن وقد ملأ صراخهن جو المساء. فلما استفهمت من إحداهن عن وجهتها، فإن هذه أجابتها: " سنلتجئ إلى حمى المسجد الأمويّ ". عند ذلك، دخلت كَوليزار إلى البيت لتخبر والدتها عما رأته وسمعته. هذه الأخيرة، وتُدعى " عفّت "، ارتأت أن تحذو حذوَ جاراتها، فدفعت الابن الصغير إلى كَوليزار بينما أمسكت هيَ بيد شقيقيه. هكذا ساروا مع قافلة طويلة من أهالي حي ساروجة في الطريق إلى ذلك المسجد، الذي يحترم عادةً المتقاتلون حرمته. لقد خرجَ أهالي الحي في الوقت المناسب، لأن نار الخصوم بدأت بالتهام الدور بسرعة، كونها مبنية غالباً باستعمال الأخشاب والتبن والقش. لكن حدث ما لم يكن بالحسبان، ثمة بالقرب من باب الفراديس: مسلحون من المرتزقة، مثلما عرفوا من ملابسهم، انتزعوا كَوليزار من القافلة مع عدد آخر من الفتيات، ومضوا بهن دونَ الاصغاء لتوسلاتهن وصراخ أمهاتهن. هذه الكارثة، غيّرت حياة الفتاة الصغيرة بشكل كليّ. لكن سبقتها حادثة أخرى، حاسمة، وكانت كَوليزار بعدُ في العام الأول من عُمرها الغضّ.

قبل ليلة الكارثة بأشهر قليلة، قُدّر لكَوليزار أن تلمّ أشتات أقاويل، متداولة على ألسن زميلاتها في الخدمة. إذاك، كانت قد خلّفت السيّدة عفّت في العمل بمطبخ قصر الوالي، المُعرَّف باسم مشيّده؛ أسعد باشا. قيّم القصر، هوَ مَن كان واسطة الفتاة للعمل في المطبخ. وإليه توجّهت هذه، ذات يوم، كي تضعه في صورة تلك الأقاويل: " إنهن يلمّحن إلى كوني ابنة سلطانة، سبقَ أن حلّت في هذا القصر عندما كانت زوجة للوالي السابق. ما فهمته أيضاً، أن السلطانة أرادت التخلّص مني أو أنني انتزعتُ قسراً من حضنها عقبَ ولادتي بساعات قليلة ". قالت ذلك، ثم أضافت بنبرة توسّل: " من حقي أن أعرف الحقيقة، يا سيّدي، ولهذا لجأتُ إليك ". جواباً، أكتفى القيّم العجوز بالقول: " الحقيقة، من الممكن أن تمّدك بها السيّدة عفّت وليسَ أيّ شخصٍ آخر ".
عقبَ عودتها إلى الدار في ذلك اليوم، لم تجد الفتاة جرأة في نفسها على مواجهة " والديها " بحقيقة ما نمّ إليها. في المقابل، أعطت انتباهها لرجل العائلة، وكان يقوم كل ليلة بالكتابة في كناشٍ خاص. إلى أن انتهزت ذات مرة فرصةً مناسبة، لتقرأ في ذلك الكناش نتفاً مما تبيّنَ أنه يوميات صاحبه. كررت القراءة في مناسبات أخرى، لتكتمل في ذهنها أخيراً صورة عن حقيقة وجودها وشخصيتها. إلا أنها لسبب ما، عاطفيّ على الأرجح، لم تفاتح وليي أمرها بحقيقة ما أكتشفته من خلال اليوميات وقبل ذلك من أقاويل زميلاتها.

