أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - يسرا البريطانية (6) رواية















المزيد.....


يسرا البريطانية (6) رواية


احمد جمعة
روائي

(A.juma)


الحوار المتمدن-العدد: 6637 - 2020 / 8 / 5 - 17:48
المحور: الادب والفن
    


( 9 )
جعلت من اليوم التالي والأيام التالية لمغامرتها الليلية نقلة جديدة في سلوكها أشبه ما تكون بالقفزة في الهواء، وقد لمح فلين التغيير المباغت الذي جرفها في الكلام والمظهر والجرأة، فساوره الشك في الأسباب، وتعمد نبشها بأكثر من إشارة منه، أنها على علاقة بأحد، كان الهدف من هذا التلميح هو التأكد من أن تحولها في المظهر خلفه شخص ما، وهي عادة غالباً ما تكون وراء العلاقات العاطفية، هذا الشعور لديه، ولد غيرة متخفية في صورة مطاردة فضولية بالأسئلة المغلفة بالمزاح، أما زميلاتها في قسم خدمة الغرف، فقد بدأن يتهامسن من ورائها حول هذا التغيير الطارئ ورحن يراقبن تصرفاتها، وبعضهن بدأن يشعرن بالغيرة خاصة مع التطور الحاصل في مظهرها واستعادتها لبريق الجمال الذي كانت عليه، فعيناها القرمزيتين، تنتميان لسلالة من عائلة عراقية مقيمة بالبصرة غالبية أفرادها تتميز عيونهم باللون القرمزي منذ عقود، ومنه استمدت العائلة لقبها "القرمزي" هذا اللون الذي أخفته الأحداث والنزوح الذي خلفته كل هذه الندوب ومسحت روحها المشبعة بالنكهة العراقية المحلية وغلفتها بطبقة من الجمود العاطفي، تحجرت مشاعرها تجاه العلاقات العاطفية إثر ما مرت به من مواجهات مع الكون برمته، حتى عندما حسمت أمرها وقررت خوض معركتها مع الآخرين والتواصل معهم واستغلالهم لم تسعفها ذاتها الداخلية الغارقة في الركود الحسي من الانصياع للعاطفة تجاه أي من الرجال، بقدر ما وظفت كل أجهزتها الداخلية الحسية والجسدية لاستقلالها في إخضاع أولئك الذين يحومون حولها لإرادتها الجديدة وهي تسعى بذلك للتغيير السريع مع إلغاء بعض الحسابات من قائمتها المتحفظة.
كانت متيقنة من أن انتهاك حالة الجمود الذي عاشته طوال الفترة الماضية يتطلب منها تغييرات تبدأ بملابسها، وهو أمر مكلف ولا يتحمله راتبها المحدود وتوزيعه بين الإيجار والطعام والأدوية والمصاريف اليومية، هذه المعضلة اعترضت طريق التغيير الذي أوشكت أن تبدأه، فالمشاعر قادرة على تغييرها، والأفكار يمكن السيطرة عليها، ما عدا تغيير المظهر المكلف، وللتغلب على هذه المشكلة اتفقت مع صديقة لها من العاملات على تبادل الملابس بينهما.
تنبهت إلى أنها توشك على الانخراط في مغامرة أخرى تبدأها بنزع الخجل من حياتها ولأول مرة تهدر كرامتها، كما شعرت من تصرفها بالدخول في صفقة تبادل الملابس التي ابتدعتها وهي تعلم بأنها لا تملك الملابس اللائقة التي تقايض بها الآخرين، استدعت كل المخلوقات الشيطانية النائمة منذ سنين في كهوف أعماقها لتوقظ المارد المتجمد منذ عبرت الحدود العراقية السورية باتجاه حلب ثم عبورها الثاني من الأرض السورية إلى الحدود التركية، كانت الفترة التي عملت فيها بالخطوط الجوية اللبنانية، وقت مستقطع من حياتها الهادئة والتي لم تستفد منها في ترقية ذوقها في الملابس والمظهر، رغم الفترة التي قضتها في بيروت وسط تشكيلات الأذواق النسائية المختلفة وضمن كافة أنواع الموضات العالمية التي يغص بها لبنان، كل ذلك استرجعته في ذاكرتها وهي تعيد رسم خريطة الطريق لها للقفز من حقبة لأخرى بعد أن يئست من الحصول على الجنسية البريطانية بالطرق الروتينية، وبعد الاستخارة من دون صلاة! خطت الخطوة المميتة كما سمتها في داخلها برمي الخجل وراءها، ونبذ الشعور بالدونية.
بادرت في خطوتها الأولى بالتحدث إلى إحدى زميلاتها المقربات منها من أصل أيرلندي وتدعى"فلونا"عن تبادل ملابسهما توفيراً للمال وفي نفس الوقت الاستفادة من بعضهما البعض وفوجئت بتجاوبها معها، بل وأضافت فلونا معهما اثنتين من صديقاتها كانتا على قدر من اليسر وتتوفر لديهما مجموعة من الملابس، والوحيدة التي فازت في هذه المقايضة هي التي لم ترَ أيٍ من الفتيات مستعدة لتقبل ملابسها، وإن أخذنها فهو من باب المجاملة وهي أول من أدركت ذلك ولكنها لم تندم على خطوتها تلك، كانت بحاجة لمثل هذه المقايضة غير العادلة من منظور الفتيات الأخريات لأنها بهذه الوسيلة وحدها تمكنت من تغيير مظهرها ولو على حساب غيرها، لم تكن تملك خياراً آخر غير الاتجار بجسدها وهو الأمر الذي لم تكن مستعدة له حتى الآن رغم أن هذا الهاجس راودها ونزع عنها مشاعر العفة التي طالما كانت ملازمة لها منذ تشربت توجيهات البيت الديني بالبصرة، وحوصرت ضمن نطاق نظرات الأخوة الذين تربوا بدورهم على النزعة المحافظة قبل أن تلقي ورائها بكل ذلك الإرث الديني وتتحلل من طقوس الأسرة الممتدة لعمق السنين قبل أن تأتي الحرب وتهدر كل ذلك المكون الأسري وتتركها بعيدة عن الديار، لا تعلم بما جرى تلك الليلة المظلمة حينما سقطت الصواريخ حول دارها، لا تعلم بما تخطط له الأقدار لتأتي الأيام المبهمة ترسم خريطة حياتها وقد انتهت الآن بمدينة الضباب، تتعلم من جديد كيف تعيد تشكيل حياتها بخلاف ما كان قدرها الأول في البصرة قد رسمه لها.

