أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - يسرا البريطانية (12)















المزيد.....


يسرا البريطانية (12)


احمد جمعة
روائي

(A.juma)


الحوار المتمدن-العدد: 6666 - 2020 / 9 / 3 - 02:42
المحور: الادب والفن
    


حل المساء وقد قضت طوال اليوم تجول في شوارع لندن "داون تاون" تحتفل بمغادرتها السياج الفوضوي لتستقر في كنف هدوء "كينغستون" تعبت من المشي والتطلع في المجمعات وقطع الشوارع سيراً كأنها المرة الأولى لها في المدينة الصاخبة، تنظر في الوجوه من أنحاء العالم، هذه الوجوه لا تصادفها في "كينغستون" فالملامح هناك إنكليزية بحته، عبرت باتجاه بيغ بن ثم انحرفت باتجاه الهايد بارك بعدها مرت على مقهى وتناولت شطيرة لحم مع القهوة ثم عاودت المشي من جديد، راحت تراقب الحركة في الشارع تأملت ساعتها وفجأة انتبهت للوقت، فأسرت بالدخول لأقرب محطة للبيع واشترت زجاجة نبيذ أحمر، توقفت عند صالة التزلج على الجدران، صورت بتلفونها بعض المواقف وكأنها سائحة عربية تسجل ذكرياتها قبل أن تغادر لندن، بعدها قطعت طريق العودة بالقطار عند الغروب بحلول الساعة السابعة وبضع دقائق، ومع تحسن الطقس في المساء إلا أنها شعرت بأنها ليست وحيدة في بريطانيا.
رن هاتفها فيما كانت تستعد للخروج من المدينة، الساعة أشارت حينها للثامنة ودقيقتين، من النادر أن يأتيها اتصال لأيام وقد أثارها صوت الهاتف في تلك الساعة، حملت الجهاز وللوهلة الأولى لم تتعرف على المتصل إلى أن جاءها صوت ستيف الذي يعمل مع مايك الباكستاني يطلعها على موعدها مع لجنة الجنسية، ثم سألها، متى يأتي ليأخذها مقترحاً عليها الساعة السادسة صباح اليوم التالي، اختلطت فرحتها بالخبر مع انشراحها لصوت الشاب الذي سبق والتقت به لدى زيارتها لمنزل مايك في "جيسنتين" لم يخامرها شك هذه المرة في موضوع الجنسية لعلمها بأن الباكستاني المحتال وراء التخطيط، لكن فاجأها أنه لم تكن سارة المتصلة التي سبق وأخذتها للمحامية نهى الزيني "هل تعمد ستيف الاتصال، لقد كان ينظر إلى بشيء من الاهتمام؟" حملت بداخلها بعض المشاعر السطحية من اللقاء الأول، لمحت في سماته هدوء ينم عن ثقة بالنفس كما إنه في غاية الوسامة لكنها صرفت النظر عن التعمق في الشعور، تنهدت مع رعشة في وجنتها واكتفت بحبس أفكارها في مسألة الجنسية وما سيتم بشأنها غداً.
انتهى اليوم التالي بما لم تكن تتوقع، وبعد أقل من أسبوع رن هاتفها وأبلغتها سارة بأنه تمت إجراءات الإقامة الدائمة، كانت نبرتها عادية وخالية من أي حماس كما لو أنها تبلغها عن نبأ تافه لا علاقة له بمصيرها، بدا صوتها كصوت أي امرأة إنكليزية من سلالة نساء يشبهن مارغريت ثاتشر، هكذا كانت تتخيلها يسرا في كل مرة تتعاط معها ولكنها لم تتصور أن تنقل لها الخبر المنتظر منذ الأزل بهذا البرود السقيم.
" انتهت ملحمة البحث عن جنسية".
