أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضيا اسكندر - دلال















المزيد.....


دلال


ضيا اسكندر

الحوار المتمدن-العدد: 6710 - 2020 / 10 / 21 - 16:04
المحور: الادب والفن
    


بعد خمسين عاماً من آخر مرة وقع بصره عليها قرّر فوّاز أن يلتقي بها. فقد أيقظ مشاعره وفضوله الحديث الذي دار بينه وبين صديق طفولته جمعتهما سهرة مشتركة مع ثُلَّة من رفاق الصبا، احتفالاً بقدوم صديقهم من الغربة بعد أربعين عاماً على مغامراته البحرية.
وككل لمّة تجمع الكهول بعد غيبتهم الطويلة عن بعض، فإنهم يتندّرون بذكرياتهم الطريفة عن قصص الطفولة وشقاوتها، وأهمّ الأحداث التي مرّوا بها. واتفقوا في الجلسة أن يتناول كلٌّ منهم قصته مع حبّه الأول بالتفصيل ليمتّعَ أصدقاءه بها. وانهمرت شلّالات ذكريات الأيام الخوالي التي لا تُنسى وفاح شذاها بين الحاضرين. وكلما أنهى أحدهم قصته يصفّقون ويهلّلون له، تعبيراً عن إعجابهم وتشجيعاً لمن يأتي بعده. إلى أن جاء دور فوّاز حيث قال له أبرز أصدقائه:
- والآن جاء دورك يا فوّاز، هات حدّثنا عن حبيبتك دلال، التي كانت إحدى جميلات حيّنا. وكنت تعبدها دون أن تعلم هي بمشاعرك نحوها.
وطَفِقَ الجميع يقهقهون وهم يتذكّرون كيف كانت علاقاتهم الغرامية مع بنات الحيّ عُذريّة بريئة؛ حيث الغاية الأسمى في تلك العلاقات هي الشهوة الروحية لا الجسدية، بل كانوا حتى لا يجرؤون على البوح بمكنوناتهم لهنّ.
أشعل فوّاز سيجارة وسحب نفساً عميقاً منها وزفره باتجاه السماء، وقد تداعت إلى مخيّلته صور الماضي البعيد عندما كان طفلاً لا يتجاوز العاشرة. قال لهم بعد أن تمنَّى عليهم عدم مقاطعته أثناء سرده لقصته مع تلك الفتاة، التي ما زالت تقرع أجراس أنوثتها في ذاكرته كلما انفرد مع ذاته، وانكبّ ينقّب في ماضيه متنشّقاً عبير روائح الذكريات الحافلة بالحكايا العاطفية. إلّا أن دلال كان لها دائماً الحظ الأوفر في الندامة على فراقها:
- يا شباب، أُقسِم بالله عندما أذكرها، وكأني أراها الآن أمامي؛ بفستانها الزهري المنقّش بالزهور الصفراء. بعينيها الخضراوين والنمش الخفيف في وجنتيها، والذي كان يُضفي على وجهها الشاهق البياض مزيداً من البهاء. بثغرها المزيّن بشفتين رقيقتين حمراوين. بأنفها الصغير وجديلتها الشقراء. بصوتها الناعم الذي يركض في مداه الحياء الطبيعي، والذي كان يُشعلني بالنشوة عندما أسمعه لدرى مروري من أمام الدكان الصغير الملاصق لبيتها، والذي كانت تجلس فيه خلف الطاولة بالنيابة عن والدها أوقات استراحته. كنت أحرص كل يوم على العبور من أمام الدكان، فإذا كان والدها، أقترب بجسارة وأدخل لشراء أيّ شيء يخطر على بالي وأنا أتفحّص مكان جلوسها، وأعاين الرفوف القليلة، وأتخيّل كيف تقف وتمدّ يدها إلى هذه السلعة أو تلك لبيعها لأحد المشترين. وسرعان ما أتوقّع قدومها فجأةً لتحُلَّ محلّ والدها في البيع، فأسارع إلى أخذ طلبي والانصراف. لأنني لم أكن أجرؤ على الاقتراب من الدكان إذا ما كانت هي بداخله. واستمر هذا الحال على وضعه أسابيع. إلى أن قرّرتُ ذات يوم أن أتحلّى بالشجاعة وأشتري من الدكان لحظة وجودها فيه. غسلتُ وجهي خلسةً بلوح الصابون الذي كانت تستخدمه أختي الكبيرة بمفردها، وسرّحتُ شعري بعد أن دهنته بقليل من الزيت، ووقفت أمام المرآة وقمت بإجراء بروفة: «مرحبا، من فضلك أريد بفرنك قضامة. تقوم دلال بعد أن تردّ على تحيتي بصوتها الملائكي، وتُنزِل القطرميز عن الرفّ وهي منهمكة بوضع حبّات القضامة في كيس ورقي صغير، وتقوم بوزنه وأنا أراقب حركاتها كالمأخوذ. تعطيني الكيس وهي تبتسم قائلةً "تفضّل!" فأقول لها "شكراً، يسلمو يا رب!" وأنصرف دون أن أتعثّر بأيّ شيء رغم اضطرابي المحموم».