****

استمرت في فتح حقائب النزلاء، تتلصص على خزائن الملابس وتنقب في الأدراج، وبذات الوقت أخذت تغير هيئتها وتجمل من صورتها وتبحث في عيون الآخرين عن ردود الأفعال لتتعرف على ما توصلت إليه في التعديلات المظهرية، لاحظ البعض في الأيام الأولى الفرق، ليس فقط في الشكل بل في التصرفات وقد زادت هذه التغييرات من ردة فعل فلين الذي تحول عطفه لها إلى معاملة جافة من غير أن يكشف عنها مباشرة، تمثلت في التزامه الصمت منذ أن تركب معه السيارة في الصباح وحتى يقطعان المسافة إلى لندن، وقد بادرت في كل مرة تكسر فيه الصمت بتعليق منها، فتجابه بهزة رأس أو نظرة جامدة وقد أدركت أنه يفتعل هذا التصرف ليوصل رسالته لها والتي لا تعلم مضمونها، ولكنها تدرك بأنه يطمع في علاقة عابرة، كانت تخشى أن يفقد اهتمامه بها، فقد استفادت منه كثيراً على صعيد العمل والتوصيل وتوفير الشقة ولكنها لا تطيق مجرد أن يقترب منها، فقد رأت فيه جسد متعب متهرئ وأنفاس حادة غير زكية الرائحة، هكذا اعتبرتها كلما فتح فمه بالحديث في الصباح الباكر، بالإضافة إلى أنه متزوج وله أولاد بسنها وأخيراً هو من ذلك النوع الثرثار السمج الذي لا يقول شيئاً مفيداً طوال الوقت سوى أحاديث مملة عن الطقس وارتفاع الأسعار وتعليقات ساخرة على العاملين معه، لم تفقد الثقة بأنها قادرة على استمالته من دون الوقوع في شراكه، ولكنها تخشى مجرد التفكير في معاداته لها لأنها ستفقد حظوته وعندها ستقع في مأزق كمائنه التي ينصبها عادة لكل من لا يطيقه، ليست في وارد خسارة هذا الرجل وليست مستعدة لتقبل أنفاسه فعليها أن تمسك العصا من الوسط وتلعب به قدر المستطاع لحين التمكن من الإفلات من نفوذه، لملمت أفكارها وغازلته ببضع كلمات وسرعان ما عاد يغمرها بحنان مصطنع ولكنه لا يخلو من اهتمام يميزها عن بقية الزملاء في العمل والذين في غالبيتهم يلمسون هذا التمييز ويستشعرون أن ثمة علاقة ما وإن لم تصل إلى مستوى أن تكون خليلته، الانكليز لهم موهبة فراسة بالنظر في معرفة خفايا العلاقات ومستوى ما تصل إليه وربما دارت أحاديث سرية من وراء الستار حول هذه العلاقة المتميزة ولكنهم لم يصلوا لمستوى التلميح إليها.
قررت إلا تنظر ورائها ولكل ما جرى لها في السنوات المنصرمة، حسمت أمرها وهمست لنفسها، بعبارة " قضي الأمر" وعنت بذلك أن طريق الوصول لتحقيق الأهداف الذي بدأته حين أقامت في دبي ولم تسعفها الظروف هناك، لابد من إكماله، فقد تم سجنها لتصاب بعدها بخيبة أمل دفعتها للنكوص عن مغامرة الصعود، وقد أخافها العالم وتجردت من شعور المغامرة، فسيطر عليها الخوف ومن يومها وهي تتجنب الخوض في محاولات الوصول للقمة، كانت ترى الصعود لفوق يشبه الصعود لمنحدر، فالطرق أمامها عارية من الضمانات والدروب وعرة في كل ما عبرته مع أبواب موصدة من كل الجهات، ولكن يبقى أمامها أن تستعد لانقلاب تحدثه في حياتها تدفع ثمنه في البداية لتقفز من الحفرة التي تعيش فيها الآن وقد وجدت في ألن وسعاد البشراوي وغيرهما، وسيلة لابد من المغامرة المحفوفة بالمجازفة، ومن غير ذلك ستبقى مهددة بوجودها وستظل عينها على الترحيل الذي بدأته من البصرة مروراً بحلب وانتهاء بلندن، وحان الوقت وتتوقف عند منعطف يكون بوابة القمة.
