أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن مدن - (بروفيلات) لعبدالرحمن منيف















المزيد.....


(بروفيلات) لعبدالرحمن منيف


حسن مدن

الحوار المتمدن-العدد: 6797 - 2021 / 1 / 24 - 01:35
المحور: الادب والفن
    


ما منْ شيء سريع الذَّوبان كما الملح. علينا تأمُّل هذه الفكرة مليِّاً قبل الشُّروع في قراءة روايته الأشبه بالملحمة: "مدن الملح". كأنَّ عبدالرحمن منيف أراد بهذا العنوان أنْ يبدِّد أيَّة مشاعر مطمئنة في دواخلنا إلى مصير مدن شُيِّدتْ من الملح، لتظلَّ هشَّة ومستباحة وسريعة الزَّوال، على عكس ما نظنُّ أو يتراءى لنا منْ أنَّها مدن محصَّنة بوجه الأعاصير والعواصف.
لقد اختطَّ لنفسه نهجاً ملحميَّاً في بناء الرِّواية، يذكِّر بذلك المعمار الكلاسيكي لها فأنشأ "مدن الملح" ثم عرَّج على أرض السَّواد: العراق فكتب تاريخها روائياً. قيل إنَّ العراق كان يسمَّى كذلك لكثرة النَّخيل فيه التي جعلت امتداد أراضيه داكناً بخضرة النَّخيل التي تستحيل سواداً ما أنْ يجنَّ الليل. لكنَّ التَّسمية لها معنى مجازياً آخر للمتأمِّل في السِّيرة الدَّامية الباكية لهذه الأرض التي ما انفكَّت تنزُّ دماً.
كانَ عليه – مختاراً - أنْ يجعل الدِّيمقراطية هاجساً وقلقاً ومشروعاً، منذ "شرق المتوسط" التي رحل بطلها من المدينة العربيَّة المقموعة والمحكومة بالبوليس السِّريِّ إلى باريس هائماً على وجهه، باحثاً عن نسمة هواء حرٍّ طليق، وعاد منيف للأمر مرَّة أخرى في "الآن.. هنا" راوياً سيرة مواطن عربيّ اختار أنْ تكون في رأسه فكرة أخرى، غير سائدة، فخرج من السُّجون أشبه ببقايا إنسان ورحل بعيداً يرمِّم بقايا روحه، بقايا جسده.
صادق منيف جبرا إبراهيم جبرا وآخى سعدالله ونوس وصاحب غائب طعمة فرمان وسواهم. كلُّ أصدقائه الكبار رحلوا. وكان وفياً لهم واحداً واحداً بأنْ خصَّهم بكتاب لعنوانه مذاق الفجيعة: "لوعة الغياب".. لم تكنْ اللوعة ناجمة عنْ رحيل الأحبَّة فحسب، وإنَّما من الغياب المدوِّي للمشروع الذي نذروا حيواتهم منْ أجله.
التقيته مرةً أو مرَّتين، كان ذلك في دمشق ثمانينيّات القرن العشرين، كان عائداً للتَّوِّ منْ هجرته الطَّويلة في باريس التي ذهب إليها ليرى وطنه العربيّ منْ خارجه بصورةٍ أوسع وأرحب، ويتهيَّأ للإقامة الطَّويلة في دمشق، وكانت "مدن الملح" تتوالى أجزاء. حين تمَّ اللقاء كانَ الجزء الثَّاني منها قدْ صدر للتوّ، وكان منهمكاً على كتابة أجزائها الأخرى، في البيت الذي اختاره لنفسه مسكناً في منطقة المَزَّة خارج دمشق. فيما بعد صادفته في الرِّوايات والكتب وفي مساهماته في الدَّوريات الثَّقافية، حيث توالت اسهاماته بتدفُّق وخصوبة منذ أنْ قرَّر التَّفرُّغ للكتابة وحدها وسيلة كفاح ضدَّ العسف والقبح والخراب.
