أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - يسرا البريطانية (20)















المزيد.....



يسرا البريطانية (20)


احمد جمعة
روائي

(A.juma)


الحوار المتمدن-العدد: 6698 - 2020 / 10 / 9 - 15:28
المحور: الادب والفن
    


"عفت عنك الأخت بحار، لكن ذلك لا يسقط حق التنظيم في معاقبتك لأن سلوكك شكل خطراً على سرية التنظيم، أنت مذنبة بكسر القواعد، ولقد رأينا أن نضعك ضمن خيارين"
خفق قلبها، لم تر أمامها سوى ظلمة الغرفة المحاطة باللون الأسود وعلم العراق القديم، حينها فقط هدأ خوفها وشعرت باطمئنان، فقد لاح لها بصيص ضوء صغير في نفق الموت المرفرف على رأسها منذ شهرين من الاحتجاز، ضوء أصفر شاحب تسلل من فتحة التهوية في زاوية عليا من الغرفة وسقط على جهة من وجهها، تنهد الرجل العسكري الجالس أمام طاولة شبيهة بمنصة صغيرة، وركز نظرته على زميل له يجلس بمحاذاته ثم التفت لها واستأنف حديثه الذي قطعه وتأمل رد فعلها الأولي.
"الخيار الذي اتخذته اللجنة القضائية بالمجلس الثوري هو تطبيق عقوبة الإعدام عليك استناداً إلى أحكام سابقة مماثلة، وهي قاعدة يعمل بها القضاء الثوري للتنظيم، وبما أن هناك توصية بالرأفة من منطلق كونك امرأة وهي المرة الأولى في سجلك، ومن حسن حظك أن هذا التنظيم بحكم الائتلاف مع فصيل ثوري مختلف في الرؤية، فإن قرار اللجنة القضائية الثورية هو الحكم كالتالي"انطق بسرعة قبل أن أموت" قالت العبارة وهي تغص بالهواء من حولها، وكأن المكان أُفرغ من الأوكسجين.
"تقومي بعملية ثورية مع بعض الأخوة الانتحاريين بتسهيل وصولهم إلى الهدف وانتظارهم والتغطية عليهم، هذا بديل الإعدام وإذا كتب لك النجاة تُلغى العقوبة أو تحسبي مع الشهداء الأبرار"انَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ"
تحرك الرجل الآخر وتدخل معرباً عن تعاطفه معها وقال بنبرة هادئة للغاية.
"ستراعي الخطة العسكرية وضعك، وإن حدث ووقعت في الأسر فسيكون متاحاً لكي تفجير نفسك في المكان"
"أضحيت يسرا الإرهابية" هدأت من الخارج، بدا على وجهها الارتياح في حركة تمثيلية تخفي بها الحالة الأسطورية التي وصلت إليها، كان لون الغرفة المائل للعتمة قد اتسع وصار كأنه الكون بأكمله "متى تنتهي هذه الرحلة الطويلة من العمر وأعود للتراب؟" كأنها الخاتمة لعمرها ينتهي عند انتحارها الذاتي، هذه نهاية الجنسية البريطانية وبداية العودة للقبر.
عندما نهض الرجلان، نهضت على إثرهما كمن تريد أن تخرج معهما، لكنها ودت التعبير لهما عن احترامها لقرارهما، وفيما هما يخرجان التفت الرجل الكبير وقال لها وهو يقترب من باب الخروج.
"أكثري من قراءة القرآن"
لم ينتظر ليسمع ردها، تركها وخرج وظلت واقفة في الغرفة وحدها تتأمل الكراسي الفارغة وقد تناهت إليها أصوات العربات والرجال في الخارج، كان الوقت عصراً ولم تتذوق طعم الأكل منذ مساء الأمس باستثناء بعض الماء، ورغم ذلك لم تشعر بالجوع، كان مظهرها الخارجي وتشوه بشرتها يقلقها أكثر من الحكم الذي صدر عليها، ودت لو تموت وهي بكامل جمالها الذي طالما أهملته واهتمت به في الآونة الأخيرة، رأسها فارغ من الأفكار، ومشاعرها مجمدة ككرات الثلج، وحدها الصور القديمة تعبر ذاكرتها كأنها أشرطة مسجلة للمراحل التي عبرتها منذ الطفولة حتى اللحظة "ماذا الآن؟" اختزلت بهذا السؤال الداخلي كل الاحتمالات حول أحداث اليوم منذ استيقاظها عند الفجر حتى خروج الرجلين من الغرفة "هل تغير قراءة القرآن مصيري؟" بلغت مشاعرها أوج عنفوانها وبدأ يزول الخوف تدريجياً ويحل مكانه شعور بالرغبة الشرسة في الانتقام من الجميع، أحست بأن العالم خذلها وهي تواجه مصيرها لوحدها، وزاد من مشاعرها المتفجرة موجة غضب اجتاحتها تجاه سمر يام والفريق الركن ومايك، الذين أوقعوا بها في هذا الفخ، اعتقدت أنهم تواطئوا ضدها وحشروها في هذه الصحراء الموحشة مع الغبار والعقارب والوحدة القاتلة "ماذا فعلت لي الملايين المكدسة في حسابي للخروج من هذا الفخ؟" قفزت فكرة خاطفة بينما كانت في قاع اليأس، تواردت الأفكار بعدها، هل تنتحر بعملية عسكرية وتترك الملايين في حسابها؟ "كيف لم أفكر بذلك؟" تناهت وقع أقدام في الخارج وسمعت صوت مذياع يتحدث عن انتفاضة في منطقة "الأنبار" كانت المرة الأولى تسمع فيها خبراً من الخارج وشعرت بأن ثمة أحداث تدور ولا تعلم بها نتيجة العزلة، ربطت بين الخبر والحسابات المالية المكدسة لديها "لا يعلم هؤلاء الذين في الخارج ما أملك؟" تواردت الأفكار وبدأ الثقب يتسع في النافذة الخيالية التي فتحت في رأسها، أيقنت من أن هدف مايك من فتح الحساب لها ليس فقط حماية أمواله، بل حمايتها هي، حتى الفريق الركن حازم عبد الرحيم كانت لدية خطة لها وهو يقول لها ستحملين حياتك على كفك "الآن حياتي على كفي"
عندما هم أحد الرجال باقتيادها للخارج، توقفت عن السير خلفه وأثار ذلك رد فعله بالقول.