كانت كَوليزار ثمرة حادثة إغتصاب، تعرّضت لها والدتها السلطانة عندما كانت في الطريق إلى الحجاز مع المحمل الشريف. " بيهان سلطانة "، كانت برفقة القافلة عندما هاجمها الأعرابُ، وما لبثت أن وقعت هيَ بيد زعيمهم. غبَّ إطلاق سراحها، وعودتها إلى دمشق، وصل أمرٌ من شقيقها السلطان بأن يُعقد قرانها على والي الشام، الذي كان على رأس قافلة الحج. أمرٌ آخر، سريّ، وصل إلى هذا الأخير بضرورة التخلّص من جنين السلطانة بأي ثمن. وكانت هيَ نفسها لا تريد الجنين، وحاولت إسقاطه بشتى الطرق. لكن على أثر الولادة، تحركت فيها بقوّة عاطفة الأمومة، بحيث صرّحت لمن حولها بأنها أعطت المولود اسمَ " كَوليزار ". بعدئذٍ وبسبب الجهد، استسلمت السلطانة لنوم عميق طوال النهار. لما أفاقت، علمت من وصيفتها أن الابنة قد سلّمت إلى الجلّاد ولن تعرف حتى قبرها. فيما بعد، استعانت الأم بكرامات دعيّ النبوّة، لكي تتأكّد من مصير ابنتها. " النبي كيكي " هذا، كان من الأشخاص المقربين للسلطانة حتى أنه رافقها في رحلة الحج، المشئومة. أكتفى الرجل بالقول، أنّ الطفلة حيّة لكن أمها لن تراها في حياتها. هذه الأخيرة، ما لبثت أن ماتت بالطاعون في خلال سفرها بحراً إلى الأستانة، ثم لحقها صديقها؛ دعيّ النبوّة. قبل ذلك، قدّرَ للرجل المبارك أن يعلم تحديداً بمكان الطفلة، لكنه لسبب ما لم يبُح لوالدتها عن الأمر.
السيّدة عفّت، هيَ مَن أُمرت من لدُن الوالي بالتخلّص من الطفلة. كانت أساساً من جواريه، ولما اقترن بالسلطانة نقلها إلى الخدمة في مطبخ القصر. غير أنّ الطفلة عاشت، كون المكلّفة بقتلها أشفقت على براءتها ومن ثم سلّمتها إلى إحدى صديقاتها؛ وهذه كانت تقيم في المدينة القديمة مع أسرتها. عندما حصلت الزلزلة الكبرى، عام 1759، قضت تلك الصديقة مع معظم أفراد أسرتها فيما نجيت الطفلة الربيبة وذلك بفضل تدخّل دعيّ النبوّة في الوقت المناسب. منذئذٍ، وحتى ليلة اختطافها على يد عناصر المرتزقة، عاشت كَوليزار في منزل السيّدة عفّت ورجلها، باعتبار أنهما والديها.

7
هكذا وجدت كَوليزار نفسها بين أيدي عتاة من المرتزقة، كانوا يتخاطبون فيما بينهم بلغة غريبة عن سمعها. في ذلك المساء، وبينما كانت النيران تلوح عن بُعد وهي تلتهم حي ساروجة، أرسلت هيَ مع أربع فتيات يكبرنها في عربة مشدودة بالخيل إلى حي العمارة، المجاور. في خلال الطريق، كانت إحدى الفتيات تطلق الأدعية ووجهها إلى السماء، فسألتها كَوليزار: " هل تعلمين من هم هؤلاء الأشرار وإلى أين يقودوننا؟ "
" إنهم من أكراد اللاوند، يسوقوننا إلى حيّهم في العمارة وبعدئذٍ سيبيعوننا لتجّار الرقيق "، أجابت الفتاة بصوتٍ باكٍ. صدمت الأخرى بالخبر، فقالت باستنكار: " كيف يجرؤون على بيعنا، ونحن مسلمات؟ ". أعترضت إحداهن الحديثَ، لترد قائلة بنبرة العارف: " إننا نعدّ سبايا بنظرهم، كوننا نقيم في حي خصومهم ". لزمت كَوليزار الصمتَ، بينما راحت بقية الفتيات يتبادلن الحديث إلى أن وصل الركبُ إلى مقصده. كان المكان ساحة صغيرة، يرتسم قمر المساء على صفحة مياه نافورة تتوسطها. سرعان ما أمرت الفتيات بالنزول من العربة، ومن ثم التوجّه إلى منزل يطل على الساحة.