في "لوعة الغياب" كتب يقول: "إنَّ الموت نهاية منطقيَّة لحياة أيِّ كائن، لكنَّ ميزة الإنسان قياساً للكائنات الأخرى، أنَّ له ذاكرة". كان يقول ذلك في وداع أحبَّته، لكنَّه دون أنْ يقصد ذلك تماماً عنى نفسه أيضاً. إنَّ غيابه يزيده حضوراً وتألُّقاً في ذاكرتنا، في ذاكرة ثقافتنا العربيَّة.
حِضنٌ حنونٌ:
ولد عبدالرحمن منيف بعمَّان العاصمة الأردنيَّة. والده سعوديّ وأمُّه عراقيَّة، ليس هذا فقط ما طبع شخصيَّة منيف فيما بعد، وجعل منه مواطناُ عربيَّاُ بامتياز، من المستحيل نسبه إلى بلد عربيّ بعينه، فلقدْ عاش الرَّجل في سوريا والأردنّ والعراق ولبنان، وفي كلِّ بلد عاش فيه غدا جزءاً من نسيجه الثَّقافي، من وجوهه الثَّقافية، وأسهم بفعالية في النَّشاط الثَّقافي والإبداعي فيه. إنه بهذا المعنى كان سعوديَّاً وأردنيَّاً وسوريَّاً وعراقيَّاً وبالطَّبع فلسطينيَّاً، حيثُ فلسطين قاسم مشترك لكلِّ مبدعٍ عربيّ حقيقيّ.
أمر مهمٌّ أنَّ عبدالرحمن منيف قضى الشَّطر الأكبر من حياته في العالم العربيّ - لا خارجه - إذا ما استثنينا السَّنوات القليلة التي قضاها في يوغسلافيا طالباً في الدِّراسات العليا لنيل شهادة الدكتوراه، ثمَّ إقامته لبضع سنوات في باريس بعد أنْ غادر العراق في مطلع ثمانينيّات القرن العشرين، وهذا جعله في قلب الحراك الثَّقافي والتَّفاعل الإبداعيّ عربيَّاً، وقريباً دائماً من المشهد السِّياسيّ اليوميّ المتحرِّك أمامه، وفاعلاً في المشاريع الثَّقافيَّة العربيَّة، بما فيها تلك الرَّامية لتشكيل ما يمكن وصفه بالجبهة العربيَّة للثَّقافة الدِّيمقراطيَّة، وهي ما تزال مشروعاُ مؤجَّلَّاً.
يغري هذا التَّنقل الدَّائم لعبدالرحمن منيف بين مدن عربيَّة عدة لاختبار علاقته بالمدن وفحصها، هو الذي كان واحداً من قلائل كتبوا سيرة المدينة، على نحو ما فعله في كتابه عنْ عَمَّان مسقط رأسه، وهو كتب هذه السِّيرة بنفس الرِّوائيّ الذي يتتبع مصائر الشُّخوص التي صنعها، ويراها تنمو أمامه وتتحرَّك فارضة عليه في أحيان معيَّنة منعطفات أو نهايات غير تلك التي أرادها هو لها أولَّ مرَّة. المدينة بهذا المعنى تبدو هي الأخرى شخصيَّة روائيَّة يعتمد الكاتب الحكي أسلوباً لشرح تفاصيل حياتها. يرى الكاتب أنَّ المدن كالبشر، فلكي تقوم العلاقة مع المدنية - أي مدينة - يجب أنْ يحسَّ الإنسان بالطُّمأنينة، بالألفة، بالحبّ، وهذه تتولد نتيجة المشاركة والحاجة، وأيضاً نتيجة الإحساس أنَّ هذه المدينة تعني له شيئاً خاصّاً، ولا يمكن أنْ تستبدل بأيَّة مدينة أخرى، وهذا ما يعطي المدنية طعمها وملامحها، أما إذا كانت المدن مجرد أمكنة يتعايش فيها البشر، لأنَّهم مضطرون لذلك، فلا شكَّ أنَّ مدناً من هذا النَّوع ستكون قاسية، ضيِّقة، وستبقى العلاقة بينها وبين ناسها هشَّة وخطيرة. هذه الفكرة عبَّر عنها عبدالرحمن منيف حين عاد إلى عمَّان بعد ثلاثين سنة من غيابه عنها، وكانت مناسبة لأنْ يشرح فيها رؤياه لمدينة عربيَّة أخرى، بديلة، منشودة، أطلق عليها وصف "المدينة الإنسانيَّة" التي يجب أنْ تكون حضناً حنوناً لأبنائها، مظلَّة تقيهم من القسْوة، مراهناً على أنَّ الحبَّ هو الجسر الحقيقيّ الذي يقيم العلاقة بين البشر والأشياء والمدن.