"تنتظرين مني جرك بالقوة"
ابتسمت له وقد استدرجته للاقتراب منها وحين عاد للوراء أسرعت وأغلقت الباب خلفهما وسط استغرابه، لاحظت الذعر على وجهه، فردت بسرعة قبل أن يتصرف برد فعل معاكس يثير الخارج.
"أنت تعرف ماذا يحصل في الأنبار، أنا مستعدة لتمويل الانتفاضة بالملايين"
قالت ذلك ووضعت مصيرها في كفها، تعرف أن المنطقة كلها تتعاطف مع ما يجري في الأنبار، وهي بذلك دفعت ثمن مجازفتها، كانت مجازفة قاتلة، لكنها وجدت في الرجل الذي يتحدث لهجة العشائر، وقد ميزت خلفيتها، فرصة في سبر غوره، لعل ثمة صدفة تجمع بينه وبين ما يجري في الخارج، كانت قد التقطت الخبر الذي أشاعه المذياع وطورت الفكرة في رأسها، فهو لا يعرف أنها التقطت الخبر من المذياع الذي كان يبث من بطارية، ولن يربط بينها وبين سماعها للخبر، حينئذ رأت ردة فعله الأولى علامة استفهام صارخة كأنها ضربة فوق الرأس، تسمر في مكانه والتفت حوله ليتأكد من عدم وجود من يترصد، أقترب منها وتعمدت رسم ابتسامة مزيفة على وجهها رغم دقات قلبها المتلاحقة لكنها أخفت تلك الموجة المرعبة وراء نظرة ثاقبة تعمدت اصطناعها علماً بأنها من الداخل كانت ترجف ذعراً.
"من أنتِ؟"
"يسرا القرمزي"
ران صمت مطبق وسط نظرات ساهمة من الرجل الأربعيني، كان شعره منسدلاً من الخلف بينما كانت بداية الصلع في المقدمة، ظهرت حبيبات من العرق على جبهته رغم تحسن الطقس وانقشاع الحرارة النهارية، لاح لها صدمته من سماع ذلك "بدأ مفعول السحر" قالت في داخلها وأسرعت بضرب الحديد وهو ساخن.
"نفذ الأوامر المطلوبة منك ولكن أبلغ سراً أي ممن تثق فيهم بإطلاع العشائر عن مكاني، ولن أنسى لك هذا المعروف، لكل مجازفة جائزة في النهاية"
خشى الرجل أن يكون قد تأخر على اصطحابها، أشار إليها بالخروج معه من دون أن تعرف رد فعله ولا ماذا ينوي أن يفعله ولكنها سلمت أمرها للقدر بعد هذه المحاولة الأخيرة في إنقاذ نفسها من الإعدام الانتحاري، سارت وراءه بخطوتين وهي تهمس في إذنه بآخر أوراقها المتبقية.
"مئة ألف دولار وحدك"
****

( 7 )
"يسرا جبار الشريف القرمزي"
تردد اسمها في القنصلية البريطانية بالبصرة وتحركت ماكينة الاستخبارات والمعلومات تحشد الرجال للتنقيب في أوراق المرأة البريطانية المختفية منذ أكثر من سنة، ظلت الخطوط الهاتفية شغالة طوال الوقت بين البصرة والمحافظات الأخرى، لكن التركيز جرى على البصرة إثر المعلومات غير المؤكدة الواردة للاستخبارات العراقية والبريطانية عن تواجدها في البصرة، بدأ البحث والتنقيب على إثر بلاغ لا أحد يعلم كيف ورد للسفارة البريطانية في بغداد عن اختفاء مواطنة بريطانية من أصل عربي، كان هناك من يقول من المخبرين بأنها اختطفت بينما كانت تقوم بعد صفقات أسلحة لرجال المقاومة السنية، وبعضهم نسبها لرجال النظام السابق من البعث والعسكريين، بينما قال البعض بأنها متواطئة معهم وصنفها في خانة الإرهابيين، بل وذهب بعضهم أبعد من ذلك بأن قام بوضع خط أحمر بالقلم تحت اسمها وكتب تحته "يسرا الإرهابية" سارت معلومات القنصلية البريطانية في اتجاهين، اتجاه يجري البحث عنها باعتبارها مواطنة بريطانية مختطفة واتجاه آخر كان يبحث عنها باعتبارها مواطنة تحمل الجنسية البريطانية، مطلوب القبض عليها بصفتها إرهابية، لكن الاسم أخذ يتردد في أكثر من بقعة فيما ظلت هي لغزاً بعد خروجها من المنطقة التي كانت محتجزة فيها، وصل الخبر لبعض التجار وأصحاب الصالونات الراقية التي كانت هي من روادها في مدينة دبي، أثار ذلك موجة تساؤلات لدرجة ظن البعض أنهم وقعوا في مأزق من خلال التعامل معها قبل اختفائها.
