أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - مدخل إلى عصر الرعب: البرج الحادي عشر















المزيد.....



مدخل إلى عصر الرعب: البرج الحادي عشر


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6795 - 2021 / 1 / 22 - 19:03
المحور: الادب والفن
    


1
الأيام الأخيرة من ذلك الصيف، الشاهد على حلول الطاعون في الشام، كانت على الوتيرة نفسها من الحر؛ وكأنما لتساعد في تفشي الوباء. برغم خطر العدوى، كنتُ قد بادرتُ إلى دفن صديقي برو في حديقة داره. هكذا تجاورَ مع الطواشي القاتل، الذي قُتل بدَوره على يديه. عندما عدتُ للمنزل، وأعلمتُ خادمي بما حلّ بالرجل، فإنه هتفَ مرتاعاً: " رباه، كيفَ فعلتَ ذلك دونَ أن تحسب حساباً لحياتك؟ ". بقيَ في اليوميين التاليين يرمقني في حذر، كما لو كان يود رؤية علامات على احتمال إصابتي بالوباء. في اليوم الثالث، جاء دوري كي أنتبه لاصفراره وللاعياء الملازم حركاته. عند ذلك، هجستُ بأنه حمل العدوى معه من السوق. فما لبثَ مع اضطراد سوء صحته، أن أكّد مخاوفي: " أريدك منك يا سيّدي أن تأخذني إلى البيمارستان، طالما أنني لم أفقد الوعي بعدُ "، فاه بهذه الكلمات الأخيرة. كنتُ أعرف ما ينتظره في ذلك المكان، الأشبه بالمحشر، لكنني عملتُ برغبته. بعد عودتي إلى الدار بنفس العربة المشدودة بالخيل، عرفتُ أيضاً أنني بتّ وحيداً تماماً.
في دجى الحزن والقنوط، الذي رأيتني أخوضُ فيه غبَّ فراق أصدقائي، ظهرَ بصيصُ فرحٍ وأمل. حالة حب، عليها كان أن تتلبّسني من جديد وعلى حين فجأة. لعلني نوهتُ فيما سلف، أنني أوصدتُ قلبي عقبَ رحيل زوجتي الحبيبة وكانت في ميعة الصبا. منذئذٍ شغلتُ وقتي نهاراً بالعمل، ومساءً في القراءة والكتابة. لكنني أحياناً كنتُ أدع قدميّ تمضيان إلى حارة أسرتها، كي أرسل نظري نحو نافذة حجرة منزلها، أينَ كانت تنتظرُ عودتي من دروسي في المدرسة الشامية. خادمي، كان آنذاك يعبّر كل مرة عن شفقته على تمسّكي بالزهد الجسديّ. كأن يقول لي: " لو أنك عزفتَ عن الزواج، فعليك على الأقل شراء جارية من السوق تؤنس معها وحدة لياليك ". ولقد فكّرتُ بكلام الخادم الراحل فيما بعد، عندما وضعَ المقدورُ جاريةً في طريق حياتي.

ربيبُ الأحاجي، كان على معرفة بالجارية عفّت، وذلك قبل ظهور موضوع اختفاء طفلة السلطانة. كونه حمّالاً في السوق، فإنها اعتادت أحياناً أن تعهد إليه نقل ما تتبضّعه من حاجيات إلى مطبخ القصر. إلى أن كانت ليلة القبض على القاتل، وإنتزاع إعترافاته. من ضمن ما فاه به الطواشي، كان موضوع إختفاء الطفلة. فأفضى بسرّ الجارية عفّت، وكان قد توصّل إليه من خلال تحرياته المعلومة. الغريب، أنه طلبَ من آسره إبلاغ السلطانة بالأمر كي تحاول بطريقةٍ ما إستعادة ابنتها. لما سُئل لِمَ لم يفعل ذلك بنفسه، فإنه أجاب: " كنتُ أتحيّن الوقتَ المناسب، لكي لا تفسد الأمرَ بلهفتها وحماستها ". وهوَ ذا ربيبُ الأحاجي، ذات يوم، يأخذ الجارية عفّت، على غرّة، عندما كانا في الطريق من السوق. أخبرها بمعرفته سرّ الطفلة، وأين تأويها، وأنه يعتبر نفسه مسئولاً عن حمايتها بعد اختفاء أثر الطواشي. برغم ما أحدثه كلامه من بلبلة في نفسها، إلا أنها كانت امرأة تتسم بالمراس ورباطة الجأش. إلى ذلك، كانت مثل الآخرين تؤمن بما حُبيَ به " النبي كيكي " من كرامات. من ناحية أخرى، سبقَ للطواشي أن وضعها أمام اختبار مماثل.
خاطبت الرجلَ المبارك بجسارة: " لو كنتَ حريصاً على الطفلة، كما تقول، فما عليك إلا أن تدعها وشأنها ". توقّفَ قليلاً، وراحَ يحدجها بنظرة متمعنة. بعدئذٍ هزّ رأسه، موافقاً على كلامها. ثم أضافَ وهوَ يتحرك: " حرصتُ على التأكّد من معلومةٍ، باحَ بها الطواشي قبل فقدان أثره. كما أنني أرغبُ باسباغ حمايتي على ابنة إنسانة، غالية عليّ، وذلك في غياب الطواشي ". أفرخَ روعُ الجارية عندئذٍ، فبادرت إلى شكر الرجل. في خلال الطريق، كلمته عن الأسرة الصديقة، الموجودة الطفلة في رعايتها. لما عبّرَ عن دهشته لكونها أسرة مسلمة، ردّت عفّت مبتسمة بمرارة: " وهل تظنني بقيتُ على دين آبائي، أنا مَن خطفتُ وكان عمري عشرة أعوام؟ ". وكان على رفيق الطريق أن يفكّر عند ذلك بالطواشي الراحل، الذي لاقى نفسَ المصير تقريباً وكان في ذات العمر: " حتى شقيقة سلطان الكون، تعرضت للاغتصاب وكانت طفلة بعدُ. وهذا، ربما كان أساس خصّها صداقتها لخادمها حكيم "، قالها مخاطباً داخله. لاحقاً، كان على السيّدة عفّت أن تحصل على برهان صدق كلام الرجل، وذلك حينَ أنقذ الطفلة والأسرة الحامية من تحت الركام في يوم واقعة الزلزلة. كونه على صلة طيبة بأهالي حارته، لم يجد مشقة في وضع الطفلة يومئذٍ عند أسرة في الجوار بعدما زعم لهم أن أبويها ماتا في خلال الواقعة. بعد مضي فترة من الوقت، تسنّى له ثانيةً الانفراد بالجارية ومن ثم إبلاغها بنجاة ابنة السلطانة ووجودها لدى الأسرة المحسنة.