صحراء ليست رومانسية:
كان واحداً من اثنين من الرِّوائيين العرب البارزين انفرادا بالاشتغال روائيَّاً على إقنيم الصَّحراء الذي يكاد يكون غائباً أو مغيَّباً من الرِّوايات العربيَّة، رغم أنَّ العرب خرجوا من الصَّحراء ومازالت هذه الصَّحراء تطبع سلوكهم وتنعكس على شبكة العلاقات الاجتماعيَّة وتوازنات القوى والسُّلطة في المجتمع العربي، أمَّا الرِّوائي الثَّاني فهو الليبي إبراهيم الكوني وبين معالجة الاثنين فروقات جوهريَّة، فإذا كان الأول يشتغل على الموضوع من زاوية كون الصَّحراء أشبه بالطَّقس الأسطوريّ المحاط بالغموض والحيرة والأسئلة والمليء بالإشارات، فإنَّ عبدالرحمن منيف اتَّخذ منحى آخر مغايراً، كما تجلَّى ذلك بوضوح في خماسية "مدن الملح". لقد رصد بعين فاحصة ومخيِّلة واسعة واقع هذه الصَّحراء في مواجهة الاختراقات الحديثة، باكتشاف وصناعة وتسويق النفط، التي خلخلت البنية الصَّحراوية البدويَّة وأصابتها بصدمة عنيفة، بحيث وضعت قيم البدويّ وعاداته أمام محكّ موجع لا خلاص منه أبداً، وكان على هذه القيم والعادات أنْ تعيد تشكيل ذاتها في صورة جديدة أمام منظومة العلاقات الاقتصادية الاجتماعية الجديدة غير المسبوقة والتي لعب الآخر- أو الأجنبي- الذي جاء مع شركات النِّفط دوراً حاسماً في إدخالها.
لا أحد من الرِّوائيين أو الكتاب العرب سوى عبدالرحمن منيف عمل بهذا التَّأني والجلد والصَّبر على دراسة الصَّحراء العربيَّة وهي تتحوَّل من حال إلى حال، فتنبثق عن مدن جديدة عصريَّة في الشَّكل ولكنَّها غير قادرة على الإفلات من الموروث البدويّ الرَّاسخ، مما أدخل هذه المدن – الصَّحراء في حالة فصام عنيف، موجع، يعيد إنتاج نفسه، ولا يصل إلى مرحلة الحسم التي تقطع مع مرحلة، وتلج أخرى.. كأنَّ هذه المدينة – الصَّحراء نتاج تعايش زمنين ونمطين من أنماط العلاقات الاجتماعيَّة.