قالتها المرأة الفولاذية كما تسميها يسرا في داخلها وتركتها وسط دموع طويلة وساخنة تنهمر لأول مرة فرحاً وليس حزناً كما دأبت خلال سنوات العمر المريرة، الاحتفال شمل الجميع، مايك ونهى الزيني وستيف وسارة وبالطبع هي، إذ حجز ستيف بأمر من مايك مطعماً هندياً يقع بشارع برايتون في "كينغستون" ودعا له زمرة من أصدقائه ومريديه، لم يكن الحفل ليسرا وحدها بالتأكيد، فقد اعتاد مايك أن يخلط المناسبات بعضها ببعض ويستغل المناسبة الواحدة ليجعها فرصة لتمرير أعماله من خلال عشاء يشمل الأحاديث والصفقات والأسرار وحتى التواعد بين بعض الوجوه التي تحيط به أو يستدرجها للمرح والعربدة، شعرت بأن هذا الأسبوع لابد أن يسجل في التاريخ، كان عبارة عن أوقات تفجر فيها بركان إعصار السنين كلها في شكل أمنيات بدأت تتحقق على غير المتوقع، تتالت الوقائع كأنها حلم لا تريد تصديقه، وبذات الوقت رغبت أن تغمض عينيها ولا تفتحهما للأبد حتى لا تصحو وترى الأمر سراباً في سراب " لكنه لم يكن سراب بل هو ثمن الرحلة الدامية من الزبير حتى كينغستون" أنفاسها وهي تتلقى الخبر تلاحقت مع زفرات حادة نفذتها من أعماقها واختلطت بدموعها التي لم توقف إلا عندما سمعت صوت جبار الشريف يأتي من وراء الحدود عابراً البحار والمحيطات والعوالم السفلى والعليا ويهمس بصوته الجهوري الدافئ "عفواً ابنتي كنت معك طوال الوقت".
هناك حفلان منتظران، الأول بفندق لندن والآخر بالمطعم الهندي في "كينغستون" "ماذا أفعل الآن؟"كانت حائرة ومشوشة، سعيدة وحزينة، كل المشاعر لا علاقة بعضها ببعض، كألوان قوس قزح تلونت الأحاسيس، الخوف من المنظور القادم والفرح بما تحقق والخشية من خسارة هنا أو هناك غير متوقعة " تباً لي، أفسد كل جميل" من أين لها هذه الروح المتوجسة؟ كيف بدأت ونمت وترعرعت بداخلها كل هذا الوقت؟ "علي أن انطلق فحسب" الأصوات المختلفة تتحاور داخلها كأنها جمعت كل المضادات " لا تفسير لذلك" صوت جبار الشريف بمقابل صوت نجوى القطان المرأة الكويتية بلونها البصراوي، بأصوات الجيران بالأرض المغمورة بالمياه وقد نمت فيها سيقان القصب والبردى، بأصوات الحرب مع الفرس والأمريكان، أصوات طالبات مدرسة الزبير "آه أين صوتي فراس بالجبهة في الحرب وسام الأصغر الذي ترك المدرسة وغاب في دهاليز الأحياء والأزقة وجاب غابات النخيل والمزارع وقد تمرغ في أرذل المهن مغادراً طفولته البريئة بعد أن خرج عن السيطرة في غياب جبار الشريف وهروب نجوى القطان" كل الأصوات طغت على وقائع اليوم وخلطت المشاعر، رسا الفرح بجانب الحزن على ضفة قلبها المتعب، صمت الفؤاد، لم تعد هناك جلبة الأشياء تجلجل في رأسها كالسابق، ثمة تغيير إلهي يحدث على الأرض ويعوض سنين القحط والعذاب، تكاد تختفي صور الأسوار الشائكة على الحدود ويضمحل وجه الصبية الزبيرية ببشرتها الممزوجة بالملح الشرق الأوسطي لتبدأ طفرة الأصباغ الملونة على الوجه المحفور بالألم، كل شيء يتغير بسرعة، هناك سحر يجري وراء الستار " ترى ما الثمن الذي علي أن أدفعه؟"