في بريطانيا تسلل أحد المحققين إلى ملفاتها لدى فندقي "الهوليدي إن" في لندن و"كينغستون" وعبث بالمعلومات ثم جرت عملية تنقيب سرية في علاقاتها من دون أن يثير ذلك انتباه زملائها وزميلاتها من العاملين الصغار، كان الاهتمام بها يتزايد كلما اتسع نطاق التحقيق ولم يصل لنتيجة عن مكان وجودها، كل ما كان يتردد على ألسنة البعض عبارتي "يسرا البريطانية" أو "يسرا الإرهابية" بحسب تشخيص ومزاج الأشخاص الراصدين لأخبارها، شخصية واحدة كانت تعلم بكل ما يجري حولها إنه الشيخ، وهو اللقب لأحد رجال العشائر، فيما عدا ذلك ظل شبح يسرا البريطانية يحوم فوق رؤوس كثير من الأشخاص في أكثر من دولة ومدينة، فكان أسمها متردداً في لندن وبغداد وفي دبي، بل وهناك من وصلته شائعات حولها عن طريق السفارة البريطانية في البحرين، غير أن الصمت يلوذ بالجميع خشية التورط حين يجري ترديد اسمها، أصبحت يسرا القرمزي عنوان الأخبار السرية غير المعلنة، باستثناء خبر ورد في صحيفة "الجارديان" البريطانية حول المواطنة البريطانية التي يجري البحث عنها، وفيما انتشرت الأسئلة حولها ظلت الأجوبة معلقة، وخلف كل هذه الأبواب المغلقة كانت هناك غرفة واحدة سرية يجري فيها تداول اسمها، مكتب الفريق الركن حازم عبد الرحيم الذي شهد لقاءً بينه وبين رجل دين سني، كان في الخمسينات من العمر، له وجه طويل ونحيف ظهرت بعض الشحوب عليه، تكسو وجهه لحية خفيفة يعلوها الشيب في بعض المناطق وبدا من سماته مسكوناً بالجمود من أي تعبير، قال له وهو يتعمد عدم النظر في وجهه مباشرة.
"لقد ورطت هذه المرأة الجميع وكشفت عورتنا"
لكن الفريق الركن الجالس خلف مكتبه والذي بدت عليه الثقة، رد عليه بنبرة تحمل عتاباً وتوبيخاً.
"لا لم تفعل أكثر مما كان متوقعاً، لقد كنتم في فوضى قبل وصولها، وهذه نتيجة عملكم غير المنظم"
"على العموم نحن غير معنيين بها، ما يهم متى تبدأ العملية الكبرى؟"
ضحك الفريق الركن ثم قال ممازحاً الرجل.
"سمها الجهاد الأكبر"
رد ببرود غير عابئ بمزحة الآخر.
"لم تجب على سؤالي؟"
فكر الفريق الركن ثم جال بنظره لبرهة وقال بحسم.
"حينما تأتي الإشارة من الجيش"
انحرف الحديث عن يسرا ودخل متاهة الأسرار بينهما ولكن حازم عبد الرحيم أعاد الموضوع لبدايته وهو يسأل كمن لا يملك الخيط.
"ماذا ستفعلون بشأنها؟ لقد وعدت الرجل الكبير بالحفاظ على حياتها وإن وقع لها حادث فقد يحدث انقلاب في العلاقات"
"هل كان من الضروري أن يراها في هذا الوقت بالذات الذي يجري فيه التحضير للعملية الكبرى؟"
كان ضباب لندن الصباحي قد خيم على الجميع وعلى أثر ذلك ساد الظلام محدثاً العتمة التي امتدت لأكثر من أسبوع، استمر خلالها المطر يهطل بلا انقطاع واحتجبت الشمس لعدة أيام وترك ذلك بصماته على وجوه البعض في شكل رتابة خلفت بدورها ما يشبه الكآبة، صحت لندن ذلك الصباح وعناوين الصحف البريطانية تحمل خبراً مثيراً لكل من يعيش على الأرض البريطانية "التحقيق مع مايكل محمد" كان الخبر وحده كافياً ليوجه الأنظار إلى المواطنة البريطانية يسرا القرمزي التي كانت على صلة به وقد دفع ذلك الخبر الفريق الركن ليسأل رجل الدين القابع أمامه والذي بدا في حيرة من أمره كما لو تذكر الخبر للتو.
"ما صلة هذا الرجل بها؟"
كان الهدوء يسود الغرفة ويكاد يسمع صوت الأنفاس، مرت فترة وجيزة قبل أن يرد الرجل الآخر قائلاً.
"يسمونه رجل الساعة"
رد الفريق الركن وقد نهض وأخذ يدور في المكان فيما الآخر ظل مكانه ولكنه استدار وهو على مقعده ليتابع الحديث معه.
"من هو مايكل محمد؟ لا تقل لي من القاعدة فستكون كارثة على الجميع"
لم ينته الأمر بعد ذلك، فقد ظل العنوان الرئيسي لأحاديث الصالونات والمجالس والمكاتب في كل من لندن وبغداد ودبي هو يسرا القرمزي، أين اختفت؟
هي وحدها تعلم أين تكون، لكن ذلك ظل لوقت طويل سر الشيخ.

****
( 8 )

ردت على الشيخ المهيب، وهو اللقب الذي يناديه به رجاله من الحرس والمستشارين والمرافقين بهدوء ومن غير تكلف قائلة.
"عانيت خلال هذا الشهر كما لم أعانِ كل هذه السنين، لقد كان الجميع متوترين ولا أعرف سبباً للأمر، لكن الجماعة هنا أكرموني"
له عينان سوداوان تشبهان عينا الصقر، تنفذان بريقاً يشبه الشرر، أنفه الطويل يمتد للأعلى ويعلن عن مظهر للشموخ، لحيته البنية اللون، خفيفة للغاية تختلف عن كل اللحى التي عرفتها من رحلتها الشاقة عبر المناطق والبراري والكهوف، كان يرتدي دشداشة بيضاء رغم برودة الجو بعض الشيء، مع غترة وعقال كتلك التي يرتديها سكان الجزيرة العربية، وقف في المكان الواسع الذي بدا على هيئة ساحة محاطة بالسيارات "البكيب" والعربات، يعتليها رجال ملثمون، بعضهم حمل الأسلحة الرشاشة الخفيفة، لم يكن المكان مرصوفاً بالإسفلت، ما أثار الغبار في الوجوه كلما تحركت السيارات، كانت يسرا تقف أمام الرجل وحولها عدد من الرجال اكتفوا بالمراقبة فيما كان الحديث يدور بينها وبين الشيخ.