ولدى منيف ما يقوله بهذا الصَّدد، فالصَّحراء من وجهة نظره لعبث دوراً بارزاً إلى الزَّمن والعمل والولاء، بحيث تبرز في المنطقة العربيَّة، أكثر من المناطق الأخرى، رابطة الانتماء إلى الدَّم أكثر من رابطة الانتماء إلى الأرض. بدأ منيف اقترابه النِّسبي من الصَّحراء في روايته "النِّهايات"، لكنَّه ما إنْ اكتشف إمكانيّاتها واحتمالاتها لمْ يتردَّد في أنْ يكرِّس كلَّ جهده من أجل الاندفاع إلى أعماقها، وهكذا قضى سنوات عديدة في التَّحضير لهذه الرِّحلة الخطرة، ولمَّا شرع بأولى الخطوات تأكَّد أنَّ هذا "المكان" يمكن أنْ يعطي الرِّواية العربيَّة أحد ملامحها المميَّزة، وبالتَّالي يضعها في مواجهة إحدى القضايا الكبرى التي يجب ألا نتردَّد في اقتحامها والتَّعامل معها: الصَّحراء والنِّفط معاً، وليس الصَّحراء الرُّومانسية أو الصَّحراء الجاهليَّة. بهذا المعنى فإنَّ "مدن الملح" ليست رواية الحنين إلى المكان، بمعنى المكان الأليف كما يدعوه غاستون باشلار، إنَّما هي قراءة المكان وتأثيراته وفحص التَّحولات العميقة التي جرت فيه وما خلَّفته من آثار في نفوس البشر لا سبيل لتجاهلها.
شخوص حائرة:
جزء كبير - إنْ لمْ يكنْ الأكبر - من الرِّوايات العربيَّة موجَّه في صورة مباشرة أو غير مباشرة نحو كتابة السِّيرة الذَّاتية لكاتبيها أو أجزاء من هذه السِّيرة. برأي أحد النّقاد البارزين أنَّ هذا الأمر يعدُّ مؤشِّراً على أنَّ تجربة الرِّوائي لمْ تزل في بدايتها؛ إذ إنَّه يشتغل على مادة متاحة، منجزة ولا يشتغل على صنع هذه المادة بالبحث والتَّنقيب.
حين أراد الألمانيّ باتريك زوسكيند أنْ يكتب روايته "العطر" التي يعرفها قرَّاء العربيَّة عبر التَّرجمة التي أعدَّها الدّكتور نبيل الحفّار، فإنّه - أي المؤلِّف - زوسكيند، زار مصانع العطر المختلفة وتعرف على طريقة تحضير العطور في المختبرات مسجِّلاً كلَّ التَّفاصيل الدَّقيقة المتَّصِلة بالأمر، ليروي فيما بعد حكاية بطله القاتل الذي يختار ضحاياه من الفتيات غبر حاسَّة الشَّم، بأنْ يتعرَّف عليهنَّ من رائحة عطورهن. كانت الرِّواية - بعد ذلك - مختبراً فصَّل فيه الكاتب كلَّ ما يتَّصل بالعطر.
عبدالرحمن منيف لمْ يكتبْ عن العطر، إنَّما عن النفط، أو البترول إنْ شئتم، وفي "مدن الملح" لمْ يكتب الرَّجل سيرته الذَّاتية، فالرَّجل لمْ يعشْ البيئة التي دارت فيها أحداث الخماسية، لقد فعل ما يفعله الكُتَّاب الكبار الناضجون المتمكِّنون منْ أدواتهم الفنيَّة، بأن اشتغل على مادته شغلاً، ولمْ يشتغل على مادة متاحة منجزة. وفي الأصل فإنَّ منيف درس اقتصاديات النِّفط، وفيها نال درجة الدُّكتوراه، وعمل كخبير في هذا التَّخصص، في سوريا والعراق، وفي بغداد رأس تحرير مجلة "النِّفط والتَّنمية". هذا الأمر أتاح له معرفة تفاصيل دقيقة عن الصِّناعة النِّفطية كاملة: استخراجاً وتكريراً وتسويقاً واستهلاكاً، وتفاصيل دقيقة عن اقتصاديات النِّفط وعنْ مكانة هذه السِّلعة الاستراتيجية في الأسواق العالميَّة وصلة ذلك بالسِّياسية، لقدْ أصبح خبيراً في ما يمكن تسميته مجازاً "الاقتصاد السِّياسي للنفط"، هذه