حزمت الأمر نحو تقبل كل ما يأتي سواء من السماء أو الأرض أو من مايك" كفى هروب" تقبلت الأشياء التي تحدث من دون سؤال، فقد قررت ألا تعيق الطبيعة عن فعل عناصرها، ولهذا ذهبت للمطعم الهندي مع شلة مايك بتلك الليلة المطعمة برذاذ المطر الصيفي الذي بدأ مع إطلالة شهر يونيو، كانت الشمس في الصباح ساخنة بعض الشيء وعند المساء وهي تستعد لمغادرة الفندق بعد تسلمها أوراق العمل الجديدة أثر النقل وشعور بالازدحام يملأ عالمها الجديد، ما عادت تشعر بالخوف كالسابق وإن ظل هناك بعض القلق من أن يحدث شيء في غير الحسبان ويعرقل الجنسية التي توشك أن تصدر لها " يسرني أن يقال لي يسرا البريطانية حينها" تركت كل شيء مكانه ولم تشغل بالها بالأفكار، فقط اعتنت بهيئتها كما لم تفعل من قبل وبدت مشرقة بعد حف حاجبيها الكثيفين، وأحدثت انحناءة صغيرة في طرفهما مع تحديد لوني يميل للبني، دهنت بشرتها بكريم أساس مضاد للأكسدة دفعت فيه نصف ما تملك من مصروف شهري، أطالت شعيرات هدب عينيها وطلتهما بالأسود وجعلتهما نافران، سرحت شعرها وجعدت أطرافه ثم مسحته وتركت خصلتين تسقطان عند طرف العين، تعمدت ارتداء سروال جينز أزرق فاتح وضيق يكاد يكشف تضاريس المناطق البارزة من جسدها، واختارت قميص أزرق بلون السماء البريطانية، ضيق هو الآخر تعمدت ترك فتحة فوق الصدر" ماذا أفعل؟" تأملت شكلها أمام المرآة قبل أن تتوجه للمطعم " ينقصني الكثير قبل أن أمحو صورة الذل عن مظهري" وضعت قدميها في كعب حذاء أسود عالٍ اشترته مؤخراً بعد خبر نقلها إلى "كينغستون" جالت في الغرفة لثوانٍ ثم قفزت للشارع بحلول الساعة الثامنة والنصف.
الطريق للمطعم لا يستغرق وقتاً، فبعد محطة البترول المقابلة لمعرض سيارات ال BMW راحت تمشي بخطوات بطيئة هادئة مروراً بالفندق، ولدى تجاوزها إشارتي المرور الضوئيتين انحرفت يميناً مواصلة الطريق إلى المطعم الذي يقع ضمن سلسة المطاعم بالشارع ومنها المطعم التركي الذي ما كادت تقترب منه حتى فاحت رائحة احتراق الشاورما، كانت وهي تعبر الطريق ذاته مرات عدة تصدمها رائحة الدجاج التركي وطالما رغبت في التوقف في كل مرة وتناول شريحة أو اثنتين من الشاورما التركية ولكنها اكتفت مرة واحدة ولم تستسغ طعمها وبدت لها مشوهة ولا صلة لها بمطاعم الشاورما الحلبية، تعمدت السير بتمهل وهي تتنفس هواء الليل البارد المشبع ببعض الرطوبة الخفيفة وتراقب السيارات، إذ نادراً ما كان هناك مشاة الليلة، كان الطريق هادئاً في المطلق، وللحظة خيل لها أنها ستسقط على صحن ظهرها لولا تماسكها واستعادة توازنها، لم تعتد قطع هذه المسافة برغم قصرها مرتدية حذاء الكعب العالي بالإضافة لوجود انبعاج بالطوب الأحمر في بنية الرصيف مع بعض الرطوبة، أضف عليه شرود نظرها على السيارات، حمدت الله أنها لم تسقط وإلا خسرت تبرجها وربما التوى كاحلها وانتهت ليلتها من دون الاحتفال المزمع على شرفها رغم قناعتها بأن احتفالات مايك لا تخرج عن كونها مناسبات في مناسبة، ولعله أخبر أكثر من شخص بأنها مناسبته لكنها على الأقل تمكنت من تحقيق تقدم في حياتها ولا أدل على ذلك اقترابها من الجنسية البريطانية وانتقالها للعمل بكينغستون " ألا يكفي ذلك للاحتفال؟"