عليّ كان أن أتورط في موضوع الطفلة، وذلك عقبَ وفاة صديقي برو. وإنه هوَ مَن توسل إليّ أخذ المهمّة على عاتقي، عندما شعرَ بدنو الأجل. قبل ذلك، كان قد عرّفَ الأسرة المحسنة على الجارية، بوصفها مربية الطفلة؛ وأن في وسعها استعادتها متى شاءت. السيّدة عفّت، راحت في كل مرة تزوّد الأسرة بحاجيات أشترتها من السوق، وذلك عندما كانت تحضر لرؤية الطفلة. ولقد فكّرت في أمرها بمزيد من القلق، لما دهمَ الوباءُ المدينة، فتباحثت فيه مرةً مع ربيب الأحاجي. قالت له في نبرةٍ تعبّر عن العجز: " أفضل مكان لحمايتها، هوَ القصر أين أقيم، وأن أدّعي أنني عثرتُ عليها في الطريق بعد وفاة والديها بالطاعون. لكنني لا أضمنُ مكرَ الخدم والعبيد، وأن بعضهم لن يتوصل إلى معرفة أن الطفلة هيَ ابنة السلطانة، وفي التالي يتم التخلّص منها مع تسليمي لسيف الجلّاد ".
علّقَ الرجلُ بالقول، مستخدماً نبرته الساخرة المألوفة: " ما دامت نجيت من الخنق والزلزلة، فإنها حتماً ستنجو من مهلكة الوباء. لو أن الطواشي كان حياً، ربما كان وجد حلاً للمعضلة بأن يجعل السلطانة تتحمّل مسئولية مصير ابنتها ". لكن المستغرب، أنّ صديقي الراحل امتنع إلى النهاية عن إبلاغ السلطانة بأمر طفلتها، وذلك لما استدعته كي توّدعه قبل سفرها إلى الأستانة. هذا، كان أيضاً من حُسن فأل الطفلة؛ وإلا فأي مصير كان سينتظرها عقبَ وفاة والدتها في طريق البحر؟

2
كنتُ مثل الصيّاد، الذي سعى لاستحواذ سمكة هزيلة، وإذا شبكته تُخرج لؤلؤة فريدة. هكذا فكّرتُ، لما وقع بصري لأول مرة على السيّدة عفّت. مع أنها تجاوزت سنّ الثلاثين، وربما لأنها كذلك، كانت تتمتع بفتنة طاغية، سحنةً وجسداً وروحاً. العينان، اللتان بزرقة البحر، لعلهما أجمل ما في طلعتها البهية، وكان لهما نظرة ثابتة تعبّر عن نفسٍ جسورة ومترفّعة. إنها النفسُ ذات المحتدّ الأصيل، توارت وراء صفة الجارية. فيما بعد، ستستعيد أمامي ما علق بذاكرتها عن موطن الطفولة، الكائن في إحدى الجزر اليونانية.
كنتُ أحاول الانفراد بها، وذلك باعتراض طريقها اليوميّ إلى السوق. ترددي، وأيضاً انشغالي بالمآسي الأخيرة المعلومة، فوّتا عليّ الفرصة مرةً تلو مرة. أخيراً صدرَ أمرُ الباشا بعدم خروج أحد من القصر، لحين إنقضاء غمّة الوباء. لقد اشتبهوا أنّ الطاعونَ لوّثَ حواصل الريف، المنقولة للسوق، وأنها تنقل العدوى إلى من يمسّها أو يأكلها. عندئذٍ خطرت فكرةٌ لرأسي، وهيَ أن أعود مجدداً للسكنى في الحجرة الملحقة بالديوان، التي سبقَ وشغلتها لما خرّبت الزلزلة منزلي. ولقد وافقوا فوراً على الفكرة، بسبب حساسية وظيفتي. في الأيام التالية، رحتُ أتحيّنُ سانحةً مناسبة للقاء مَن ملكت الفؤاد مذ لحظة وقوع عينيّ عليها. في الماضي، كنتُ أشعر بمتعة روحية نتيجة حرماني الجسديّ. لكن عليّ الآنَ أن أتلظّى بأوار العشق، بينما المعشوقة في متناول يدي. فلم يكن مني سوى طرح التردد جانباً، فأعمد لتدبير عمليّ بعيداً عن الهيمان في الخيال.