المعرفة الواسعة التي عزَّزتها التَّجربة المتابعة الدؤوبة كرَّسها في "مدن الملح"، التي بدأ فيها عارفاً بتقنيات النِّفط، وبالآثار الحاسمة النَّاجمة عن اكتشافه على الحياة الاجتماعية في الجزيرة العربيَّة وعلى نفسيَّات النَّاس فيها. وانطلق منيف دائماً من حقيقة أنَّ الصِّناعة النِّفطيَّة في المنطقة وحتى وقت طويل ظلَّت صناعة غريبة عن السُّكان المحليِّين، وأخذت مساراً ارتبط بالخارج، وحتَّى عندما أخذت تطرح بعض الإفرازات الداخليَّة، فإنَّ هذه الإفرازات ظلَّت إلى حد بعيد غير طبيعيَّة، خاصَّة وأنَّ العمل - كقيمة اجتماعيَّة - لا يحظى بالاحترام الكافي على نحو ما هو موجود في المجتمعات الأخرى، وتحلُّ بديلاً عنْ ثقافة وسلوك السُّهولة والاستسهال، ولمْ نصلْ بعد إلى خلق بدائل متكاملة ومتماسكة، حيث السَّائد هو خليط من مجموعة قيم متناقضة، غير متجانسة، تعيش متجاورة، مما يكسب التَّكوين النَّفسي للناس طابعاً من التَّمزق والحيرة على نحو ما جسَّدته شخوص "مدن الملح".
أرض السواد:
هل كان عبدالرحمن منيف يهجس بالآتي حيث انصرف إلى كتابة عمله الملحميّ الثّاني بعد خماسيَّة "مدن الملح"، نعني به ثلاثيته عن العراق: "أرض السواد". ما الذي حمله على العودة إلى تاريخ العراق فنقَّب في السِّجلات والأوراق والوثائق والكتب والبيانات كيْ يبني المعمار الرِّوائيّ المعقَّد للثلاثيَّة؟! أليس هو ذاك الهجس المدهش الذي ينتاب المبدع الكبير بأنَّ العراق آيلٌ لا محالة إلى أنْ يكون عنوان المرحلة التَّالية لكتابة الثُّلاثيَّة التي انكبَّ عليها بكلِّ الدَّأب والمثابرة اللذين عرفا عنه، وقرأت إشارة من النَّاقد السُّوري محمد جمال باروت يقول فيها إنَّه زوَّد عبدالرحمن منيف بالكثير ممَّا تحت يديه منْ مصادر تتَّصل بتاريخ العراق الحديث بناءً على طلب الثَّاني فترة انشغاله على إعداده مادة الثُّلاثيَّة والشُّروع بكتابتها.
ليس منيف غريباً على العراق، إنَّه بمعنى من المعاني ابن له - إذا تذكَّرنا أنَّ والدته عراقيَّة - وقدْ تحدَّث طويلاً في كتابه "سيرة مدينة" عنْ هذه المسألة بالذات، في أنَّه درس زمناً في جامعة بغداد حين أتاها شاباً يافعاً بالكاد أنهى الثانوية في العاصمة الأردنيَّة عمَّان، ثم أنَّه بعد طول تنقُّل عاد إلى العراق في السَّبعينيّات وعمل وعاش فيها، ويبدو أنَّها الفترة نفسها التي انعقدت فيها علاقة الصَّداقة القوية بينه وبين الرَّاحل جبرا إبراهيم جبرا، وهي العلاقة التي كان في مظاهرها إقدام الرَّجلين في سابقة عربيَّة على وضع رواية مشتركة هي "عالم بلا خرائط"، وبتكوينه الثَّقافي واسع الأفق فإنَّه عنى بالإحاطة بتاريخ العراق وبدوره، لكنَّ ذلك لمْ يتبلور في صورته الواسعة، الناضجة، إلا بعد أنْ عكف على مشروع "أرض السواد" الرِوائي، التي تتبع فيها مراحل مهمَّة من تاريخ العراق الحديث، لأنَّ في التَّاريخ دائماً عبرة، رغم وعيه أنَّ التَّاريخ لا يعاد، لأنَّ لكلِّ حادثة وواقعة الظُّروف والعناصر التي كونتها وأعطتها هذا المسار، وحتى إذا تشابهت حادثة سابقة مع حادثة راهنة فلا يعني ذلك أنْ تصل إلى النتائج نفسها.