"حمداً على سلامتك"
قال عبارته بنبرة مقتضبة وتمعن في وجهها ثم استطرد.
"المنطقة كلها على كف عفريت بما فيها الدول، وأنت فيها كقطرة في بحر، كيف انزلقت بك الأمور إلى هذا الحد؟"
أشارت بيديها في الهواء علامة إلى عدم فهمها للأحداث التي جاءت بها إلى هنا، كان وجهها شاحباً وعينيها متعبتان وبشرتها بدت صفراء ميتة وجسمها ظهر هزيلاً نتيجة التجويع، ما دفع الشيخ ليسألها.
"لم يطعموك؟"
"بلى ولكن نفسي مسدودة يا طويل العمر"
التفت الشيخ لأحد المقربين منه وهو ساعده الأيمن كما بدا من وقفته، وترقبه لإشاراته، وقال له بلهجة تنم عن الاهتمام البالغ بها، كما لو كان يعد لها ترتيباً ما.
"صباح، خذ رجالك واذهب بالسيدة الكريمة لبيت النساء ولا يعلم بها أي كان خارج الدائرة، وسأكلف البيت بالباقي عن طريق الهاتف"
رد صباح بعبارة مختصرة.
"أبشر يا طويل العمر"
على بعد أمتار كانت هناك رقعة أرض مهجورة، تكدست فيها الأنقاض من أنابيب حديدية وسيارات قديمة وعربات عسكرية مدرعة شبه محطمة، بعضها بدا صالحاً للاستخدام، ظهر بضعة رجال مدنيين مسلحين بالبنادق الآلية الخفيفة، لفت انتباهها هذا المظهر ورأت فيه خلافاً ما كانت تراه في المجموعات المسلحة التي انزلقت معها منذ البداية من خلال خيوط لندن ودبي، لم تكن هناك لحى طويلة ولا شعور كثيفة على الرأس، لم تر التوتر المزمن يتملك أولئك الرجال كالذي لمسته منذ وطأت قدماها مخيمات اللاجئين والكهوف المهجورة في المناطق النائية التي تعبرها قوافل سيارات"البيكيب" و"الجيب" المدججة بالمدافع الرشاشة المتوسطة، راح عقلها يقرأ الصور ويربط الخيوط، تذكرت أن الرجل الذي فتح لها الطريق نحو هذا المكان كان في الأصل منظم مع المجموعات الأخرى الموتورة والتي كادت تعدم هناك، لولا مجازفتها وإلقائها بورقتها الأخيرة التي عتقتها من الموت، طفقت طوال الوقت وهي تنتظر إرسالها إلى بيت الشيخ مع النساء، تتأمل التحركات والاتصالات واللهجات التي طمأنتها وشعرت من خلالها بأنها في ديارها، قارنت بين لهجات المجموعات الهاربة منها والتي اكتست بالغرابة والغموض وبين اللهجة البغدادية ولهجت أهل "الأنبار" و"الرمادي" و"الفلوجة" وغيرها من مدن الوطن "أنا في أرضي أخيراً" ولكنها في داخلها لم تطمئن لما يخبئ لها المجهول، لقد اعتادت على المفاجآت المخيبة للآمال، بداخلها ذات الحدس المخيف الذي ينبئ عن استمرار النحس يلاحقها، لم تقوِ الملايين في حساب رصيدها التي هبطت من السماء وعمليات التجميل التي أجرتها وتهريبها من الإعدام، في إعادة التوازن بداخلها، بدا الكون كله عبارة عن فخ هائل تسقط فيه كل مرة تنهض منه، كهذا الغبار الذي يتطاير أمامها من الساحة الترابية المليئة بالناس والسيارات والأسلحة، بدا الوضع كأنه بركان يغلي ويوشك على الانفجار، ثمة في الأفق ما ينبئ بأحداث جسام تظهر علاماتها على الوجوه وفي هذا التواجد المكثف للرجال والأسلحة وعبر العواطف المنفلتة والتي تبدو في مشاعر الناس وفي تحركاتهم وكأن هناك ريموت كونترول يحركهم، وهذا ما بدا من سلوك صباح مساعد الشيخ الذي حركته أوامر الشيخ، وليست سوى دقائق حتى عاد بسيارة، "مرسيدس"رصاصية اللون، توقفت، هبط منها واقترب بعد أن فتح باب السيارة الخلفي وأشار إليها بالدخول "مجازفة أخرى قادمة" على إيقاع هذا الشعور، استرخت بداخل السيارة وشعرت بحرارة مقاعدها الجلدية السوداء، لفتحتها رائحة تبغ خفيفة بدا لها أن هناك من كان يدخن بالسيارة، لم تستطع تمييز رائحة التبغ وخمنت أن يكون نوعاً من السيجار الرخيص لأنها تعرف نكهة السيجار الفاخر منذ التقت "بمايك"، للحظة وعلى إيقاع رائحة التبغ، تذكرت الرجل الذي لم يعد حدسها ينبئها عن مكانه ولا ماذا حدث له؟ اكتفت بالصمت ومراقبة الجموع البشرية في الخارج من نافذة السيارة، رأت جزءاً من وجه الشيخ يقف كعادته شامخاً تعلو وجهه سمات التحدي ومن حوله الحشد، مرت دقيقتان تقريباً قبل أن تتحرك السيارة، اتجه خلالها صباح للتحدث مع الشيخ، لمحت وميضاً من حركته تراءى لها أنه كان يهمس في إذن الشيخ، ثم عاد مسرعاً وركب السيارة وانطلقت، لتتبعها ثلاث أو أربع سيارات من نوع الجيب والبيكيب كما هو الحال في كل السيارات التي يقودها رجال الشيخ.