دلفت المطعم من بوابته الزجاجية وكان ثمة نادل هندي هزيل البنية، أنيق يتلائم مع المكان، ساعد على فتح الباب لها، تعلو شفتيه ابتسامة بدت مطبوعة طوال الوقت لتناسب جميع الرواد للمكان، بدا المطعم كبيراً ومستطيلاً وتوزع عدد من الأشخاص في أرجائه، راحت تتلفت بحثاً عن طاولة مايك، ظنت في البداية بأن المطعم محجوزاً له بالكامل، لكنها أيقنت من حجمه بأن ثمة زاوية مخصصه لها وقبل أن تصل إلى منتصف المكان تقدم منها أحد العاملين فيما بدا عليه مسئول الطاقم ودلها على الزاوية بمجرد أن ذكرت اسم مايك، كانت الطاولة مستطيلة ومنسقة بالكامل وبدا مظهر العناية المتميزة بها من خلال باقات الورد ونوعية الكؤوس مع وقوف اثنين من الطاقم خصيصاً لخدمة الطاولة وحدها " لقد كانت فكرتي المطعم الهندي" قالت في سرها وهي تمد يدها لمصافحة كل من ستيف وريتشارد وسارة وثلاثة رجال وامرأتين لم يسبق أن تعرفت إليهم، قادها ريتشارد نحو المقعد المحاذي للمقعد الرئيسي برأس الطاولة، وأيقنت بأن مايك سيجلس على رأس الطاولة ولابد من أنه أوصى بأن تجلس إلى جانبه، وضعت حقيبة يدها على يمين الطاولة وتابعت أحاديث الموجودين وكانت تدور في غالبها حول الضائقة المالية التي يمر المجتمع البريطاني، كانوا يشتكون من ضعف أداء حكومة ديفيد كاميرون ويربطون بين تدني الرواتب وتصاعد الضرائب، دار جدل بين الرجال الثلاثة والمرأتين بينما اكتفى ريتشارد بالاستماع فيما شارك ستيف ببضع عبارات قصيرة، راحت تتلفت حولها تتابع بنظراتها المكان، كانت هناك لوحات معلقة على الجدار لمناظر الطبيعة من الهند، وعلى جانبي المكان وضعت بعض الأباريق المزخرفة للزينة، وبينما كانت تتأمل حولها فجأة انبثقت ضجة لأعداد قادمة بين رجال ونساء يقودهم نادل نحو الطاولة، تصاعدت ضحكاتهم وثرثرتهم وقبل أن يصلوا الطاولة جرى ريتشارد لاستقبالهم، حارت بين النهوض والجلوس، إلى أن نهض الجميع ونهضت معهم تصافح القادمين، رأت أحدهم وقد خيل لها أنها رأته في التلفزيون بإحدى المسلسلات أو الأفلام، لم تكن متأكدة، لم يكن بينهم مايك رغم بلوغ الساعة التاسعة وسبعة عشرة دقيقة.
"ألا تتذكريني؟"
رفعت رأسها وفجأة أدركت أن من بينهم كانت نهى الزيني " كيف لم أميزها لدى الوصول؟" كانت متوترة يلفها الحرج إذ لم تتمكن من الاندماج مع الحضور ولا المشاركة في الجدل الصاخب الذي أخذ يتصاعد، في تلك اللحظة خطرت ببالها فكرة سريعة، فتحت حقيبة يدها التي وضعتها في حضنها وأخرجت مرآة صغيرة، راحت تتأمل وجهها من دون أن يلاحظها أحد، أيقنت بأنها في غاية الأناقة وشعرت بارتياح أزال عنها التوتر بعض الشيء، أعادت المرآة للحقيبة ورفعت رأسها تتطلع في الوجوه وإذ بستيفين يبتسم لها"هل اصطادني؟"
قطع حبل أفكارها وصول مايك الباكستاني برفقة أحد نواب البرلمان البريطاني كما فهمت من الهمس الدائر بين الموجودين، بدا من مظهره أشبه ما يكون بممثل أمريكي في دور من أفلام المافيا الإيطالية الأمريكية، لولا ملامحه الآسيوية البارزة، لم يتغير منذ آخر مرة رأته فيها، وإن بدا لها وهو قادم أكثر بدانة، برزت شعيرات ذقنه الشقراء الخفيفة أكثر لمعاناً، ظل وجهه العريض بالتضاريس العظمية التي تكسوه صارماً دلالة على القسوة، اندفع بجثته المكتنزة ومنكبيه العريضين نحو المقعد المخصص وسط توجه الجميع لمصافحته، بدت عيناه تشعان دهاءً مع أنفه الحاد البارز كمنقار طير، جلس وبجانبه الأيسر النائب البريطاني، كان ضخم الجثة قصير القامة، إلا أن ملامح وجهه أبرزت وسامة أخفتها للوهلة الأولى الكرش الناتئة، ظل مبتسماً طوال الوقت إلى بدأ توزيع الشراب، التفت مايك نحو يسرا التي ما أن رأت وجهه نحوها حتى ابتسمت قائلة بصوت خافت خجول.