عمدتُ أولاً إلى التردد بين حين وآخر على مطبخ القصر، لحين أن بات حضوري مألوفاً للسيّدة عفّت. بما تمتعت هيَ به من فطنة، أدركت أنني أحضرُ كل مرةٍ من أجل رؤيتها. لم تعُد تبخل عليّ بابتسامة من شفتيها الناضجتين، لكنها ابتسامة كانت تضمرُ شيئاً من السخرية. قد يكون مبعث ذلك هيئة الأشراف، التي أظهرُ بها، أو علمها بأنني عالمُ دين. غير أنني هجستُ أيضاً، باحتمال معرفتها لشخصي عن طريق صديقي الراحل؛ ربيب الأحاجي. الخطوة الأخرى، كانت تعهّدي كتابة رقعة من النثر، أعبّر فيها عما أكابده من عشقها، ومن ثم تمريرها ليدها في غفلةٍ عن الأعين. رمقتني هذه المرة بابتسامة جميلة، قبل أن تسحب يدها بسرعة والرقعة بين أصابعها. فيما كتبته، لم أضمّن أي إشارة لسرّ طفلة السلطانة الراحلة. وما كان ذلك نوعاً من الحرص والإخبات، بل لقناعة راحت تنمو في داخلي في خلال الأيام الأخيرة: الطفلة في أمان، طالما لم يبقَ سوى شخصان على علم بسرّها، علاوة على أنّ والدتها رحلت عن هذه الدنيا.
في ليلة اليوم التالي، كنتُ مسهداً أتقلّب على فراشي، الذي أضحى مثل جمر الغضا من برح العشق والشوق للقاء الحبيبة على إنفراد. كذلك كنتُ، لما أوقع أحدهم طرقاتٍ خفيفة متتابعة على المشبك المعدنيّ، المغطّي نافذة حجرتي الوحيدة، المطلة على ممشى الرواق. أصختُ السمعَ، وما أسرع أن نهضتُ لأتجه نحو باب الحجرة لأفتحه دونَ أن أسأل مسبقاً مَن الطارق. ذلك أنني بلمحةٍ، كنتُ قد خمّنت مَن يكون الطارق. كان توقّعي في محلّه؛ وهيَ ذي معذِّبة القلب تنبثق من العتمة كشعاع من نور، هاربٍ من القمر. مع أنني في سنّ النضوج، مثلها سواءً بسواء، رأيتني أرتعد فيما أدعوها للدخول. مرقت بأنفاسها العذبة من جانبي، فأغلقتُ البابَ من خلفها. قنديل صغير، موضوع في مشكاة، كان ما يفتأ ينشر ضوءه الضعيف في الحجرة. لكنه ضوءٌ كافٍ، لكي يجعلني أتملّى الهيئة البهية. قالت لي فيما تجلس على طرف أريكة، تمتد بإزاء الجدار المفتوح منه الباب: " لم أجد سوى هذه الطريقة، لإجابة ما ورد في رسالتك ". قالتها خجلةً، ولا شك. أردتُ أن أتكلم، لكنها واصلت القول: " الحقيقة، أنني لم أفهم تماماً العبارات الواردة في رسالتك. كنتُ أعتقدُ أنك ستلمّح إلى موضوع الطفلة، كون صديقك الراحل أعلمني بإلمامك به ". موجة من القنوط والخيبة، غمرت عندئذٍ داخلي. إذاً، إنها حضرت من أجل موضوع آخر، كنتُ تقريباً قد سلوته.
قلتُ لها متنهّداً: " نعم، لقد نوقعتُ أن يكون صديقنا المرحوم فاتحك بموضوع الطفلة؛ هوَ مَن تنبأ بأنه لن ينجو من مهلكة الوباء. لكنني كتبتُ لك ما كتبته بكل صدق وإخلاص، بعيداً عن أي موضوع غير عواطفي ومشاعري ". أمالت رأسها إلى الوراء، ليتهدل شعرها بشكل جميل بهذه الحركة، ولتقول من ثمّ متسائلة: " حسنٌ، غير أنني لا أعلمُ ماذا تريد مني بالضبط؟ ". هتفتُ في الحال، بنبرة فيها ما فيها من توسّل ورجاء: " أطلبُ مبادلتي شعوري، طالما أنك متيقنة من مقصدي الشريف ".
قاطعتني بالقول، متململة في مجلسها: " إنني جارية، وما زلتُ ملكَ يمين الباشا ". ذكّرتها عندئذٍ بأنه أطلقَ سبيلها مع غيرها من الجواري، لكنها ذكّرتني في المقابل بأن زوجته السلطانة رحلت عن الدنيا. حلّ الصمتُ على الحجرة، ولم أعُد أدري ماذا أقول. نهضت على الأثر، لتخاطبني قبل أن تهم بالسير نحو الباب: " بقيَ موضوع الطفلة، وأطمئنك أنها ليست بحاجة إلى شيء؛ لأنني أعدّها حقاً بمثابة ابنتي ".
هتفتُ وقد اشتعلت نفسي ببوارق العشق: " لن أفقد الأملَ، ما دام العائق كما تتصورين هو الباشا. إنه يثق فيّ ويعتبرني من رجاله في الديوان، فلن أعدم وسيلة مناسبة لمفاتحته بأمرك ". برهنت عند ذلك على معرفتها بخفايا الأمور، لما علّقت بالقول: " إنك تعلّق أملك به، بينما كل الظنون تذهب إلى فقدانه الحظوة، عقبَ موت السلطانة، حتى لقد يدفّعونه أيضاً ثمنَ ما حلّ بالمحمل الشريف ". لم تنتظر سماعَ جوابي، وما لبثت عتمة الخارج أن ابتلعت هيئتها وكما لو كانت طيفاً من الأطياف.

