أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال الاسدي - بائع الجرائد الاعرج … ! ( قصة قصيرة )















المزيد.....

بائع الجرائد الاعرج … ! ( قصة قصيرة )


جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)


الحوار المتمدن-العدد: 6802 - 2021 / 1 / 31 - 14:44
المحور: الادب والفن
    


جسوم .. شاب صنفته اللجنة العسكرية معوق حرب ، ونسبة العوق عنده تصل الى ستين بالمائة ، بسبب عرج شديد في ساقه اليمنى منعته من ان يكون جندي في مطحنة القرن ، وجنبته الحرب ، ومعاناتها .. اين يذهب هذا المسكين ، والحال واقف ، والدنيا كلها ذاهبة في اتجاه واحد .. الحرب ، والموت ، وبما ان تحصيله الدراسي متواضع فلم يجد أمامه من سبيل الا بيع الجرائد .. رغم قلت ارباحها ، ليعيل عائلة كبيرة ، زوجة ، وثلاثة أطفال ، ووالديه العجزة .. كان يتنقل بين الاسواق ، والتقاطعات ، والگراجات ، والدوائر ، بصحبة زملائه البؤساء من الباعة المتجولين ، والمتسولين .. حتى بات الكل يعرف جسوم بائع الجرائد الاعرج ، وكأنها كنية أو لعنة ابدية قد حلت ، والتصقت به … !
في تلك اللحظات القاتمة من ذلك الزمن الميت .. وفي هواء المدينة الفاسد ، المشبع بروائح الموت ، والدم ، والبارود ، والوجوه المتعبة ، والشاردة ، وبادخنة السيارات ، وروائح اطعمة الارصفة ، وآثار الشظايا على الحيطان ، والاسفلت ، وواجهات البيوت ، والمحلات .. يتقافز جسوم في الازدحام بين الناس ، والسيارات ، يتبادل بعض العبارات العابرة مع بعضهم ، وكأن الناس قد تماهت مع الحرب رغم تحولها الى لعنة قد تطال اي واحد منهم في اي مكان ، وفي أي زمان … ! فلم يعد هناك مكان آمن في هذا البلد الا : القبر .. بل قرء مرة بان القذائف قد سقطت مرة على مقبرة فتناثرت عظام ، وجماجم الموتى في الفضاء .. يبدء جسوم بالضحك بصوت عالي ، وكأنه قد فقد القسم الباقي من عقله ، ويقول في سره : حتى الموتى المساكين لم يخلصوا من هذه الحرب المسعورة ، لحسن حظه ان لا احد يدري على اي شئ كان يضحك ، وبماذا كان يفكر .. والا فان مكانه سيكون فيما وراء الشمس !
يعود الى العمل مكرهاً .. يهتف منادياً : ثورة ، جمهورية ، وملوحاً بواحدة .. ينادي عليه احدهم من سيارته : يا ولد جمهورية بسرعة .. يقفز من مكانه يحاول الوصول الى الزبون باسرع وقت قبل ان تتغير الاشارة ، كثيراً ما تفوته الفرصة بسبب العرج اللعين هذا الذي يؤخر وصوله في الوقت المناسب ، يظل يلعن ، ويسب في سره ، وكم كان يتمنى لو كان عوقه ليس في ساقه لكانت ظروفه أهون .. حتى وصل به الحال يوماً الى ان يحسد زملائه الشحاذين الذين يأتيهم رزقهم الى مكانهم دونما عناء !
تصبح الشمس اكثر ارتفاعًا ، ويفقد النهار نعومته .. تدور بجسوم الدروب وتتقاطع ، وهو على هذه الحال من التبرم والتعب .. لا يستطيع الوقوف على ساقيه طويلاً ، فيتهاوى جالساً على الأرض من الانهاك ، ليأخذ قسطاً من الراحة ، تبدو خلايا جسده وقد اصبحت عاجزة عن التماسك ، وهو يهش الذباب باحدى الجرائد مكلماً نفسه .. زافراً انفاسه في اجهاد : الى متى يبقى الثور يدور في الساقية ؟ ثم ينهض متكاسلاً .. متكأً على الحائط ، ويعاود الصراخ باعلى صوته ، وكأنه قد وضع كل عضلات جسده في حنجرته ، وتختلج تعبيرات وجهه مع صيحاته ، كمن يسير في مدينة كل ناسها من الطرشان .. ثورة .. جمهورية .. ! ثم يكلم نفسه : من يشتري جرائد جسوم ، والتلفزيون ينبح على مدار الساعة باخبار الحرب ، ومآسيها ، ويصورها على انها انتصارات .. الناس تريد ان تنسى الحرب ، وجسوم مصر على تذكيرهم بها … ؟!