وبالفعل أيها الأصدقاء، فمن غرائب الأمور أن ما تخيّلته من سيناريو، انطبق على أرض الواقع بحذافيره دون زيادة أو نقصان. ما شجّعني على تكراره كل عدة أيام. وفي كل مرة أشتري سلعة جديدة منها وأمتّع نظري بمرآها. حتى باتت لحظة أن تراني تبتسم لي فيقع قلبي من شدة انفعالي. وتمرُّ الأيام والأسابيع والأشهر وأنا أتحسّر متسائلاً: «إلى متى سأبقى هكذا جباناً لا أبوح بمشاعري اتجاهها؟ تُرى ماذا أقول لها؟ وكيف سيكون ردّها؟ هي لا يزيد عمرها عن السبع سنوات. وربما لا تعرف معنى الحب والغرام وحتى لم تسمع به. إذ لا تلفزيون ولا مجلات ولا سينما في أيامنا تلك. وقد تَعتبرُ إفصاحي عن حبي لها، تحرّشاً قد يودي بي إلى التهلكة من جرّاء ردّ فعل ذويها.. هل أبعث لها برسالة، أم أعتمد على وسيط ينقل لها ما يجول في خاطري من مشاعر الهُيام؟»
الحقيقة لم أصل إلى نتيجة لإنهاء عذابي، فقد جافاني النوم وبات القلق يقضّ مضجعي.
وفي أحد الأيام قرّرت أن أحسم تردّدي وخوفي وأغازلها بنظرة ذات مغزى عاطفي وأنا أمرّ من أمام الدكان. وكم كان إخفاقي كبيراً عندما عبست ساخطةً بوجهي لدى وقوفي بُرهة أمامها، بعدما أرسلتُ لها من عينيّ تلك النظرة المتوسّلة التي تزخر بدلالات الغرام. اعتصرني الألم وكدتُ أفقد توازني وأسقط مغشيّاً عليّ من شدة خجلي وخيبة أملي. وتابعتُ سيري متعثّر الخطوات مخذولاً. ووقفتُ في ذات الشارع على مبعدة حوالي مائة متراً مستنداً إلى عمود الكهرباء، وقلبي يخفق بقهر وأنا في غاية الحيرة والعجز. وإذ بها تخرج من الدكان وتلتفت في جميع الاتجاهات وكأنها تبحث عني. وما إن وقع بصرها عليّ حتى بدأت تبصق باتجاهي تِفافات متتالية. تدخل هنيهة إلى الدكان وسرعان ما تخرج وهي تبصق وقلبي ينزُّ ابتئاساً وخجلاً وذلّاً. دون أن أعرف السبب الذي جعلها تلطم كرامتي وتعاملني بهذه القسوة المُهينة! طويتُ نفسي على آلامها وقفلتُ عائداً إلى بيتي مستسلماً بائساً كجنديّ خسر معركة كان يترقّب النصر المؤزّر فيها. وطلعتُ إلى السطح وانخرطت في نوبة بكاءٍ شديدة إلى أن هدأت عواصف انفعالي قليلاً. واعتزمتُ عدم رؤيتها من الآن فصاعداً متحدّياً لهفتي عليها وعشقي الأسطوري لها.