" شكراً مايك"
رد عليها بنظرة باردة لا تخلو من حنو وقال بنبرة آمرة.
"ماذا تشربين؟"
نظرت لساعة معصمها بحركة تمثيلية محاولة التهرب من السؤال وقالت مصطنعة السذاجة.
" عصير أناناس"
في تلك اللحظة التفت مايك نحو امرأة تبعد مقعدين عن النائب البريطاني من الجهة المقابلة، وقد بادرته بسؤال قائلة بصوت جهوري لا يخلو من سخرية.
" هل هناك مطاعم باكستانية هنا مايك؟"
رد عليها بسريعة بديهة غير متوقعة.
" نعم.. نحن نجلس فيه الآن، لا تنسي أن الهند وباكستان كانتا دولة واحدة وستأكلين الليلة نفس الطعام"
وسط ضحكات الحضور عاد والتفت نحو يسرا التي ظنت أنه نسيها وقال مستطرداً.
" عنيت شراب كحولي، هذه الليلة ليلتك لا تخذلينا"
قالت مبتسمة محاولة ألا تغضبه.
"لابد أن اصحو الرابعة فجراً، فغداً سأقدم أوراقي في أول يوم عمل "بكينغستون" هوليدي إن.
اعتدل في جلسته، وقال وهو يمسك معصم يدها بهدوء من غير تكلف.
" من هذه الناحية لا تفسدي ليلتك، فأنا سأتكفل بموضوع العمل"
قطع كلامه معها والتفت نحو ريتشارد وستيفين وسألهما بلهجة آمرة وبثقة من جوابهما.
" لدينا خيط بهذا المكان،أليس كذلك؟"
أجابا معاً.
" لدينا"
فتح يديه في الهواء إشارة تكفله بالمهمة فيما أسرعت بالقول وقد رسمت ابتسامة ناعمة توحي بالارتياح.
"ويسكي"
إذا كان من الصعب الاستمرار في الصبر على المعاناة وملاحقة الإقامة الدائمة وتقبل الفأس المسلط على رأسها المتمثل بالطرد من بريطانيا وتحمل تكاليف الشقة وإذلال المجتمع البريطاني برمته بمن فيهم العرب أنفسهم في نظرتهم لمن لا يحمل الجنسية، فمن السهل تجرع كأس الويسكي مع ما سيقود إليه من تبعات، الضحكات المخنوقة الفالتة الآن منها لا تساوي مكابدة الخوف والفزع والقلق من التشرد واللجوء للخيام "إلى متى سأقاوم الانحناء؟ فالانكسار أشد وطأة من الانحناء" طويلة هي الرحلة من الخيام المحاطة بالأسلاك الشائكة وزجاجات المياه الساخنة في الصيف، وصلاة الفجر الكاذبة التي لم تخرجها من خلف تلك الأسلاك، حتى المدعي الديني الذي تزوجها وحبسها بشقة في البحرين لم يسعفها تحمل الجدران الأربعة والاغتصاب الشرعي الذين نالته على يديه كل ليلة وهو ينفذ رائحته المشبعة بدهن العود السمجة، كانت تسكن الجحر الزوجي أشبه بالكلب الضال في حظيرة من الذهب "هل استحق الأمر هذا العناء؟" تجرعت الكأس تلو الكأس وأسلمت أمرها هذه الليلة للقدر ولن تخسر أكثر مما خسرته بالورقة المسمى بعقد النكاح الشرعي الذي وهبت فيه لشهور دامية جسدها الواهن، إثر اللجوء والتشرد والحبس في خيام اللاجئين "لا فرق بين الاثنين فعلى الأقل هنا ستكون لي حريتي ولو كان الثمن بيع آخر صك أملكه" كانت الضحكات والنقاشات تطغى على عقلها الذي توقف عن