يعود ويهتف في صوت اعلى : جمهورية .. ثورة … يناديه احدهم بلسان ملتو : يا ولد … ثورة ، يقفز جسوم من مكانه كأن عقرباً قد لدغه .. يجري بكل ما في جسده من طاقة .. يصل الى منتصف الطريق ، وهو يلهث ، وكأن جسده على وشك التفكك … يتوقف فجأةً كأنه قد شاهد ثعباناً اسوداً أمامه ، ينظر في دهشة ، يرى امامه صبياً ، يحمل رزمة كبيرة من الجرائد ضعف ما يحمله .. يقطع عليه الطريق ، ويسبقه الى ذلك الزبون ، وسط ذهول ، ودهشة جسوم المسكين .. يتوقف قليلا .. مطأطأً الرأس ، وكأنه قد تلقى نعياً .. لكن هذا لا يغير من الامر شيئاً .. فقد وصل متأخراً على أي حال ، وذهبت فرصته هباءً دون رجعة .. ينظر الى هذا المنافس نظرة خاصة من النقمة ، والغضب .. فهو اكيد لن يستطيع التغلب عليه ، لانه سليم ، وليس له مثل عوقه ، واكثر نشاطاً منه لانه أصغر سناً بكثير .. ظل يتابعه بنظره حتى عاد الى مكانه .. يبقى صامتاً معقود اللسان من قوة المفاجأة ، ثم يمضي دون ان يتبادل معه كلمة واحدة .. يمتلئ وجهه بتعبيرات الغضب والازدراء ، والنقمة على كل شئ في هذه الدنيا .. هذا هو كل ما يستطيع ان يفعله ! جسوم مقتنع بأنه ليس هناك أي حل لهذه التعاسة ، الا ان يتشبث بهذه المهنة البائسة على صعوباتها … !
فجأةً يسمع فرقعة قذيفة ضالة لا احد يدري على أي بؤساء قد سقطت ، وكم من الارواح البريئة قد حصدت .. تفر تلك الارواح التي كانت تملأ السوق بحثاً عن مهجع لها تتصور انه سيحميها من الموت .. وسط صراخ النساء والاطفال .. وجوه شاحبة ، وعيون مستكينة ، وخائفة .. تتحول اصواتهم الى دمدمات اشبه باصوات وحوش جائعة … يا الهي ! أهي لحظات الاحتضار الاخير .. ؟ صرخ احدهم في ذعر : قصف … ! أما جسوم فيقف ملتصقا بجدار متهالك غير مبالي ، فهو قد سئم هذه الحياة حتى بات يتمنى الموت ، ويفضله عليها ، وعلى عذاباتها ، وهو يكتم دموعه والمه وحرقته وسخطه على هذه الكارثة .. على هذه المأساة الانسانية ، لكن عليه ان يحاول جهده القفز عليها ، ليستمر في الحياة من أجل اطفاله على الاقل .. يتحول هذا السوق الذي كان ممتلئاً بالناس في لحظات الى خواء ، وكأن الناس رائحة ، وتلاشت في الكون !
أيام تمر ، وشهور تنقضي من العمر .. يقرر جسوم بعدها ان يغادر هذا التقاطع ، ويذهب الى آخر ، ولسوء حظه فقد تكررت نفس المأساة .. بل اسوء ، فقد شاهد حتى الشحاذين يضعون على جنب اكداس من الجرائد للبيع .. وكأن مقسم الارزاق قاصده ليزيد من عذابه عذاباً آخر في هذه الدنيا .. التي كثيراً ما كان يصفها بالتافهه .. حتى باتت سمات الجوع ، والبؤس ظاهرتين على هيئته التي بدءت تتحول يوما بعد آخر أقرب ما تكون الى هيئة متسول ، فالاسمال التي كانت عليه قد نهشتها مخالب الأيام حتى أفقدتها هيئتها … !
فكر ان الحال لو استمر معه على هذا المنوال ، فاكيد سيتحول أما الى مجنون أو الى متسول رسمي أُسوة بالعجائز ، والمشوهين ، والمعوقين من امثاله ، وما اكثرهم في ذلك العراق الذي تحول الى بلد لا يصلح مكاناً للعيش بقدر ما هو للاذلال !!
كم كانت ظروف الناس مأساوية ، فالموت ، والرعب مغروس في كل مكان ، ولم تعد الحرب مقصورة على الجبهة فقط بل وصلت في مآسيها الى داخل المدن ، وارتفعت وتيرة القصف المدفعي ، والصاروخي حتى اصبحت المدن اكثر خطراً من بعض الجبهات .. اي مأساة هذه .. واي حياة هذه التي وجد جسوم ، وغيره من معذبي هذا البلد المنكوب نفسهم محشورين فيها ؟! تحولت مدينته الى مدينة اشباح ، فمن اذن يشتري جرائده التافهه هذه المليئة بصور قادتها المنفوخين على لا شئ .. مجانين الحروب ، والمزهوين بالنياشين التنك .. مختالون ينظرون الى الكاميرات بوقاحة ، واعتداد مزيف بالنفس الذي يغطي مركب النقص عندهم .. لم تعد جرائد جسوم تصلح لشئ .. إلا ان تكون وسيلة لتنظيف الزجاج ، وتغليف الفلافل … لا اكثر !
وعندما يُقبل الليل ، يعيد جسوم معظم حصته من الجرائد الى صاحبها ، ونظرت الانكسار ، والمهانة واضحة على وجهه ، كأنه كان عائداً من رحلة موت ، يشتري ما يتوفر له من فتات الربح الهزيل .. خبزاً وجبناً ، وبعض الخضار ، ويذهب الى ما يسمى بيت ، يضع الارغفة القليلة امام الايدي الكثيرة ، حتى لم يبقى له الا فتات قليل لا يكفي لسد عواء مصارينه المتمردة .. التي يبدو انها هي الاخرى قد سئمت ممارسة لعبة الجوع المملة .. ! ثم يتحسس بطنه المتخشبة من طول الجوع ، لا يدري الى متى يمكنه الصمود هكذا .. لقد اكلت الطرقات روحه قبل اقدامه .. يسير طويلا دون ان يأكل حتى لقمة واحدة .. بمجرد ما وضع رأسه المهموم على الوسادة حتى غرق جسده المكدود في نوم ثقيل .. بلا آمال ولا احلام !