ومضت الأيام إلى أن صرتُ أراها في منامي تعاتبني على عدم مجيئي إليها. قلت في سرّي سوف أجرّب وأمرُّ أمام الدكان على الرصيف المقابل متحاشياً التقاء الأعيُن. لأرى ردّة فعلها. وهذا ما حصل، فلحظة عبوري بمواجهتها اختلستُ نظرة خاطفة سريعة نحوها فوجدتها تبتسم لي.
يا لفرحتي، يا لسعادتي! ولكن ماذا غيّرها!؟ هل اشتاقت لي كما اشتقتُ إليها؟! أم أنها تحفّزني على المجيء للشراء وحسب، فقد خسرت زبوناً؟! من الطبيعي ألّا أرجّح الاحتمال الثاني، فقلبي الولهان يأبى كبرياؤه الاعتراف بالهزيمة. إلّا أن مخاوفي من ردود أفعالها تضاعفت. ولم أجرؤ حتى على الاقتراب من الدكان، فما بالكم الدخول والشراء!
المهم كان عليّ أن أحتفل بهذه المناسبة العظيمة. ركضتُ منتفشاً متراقصاً إلى غابة الصنوبر المجاورة لحارتنا والتي كانت مربع طفولتنا كما تعلمون. شعرتُ بطاقة استثنائية جبّارة منحتني إياها تلك البسمة الساحرة. فقمت بتسلّق أول شجرة صادفتها وطفقتُ أتنقّل من شجرة إلى أخرى مستعيناً بأغصانها بخفّة القرود إلى أن وصلتُ إلى نهاية الغابة. جلستُ في أعلى آخر شجرة وألقيتُ نظرة على السفح الأخضر المتشكّل من قمم الأشجار أمامي وأنا في غاية السعادة. ومن المعروف أن العاشق إذا ما احتفظ بمشاعره لنفسه دون أن يُفضي بما يمور في أعماقه إلى أحد، تقلُّ متعته. ولهذا سارعتُ إلى الهبوط عن الشجرة والبحث عن أيّ من رفاقي لأسرد له آخر المستجدّات.
بقيتُ أياماً وأنا أجترُّ تلك البسمة محلّلاً تفاصيلها ومراميها. وبمعونة رفاقي توصّلت إلى نتيجة، من أنها لا ريب تبادلني ذات المشاعر، وينبغي استثمارها سريعاً. حتى أن أحد أصدقائي من شدة تأثّره بقصتي، شفق عليَّ وزعم ليرضيني أنه سمع دلال وهي تقف مساءً على بوابة الزاروب تسرُّ لزميلتها عن حبها لي أثناء توجّهه إلى بيته المجاور لبيتها. ما زاد من ولعي بهذه البنت. فصمّمت العودة إلى مغازلتها بذات الطريقة السابقة.
وصلتُ إلى الدكان ووقفتُ قبالتها على بعد عدة أمتار، ومنحتها نظرة تحمل كل معاني الحب واللهفة، وختمتها بغمزة من عيني مُلقياً بنفسي في فم القدر. فما كان منها إلا أن عبست وسدّدت صوبي نظرة نفور غاضبة، ما جعلني أحسّ بأنني سأًصاب بإسهال مفاجئ ما لم أُسرع بمغادرة المكان.
وكانت تلك الواقعة آخر ذكرى لي مع تلك البنت.
عقّبَ أحد الأصدقاء ممازحاً بعد أن هدؤوا من التصفيق:
- أي أبو الفوز، ماذا تعطيني إذا ما حكيتُ لك معلوماتي عنها، وجعلتك تلتقي بها بعد نصف قرن على آخر لقاءٍ جمعكما؟
وعلى الفور أجابه فواز بالْتياع مدفوعاً بحب استطلاع طارئ:
- ولك دخيل اسمك أنا، لك ما تريد. أرجوك حدّثْني عنها.
- دلال حالياً مطلّقة، وتعيش بمفردها في شقة فخمة، وأحوالها باللوج.. وما زالت تتمتع بجاذبية قلَّ نظيرها. وكل يوم قُبَيل الغروب بساعة تغادر شقتها الكائنة في حيّ المشروع العاشر. تلبس بيجاما رياضية وتنتعل خفّاً وقبّعة، وتتنزّه على كورنيش البحر. يمكنك أن تراها إذا رغبتَ في ذلك.
سأله بصوتٍ تركض فيه اللهفة:
- هل تعرف عنوانها بدقة؟
- أووه بكل بساطة..