كانت "أرض السَّواد" في أجزائها الثَّلاثة قدْ أصبحت في أيادي القرَّاء منذ زمن حين شنَّ العدوان الأمريكيّ على العراق. وما كادت بغداد تسقط تحت الاحتلال حتى دفع عبدالرحمن منيف بكتاب جديد عن العراق لقرّائه. كانت قد تكوَّنت لديه، منْ خلال قراءاته في كتب التَّاريخ والمذكِّرات وهو يكتب "أرض السواد" مجموعة من الهوامش، وجدَ أنَّها مهمَّة في تكوين ذاكرة تاريخيَّة، لكيْ لا يكون التَّاريخ مجرد سجل بارد للموتى، وإنَّما حياة موَّارة تعجُّ بالأمثولات الحيَّة والمعارف والمقارنات. أدرك الرَّجل أنَّ العراق يتعرَّض لمرحلة حاسمة في تاريخه قدْ تخلط الأوراق تمهيداً لكتابة تاريخ نمط جديد، فأراد لهوامشه أنْ تكون شهادة من التَّاريخ على الحاضر.
هوامش على المتن:
لمْ يكن عبثاً أو من باب المصادفة أنَّ عبدالرحمن منيف اختار لأحد أبرز كتبه غير الرِّوائية عنوان "الدِّيمقراطية أولاً.. الدِّيمقراطية ثانياً". لقدْ قال هو نفسه ذلك: "لمْ أتردَّد طويلاً في اختيار عنوان هذا الكتاب، هذا الاختيار ليس خرقاً أو تحدِّياً للعادة التي جرى عليها أكثر الكتاب". إنَّ السَّبب فيه هو اعتقاد منيف أنَّ الذي ييسِّر لنا الدُّخول إلى جوهر هذه الموضوعات، ويساعد على حوار جدِّي، يتمثَّل بمفتاح رئيسي: الدِّيمقراطية.
في هذا الكتاب، كما في كتبه الأخرى التي أخذت طابع المقالة أو الدِّراسة، أراد عبدالرحمن منيف أنْ يعبِّر عنْ ذات الفكرة التي استحوذت عليه – وراثياً - كأنَّ هذه المقالات أشبه بهوامش على متن الرِّواية رغم أنَّ هذا التَّعبير ينطوي هو الآخر على مقدار من التَّعسف، فما يقدِّمه الكاتب هنا متناً وليس هامشاً، إنَّ فيه روح الباحث وجديَّته ودقَّته وصرامة أحكامه التي يصل إليها بعد طول بحث. والأمر في حال عبدالرحمن منيف لا يتَّصل فقط بروح الباحث ومثابرته وإنَّما ينطلق أيضاً منْ تفاعله الحيّ مع الحياة، ومع الهموم السِّياسيَّة المباشرة هو الذي ابتدأ حياته مناضلاً حزبيّاً، قبل أنْ يقرِّر التَّفرغ للكتابة - لا عزوفاً عن السِّياسة - وإنّما لقناعة ترسَّخت لديه بعجز الهياكل الحزبيَّة التي عمل فيها عن إحداث التَّغيير المنشود بعد أنْ كفَّت عنْ أنْ تكون مختبراً ومصهراً للأفكار الثَّوريَّة المُغيِّرة، واستحالت إلى أجهزة بيروقراطية قامعة ومعطلِّة للفكر، ويعزِّز ذلك شعور الكاتب وإحساسه بمقدرته على إحداث التَّغيير في الوعي عبر الكتابة، بوصفه كاتباً