3
ذلك اللقاء غير المتوقّع، المفعم بلحظات من الأمل والقنوط في آنٍ معاً، أرخى ظلاله على روحي في خلال اليوم التالي. وحقّ عليّ أن أتوهّم أولاً بأنه حلمٌ من الأحلام، لولا أنّ طيبَ عرفها بقيَ متشبثاً بحجرتي لما أفقتُ صباحاً. أستعدتُ عندئذٍ تفاصيلَ زيارتها الخاطفة، المفصحة عما تتأثّله من جسارة وثقة بالنفس. لم تعارض سبيلَ عاطفتي، فكّرتُ بفرح، سوى أنها بصّرتني بما يعترضه من عائق. هذا أذكى نار العشق لديّ، كما وشجّعني على المضي في المغامرة إلى نهايتها إن كانت خيراً أو شراً.
لما حلّ موعدُ الغداء، دخلت إلى مطبخ القصر، متحججاً كمألوف العادة بحرصي على التوصية على أصناف الطعام، المخصصة لي. كبيرُ الطباخين، وكان رجلاً قاربَ سنّ الكهولة، استقبل حضوري في ود وراحَ يتبادل الحديث معي. في الأثناء، ظهرت السيّدة عفّت وهيَ في هيئة العمل، مجمّعة شعرها تحت منديل معقود إلى خلف الرأس. قطرات من العَرق، كانت تلمعُ على جبينها الفضيّ، لتجعله وضاءً أكثر. رمقتني بنظرة باسمة من عينيها الجميلتين، فحييتها بإيمائة من رأسي. وما لبثت أن أختفت وراء الأواني، المتصاعد منها البخارُ المعبّق برائحة الطبخ. كنتُ أبتغي الظهورَ أمامها، حَسْب، وذلك لكي أشكرها بشكلٍ مضمر على زيارتها الليلية، التي أحيت في نفسي السعادة والرجاء. في المقابل، لم أكن آمل بأنها ستكرر الزيارة. عليّ كان أن أقنع منذ الآن برؤيتها عن قرب وفي خلال لحظات قصيرة، لحين الحظوة بظرفٍ مناسب أنتقلُ فيه إلى الخطوة الحاسمة المأمولة.