"ما اسم الشيخ؟"
رغم انشغالها بالتطلع عبر النافذة للشارع الذي انطلقت فيه السيارة والسيارات المرافقة، إلا أنها لم تمنع نفسها من طرح السؤال العالق برأسها منذ ساعة وقوفها أمام الشيخ ولم تسمع خلالها أحداً ينطق باسمه أو يتحدث عنه سوى بالشيخ، كان صوتها ضعيفاً يشوبه الوهن وخرجت منها العبارة تعلوها حشرجة سببها غبار الطرق والبراري التي قطعتها طوال فترة تنقلها في السيارات وعبورها الطرق الوعرة وحبسها في الغرف الطينية القديمة والضيقة، ملأها إحساس بالراحة والطمأنينة لرؤيتها البنايات والمنازل والمارة والهدوء الذي يسود الطريق رغم الإحساس بأن ثمة أمر يحضر من خلال السكون المريب الذي يطبق على كل شيء مرت به السيارة، ويبدو جلياً في حركة الناس والسيارات والوجوه التي تعلوها سمات الغضب.
"نناديه بالشيخ لأنه رئيس العراق الآتي"
ذهلت من عبارة صباح الواثقة، خرجت من شفتيه كأنها قرار اتخذ وسار فيه الجميع، لم تكمل تنفسها وهي تتلقى العبارة الصادمة حتى جاءها صوته مستطرداً.
"هو الشيخ جاسم الذي يتولى قيادة العشائر السنية"
عندما انعطفت السيارة نحو اليسار، اصطدم بؤبؤ عينيها بخيوط أشعة شمس المساء المائلة للزوال، التي كانت رغم ضعفها إلا أنها حادة مع نهاية النهار، كان الطريق الذي عبرته السيارة غير معبد وشعرت وهي تلمح سلسلة المنازل الكبيرة والفخمة وقد بدا من مظهرها الخارجي تدل على حداثة المنطقة.
"من حسن حظك أن وصلت اليوم، ولو تأخرت بضع ساعات، لحشرت في مأزق، لكن الله ستر"
أحست بأن الرجل يسعى لفتح حديث معها من دون أن يقتحم خصوصيتها، وبدورها وجدتها فرصة لتعرف ماذا جرى في العالم خلال فترة احتجازها، كان التوتر لمسته مع محتجزيها يوحي بتطورات لم تطلع عليها وهي حبيسة الحجيرات المعتمة، فأمسكت بطرف خيط الكلام وقالت بصوت هادئ بعد أن خف حدة قلقلها.
"أفقت فجأة ووجدت نفسي بينكم، أشعر بأني وسط أهلي"
"الحمد لله، لقد كنت محظوظة والله يحبك"
لبرهة ساد الصمت ثم استرسل صباح قائلاً.
"ستجدين الرعاية في البيت الكبير إلى أن يكتب لك العودة للمكان الذي تنتمين إليه بضمان الشيخ حفظه الله"
"هل يعلم بأني مواطنة بريطانية؟ ولو علموا، هل سيغير ذلك من وضعي؟" وعلى إثر أسئلتها الداخلية مع نفسها، قفز إلى ذهنها مصير جوازها البريطاني الذي احتجزه حارسها ووعد بحمايته، وجدتها فرصة لتسال صباح كيفية استرجاع الجواز من غير أن تخبره بجنسيته قبل أن تمضي الأيام وتيأس من استرجاعه.
"لقد أخذوا جوازي"
التفت إليها وهو يقترب من منزل كبير يقع في طرف الطريق المفتوح على رقعة أرض واسعة غير مأهولة، بدا من مظهره الخارجي أشبه بالقصر.
"لا داعي للقلق، الجواز مع الشيخ، لقد استرده رجالنا"
خفق قلبها وعادت لصمتها وابتلعت نفسها "يعرفون هويتي" وماذا لو عرفت بالضجة حولها؟ ماذا لو عرفت ما يجري في لندن و"كينغستون" وتحقيقات المخابرات البريطانية؟ لا شك أنها حالمة الآن بالعودة "لكينغستون. كل الأفكار كانت تنبع من هذا الشعور تجاه تصريح أدلى به الفريق الركن فيما يخص والدها وتركها بعدها تخوض كل هذه المغامرات والمجازفات من هذه النقطة "هل كانت كذبة؟" لم تطل الحديث مع صباح فيما يخص جواز السفر، كانت موقنة بأنها على الأقل خرجت من دوامة الإعدام، زالت الغمة من حولها ودخلت دائرة العتمة وهذا على الأقل أفضل من المراوحة في محيط الموت.
"ستكونين بمأمن هنا حتى يكتب لك الفرج وهو آت بإذن الله تعالى"
قال العبارة وهو يسلمها للمرأة الكبيرة التي يطلق عليها "أم صقر" كانت سيدة أربعينية مكتنزة الجسد بصورة رشيقة، راقية المظهر، ذات هيئة وقورة، استقبلتها بابتسامة حانية كشفت عن أسنان بيضاء وكأنها تعرفها منذ زمن، كانت ترتدي ملاءة سوداء تضعها على رأسها من دون حجاب وقد برزت خصلات شعرها الأمامية ذهبية ناعمة، ولدى تقدمها منها وحولها بضعة نساء مختلفات المظهر والحجم ومتفاوتات السن، أمسكت بيدها وقربتها منها تتفحص وجهها قائلة.
"بنيتي، لاشك أنك عانيت الكثير خلال الأيام المنصرمة"
لمحت يسرا وجوه النسوة الأخريات ينظرن إليها بعلامات استفهام وترقب ولاحظت أحداهن صغيرة السن ظلت مشدودة نحوها وعيناها معلقة بها طوال الوقت، وحين ركزت التأمل فيها وجدت نفسها تواجه وجهاً أليفاً يذكرها بوجوه فتيات الزبير ومنهن صديقاتها في المرحلة الثانوية "يا سبحان الله" همست في سرها ومازلت تطرق النظر نحوها بين فينة وأخرى إلى أن انتبهت أم صقر لنظراتهما المتبادلة، أفسحت حينها فجوة وأشارت للفتاة بالتقدم وتوجهت نحو يسرا بالكلام قائلة بنبرة مازحة.