" أيها الأخ، اسمعني أرجوك "، خاطبت كَوليزار أحد المسلحين عند مدخل ذلك البيت. لما التفت إليها، قالت له: " أنا مثلكم، كردية! والدي، حسن برزنجي، هوَ من الأشراف ومدرّسٌ معروف في المدرسة الشامية الجوانية ". دفعَ المسلّحُ آخرَ فتاة إلى داخل البيت، ثم تكلم مع كَوليزار بالكردية. إلا أنها ردّت بالقول: " لا أعرف هذه اللغة، لأن والدتي شامية ". لاحت الحيرة على ملامح الرجل، وبعد قليل من التردد قال لها: " حسنٌ، أيتها الصغيرة. أدخلي الآنَ، وأعدك أن أبحث أمركِ مع رفاقي ".
بقيت كَوليزار نحو أسبوع محتجزة مع بقية الفتيات في ذلك البيت، ولكنها لم تعُد ترى ذلك المسلّح. حارس آخر، فظ المنظر، كان ينتهرها في كل مرة تذكّره بوعد زميله. كان هذا يحضر إلى المحتجزات عند تقديم الطعام، ثم يخرج ويغلق عليهن الباب بالمفتاح. من جانبهن، حدبت الفتيات على كَوليزار كونها أصغرهن عُمراً. أكثر من مرة، حاولن طمأنتها بالقول: " أنت ما زلت طفلة، ومحالٌ أن يعرضوك للبيع في سوق الجواري. لو كان والدك من الأشراف، مثلما تقولين، فإنه لا بد وسيعثر عليك قريباً ويعيدك إلى أسرتك ".
عندما أمرت مع باقي الفتيات بالتجهز لمغادرة المكان، خاطبت كَوليزار نفسها بيأس: " لو كان والدي حقاً، لفعل المستحيل كي ينقذني من السبي ". ثم استدركت: " ولكن ماذا عن السيّدة عفّت، وهيَ مَن ربتني ورعتني كما لو كنتُ ابنة رحمها؟ لو أنها تكلمت مع قيّم القصر، لكنتُ الانَ مطلقة السراح ". غير أنها لم تكن تعرف حقيقة الوضع في المدينة، وأنّ المرتزقة لا يسألون على أيّ مقام؛ بما في ذلك الوالي. بل إنهم عصوا مراراً أوامر الباب العالي، دونَ أن ينجم عن ذلك عواقب وخيمة عليهم.

بعد مضي هذه الأيام في الحجز، أركبت الفتيات مرة أخرى في العربة المشدودة بالخيل، لكي تسير بهم هذه المرة إلى جهة مجهولة. كان الوقتُ عند شروق الشمس، وقد رافق العربة ثلة من الفرسان لم تتعرّف كَوليزار بينهم على ذلك المسلّح، الذي نطقَ بوعدٍ غامض لم يفِ به. بعد بضع ساعات من المسير، قالت إحدى الفتيات بنبرة العارف: " نحنُ الآنَ في الإمارة اللبنانية، وربما نساق بحراً إلى حريم السلطان في الأستانة ". عندما مرت العربة لاحقاً بالقرب من بلدة زحلة، تذكّرت كَوليزار السيّد حسن ( كانت قد كفّت عن التفكير به باعتباره والدها )، وكيفَ سافر إلى هذه البلدة كي يجري في أحد أديرتها عمليةً جراحية في عينه. كذلك الأمر، عند وصول الركب مساءً إلى مدينة بيروت. إذ فكّرت بما قرأته في يوميات الرجل عن صديقه، الشاب النصرانيّ؛ وكان هذا قد هجرَ دمشق مع أسرته إلى بيروت في إبان كارثتيّ الزلزلة والطاعون، اللتين حصلتا في وقت واحد تقريباً عام 1759. حينَ هجعت كَوليزار للنوم في دار قريبة من مرفأ المدينة، حلمت بذلك الشاب وهوَ ينقذها من آسريها. لكن هؤلاء الأخيرين، المبكّرين لايقاظ الفتيات من أجل الفطور، بددوا ذلك الحلم الجميل.
كما كان المتوقع، فإن بيروت لم تكن سوى محطة، حَسْب. عندما ازداد عدد الأسيرات، بانضمام عدد آخر من الفتيات إليهن، أعلن الآسرون صراحةً بأن الرحلة سيكون مرساها الأخير في عكا، الكائنة في أقصى الشمال الفلسطيني الغربي، المطل على البحر. كَوليزار، المهتمة بالسيَر والتواريخ، سبقَ أن سمعت عن هذه المدينة في مناسبات عدّة؛ من قبيل تمرد حاكمها السابق، " ضاهر العُمر "، على الباب العالي بالاتفاق مع مماليك مصر. كذلك الأمر، فيما يخص حاكم المدينة الحالي، المنعوت ب " الجزّار "، حيث عُرف عنه تدخله في شئون الولايات المجاورة بما فيها دمشق نفسها.