حالة الحب، جعلتني أتخفف من الحزن على فراق أصدقائي، ومنهم خادمي المخلص. لكنني شعرتُ مؤخراً بجسامة خسارتهم، بالنظر لحاجتي الافضاء بمكنون قلبي. عندما كانوا حولي، لم يكن قلبي يخفق لأي امرأة، اللهم إلا الاحتفاظ بالوفاء لذكرى زوجتي. ما فاقمَ من وحدتي، كان وضعي الأشبه بالأسر بين جدران القصر. مع أنني المسئول عن الوضع، لكي أبقى قريباً ممن أحب وأيضاً لحماية نفسي من الوباء. وكان الطاعون ما أنفكّ يحصد يومياً حياة أهالي المدينة، وكذلك الملتجئين إليها من الريف. أغلب الوفيات، شهدتها محاجرُ البيمارستانات، التي سبقَ لي أن نقلت خادمي إلى إحداها. لكن المعلومات الواردة إلى الديوان، أفادت بأن أفراد الجندرمة، المكلّفين بالتعامل مع المصابين، آثروا ترك مهمتهم خوفاً من العدوى. ما نتجَ عنه تناثر جثث المطعونين في المنازل والدروب، ومن ثم إحراقها بشكل فرديّ أو جماعيّ من قبل متطوعين محليين. مع ذلك، لم يغيّر الباشا قراره بتوقيف أعمال مجلس الديوان، مكتفياً بقراءة البريد والرد على المراسلات.
وهوَ ذا قيّمُ القصر، المدعو " غالب آغا "، يشيرُ إليّ عن بُعد عندما كنتُ في صباح أحد الأيام أتجول في مماشي حديقة القصر. كان عجوزاً، ربما تجاوزَ السبعين من العُمر، يُضفي على هيئته المهابة، المطلوبة لمن هم في مثل وظيفته الخطيرة الشأن. صلته الطيبة بي، كانت على الأرجح من واردات ثقة مولاه الباشا فيّ. وإنه غالب آغا مَن سبقَ واقترحَ عليّ الإقامة في القصر عقبَ الزلزلة، ثم عاد ورحّب بطلبي العودة للسكنى فيه مع انتشار الوباء. برغم ذلك، خالجني بعضُ القلق من ظهوره أمامي ورغبته في محادثتي. تقدّم مني، ليربت يده على كتفي بحركة أبوية، ثم بيّنَ رغبته في التمشي بصحبتي. ابتدأ الكلام عن جائحة الوباء، وكيفَ أثّرت على الحياة اليومية في المدينة: " بحيث صارت كأنها خرابة مقفرة، تجول فيها الأشباح والأطياف "، على حدّ وصفه. قلتُ موافقاً كلامه: " بلى، ولقد فقد كلّ منا أشخاصاً أعزاء ولا ندري ما لو سيلحقنا الدور أيضاً "
" أتفهّم مدى حزنك على صديقك، المدعو بالنبي كيكي، مثلما أنني أعجبُ من استسلامه لقدَره وهوَ صاحبُ الكرامات "
" القدَرُ لا يوفّر أحداً، كائناً من كان "
" صدقت. لكنني تساءلتُ في حينه، ما لو كان الرجلُ قد نقل العدوى إلى المرحومة بيهان سلطانة، كونه آخر مَن التقت معه قبيل سفرها؟ "
" رحمهما الله، على أيّ حال "، علّقتُ على كلامه في اقتضاب. لكنني رأيتها سانحة مناسبة، لكي أسأله بدَوري عن أمر شغلني بناءً على لقائي الأخير مع السيّدة عفّت. تباسُط القيّم معي، جعلني أتجرأ بالاستفهام عما لو كان الباشا سيُعيد جواريه إلى ملك يمينه عقبَ وفاة السلطانة. كنا عندئذٍ نسيرُ في آخر الحديقة، أينَ يظهرُ جانباً من الحرملك. توقّف قليلاً، مرسلاً بصره إلى تلك الناحية: " لا أعتقدُ ذلك. ربما هوَ مشغولٌ بأمر أكثر أهمية، يتحدد عليه مصيره الشخصيّ "، أجابَ مشدداً على الكلمات الأخيرة. أدركتُ، ولا غرو، أنه يعني مسألة احتفاظ الباشا بولاية الشام، وذلك بعدما فقد هذا حظوته لدى الباب العالي بوفاة السلطانة. لم أرَ من المناسب إبداء رأيي في الموضوع، واكتفيتُ بهز رأسي. وإذا بالرجل يأخذني على غرّة، عندما تساءل مبتسماً: " أنتَ تريد معرفة، ما لو كان في وسعك الاقتران بإحدى أولئك الجواري. أليسَ صحيحاً؟ ". بقيتُ مبهوتاً لوهلةٍ، أهجسُ باحتمال إلمامه بعلاقتي مع السيّدة عفّت من خلال عيونه، المبثوثين في مطبخ القصر. عاد ليربت من جديد على كتفي، وليقول بنبرة ودية ومُطَمئنة: " لا تثريب عليك، لو كانت هذه رغبتك. ولو شئتَ، ففي وسعي مفاتحة الباشا بالأمر ".
هتفتُ في جزع: " أرجوك، يا سيّدي، لا تفعل ذلك ". أمام دهشته، استعدتُ زمام نفسي ومن ثم قررتُ أن أبوح له بتعلّق قلبي بالجارية عفّت. أنصتَ إليّ باهتمام، وقاطعني أكثر من مرة بما يفيد عن علمه ببعض الأمور. لما قلتُ أخيراً، أنني أفضّل الانتظار لحين عزل الباشا من الولاية، فإنه أبدى رأيه بالقول: " بل الأفضل أن يحصل مرادك بوجوده، كونه يعطف عليك ويمحضك الثقة. ولعل الوالي الجديد لا يكون كذلك، فيَفشل أيضاً سعيك. دع الأمرَ لي، وأنا آملُ بأن تدخلي فيه سيكون في صالحك ".