تسجيل الحسابات، كانت تراقب رأس مايك وهو يتحرك، يعقد الصفقات على ما يبدو مع رجل السياسة البريطاني من دون أن تزعجهما هذه الجلبة، بدا كما لو أنهما خططا لهذه الضجة كي تضيع أفكار الجميع وتتيه ليتسنى لهما إتمام الأمور على إيقاع هذه الفوضى، أصوات الشوك والصحون والكؤوس وحركة النادلين مع صوت الموسيقى الذي هدر في زاوية من المطعم جمد تفكيرها وبعث في نظراتها الحيوية، جعلتها تتابع المشهد يموج كأنه من فيلم سينمائي كثيراً ما تكرر في الأفلام القديمة التي تشاهدها من القناة المجانية.
نهضت فجأة وكادت تترنح لولا أنها أمسكت بطرف الطاولة، تناولت حقيبتها لتفاجئ بيد مايك تمسك بها.
"الحمام"
ترك يدها من دون تعليق وسحبت نفسها تمشي على إيقاع طبول رأسها تقرع، كانت الساعة الحادية عشر وبضع دقائق إذ لم تلاحظ عقرب الدقائق وهي تسير بخطى مستقيمة لا تخلو من تعثر بعض الشيء، وصلت الحمام وكان ضيقاً وغير مريح وتفوح منه رائحة صابون رخيص، تركت الحقيبة على الحافة ونظرت لوجهها في المرآة"يا لي من جميلة" ابتسمت وبدت بالتبول وقد لاحظت لون البول المائل للاصفرار، فأدركت بأن الليلة لن تمر بهدوء.
" سأوصلك بنفسي"
فاجأها مايك، ينتظرها عند واجهة الحمام من الخارج فيما انسحب بعض الحضور وبدا وكأن الحفل أوشك على الانتهاء، لم تر في عينيه أي لون للخداع ولكنها أيقنت من حركته تلك بأنه قرر اختطافها الليلة وسحب البساط من تحت عفتها التي بدا وكأنها توشك على نهايتها " لا فائدة من المقاومة، حان الوقت لفتح باب القلعة" همس صوتها الآخر بتلك الكلمات فيما هيئت نفسها للاستسلام، فلا فائدة من تخزين اللحم الطري وتركه يفسد قبل أن تضمن حياتها في بريطانيا، آخر معقل لها للبقاء إنسانة حية كالبشر.
"تفضلي"
عند باب بنايتها بالتحديد توقفت سيارة الجاكوار الرصاصية، مال على الباب الآخر بجانبها وفتحه مودعاً إياها، هالها ما رأته منه، لم تتحرك من المقعد، بلعت أنفاسها ورفعت رأسها ونظرت في وجهه الذي بدا لها أجمل بكثير مما توقعته، كانت ملامحه باردة وبشرته فاتحة ونظرته ساكنة واكتشفت بأنه ليس بتلك الدرجة من الاحتيال التي تشاع عنه "لعل الويسكي القوي ماركة "جاك دناليز سيلفير" هي السبب في الإطاحة برأسها وجعلها تغيب عن إدراك الأمور، لكنها عادت ورأت في عدم رغبته بمضاجعتها كما خيل لها منذ البداية اكتشاف جديد محي صورته السلبية عنه "هل أبدو غير مثيرة بالنسبة له؟" لكنها أزاحت هذا الإحساس من داخلها لدى استعادتها حجم الاهتمام الذي أبداه لها طوال الليلة، لم تهبط من السيارة بمجرد فتح الباب، إذا نظرت نحوه وهي مبتسمة وقد زال القلق من داخلها وتوقفت دقات قلبها عن التسارع وقالت بصوت ناعم هادئ ينم عن طمأنينة وثقة.