" المحظوظة منكن، سيتم إدخالها إلى قصر الجزّار لتكون إحدى جواريه. لا يفزعنّكن لقب الرجل، لأنه معروفٌ بالرقة والكرم إزاء النساء "، هكذا أوضح للفتيات أحدُ حراسهن وليسَ بدون ضحكة تهكّم.

8
كانت هيَ المرة الأولى، ترى فيها كَوليزار البحرَ. لكنها بدلاً من الابتهاج بمنظر الأمواج والأفق الأزرق، انقبضَ قلبها حينَ علمت بأنها ستباع كجارية في بلد غريبٍ وناءٍ. قبل أن تُحشرَ في المركب، المتوجّه إلى عكا، صرخت بآسريها، معيدة عليهم ذكر أصلها ونسبها. لكن صرختها ضاعت في غمرة جلبة الفتيات، اللواتي كنّ أيضاً يتوسلن الحراس باكيات. عقبَ إقلاع المركب وإبحاره باتجاه الجنوب، توالى الليل والنهار على كَولبهار وهيَ في رواقٍ سفليّ مغلق عليها وصويحباتها، وكان الطعام والشراب يصلهن من فتحة في السقف. لكنها كانت لا تصيب إلا النزر من الغذاء، وذلك بسبب معاناتها من دوّار البحر.
" لقد وصلنا إلى عكا، أيتها الفتيات "، هتفَ أحدُ النوتية عبرَ فتحة السقف. كانت الشمسُ قد أشرقت منذ بعض الوقت، لما وجدت كَوليزار نفسها على سطح المركب. من هناك أرسلت نظرها إلى مشهد عكا، الذي لاحَ كأنه يتحدى البحرَ بالأسوار المنيعة والأبراج السامقة والقلعة المهيبة. إلى هذه الأخيرة، سيقت هيَ ورفيقات الرحلة، ليستقر بهن المقام في صالة أرضية، مستطيلة الشكل، يستعمل القسم الأكبر منها كمنامة جماعية. ثم ما لبثنَ أن عرضن على امرأة كبيرة السنّ نوعاً، تُدعى " الحاجّة شكرية "، عرّفت نفسها بنبرة صارمة على أنها المشرفة الأولى على جناح الحريم. كان ثمة طبيبة أيضاً، راحت تفحص الفتيات من خلال النظر في عيونهن وأفواههن وأسنانهن. لما وصل الدورُ إلى كَوليزار، التفتت الطبيبة إلى المشرفة وقالت: " إنها ما تفتأ طفلة بعدُ، ويلزم عزلها في حجرة خاصة أو إلحاقها بخدمة إحدى نساء الباشا "
" سأفكّرُ لاحقاً بالأمر "، ردّت الحاجّة باقتضاب فيما ترمقُ كَوليزار بنظرة مشفقة. بعدما فرغت الطبيبة من فحص الجواري الجدد، خاطبتهن المشرفة بالقول: " سعادة الباشا يتهيأ للمغادرة إلى الحج، كون نيابة المحمل الشريف صارت من نصيبه هذا العام. بعد عودته بالسلامة من أرض الحجاز الطاهرة، سيتم عرضكن عليه. في خلال ذلك، تمتعن بالوقت وحافظن على النظام ". غبَّ ذهاب المشرفة العجوز والطبيبة، حضرت مشرفة أقل شأناً وأصغر عُمراً، قدّمت نفسها لأولئك الجواري بالقول: " اسمي جيهان، ومهمتي هيَ تنظيم وقتكن نهاراً. ستذهبن بعد قليل إلى الحمّام، ومن ثم تصبن طعام الغداء، ولن يطلب منكن شيء إلى وقت النوم. لكن منذ الغد، ستحظى كل واحدة منكن بفرصة للدراسة أو التطريز أو الخدمة، وذلك بحسَب ما تأمر به الحاجّة شكرية ". بعدئذٍ ألقت نظرة باسمة على كَوليزار، ثم دعتها أن تسيرَ معها.