"بنتي ريم لا تتصوري هوسها بالمجازفات، أخشى عليها من والدها بو صقر الذي شجعها على المغامرة ومسك السلاح"
"ماما، حياتنا كلها مجازفة اليوم"
ردت أم صقر قائلة وهي تنفذ بنظرة ثاقبة للفتاة وتعود بابتسامة نحو يسرا.
"تخرجت من الجامعة دبلوم اقتصاد وانخرطت مع والدها في السياسة، انظري لها، سنها للزواج وحتى اللحظة تفكر بالأسلحة"
ثم التفتت نحو يسرا قائلة بنبرة من يريد إنهاء الحديث.
"أنت مرهقة بنيتي، سندعك تغتسلي وتبدلين ملابسك ولا تقلقي ما دمت هنا في منزل الشيخ"
نطقت المرأة كلمة الشيخ بفخر مثلما ينطقها بقية الرجال، وقبل أن تتوارى خلف الجدران لمحت نظرة ذات مغزى من ريم وكأنها توحي بإعجاب كما لو كانت تعرف مغامرتها، ذكرتها الفتاة بنفسها قبل سنوات وشعرت نحوها بعاطفة جياشة وخشية عليها من المجهول كالذي حمله لها عبر السنين، ومن نتيجته وجودها في هذا المكان الذي لا تعرف أين؟
في خضم عتمة الليل، تسللت أضواء شاحبة في الخارج من حول المنزل الذي تحيط به عدد من السيارات المختلفة الأحجام والألوان، استقرت يسرا في ليلتها الأولى على فراش وثير من القطن في غرفة واسعة أشبه بصالة تتسع لعدد من الأفراد، لم تتأمل الغرفة كعادتها فقد كان انتباهها في جهة أخرى من العالم، كانت تسرح الفكر باتجاه "كينغستون" والعودة لحياتها الطبيعية البسيطة حتى لو سحبت الملايين من رصيدها الذي حتى اللحظة لا تعرف مصيره بعد سلسلة الأحداث التي مرت بها، اكتفت بالتقاط أنفاسها وتأمل سقف الحجرة المزينة جوانبها العليا بإطار من الجبس المنقوش باللون الذهبي، كان السقف أبيض اللون تتوسطه ثلاث نقشات كبيرة لورود محمدية ذكرتها بشجيرات الورد المحمدي في منزل الزبير، مرت الأفكار تسرح كالخلايا بالآلاف تعبر رأسها من كافة الأمكنة ولأشخاص، قفز مايك، وسرح بها بعيداً، تخيلته في مدينة أوروبية هارباً، ثم اجتاحتها أفكار وهو في سجن بريطاني يخضع للتحقيق، ثم انتقلت للمرأة المنقبة خضرة المياس ومصيرها وما عانته بسببها، وسرعان ما انعكس تفكيرها بجهة الفريق الركن حازم عبد الرحيم وكذبته أو صدقه بشأن والدها الذي ما زال حياً يرزق بحسب قوله، توقفت عند سمر يام وكيف توارت نهائياً من المشهد وكأنها شبحاً عبر حياتها لفترة وجيزة ثم ذاب في ضباب الليل الداكن، كانت عيناها مفتوحة على السقف عندما استقر تفكيرها في الشيخ جاسم، تخيلته بهيبة والدها جاء من مسافات بعيدة لينقذها من إعدام محقق، رأت في الشيخ حلماً لرجل طالما طاول خيالها وشكل لها نبراساً للرجال الذين تصورتهم أسطوريين وحلمت بواحد منهم وقد استقرت معه في منزل واسع كهذا البيت الذي يؤويها اللحظة "يا له من أسطورة رجولية" سرحت في وجهه السمح المكتنز بالصرامة وفي لحيته الخفيفة السوداء المختلطة بالبياض والمشذبة بعناية "جاء ووقف أمامي ومضى كأنه حلم" ودت لو تتاح لها الفرصة وتجلس أمامه وتتأمل وجهه بصمت من دون أن تتحدث إليه، كان صمته لغة توحي بالكثير من الكلام، وعينيه كعينا النسر تأسر الوجوه أمامه " لقد أنجب الفتاة ريم التي عيناها تقدح شرراً وقد استمدتها منه بموروث قوي برز فيها ولكن بعفوية الفتاة المراهقة" هكذا تخيلتها وهي تسرح في والدها الشيخ جاسم.
مضت ساعات الليل، ولاح الأفق يبزق من خلف الشمس من دون أن تسمع آذان الفجر، خمنت أن المنطقة حديثة العمران ولا توجد بها حتى الساعة مساجد تصدح بالأذان كما اعتادت في كل الأمكنة التي مرت بها، لا شيء معها يشير للوقت، لا ساعة ولا هاتف جوال ولا جهاز، كأنما أردوا لها أن تستقر وتهنأ بالهدوء بعيداً عن ضغط الوقت، نهضت واقتربت من النافذة، أزاحت الستار وفوجئت بالسيارات وقد انسحبت جميعها من حول المنزل ولم يتبق سوى رجل طاعن في السن يقود خمسة من الخراف بعيداً عن المكان "ربما هذه الخراف هي وجبة رجال الشيخ لهذا اليوم"
كان الوقت مبكراً، تناهت إليها بضعة أصوات لبعض سكان المنزل وقد صحوا منذ الفجر، لم تميز بينهم أصوات محددة وأدركت أن الحركة تبدأ منذ الفجر وقبل شروق الشمس، فكرت في كيفية قضاء الوقت كله في المنزل؟ ولكن بمجرد أن طاف برأسها شريط الاحتجاز أيقنت بأنها لن تتذمر حتى لو قضت الدهر كله في هذا البيت.