" لا أعرف كيف أشكرك سوى أن أستضيفك على كوب قهوة في شقتي المتواضعة إن أردت؟"
قالتها وهي تدرك مغزى هذه الدعوة رغم أنها ليست مستعدة للمضاجعة ولا تشعر بإثارة تدفعها للانزلاق في هذه الطريق وهي التي حافظت على عفتها طوال هذه السنين، انه تأثير الارتياح الذي زرعه فيها اهتمامه ورغبته الحقيقية في مساعدتها وأثبت حتى الآن بأنه جاد في الوقوف معها.
" الآن؟"
قالها ضاحكاً وبصوت ينم عن المفاجأة بدعوتها؟
"الآن"
رد عليها بنبرة من الحنان رأتها واضحة في سمات وجهه الذي انعكس عليه ضوء مصباح السيارة في الواجهة الداخلية، كانت ملامحه عفوية معلقة بابتسامة منفرجة وبرود أزال الانفعال الذي تركته دعوتها له للنزول ومرافقتها للشقة.
"أنت مرهقة الآن، اتجهي مباشرة للفراش ونامي ولا تشغلي بالك بدوام الغد في الفندق، أنا أعرف من سيعمل لترتيب غيابك"
طبعت قبلة سريعة على خده وهبطت منسحبة من السيارة " لم يرغب في" كان هذا انطباعها للوهلة الأولى وهي تصعد غرفتها غير راضية عن نتيجة الليلة، لم تتخيل نفسها يوماً أن تستسلم لرجل وبالتحديد مايك الذي طالما تقززت من شكله، فتأتي لحظة تعرض نفسها عليه ويصدها " لا لم يصدني قال إني مرهقة"
خلعت ملابسها كلها بسرعة وانفعال ووقفت أمام المرآة متوترة تتأمل جسدها البارز، شعرت بالعرق يتجمع عند إبطيها فحمدت الله أنه لم ينزل، رأت جسمها أنيق ومثير ولم تجد فيه عيباً سوى حبتى خال عند الخصر الأيسر وأثر جرح في أعلى الظهر عند الكتف لا تتذكر سببه، ربما يعود لأيام الطفولة وهي تتسلق أسوار الحديقة الصغيرة للجيران لقطف الورد المحمدي وهي تضعه في إناء من الماء لتشربه باعتباره ماء الورد "ما أحلاني، لم لم يرغب فيَ؟" قفزت نحو الفراش وصممت أن تختبر جسدها في أكثر من مكان ومناسبة.
" وداعاً للعفة الشرقية، أنا اليوم يسرا البريطانية وكل شيء مباح "



#احمد_جمعة (هاشتاغ)       A.juma#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يسرا البريطانية (11)
- يسرا البريطانية (10)
- نيويورك تايمز كذبت ضد صدام حسين...
- يسرا البريطانية (9)
- من مستنقع السياسة، إلى أزهار الثقافة...لنجرب!
- يسرا البريطانية (8)
- الرواية من منظورِ الحرية!
- يسرا البريطانية (7)
- يسرا البريطانية (6) رواية
- يسرا البريطانية (5) رواية
- رواية -يسرا البريطانية- (4)
- رواية يسرا البريطانية (3)
- في الكتابة إثارة...أنت بحاجة إلى العزلة!
- يسرا البريطانية ج (2)
- يسرا البريطانية (1)
- الموجب والسالب في الرواية!
- رحلة في عقل روائي...غارسيا ماركيز
- رواية يسرا البريطانية- من فنادق لندن إلى سجون داعش
- رواية -حرب البنفسج- والتحالف التركي العماني القطري لغزو البح ...
- الكاظمي والساعدي - أين ينتهي المطاف بهما؟


المزيد.....




- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - يسرا البريطانية (12)