4
في مفتتح الخريف، وصلَ الوباءُ إلى ذروته وما عتمَ أن تقهقرَ رويداً في الشام وريفها على حدّ سواء. بينما كانت المدينة تبرأ شيئاً فشيئاً، رأيتني أعاني من السقم لسبب آخر؛ وهوَ العشق. هذا، مع أنّ داخلي تخفف كثيراً بالافضاء لقيّم القصر، مثلما أنني عقدتُ عليه الأمل بشأن تحرير الجارية من ربقة يمين الباشا. هذا الأخير، وجدتني في حضرته بعد أيام من لقائي غالب آغا، وذلك حينَ سلّمته البريدَ. ما طمأنني، أن الباشا لم يظهر على ملامحه شيءٌ من الكدر عندما استلم المراسلات من يدي واستمعَ إلى بعض ملاحظاتي في شأنها. لكنني، في المقابل، كنتُ غير متأكّدٍ ما لو كان القيّم قد فاتحَ مولاه بخصوص رغبتي، المعلومة.
أسبوع آخر، عليه كان أن يمضي قبل أن يتكرّم غالب آغا ويأتي بنفسه إلى حجرتي. كان ذلك في وقت الأصيل، والجو ما فتأ ينضح بالحرارة، لما أعلن الرجلُ حضورَه بطرق يده على باب الحجرة. استقبلته على الأثر باحتفاء، مُظهراً أيضاً امتناني بالزيارة. وحقّ لي أن أشعر بالأمل، عقبَ قراءتي في ملامح الرجل العجوز ما يُنبي عن خبرٍ سعيد يحمله. عقبَ جلوسه على الأريكة ومبادلتي عبارات المجاملة، راحَ يجول بنظره في موجودات الحجرة. ثم قال لي بعد وهلة صمت، وكان ما زال يدير عينيه فيما حوله: " أعتقدُ أنه قريبٌ، موعدُ عودتك إلى دارك "
" آملُ ذلك، يا سيّدي، بما أن غمّة الوباء إنجلت أخيراً "، أجبتُ تلقائياً وكما لو أنني أكمل جملته. نقل نظره إليّ، ثم استأنفَ الكلام: " كأني بها لعنةٌ ذات رؤوس ثلاثة، حلّت على الشام. ففي البدء كانت واقعة استباحة المحمل الشريف، تبعتها واقعة الزلزلة، وكان الطاعون ثالثة الأثافي ". لم أعلّق في الحال على كلامه، بل كنتُ أفكّر بصديقي الراحل، ربيب الأحاجي، الذي قال مرةً ساخراً أن لعنة الطواشي حكيم حلّت على الشام. الغريب، فكّرتُ كذلك، أنّ القيّمَ لم يذكر مقتلة الشبّان ضمن ما دعاه باللعنة. في الأثناء، عاد العجوز إلى الاستطراد: " وإنني أغبطك على حُسن حظك، كونك خرجتَ سالماً من الوقائع الثلاث "
" لله الحمد على كل شيء، والموت علينا حقّ "، فهتُ بها هذه المرة بشيء من نفاد الصبر. إذ كنتُ أرجو أن يدخل في موضوع الجارية، طالما أنه سببُ الزيارة مثلما أعتقدتُ. وكما لو تكهّنَ بما جال في ذهني، فإنه ما لبثَ أن فاجأني بالقول مع ابتسامة عريضة: " كما أنه سيكون من حُسن حظك، أنك ستعود إلى دارك مصطحباً رفيقةَ حياة ". شعرتُ عندئذٍ بقلبي يفرّ من بين أضلعي، فهببتُ واقفاً دونَ وعي لأهتفَ بفرحٍ متسائلاً: " أحقاً ما فهمتُه من كلامك، يا سيّدي؟ "
" بلى، إنّ سعادة الباشا أعتقَ الجاريةَ عفّت؛ وهوَ بذلك يُبارك زواجكما "، قالها مقاطعاً جملتي. عدتُ إلى مجلسي، وأظن أن مظهري في تلك الوهلة كانت لفتى لم يختبر الدنيا بعدُ وليسَ لرجل عركته التجارب والمحن. هذا عاينته من نظرات العجوز، الذي ما لبثَ أن أردفَ بنبرة أخرى، متحفّظة نوعاً ما: " لكننا لن نستغني عن خدمة عفّت في مطبخ القصر، مؤقتاً على الأقل، ولحين توظيف من يضاهيها في الخبرة "
" ولا مانع لديّ لو شاءت هيَ أن تبقى في الخدمة بشكل دائم، ومن بعد إذنكم بالطبع "
" هذا حسنٌ، وأباركُ لكما الزواجَ بدَوري "، قال العجوز ذلك ثم نهضَ من مكانه يريد الذهاب. أسرعت إليه، أمدّ يدي لأصافحه بحرارة مع كلمات الشكر. عقبَ مغادرته، رميتُ نفسي على الأريكة بحركة مَن يخشى الطيران بجناحيّ الفرح والرجاء. بعدما هدأتُ قليلاً، فكّرتُ بالذهاب إلى المطبخ بحجّة السؤال عن العشاء، وذلك كي أحظى برؤية الحبيبة.