خارج الأسوار وبعيداً عن هذا المكان بمسافات واسعة، ثمة بحث وتقصي عنها واتصالات تجريها الخارجية البريطانية عن طريق سفاراتها وقنصلياتها في كل من دبي وبغداد والبصرة، لا تعلم هي بها ولم يخطر ببالها كل هذا التحقيق حولها، مازالت تظن أنها محصورة وسط الدائرة السرية التي جاءت منها، كان هاجسها الجواز ومعرفة الطريق للندن ولو عرفت بما يجري لفضلت التريث والبقاء هنا وسط النسوة اللواتي ينتمين لديارها، ورغم فقدانها أوراقها وكل محتويات حقائبها أثناء عبورها البراري والصحارى إلا أن شغلها الشاغل هو الجواز، حتى بطاقات السحب ودفاتر الشيكات لا تعلم أين انتهى بها المطاف؟ وفيما هي تفكر بكل تلك المفقودات، كان مقر السفارة البريطانية في بغداد يشهد حركة تبادل الاتصالات مع أكثر من جهة في العالم من بينها العاصمة البحرينية التي كانت خلالها السفارة البريطانية هناك تتلقى التعليمات بالإعداد لنقل يسرا القرمزي إلى لندن عن طريق المنامة في حال التوصل لمعلومات عن مكان تواجدها، ظهر في الأفق ثمة خيط أمسك فيه التحقيق بدأ من مطار الإمارات بدبي، حيث غادرت منه في المرة الأخيرة وكانت وجهتها العاصمة الأردنية عَمان، فشمل التحقيق الأردن، وتوصل عن طريق مراكز الإغاثة، عن عبورها إلى سوريا والعراق وهنا بدأت الخيوط تتسع وتتشعب قنوات البحث لتشمل الحدود وخيام اللاجئين وسكان المناطق الحدودية وأخيراً توصل التقصي بأنها شوهدت آخر مرة بقرب الحدود مع كردستان العراق.
"الشيخ طلب رؤيتك"
نظرت لوجهها في المرآة على إثر الطلب، تأملت البثور التي ما زالت آثارها مطبوعة على وجنتيها، لمست شعرها وهالها حالته الرثة رغم مظهره الطبيعي لكنها شعرت بتقصفه، الشيخ يطلب رؤيتها وشعورها بعدم الاستعداد لمقابلة أي إنسان وهي بهذه الحالة زرع فيها الإحباط الذي لاحظته أم صقر من ردة فعلها، وسألتها عن سببه وبعد تردد فاتحتها بشعورها الدفين تجاه نفسها ومظهرها، ابتسمت لها كعادة شفتيها اللذين لا تفارقهما الابتسامة منذ أن رأتها، كانت المرأة ودودة لدرجة لا تقارن بمن مررن عليها من النساء، عرفت بعد ذلك أنها تنتمي لعائلة عريقة جذورها في السعودية وتنتمي لقبائل العرب في الجزيرة العربية، مر في حينها شبح سمر يام التي قالت إنها تنتمي لعشائر "النيادة" لكن هذه المرأة البغدادية لا تضاهيها امرأة من حيث الود والطيبة، هكذا كانت تراها طوال الوقت مما سهل عليها الاندماج معها والتصريح لها بمكنون مشاعرها.
"هذا ما يقلقكِ يا بنيتي؟ كلها يومين أو ثلاث وتعود إليك نضارتكِ، دعي الأمر لي"
استغربت من تأجيل لقائها بالشيخ وخمنت بأن وراءه أم صقر التي استعانت بابنتها ريم وكرسا يوماً كاملاً شغلتا وقتهما في العناية بها، بدأتا بأخذها لصالون نسائي يبعد أكثر من أربعين دقيقة عن المنزل بالسيارة، تركتها أم صقر مع ريم فيه وعادت أدراجها بعد أن تركت ثلاثة من رجال الشيخ يحيطون بالصالون ومعهما سيارة جيب تقف على بعد من المكان، لم يكونوا مسلحين ولكنها اكتشفت إثر عودتها مع ريم وجود السلاح بالسيارة، تم غسل شعرها وتجفيفه ثم دعكه بمواد عشبية بعدها تم تسريحة وتم تقشير بشرة وجهها ووضعت كريمات لمدة دقائق ثم أزيلت وأعيد دهن بشرتها بكريمات أخرى، قضت أكثر من ثلاث ساعات بلا توقف مما دفعها للتساؤل عن سبب هذا الاهتمام غير المبرر "من أكون حتى يكرس الكل وقته لي؟" كانت تدرك من حالة الأسرة المادية الميسورة، أنه من غير الوارد على أن الأمر له علاقة بمالها، هذا إن كانوا يعلمون شيئاً عنه، بدا لها مستوى الثراء الواسع الذي تعيش فيه الأسرة من خلال مظاهر البذخ، من سيارات وحرس وحياة مترفة بالإضافة للنفوذ الذي يحيط بالشيخ جاسم "إذن ما الدافع وراء كل هذا الاهتمام بي؟"
بعد يومين على تلك الأسئلة التي عصفت برأسها وقفت تلك الأمسية الهادئة أمام الشيخ جاسم الذي نهض من مقعده الكبير الواسع لدى ولوجها الصالة الكبيرة الملحقة بمبني تراثي قديم يقع عند منعطف الشارع الرئيسي من المدينة التي عرفت فيما بعد بأنها ضاحية من ضواحي الأنبار" كيف وصلتُ هنا؟ "قالت في سرها من دون أن تعرف أخبار المدينة ولا التطورات فيها.