ومبدعاً وروائياً بامتياز، ولمْ يكنْ انحيازه للرِّواية - بوصفها جنساً للكتابة أو الإبداع - محض مصادفة هو الآخر: "في الرِّواية - يقول منيف - ليست هناك أسرار كثيرة يمكن أنْ تذاع. الرِّواية عمل يحتاج إلى استعداد، ويحتاج أكثر إلى مثابرة وصبر وشعور عال بالمسئولية إضافة إلى الصِّدق، وشيء من الشَّجاعة.. هنا أيضاً اختار منيف الأمر الصَّعب، "فأكثر ما تحتاجه الرِّواية - كما يقول محقّاً - هو الجلوس يومياً وراء الطَّاولة لساعات متواصلة من أجل التَّفكير العميق ثمَّ لكتابة صفحتين إلى ثلاث صفحات، إذا فتح الله ويسَّر. الرِّواية تحتاج تحضيراً طويلاً، وفضولاً لمعرفة الأشياء: أسمائها ومواعيدها وتفاصيل التَّفاصيل عنْ دورتها في هذه الحياة".. ولهذا شروطه: أنْ تفتح عينيك على اتِّساعهما لرؤية الأشياء حولك، مهما كنت تعرفها، وأنْ تنظر إلى رفَّة العين حين يتكلَّم الإنسان لتتكشَّف مدى ما يعنيه، وكمْ من الصِّدق فيما يقول، وأنْ تحاول إرهاف السَّمع كيْ تسمع الصَّوت.
هذا على مستوى التَّفاصيل، أمَّا على المستوى العام فإنَّ منيف ظلَّ وفيَّاً لما يمكن أنْ ندعوه بـ "الوعي التَّاريخي" أو الوعي بالتَّاريخ، وهو انطلق مراراً منْ عبارة شهيرة تقول إنَّ التَّاريخ بأجمعه تاريخ معاصر، أيْ أنَّ التَّاريخ يتألَّف بصورة أساسيَّة منْ رؤية الماضي منْ خلال عيون الحاضر وعلى ضوء مشاكله. وعبر هذه الرُّؤية بالذَّات عاش عبدالرحمن منيف وكرَّس حياته، ناشطاً في الشَّأن العام، وروائيّاً وكاتباً.
الدِّهليز نصف المعتم:
ثمَّة جانب آخر لا يعرف عنه الكثيرون في شخصية منيف، ألا وهو ولعه بالفنون التَّشكيلية.. وهناك صداقة عميقة انعقدت بينه وبين الفنان التَّشكيلي السُّوري الكبير المقيم في ألمانيا مروان قصَّاب باشي، وسبق لمنيف أنْ كتب دراسات في أعمال صديقه التَّشكيليَّة. ولفت نظري في حديثه مرَّة عن الشَّاعر الإسبانيّ لوركا توقُّفه أمام الاهتمامات التَّشكيليَّة لدى الشَّاعر، حيث رأى أنَّ الرَّسم أثَّر تأثيراً كبيراً في رؤية الشَّاعر للعالم، إذْ نجد الألوان شديدة الوضوح في شعره. كان لوركا - حسب منيف - يعتبر الرَّسم، خاصَّة التَّخطيطات، بمثابة استراحة المحارب، إذْ كان يرسم في أيِّ مكانٍ وجد نفسه فيه، خاصَّة في المقاهي أو أثناء السَّفر، وما لا يستطيع أنْ يقوله بالكلمات كان يقوله رسماً، وفي بعض الأحيان كان الرَّسم يفتح له نوافذَ وآفاقاً.