وهو يسجّل عنوانها على صفحة ذاكرته كان يتساءل بحيرة: «هل يمكن أن أعرفها بعد كل هذه السنين؟ هل ستتذكّرني؟»
في اليوم التالي كان عصراً على مقربة من سكنها. ومن حسن حظه أن ثمّة كافتيريا بمواجهة شقتها تقريباً. اختار طاولة يستطيع من خلالها مراقبة مدخل البناية التي تقطن فيها. ولبث يدخّن بشراهة وهو يرصد كل حركة على المدخل متأهّباً لملحمة اللقاء؛ أطفال رجال صبايا يدخلون ويخرجون وهو يتفرّس بوجوههم. متوقّعاً بين لحظةٍ وأخرى وميض إطلالتها البهيّة.
بعد أن تناول فنجانين من القهوة وفكّر بطلب الثالث، وإذ بسيّدة طويلة ممشوقة القوام ترتدي بيجاما رياضية كحلية اللون وقد ربطت شعرها إلى الخلف تغطّيه قبّعة بيضاء وتضع على عينيها نظّارة شمسية.. تخرج من مدخل البناية وتنعطف باتجاه الرصيف المؤدي إلى الكورنيش.
«إنها دلال! بجمالها القديم وسحرها النضير» قال في قلبه الذي بدأ يخفق بجنون. فقد عرفها ببصيرته الداخلية. ووثبت في صدره مشاعر الوجد والحماس ونهض سريعاً. دفع الحساب على عجل وغادر الكافتيريا ليلحق بها.
مسح براحته ما تبقّى من شعره الفضّي على جوانب رأسه الأصلع. وراح يستحثُّ الخطى بتشوّقٍ أرعن. تتدافع في مخيّلته صورة الفتاة التي فتنته بالزمن الأول. كانت تتقدّمه بعدة أمتار. وحرص ألّا يقترب منها لئلّا تفطن لوجوده. وشرع يتأمّلها من الخلف. محاولاً إجراء مقارنة بين (دلال) ذات الأعوام السبعة وبينها الآن وقد شارفت على الستين. تُرى كيف آل إليها الحال اليوم؟ هل ما زالت تتمتع بجمالها الرائق؟ لاحظ أن رشاقتها لافتة على الرغم من تضخّم ردفيها. فهي تمشي بثقة وبشيء من العجلة. سرّع من خطواته ليقترب أكثر إلى أن أمسى على بعد مترٍ واحد منها. لم يجد نفسه إلّا وقد هتف قائلاً بصوتٍ تلاحقه الصبابة:
- مساء الخير ست دلال!
التفتت صوبه باهتمام وردّت بعفوية:
- مساء النور!
سألها بحذر:
- هل عرفتيني؟
وقفت تتأمّله بدهشة وشت بعجزها عن تذكّره. ثم نزعت النظّارة عن عينيها المليئتين بالاستفهام وهي مرتبكة وسرعان ما أجابت:
- آسفة، لم أعرفك. من تكون حضرتك؟
- أنا.. أنا فوّاز. جاركم بالحارة القديمة قرب غابة الصنوبر. لقد مضى على رؤيتي لك آخر مرة ما يقارب الخمسين عاماً. دعيني أكون واضحاً أكثر لأذكّرك بي، ألم يقمْ أحد الأطفال في الحي عندما كنت صغيرة تساعدين والدك المرحوم بالدكان، بمغازلتك، فقمتِ بالبصاق عليه عقوبةً له؟ باختصار، أنا ذلك المغضوب عليه، أقصد المبصوق عليه!
أمالت رأسها وهي تتطلّع به باسمةً وقد انبعثت منها نسمة أنثوية غاية في الرقة. فتذكّر بسمتها الساحرة التي خلبت لبّه وأفقدته رشده أشهراً طويلة أيام زمان. وسرعان ما ضحكت بسرور وهي تضع نظارتها مجدّداً على عينيها، وقالت له بلهجة معتذرة وقد ظهرت ومضة معرفة على وجهها:
- ياه، الآن تذكّرتك! لقد أرجعتني إلى أيام الصبا.. وأنا آسفة أنني تصرّفتُ معك على ذلك النحو.. قل لي، ما أخبارك؟
- مم، تزوجت متأخراً ولديَّ شابّ وصبية. وحالياً متقاعد. أقضي وقتي بالقراءة والكتابة..