" سأغادر غداً المكان وستذهبين معي، لقد كان حلمك رؤية الزبير، لكن الوصول للبصرة محفوف بالمخاطر، سنأخذك لقطعة من الزبير في مكان آخر"
هذا كل ما صرح به الرجل الكبير، لكنه زرع في ذهنها عشرات الأسئلة والاستعلامات، وتركها في حيرة بين التوتر غير المصحوب بالخوف كما في السابق ليقينها بوجودها في أمان مع الرجل وبين الشعور بالضياع والمتاهة التي تتسع كل يوم مع فقدانها جواز سفرها وأوراقها وكل ما يتعلق بهويتها وشخصيتها، كانت تشعر بأنها لم تعد، لا يسرا البريطانية، ولا يسرا ابنة الزبير، ولا بشيء يوحي أنها تنتمي لبيئة ما، رغم ذلك كانت مستقرة المزاج وشاكرة نعمة الخروج من دائرة الموت الذي مازالت تراه كل ليلة في أحلامها الكابوسية "ماذا عن لندن؟" لا أحد يذكر لها المكان الذي جاءت منه، ولا إشارة أو دلالة على أنها ستعود إلى بلد الضباب "هل سأبقى هنا للأبد؟" أجلت البحث عن إجابة على هذا السؤال إلى حين ترى بارقة ضوء في نفق المجهول الذي تسير فيه، كرم الشيخ لها مع رعاية أسرته ورجاله لها وحمايتها أبعدها عن إثارة الفضول والبحث عن إجابات، كانت ترى الوضع غير مستقر في المنطقة وتسمع عن الاحتجاجات والمصادمات من خلال الفرصة التي تتوفر من حولها، إذا بدا لها أن هناك اتفاقاً بين الجميع على إحاطتها بالرعاية من دون اطلاعها على التفاصيل بما يجري حولها وفي المكان كله، هذا المناخ أسدل على أفكارها الهدوء وسبغ عليها الرضوخ للحالة التي هي عليها "سنأخذك لقطعة من الزبير،ماذا عنى بذلك؟ أيكون للرجل صلة بمن أفكر فيه؟" شغلها هذا الموضوع طوال الطريق الذي قطعته قافلة السيارات عبر توتر بدا واضحاً على وجوه الرجال، لم تر الشيخ خلال مسيرة القافلة، ولم تسمع عنه، ما نبش التوتر في نفسها، ثم ازداد توترها وأضيف عليه القلق خلال عبور المسافات الوحشية التي تباينت خلالها المواجهات والأحداث من غير أن تفقه شيئاً مما يدور، كانت تلمح السيارات تنطلق بسرعات خيالية تقطع المسافات مخلفة وراءها الغبار الذي سرعان ما ينقطع إثر بروز الطرق المعبدة وبعدها تخفض السرعات وأحياناً تتوقف ولا تعلم ماذا يجري حينها، لكنها ومن خلال التجربة المروعة مع الموت الذي مرت به وعبر الوقائع والوجوه والأيام والليالي التي شهدت معاناتها، وُلد لديها حدس بما يجري"هل الجماعة في حالة هرب؟"
مع حلول المساء، وعند العبور من نقطة حاجز للجيش توقفت السيارات لبرهة، سمعت خلالها صوت مشاجرة وسباب لم تتبين تفاصيله، فقد كانت سيارتها على مسافة من نقطة الجيش "ماذا يجري في العراق؟" التفتت لأحد المرافقين، كان جالساً بجانبها آملة أن ترى في عينيه ما يطمئن، فرأت الابتسامة الباردة ذاتها والتي لا تعبر عن شيء، بعدها بدقائق اندفعت قافلة السيارات ورأت خلالها وجوه أفراد الجيش وأيقنت من أن أحداً لم يرها لوجود طبقة الكربون الداكن على زجاج السيارة، ولم تمضِ بضع دقائق حتى تناهى إليها صوت رشات من الرصاص تنطلق من عدة اتجاهات لم تتبين مصدرها وحينها دب القلق بداخلها وبدأ يساورها الشك في الطريق الذي يقطعونه، ران صمت أثر صوت الرصاص ثم تبعته حركة غريبة شعرت بها إثر انطلاق سيارتها بسرعة فائقة تجاوزت المائة وثمانين كيلومترا في الساعة، كان الطريق عبارة عن شارع عام تقع على جانبيه الأشجار، ظهرت سلسلة منازل متباينة الأشكال، لم تلمح سوى سيارة واحدة خلفهما من بقية القافلة واختفت بقية السيارات وبدا لها بأن هناك ثمة مشكلة ما حدثت، بعدها أيقنت من ذلك على إثر ظهور سيارة أخرى من طريق فرعي تابعة للقافلة وقد بدا الدخان يتصاعد منها، لم تملك كتم فضولها فسألت الذي كان جالساً على يمينها.
"ماذا يحدث؟"
ظلت الابتسامة الفاترة ذاتها عالقة بشفتيه، تنهد وقد بدا في غاية الهدوء وعدم الاكتراث، نظر في عينيها وقال بنبرة من يريد أن يطمئنها.
"أمر روتيني نمر به كل يوم"



#احمد_جمعة (هاشتاغ)       A.juma#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يسرا البريطانية (19)
- يسرا البريطانية (18)
- كعبة الشمس البرتقالية...!
- يسرا البريطانية (17)
- أنا والله وتغاني ...
- يسرا البريطانية (16)
- يسرا البريطانية (15)
- أي نحس ثقافي؟!
- يسرا البريطانية (14)
- رؤيتي المغايرة لأيلول الأصفر....!!
- يسرا البريطانية (13)
- يسرا البريطانية (12)
- يسرا البريطانية (11)
- يسرا البريطانية (10)
- نيويورك تايمز كذبت ضد صدام حسين...
- يسرا البريطانية (9)
- من مستنقع السياسة، إلى أزهار الثقافة...لنجرب!
- يسرا البريطانية (8)
- الرواية من منظورِ الحرية!
- يسرا البريطانية (7)


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - يسرا البريطانية (20)