كان ثمة درجٌ ضيّق، يصل إلى الدور الثاني، المشرف على الصالة الأرضية، ومن خلاله كانت كَوليزار تتنقل يومياً عقبَ اعتيادها على المكان. سُعدت بتقاسمها حجرةً في الدور الأعلى مع المشرفة الشابّة، وكانت تقضي بضعَ ساعاتٍ نهاراً في تلقي دروسَ اللغة والفقه على يد امرأة عجوز يَدعونها بالشيخة. عندما كانت تنفرد مساءً مع جيهان، أعتادت أن تقصّ عليها نتفاً من سيرة حياتها. إلا أنها برغم ثقتها بالمشرفة، لم تلمّح قط إلى حقيقة انتسابها من جهة الأم للسلالة العثمانية الحاكمة. من ناحيتها، كانت المشرفة تُدهش مع مرور الأيام من اتساع معارف هذه الجارية الصغيرة السن، وكل مرة تذكر ذلك لرئيستها. هذه الأخيرة، أجتازت ذات صباح الصالة الأرضية برفقة رجلين لكل منهما مظهرٌ على شيء من الغرابة. همست إحدى الجواري في أذن كَوليزار: " إنهما من خصيان القصر، المسموح لهم الاختلاط بالجواري ". مساءً، استفهمت من المشرفة الشابة عن أولئك الخصيان، فأعادت هذه نفس المعلومة ثم أضافت: " ثمة مماليك أيضاً، غالبيتهم من الشبان، ويقال أن أسلافهم فروا من مصر عقبَ وقوعها بيد العثمانيين قبل قرنين من الزمان ووضعوا أنفسهم رهن ولاة عكا والساحل. لكن هؤلاء المماليك ممنوعون من الاقتراب من جناح الحريم، ومهمتهم هيَ حراسة أبواب ومداخل القصر الخارجية والداخلية ".
في غضون ذلك، كانت الاستعدادات تجري لخروج الباشا إلى الحج مع المحمل الشريف. عادت كَوليزار تحلم بالخلاص، لما سمعت أنّ بعض الجواري يتم اختيارهن كل مرةٍ لمرافقة الوالي في الذهاب والإياب. عندئذٍ، اعترضت ذات صباح المشرفةَ العجوز كي ترجوها أن تكون ضمن أولئك الجواري المختارات: " أرغبُ بمواجهة الباشا، بغيَة إبلاغه بحقيقة كوني مسلمة من أسرة أشراف معروفة في دمشق "
" لقد خرجَ الأمرُ من يدي، ولكن في وسعك التكلم مع الباشا حينَ يعود بالسلامة من الحج "، قالت لها المشرفة بصوت واهن قبل أن تتركها وتتحرك بمعونة عصاها. قيل أنّ العجوز تعاني من مرضٍ مبهم، فتذوي مع مرور الوقت. لما آنَ أوانُ خروج الباشا من القلعة، للحاق المحمل الشريف قبل وصوله إلى معان، لم تتمكن الحاجّة من وداعه.
" كل مرةٍ تمرض العجوز، ويكون الباشا غائباً، تحصل أشياء مشينة في جناح الحريم "، قالت جيهان لرفيقة حجرتها وهي تهز رأسها علامة على معرفتها بتلك " الأشياء ". برغم صغر سنّ كَوليزار، فإنّ نساء الحريم كن يعاملنها كامرأة عاقلة وذلك بالنظر لذكائها وثقافتها وقوة شخصيتها.
ثم استطردت جيهان بالقول: " ابقِ متيقظة إلى منتصف الليل، لكي نخرج خفيةً إلى الشرفة، المطلة على الصالة الأرضية ".