- والكتابة! وماذا تكتب؟
- أنا قاصّ وروائي. ولديّ مجموعات قصصية كثيرة أغلبها في مجال الأدب الساخر.
سألته بإغراء بعد أن استأنفت سيرها وهو إلى جانبها والبسمة المعجزة لا تفارق وجهها الذي غابت عنه تلك النمشات التي كانت تتوضّع على وجنتيها أيام طفولتها:
- عظيم. وهل كتبتَ عنّي شيئاً؟
- الحقيقة لا.. لكنني أعدك أنني سأكتب اليوم.
- وماذا ستكتب؟
- سأجعلها مفاجأة لك. وإن كنتِ لا تمانعين، سأُطلِعُكِ عليها بعد أن أفرغ من كتابتها.
لاحظ أنه كسّر العديد من الحواجز بينهما في هذه المحادثة القصيرة، فاستأنف قائلاً بانتعاشٍ غامر:
- آسف أنني اقتحمتُ عليك خلْوتك. ويحدوني أمل ألّا أكون قد سبّبتُ لك أيّ إزعاج في تطفّلي. هلّا منحتيني مزيداً من الوقت في مشوارك هذا؟
أجابت بدعابة ماكرة وهي تبتسم:
- لا أبداً. على الرحب والسعة. ولكن ماذا لو رأتك زوجتك وأنت تسير إلى جانبي؟
- لا يهمّني. أقصد إنها تتفهّم ذلك. فهي تعلم أنه بحكم علاقتي مع الثقافة، لديّ الكثير من الصديقات وبعضهنّ غدَوْنَ صديقات لزوجتي، ونتبادل الزيارات معهنّ بحضور أو غياب زوجتي.. وأنت؟
- أنا.. مطلّقة حالياً. زوجي السابق وأولادي يعملون في دول الخليج. وأنا أعيش بمفردي.
- هل تنوين الزواج مرةً أخرى؟
ضحكت بافتتان وأجابت:
- بالتأكيد لا.. هل يُعقل بعد أن وصلت إلى هذا السن أن أفكر بهذا الأمر؟! ثم أنا يا عزيزي لديّ أحفاد ومن المخجل أن أفكر بالزواج. ناهيك على أنني أعتبر الزواج مؤسسة فاشلة بامتياز.
- أوافقك الرأي تماماً. نعم إن الزواج رابطة اجتماعية يجب إعادة النظر بها. وهذا هو السبب الرئيس الذي جعل المجتمع الغربي يصل إلى نمط جديد من العلاقات ما بين الشريكين دون عقد زواج وأعني (المساكنة). ومن المعروف أن الزواج المدني الذي توصّلت إليه المجتمعات الغربية، والذي يتعارض كلّياً والتعاليم المسيحية، اضطرّت إليه هذه المجتمعات، فاخترعوا الزواج المدني ليتمكّنوا من خلاله التحلّل من هذه الرابطة الموصوفة بـ(القدسية الأبدية) والتي أثبتت الحياة عدم صحتها.
- رأيك سديد. لأن معرفة الشريك على حقيقته، لا يمكن التوصّل إليها ما لم تحصل المعاشرة فيما بينهما بكل تفاصيلها. وكلنا سمع بالمقولة الشعبية القديمة: (هل تعرف فلان؟ أجابه نعم أعرفه. سأله مجدّداً: عل عاشرته؟ أجاب: لا. فقال له: إذن أنت لا تعرفه).
- نعم، يا ستّي وكم من العلاقات العاطفية التي جمعت بين حبيبين وناضلا حتى حقّقا هدفهما بالزواج. وبعد مضيّ أشهر قليلة، توصّلا إلى الطلاق؟ بالمناسبة، منذ فترة أجريتُ استبياناً حول الزواج يتضمّن هذا السؤال: (لو كنت تعرف الشريك على حقيقته، هل كنت أقدمت على الارتباط به؟) طبعاً السؤال موجه للشريكين. تخيّلي أن نسبة 99% من الإجابات كانت: لا..!