هذه العناية برؤية مكانة الرَّسم عند لوركا عكست الاهتمام الذي يوليه منيف نفسه للأمر، ولرؤية العلاقة بين الكتابة والرَّسم. وهو تحدَّث مرَّة بنوع من الاستفاضة عن صلته بالفنِّ التَّشكيليّ منذ أيام الطُّفولة، منذ أنْ بدأ يراقب الغيوم وهي تتصادم، وهي لا توافق على الانتظام أو الامتثال لشكل واحد. منذ ذلك الوقت أصبح الشَّكل وتغيُّر اللون سؤالاً أساسيّاً عنده. إلا أنَّ ما هو مثير للاهتمام هو ذلك التَّقابل الذي يقيمه بين الكلمة والصُّورة. فالكلمة واضحة أو أكثر وضوحاً من الصُّورة، أما الفن - خاصة التَّشكيل والموسيقى - فإنَّه ليس على ذات الدَّرجة من الوضوح. وهو تجاسر على الدَّاخل في ما يصفه بـ "الدهليز نصف المعتم" أي الفنّ التّشكيلي، علّه يكتشف عالماً جديداً ثمَّ يحرِّض الآخرين على التَّمتُّع بهذا العالم الذي يحتاج إلى بعض الجهد من أجل اكتشافه، وقاده المراس والتَّدريب على التَّمتُّع برؤية اللوحة، بإعادة اكتشافها، بتصوُّر المراحل التي مرَّت بها، وبالأجواء التي رافقت رحلتها منذ أنْ كانت حلماً إلى أنْ تجسَّدت في صورة يمكن أنْ يراها الجميع.هذه المهارة وظَّفها عبدالرحمن منيف في كتابته الرِّوائية، الروائي - من وجهة نظره - لا يمكن أنْ يكتب دون أنْ يكون مالكاً لكمٍّ هائل من الصُّور والأشكال والحالات: لون الوجه شكل الجبهة أو الشَّفتين، حركة اليدين أثناء الصَّمت أو الحديث، ما يرتسم على الوجه في حالة الانفعال أو السُّخرية، كلُّها صور يمكن أنْ تتحوَّل إلى كلمات، إلى صورة مكتوبة. الرِّوائي معنيٌّ بهذه التَّفاصيل "التَّشكيليَّة" إلى أقصى حدٍّ، لأنَّها زوّادته الحقيقيّة، لأنَّه إذا لجأ إلى الافتراض أو الوهم، فإنَّه يفقد الدِّقة والحرارة، وكأنَّه يرسم على الماء أو في الهواء. وهو يجزم بأنَّه اكتسب الكثير من الفنون الأخرى في كتابة الرِّواية: الألوان والأشكال والعلاقة بين المشاهد والأشياء، تاركاً للنُّقاد أنْ يحدِّدوا ذلك لأنَّ منْ يكون في الغابة لا يستطيع أنْ يرى إلا الشَّيء القريب، المباشر.



#حسن_مدن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التاريخ المنسي
- لا لقاح للفقراء
- ترميم ما لا يُرمم
- عن عبدالناصر
- قيود مخملية
- الإغارة على ثقافات الشعوب
- الدولة العميقة .. المجتمع العميق
- فئات أربع من المثقفين
- نساء ضد النساء
- غسان كنفاني: رائحة رغيف طازج
- ثقافات لا ثقافة واحدة
- التفكير (الجديد) قديم أيضاً
- التقدّم أم التوحش؟
- حاتم علي
- عن لغة العرب
- وقفة مع الذات في بداية العام
- هاكرز التاريخ
- بين التعددية والخصوصية
- إبداع الأمس.. إبداع اليوم
- جدل الدولة والأمة


المزيد.....




- طرد السفير ووزير الثقافة الإيطالي من معرض تونس الدولي للكتاب ...
- الفيلم اليمني -المرهقون- يفوز بالجائزة الخاصة لمهرجان مالمو ...
- الغاوون,قصيدة عامية مصرية بعنوان (بُكى البنفسج) الشاعرة روض ...
- الغاوون,قصيدة عارفة للشاعر:علاء شعبان الخطيب تغنيها الفنانة( ...
- شغال مجاني.. رابط موقع ايجي بست EgyBest الأصلي 2024 لتحميل و ...
- في وداعها الأخير
- ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود
- عوالم -جامع الفنا- في -إحدى عشرة حكاية من مراكش- للمغربي أني ...
- شعراء أرادوا أن يغيروا العالم
- صحوة أم صدمة ثقافية؟.. -طوفان الأقصى- وتحولات الفكر الغربي


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن مدن - (بروفيلات) لعبدالرحمن منيف