#جلال_الاسدي (هاشتاغ)       Jalal_Al_asady#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أحلام مستحيلة … ! ( قصة قصيرة )
- لحظة شجاعة نادرة … ! ( قصة قصيرة )
- أرملة في بازار … ! ( قصة قصيرة )
- مشروع زواج فاشل … ! ( قصة قصيرة )
- هاشم الغبي … ! ( قصة قصيرة )
- موعد مع اليأس … ! ( قصة قصيرة )
- جريمة شرف … ! ( قصة قصيرة )
- مأساة ( حربونة ) … ! ( قصة قصيرة )
- يوم … في حياة زوج ، وزوجة ! ( قصة قصيرة )
- اللحظات الاخيرة قبل الرحيل … ! ( قصة قصيرة )
- زوج خائن ، و مخادع … ! ( قصة قصيرة )
- أستاذ علي … ؟ ( قصة قصيرة )
- ألارتماء في أحضان ألموت … ! ( قصة قصيرة )
- زواج مشروط … ! ( قصة قصيرة )
- لقاء عابر … ! ( قصة قصيرة )
- ألا ما أفضع ألخيانة … ! ( قصة قصيرة )
- ذكرى من الحرب لا تريد ان تموت … ! ( قصة قصيرة )
- وللقدر كلمةٌ أُخرى … ! ( قصة قصيرة )
- ألم ألألم … ! ( قصة قصيرة )
- علماني … ولكن ! ( قصة قصيرة )


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال الاسدي - بائع الجرائد الاعرج … ! ( قصة قصيرة )