مكرمة أخرى، تفضل بها الباشا حين وافقَ أن تُزفّ لي السيّدة عفّت من القصر. مساءً، أقاموا لها هناك في الحرملك حفلة جميلة، وذلك بعد نحو أسبوع من عتقها. وكنت في صباح ذلك اليوم في حضرة الشيخ، بإحدى طزر السلاملك، ليعقد قراني بوجود الشهود. ثم ما لبثتُ أن دعيت إلى الديوان، لكي أتلقى تهاني رجاله. لم يكن الباشا موجوداً، لكن عدداً من الأشراف والأعيان وقادة الأصناف حضروا بأمر منه كي يباركوا زواجي. لم أكن قد ألتقيتُ مع أولئك السادة منذ ضمّي لمجلس الديوان، وكان نمّ لعلمي مسبقاً أن آخرين قضوا في الزلزلة أو في الوباء. سعدتُ بوجود زعيم حي القيمرية، وكان كما علمنا يرأس مجلس الأشراف. تبادلتُ معه حديثاً قصيراً على إنفراد، تطرقنا فيه إلى ما يُشاع عن قرب عزل مورلي باشا وما يُمكن أن يقرره البابُ العالي بشأن مصيره. قلتُ للرجل قبل أن نفترق، بلهجةٍ تجمع الجد والدعابة: " إنتظروا قريباً عودتي لمجلس الأشراف، هذا إذا لم يأمر الوالي الجديد بعقوبة أشد من الإبعاد عن الديوان ".
في ساعةٍ مبكرة من تلك الليلة الحافلة، حملتني مع عروسي عربةُ الكرّوسة، لننطلق من القصر إلى منزلي. كانت عفّت بأجلى بهائها، وكنتُ مبهوراً بها بحيث أشرتُ إلى السماء قائلاً: " إنك تبدين صنوَ القمر، تمنحين النورَ اللطيف لحياتي ". ردّت عليّ بالشد على يدي، وكانت أناملها مرصّعة بخواتم أهديت إليها بمناسبة الزواج. كنت من السعادة، أنني في خلال الطريق سلوتُ أمرَ دروب المدينة، التي امتلأت إلى وقت قريب بجثث ضحايا الطاعون. لكن هواءً جديداً كان يلاعب أجواء الليلة، محمّلاً بأريج الجنائن، طارداً ما تبقّى من رائحة الموت. ثمة في منزلي أيضاً، كان الهواء نقياً. لقد سبقَ لي أن كلّفتُ عمالاً بإعادة صبغ جميع الجدران بالجير الأبيض والأزرق، لكي يعود المكانُ إلى رونقه الأول.

5
الأيام العشرة التالية، قضيتها غارقاً مع عروسي في غفوة العشق والرغبة. كانت أيام استراحة من العمل في الديوان، فلم أكد أخرج من المنزل إلا لجلب الطعام من السوق. في الأثناء، انتبهتُ لفقدان العديد من المواد الغذائية؛ بما في ذلك ندرة الخبز. لما عدتُ إلى عملي، كانت تترددُ على ألسنة رجال الديوان هذه المفردة المخيفة: " المجاعة ". المصيبة الجديدة، كانت ولا شك من آثار الزلزلة والوباء. إذ أضطر الفلاحون لهجر أراضيهم الزراعية منذ الربيع المنصرم، ما أدى إلى إعتماد المدينة على مخزون غلال المواسم الآفلة. لكن المخزون بدأ بالنفاد، علاوة على أن الكثير من الريفيين عادوا يتقاطرون على الشام طلباً للطعام. خلال مداولة رجال الديوان مع الوالي بشأن الوضع المستجد، أتهم بعضهم التجارَ بإخفاء المواد الغذائية بغية رفع أسعارها. فأمر الباشا الجندرمة بمداهمة مخازن الغلال بشكل خاص، لكي يتم التأكّد من ذلك الإتهام. الغلال المصادرة، وجد القليل منها طريقه إلى السوق، بينما أكثرها كان من نصيب القصر. غير أن الغلاء أضحى حقيقة ملموسة، كالمجاعة سواءً بسواء.
حلّ الشتاءُ على الأثر، والمجاعة ما تنفك مستفحلة، والعديد من الناس كانوا يتساقطون في الطرقات صرعى قلّة الغذاء. الآن، كانت الخشية من تفسخ الجثث وعودة الطاعون. عند ذلك أمر الباشا بفتح مخازن القصر، لتوزيع الغلال على المتاجر. الغلاء، قلل من تأثير هذه المكرمة ولم يستفد منها إلا أولئك الأغنياء القادرون. مع أنني من رجال الديوان، لم أكن أصيبُ وامرأتي سوى وجبة واحدة من الطعام في اليوم ومن مطبخ القصر. كانت عفّت بحاجة إلى تغذية أفضل، بالنظر إلى أنها باتت حبلى بولدنا الأول. هكذا استأذنتُ غالب آغا في أمر عودتي للسكنى بالقصر مع امرأتي، فسمحَ لنا بذلك. هذا كان من حُسن حظنا، طالما أنّ أحداثاً خطيرة ستقع في المدينة، المبتلية أصلاً بالمجاعة والغلاء: عُزل مورلي باشا بفرمان من الباب العالي، وقبل أن يحضر خلفه للشام، اشتعلت الاضطرابات نتيجة شغب عناصر الأصناف ومن ثم تدخّل الإنكشارية.