- نتيجة منطقية. والسبب هو أن العلاقات العاطفية والخطوبة لا يمكن أن يتحلّى فيها الشريكان بالمصداقية. فكلاهما يتواريان خلف أقنعة الأكاذيب. ناهيك على أن الكثير من التفاصيل في الحياة لا تظهر وتتضح إلا بالعيش المشترك. وهذه التفاصيل (المزاج، العادات، السجايا، الاهتمامات، الهوايات، الأداء..) تُعدّ أساسية. وإذا لم يكن انسجاماً بين الشريكين حولها، فإنها تلعب دوراً هدّاماً تؤدي إلى اضمحلال المشاعر العاطفية الإيجابية تدريجياً ليصلا إلى الجفاء التام وربما أكثر..
وبحكم ثقافته الواسعة فقد كان يجيد أناقة التمهّل في الحديث، مختاراً كلماته بهدوء ودقّة جرّاح، ليعزّزَ إعجابها به ويؤسّس لعلاقة مستقبلية معها فقال:
- ياه، كم نحن متفقان يا ست دلال! على فكرة، نحن نقول بالماركسية (التراكم الكمّي يؤدّي إلى التغيير النوعي) بمعنى أن تراكم الخلافات مهما كانت صغيرة، ولكن على كثرتها، ستؤدّي إلى (تغيّر نوعي) أي إلى خفوت جذوة العاطفة، ليصلا إلى حالة نوعية جديدة من قبول فكرة الانفصال. لذلك المجتمعات الغربية تخطّت فكرة الزواج المدني، وتوصّلا إلى فكرة المساكنة يختبران بعضهما من خلالها فيما إذا كانا يتناسبان كزوجين. وأعتقد أن المجتمع البشري لن يتوقّف عند هذه الفكرة، بل سيتخطّاها مستقبلاً إلى فكرة أخرى أكثر فائدةً حسب معطيات الواقع ومستجدّات الحياة.
وهنا جلجلت بضحكة عذبة وهي ترفع حاجبيها وهتفت:
- هل أنت شيوعي؟ لقد سقطت هذه النظرية بسقوط الاتحاد السوفييتي وشقيقاته. وما زلتَ تتحدث وتقتبس من هذه النظرية؟!
تملّى قولها قليلاً وشعر بعدم الارتياح، لكنه كتمه في أعماقه. واكتفى بأن هزَّ رأسه في غموضٍ دبلوماسي. وارتأى عدم الخوض بجدلٍ ليس مهيّئاً له، ولا يخدم استمرار التوافق بينهما فأجاب بهدوء:
- هذا موضوع يا عزيزتي يحتاج إلى جلسة خاصة لنعطيه حقه من النقاش.
توقفت فجأةً واستدارت نحوه إيذاناً منها بانتهاء اللقاء وابتدرته قائلةً بلطف:
- على كل حال، كنت سعيدة معك بهذا اللقاء، ويسرّني أن نلتقي مجدداً ولو بعد خمسين عاماً من الآن.
وضحكت ضحكتها الآسرة المعهودة. فأجابها بلهجةٍ تعانقها رنّة الغبطة والسرور، وبكلماتٍ مغمّسة بالغزل الخفيّ قائلاً:
- ما كنت أتصوّر أننا سنجتمع مرةً أخرى! سأكون من أسعد المخلوقات فيما لو صحّت نظرية التقمّص، والتقيتك مجدّداً في الجيل القادم بمعونة قدرٍ شهم.
فابتسمت قائلةً:
- إليك رقم جوّالي فقد نلتقي بعد كتابتك عني. والآن أستأذنك بالانصراف.
بسرعة امتشق جوّاله وسجّل رقمها وضغط على زرّ الاتصال لتحفظ رقمه بدورها. مدّت ذراعها مصافحةً. وكانت المرة الأولى في حياته التي يلمس فيها يدها.