9
اعتباراً من تلك الليلة، شعرت كَوليزار أنها كبرت عقداً كاملاً من السنين. كانت ليلة ماجنة، احتفلت فيها الجواري بتخليص أجسادهن من الكبت والحرمان، فأظهرن فنوناً عجيبة من الباه رفقة الشبان المماليك. أيضاً الليالي التالية، ولا شك، كانت على المنوال نفسه، إلا أنّ المشرفة جيهان أعفت شريكةَ حجرتها من رؤية تلك المشاهد الفاضحة. كذلك لم تنسَ توصيتها، بتشدد وحرص: " لو أنهم فيما بعد كشفوا هذه المباذل، وكنتِ أنتِ من بين مَن طلبوا للشهادة، إياكِ أن تذكري بأننا كنا على علم بها "
" كيفَ يجرؤن على إتيان هكذا أفعال، مع ما يقال عن شخصية الباشا، المتّسمة بالتعطّش للدم؟ "، تساءلت كَوليزار. ردّت الأخرى بسهوم، كمن يستحضر في ذهنه تلك الشخصيّة: " بل إن مجرد رؤيته، كفيلة بتجميد الدم في العروق ". ثم أردفت بالقول: " معظم هاته الجواري، حُكم عليهن بأن يقضينَ السنينَ دونَ وصال ومعاشرة. فكأنهن جُمعن لمجرد التباهي، كالمجلدات في مكتبة شخص جاهل "
" إذاً، سيفنى عُمري أيضاً على تلك الحالة المذكورة؟ "
" من يدري، ربما كنتِ سعيدة الحظ لو خرجتِ من القلعة على سبيل الهدية "، أجابت جيهان. كانت هذه بمثابة النبوءة، وقد فكّرت فيها كَوليزار فيما بعد.

في وقتٍ متأخر من الصيف، آبَ الباشا من رحلة الحج وسط مظاهر أفراح وزينات، عمّت مدينة عكا؛ مركز ولايته. ثمة في جناح الحريم، طُلبَ أيضاً من الجواري الاحتفال، وذلك حينَ حلّ المساء. كان حفلاً جميلاً، تخلله الرقص والموسيقى والغناء، حضرته كَوليزار برفقة صديقتها المشرفة. هذه الأخيرة، هيَ مَن كانت تتولى في الفترة الأخيرة شؤون الجناح بسبب اشتداد مرض الحاجّة شكرية. وقد مضى الحفلُ دونَ مكدّر، وكانت صيحات البهجة من أفواه الجواري تصدى في جنبات القلعة وأجوائها. ثم توالت الأيام، كمألوف العادة من الروتين، لم يكدّرها سوى خبرُ وفاة الحاجّة. في هذه الحالة، كان من الطبيعي أن تتولى جيهان الإشراف على جناح الحريم. ولقد تلقت، سلفاً، التهاني من بعض الجواري. كانت تنتظر دعوةً من الباشا، كي يبلغها بنفسه أمر تعيينها بالوظيفة المرموقة. هذا حصل في صباح اليوم التالي، عقبَ تشييع المشرفة العجوز إلى مثواها الأخير.
" آه يا رب، ثمة مصيبة ستقع على رؤوس الجميع "، هتفت جيهان وهيَ في غاية الاضطراب بمجرد أن دخلت إلى جناح الحريم. توجّهت بكلمتها للجواري، ما أشاع الجلبة بينهن وكل منهن أرادت أن تستفهم من المشرفة الجديدة عما تقصده بالمصيبة. كانت كَوليزار تقف على مبعدة خطوة منها، فأمسكت المشرفة بيدها ثم مضت بها في سرعة باتجاه حجرتهما. ما أن اختليا هناك، إلا وجيهان تقول لها وكانت ما فتأت ممتقعة الوجه: " الباشا، وبطريقة ما، عرفَ ما جرى من أمور شائنة في غيابه، وإنه بصدد صبّ غضبه ونقمته على الجواري والمماليك سواءً بسواء. لكنني أقنعته ببراءتك، ولم أكذب سوى عندما أضفتُ أننا كلتانا كنا نجهل ما يجري في غيبته في جناح الحريم ". ما أن أنهت كلامها، إلا والصراخ يأتي من جهة مضجع الجواري، فاندفعت مع صديقتها باتجاه الشرفة.
عشرات العبيد والخصيان، ظهروا في الصالة الأرضية وكانوا يعمدون لتقييد الجواري بالسلاسل الحديدية. ولما انتهوا من ذلك، أضجعوهن بوضعية السجود وهم وقوف خلفهن. في الوهلة التالية، صاحَ أحدهم باسم الباشا، يعلن عن حضوره. كَوليزار، وكانت ما تني تشرف على المشهد من الشرفة، أرتعد داخلها حينَ تجسّم لعينيها ذلك الوحش البشريّ، المدعو بالجزّار. كان كل ما فيه يذكّر بنوع من الحيوانات المؤذية: جسم كهامة الدب؛ عينا ذئب؛ فم أفعى. لكنه لم ينطق بنأمة، بل بقيَ يتابع إجراءتِ الانتقام.