لم يحرر البلد من الفوضى، سوى الثلج الكبير، الذي بقيَ ينهمر لأيام عديدة وإلى ما بعد فترة إحتفال النصارى بميلاد السيّد المسيح. بيد أنّ ضراوة المجاعة لم تهدأ سوى بحلول الصيف، وكان الوالي الجديد قد سبقَ واستقر في الشام. مثلما كنتُ أتوقّع، استغنى الباشا عن خدماتي مع بقية رجال الديوان، وذلك بعد تسنّمه منصبه بوقت قصير. عدتُ إلى التدريس في المدرسة الشامية، وقد استقبلني تلاميذي ثمة بالعناق والقبلات. فيما امرأتي بقيت في عملها بمطبخ القصر، لحين أن كبرَ حمل بطنها. آلامُ الوضع، انتابتها في إحدى الأمسيات الحارّة وما أسرع أن استدعيتُ قابلة الحي. قَلِقاً، رحتُ أتجول في حديقة الدار، وكان القمرُ يلوحُ من خلال فرجاتٍ بين أسطح البيوت المجاورة ـ كما لو كان عيناً تتلصصُ عليّ. النسيم العليل، كان يُحرك أغصانَ الأشجار ويجعلها تطلق أنّاتٍ خفيفة، تتماهى مع أنّات وجع الطلق، الصادرة من الداخل. في ساعة متأخرة من الليل، وضعت عفّت طفلها وكان غلاماً. دعوني من ثم إلى الدخول إلى حجرتها، لأجد لون بشرتها الناصع كالفضة وهوَ بلون ثمرة الليمون. ابتسمت لي، لما باركتُ ولادتها ومن ثم هزّت رأسها في وهن حينَ اقترحتُ أن يأخذ طفلنا إسمَ أبي.
روح أخرى، كانت آنذاك تنمو في رحاب منزلنا. إنها " كَوليزار "، ابنة السلطانة الراحلة، وكانت عفّت قد استعادتها من الأسرة المحسنة في بداية الصيف. أضحت الطفلة قادرة على المشي، وكذلك الثغاء بكلمات بسيطة. كانت متعلّقة بامرأتي كما لو أنها أمها، وما لبثت أن أعتادت عليّ أيضاً. في ملامحها أنطبعت صورةُ بيهان سلطانة، لكن أنفها الأقنى قليلاً كان ولا شك من جملة ميراث دمها العربيّ. بقيتُ على شغفي بها حتى بعدما رزقتُ بغلاماً، وهذا كان يُسعد عفّت كثيراً. في حقيقة الحال، أنني كنتُ أجد السلوى في أسرتي الصغيرة عقبَ فقداني للأصدقاء مرةً واحدة في خلال عام الرعب، المنقضي. في أثناء ذلك، لم أنقطع عن زيارة منزل صديقي الراحل؛ ربيب الأحاجي. مفتاحُ منزله، كنتُ قد وضعته لدى أحد جيرانه، وكان هذا يقوم كل مرة بتنظيف الحجرات وسقي أشجار الحديقة لكي يحظى بمباركة روح رجل الكرامات. أهالي الحارة، تعاونوا أيضاً على ترخيم قبر الرجل وكانوا يرغبون بجعله مقاماً على شكل القبّة. بالطبع، لم يفطنوا لوجود قبر خفيّ يضم تجاليد الطواشي حكيم، الذي كان اليدَ اليمنى لشقيقة سلطان الكون.
بقيَ الناسُ يعتقدون بكرامات " النبي كيكي "، برغم أنها لم تساعده في أوان ابتلائه بالوباء. لعل صمود داره بوجه الزلزلة، كان أحد أسباب استمرار إيمانهم الموصوف. وكنتُ قد ذكّرتهم في حينه، عبثاً، بمتانة بنيان الدار، كون عمارتها من الحجر. صديقي باسيل، كان بدَوره قد أستخفّ بإعتقادٍ مشابه لدى أفراد طائفته، بخصوص بقاء الكنائس والأديرة سليمة على وجه العموم في أثناء الزلزلة؛ محيلاً ذلك أيضاً لعمارتها الحجرية. هناك في الدير، أين التجأ مع أسرته غبَّ حدوث الهزة الأرضية، سمع لاحقاً من الرهبان كيف أن إيقونة السيدة مريم العذراء انتقلت من تلقاء ذاتها، لتقبع تحتَ أقدام تمثال ابنها المصلوب، ثم ما لبثت أن رجعت لمكانها بعد انتهاء الزلزلة.

* الكتاب الثاني من رواية " الأولى والآخرة "، المنشورة في الموقع عام 2010



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج العاشر
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج التاسع
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثامن
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج السابع
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج السادس
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الخامس
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الرابع
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثالث
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثاني
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الأول
- مدخل إلى عصر الرعب: توطئة
- مدخل إلى عصر الرعب: تنويه من المحقق
- زمن موناليزا الحزينة: الخاتمة
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 5
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 4
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 3
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 2
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 1
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل التاسع عشر/ 5
- زمن موناليزا الحزينة: الفصل التاسع عشر/ 4


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - مدخل إلى عصر الرعب: البرج الحادي عشر