ها هو الزمن يعيد دورانه مجدداً ليقف عند محطة من الحُبور والانشراح، كما حصل معه يوم احتفل بابتسامتها وتسلّق أشجار الغابة الصنوبرية. فقرّر العودة إلى بيته ماشياً رغم آلام خاصرته بسبب استسقاء كليته المكتظّة بعشرات الحصى، وبُعد المسافة التي تفصله عن المشروع العاشر حيث التقاها، والتي لا تقلّ عن سبعة كيلومترات. دندنَ، ثم غنّى بصوتٍ مسموع وهو يكاد يطير فرحاً وطرباً. وفي طريق عودته بدأ يسترجع أدقّ تفاصيل ما جرى معه في ذلك اللقاء محاوراً الهواء:
- هل أحقّق حلم الطفولة وقد تجاوزت الستين بسنواتٍ ثلاث، وأحيا علاقة عاطفية مع من يحلم بها الكثير من أمثالي وهي بهذه السن؟ ولكن ماذا عن زوجتي؟ كيف سيكون موقفها وهي تتابع التغيّرات التي ستطرأ على شخصيتي؟ كيف سأبرّرها؟ أعرف نفسي أنه ليس بمقدوري إخفاء عواطفي الجديدة مهما كنت حاذقاً. وسيُفتضَح أمري سريعاً. هل أصارحها وأقول لها أنني أخيراً التقيت مع حبّي الأول وسوف أستثمره لكتابة قصة قصيرة أو ربما رواية طويلة، ليس إلّا. وأحقّقُ من خلالها شهرة واسعة غير مسبوقة؟ هي تعرف إمكانياتي الإبداعية وتُجِلُّها. لكنها يئست من قدرتي على النشر بسبب آرائي السياسية التي تمتنع كافة دور النشر في القطر عن التعامل مع نتاجي الأدبي بقرار من السلطة الحاكمة. لذلك لن تغفر لي نزوتي كما ستسمّيها، وبالتالي فإن حياتي سوف تتحول إلى جحيم.
لدى وصوله إلى البيت، كانت زوجته بانتظاره على العشاء واستقبلته بترحيبٍ خلافاً للعادة. استغرب الحالة مستفسراً عن سرّ حفاوتها به، فأجابت مستبشّرةً بوجهٍ تسيل منه السعادة:
- لقد ظهرت اليوم نتيجة التحاليل والفحوصات التي أجريتُها أمس، وتبين أن الأنسجة متطابقة فيما بيننا. ويمكنني التبرّع بكليتي لك دونما أية محاذير. وقد أخبرني الطبيب أنه بإمكاننا الدخول غداً إلى المشفى لإجراء العملية إذا أردنا.
اعتصم بالصمت لحظات مبهوتاً وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة المذنب. وتذكّر ما حصل معه قبل ساعة من الآن. حاول أن يتكلم، فتصاعد نبضٌ بالغ القوة إلى حلقه أوقفه عن الكلام. ضمَّ زوجته إلى صدره وقد هيمنت عليه مشاعر تبكيت الضمير المعذّب، وتغشّت عيناه بالدموع في تأزّمٍ عنيف. دخل إلى الغرفة وقام بحذف رقم دلال من هاتفه، وعاد إلى زوجته وكأنه غسل عن روحه وقلبه وعقله لوثة الشروع بالخيانة إلى الأبد. وقال لها بصوتٍ متكسّرٍ مفعمٍ بالشكر والامتنان:
- كوني على ثقة بأنك أجمل حكاية عشتها في حياتي. وسأختم مجموعتي القصصية الأخيرة بقصة حبنا التي كان لها الفضل في أنني غدَوْتُ كاتباً. لن أنسى دورك وتحمّلك لظروفي التي يعجز عن تحمّلها حتى العفاريت الزرق يا.. يا رفيقة عمري.



#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما مصلحة الغرب في فرض العقوبات على سورية؟
- من يقف وراء الحرائق في البلاد؟
- طفولة غير سعيدة
- جمعيّة دفن الموتى
- الأستاذ محمد الأفصع(*)
- الحُبُّ في زمنِ الكِمامة
- ما أبرعهم!
- فلسطين
- بعد طول انتظار
- عيون ومخارز
- «توقاً إلى الحياة»
- حوار مع رفيقي «القائد!»
- الجماهير ترقص فرحاً
- لماذا نحن متخلّفون؟!
- العَوْراء
- وأنا الشيوعي، كيف نسّبوني إلى «البعث»؟
- حلاوة
- نبوءة صادقة في حرفها الأول!
- لكنّنا لم نلتقِ!
- مسلمة الحنفي – قراءة في تاريخ محرّم


المزيد.....




- القضاء العراقي يوقف عرض مسلسل -عالم الست وهيبة- المثير للجدل ...
- “اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش ...
- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضيا اسكندر - دلال