تم إحضارُ جرار فخارية ضخمة، تبيّنَ أنها بعدد الجواري، فوضعت بشكل منتظم في فناء الجناح، المكشوف لعين السماء. بعدئذٍ رصفت قطع من الحطب، المخضبة بسائل نفطيّ، ثم رفعت الجرار فوقها بعدما ملئت بالماء إلى وسطها. عقبَ إشارة من كبير العبيد، دفعت الجواري إلى تلك الجرار لتوضع فيها عنوةً وسط الصراخ والنحيب والعويل. في هذه المرة، التفت كبيرُ العبيد إلى الباشا كي يحصل منه على إشارة البدء بالمجزرة. على أثر تلقي الإشارة المطلوبة، تقدم بعضهم إلى الجرار وأشعل الحطب تحتها. أربعون جارية بالعدد، كنّ الآنَ يُسلقن على مهل في الماء المغليّ، وذلك تحت أنظار كَوليزار. لكنها لم تستطع إكمال متابعة المشهد، بسبب الدوار والغثيان. عند ذلك ساعدتها المشرفة على العودة إلى الحجرة، وسقتها الماء مع كلمات مهدّئة. رائحة اللحم الإنسانيّ المسلوق، ما عتمت أن تسللت إلى الحجرة برغم أن بابها موصدٌ وكذلك النافذة الوحيدة. أما صراخ الضحايا، فإنه ملأ المكان وكما لو كان يوم الحشر. بعد نحو ساعتين، أحتدم الجو بأصواتٍ أخرى لصليل سيوف وإطلاق أعيرة نارية. استمر ذلك إلى المساء، ثم هدأ كل شيء. لاحقاً، ستعلم كَوليزار حقيقة ما جرى.
الباشا، أمرَ المماليكَ بحضور وليمة شيطانية، قدّمت فيها أجسادُ الجواري المسلوقة. لكن هؤلاء ردوا بانتفاضة عارمة، وما لبثوا أن أجبروا الجزّار على الهرب من القلعة. عندئذٍ استعان بعسكر المرتزقة، وكان معسكرهم قريباً من القلعة. قائد المرتزقة، لم يكن سوى آمر قوات اللاوند؛ كُرد اسماعيل. عن طريق أنفاق تحت القلعة، تمكنت هذه القوات من التسلل إلى الداخل ومن ثم سيطرت على الموقف. المماليك الناجون، فروا باتجاه الجنوب وهدفهم الوصول إلى مصر، التي سبق لأسلافهم أن هربوا منها قبل نحو قرنين من الزمن.
على سبيل المكافأة، أهديت كَوليزار لآمر اللاوند، فطلبت بدَورها من الرجل أن تحتفظ بالمشرفة كوصيفة؛ وهذا ما كان لها. لقد أحب الآمرُ الجارية الصغيرة، مذ أن وقعت عينه عليها أثناء معركة اقتحام القلعة، فما عتمَ أن طلبها من الجزّار.

* الكتاب الثالث من العمل الروائيّ، " الأولى والآخرة "..



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كما رواه شاهد عيان: الباب الخامس
- كما رواه شاهد عيان: الباب الرابع
- كما رواه شاهد عيان: الباب الثالث
- كما رواه شاهد عيان: الباب الثاني
- كما رواه شاهد عيان: الباب الأول
- كما رواه شاهد عيان: مفتتح
- كما رواه شاهد عيان: تقديم
- مدخل إلى عصر الرعب: الخاتمة
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثاني عشر
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الحادي عشر
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج العاشر
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج التاسع
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثامن
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج السابع
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج السادس
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الخامس
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الرابع
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثالث
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثاني
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الأول


المزيد.....




- تونس خامس دولة في العالم معرضة لمخاطر التغير المناخي
- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - كما رواه شاهد عيان: الباب السادس