تسارعت التحولات حولها وتمكنت من التصرف بعجرفة وذكاء، حتى أنها أخذت تتقن الدهاء الذي طالما سمعت عنه، واستغلت قراءة بعض المجلات المتاحة لها لتطور وسيلة الاحتيال على المواقف، فتخلصت مؤقتاً من ملاحقة فلين لها بتسريبها له أنها تعالج من مرض السيلان، إلا أن ذلك انعكس عليها سلباً بعد أيام حينما انتشر الخبر سراً بين بعض زميلاتها وأدركت أن فلين ليس واشياً فحسب بل حقيراً، وواصلت التعاطي معه ولم تقطع الصلة به لحسابات تبني عليها موقفها قبل أن ترمي به خارج نطاق مصلحتها التي أصبحت الآن فوق كل شيء، كانت فترة حساسة من حياتها التي أخذت فجأة منحى آخر كما لو أنها بدلت بعض الأجهزة القديمة بأجهزة جديدة، أو كما لو أنها ولدت مرة أخرى من رحم آخر ومن بقعة أخرى من الأرض، مرت بأحداث مغايرة للتي مرت بها من قبل، كانت تشعر بداخلها أنها أصبحت شريرة من غير أن تعمد إلى ذلك بإرادتها، ومكنتها هذه المشاعر من التخلص نسبياً من بعض المشاهد المفرطة في القسوة عانت منها، الشيء الوحيد الذي ظل يقض مضجعها هو المال، كانت بحاجة لتلبس وتأكل وتحسن من مظهرها الخارجي بالإضافة لتحسين التغذية لديها، فقد كانت تكتفي بالأطعمة الرخيصة والمنتهية الصلاحية في أغلب الأوقات اختصاراً للمصاريف التي لم تكن قادرة على تحملها مع ما تدفعه من ضرائب وإيجار ومصاريف حياتية يومية، ومع انتظار شيء يحدث ولم يحدث، جالت الأفكار في ذهنها عما يمكن أن تفعله لجذب المال إليها، وصادف أن وقع في يدها كتاب "ذا سكريت" فراحت تلتهمه بالقراءة كلما سنح لها الوقت في محاولة لتقمص الأفكار الواردة فيه لاستيعاب فهم جديد للحياة من خلال ما يطرحه من معادلات توازي بين اليأس والأمل والتمني والعمل واجتذاب العناصر الإيجابية في الحياة والإفلات من شعورها بالخيبة كلما همت بالانطلاق في مغامرة من خلال محيطها الاجتماعي المحدود والذي تصارع من أجل توسيعه بشتى الوسائل، فتصطدم بالهزيمة في كل مرة تراهن على محاولة ما، رأت في كتاب "ذا سكريت" مفتاحاً يفتح لها الباب للولوج لعالم الأمل الذي طالما بحثت عنه وفلت منها في نهاية المطاف.
صادف ذات صباح باكر عندما نزلت من سيارة فلين أمام بوابة الفندق ورأت سعاد البشراوي قادمة في سيارة ليموزين سوداء، صعقت لدى تجاهلها لها حتى وهي تلوح لها بتحية من يدها عن بعد، وتساءلت مستغربة عما إذا كانت مسرعة ولم تأخذ بالها منها، أو ثمة رسالة من وراء تجاهلها أم أنها لم تعرفها بسبب ذهنها المشتت بسبب مخدر ما، قلبت الاحتمالات في ذهنها ثم تركت لعقلها الباطن يستنبط النتيجة، استقرت على ترك الموقف يفسر ذاته لحين تلقاها بإحدى الغرف، وما عليها أن تفعله سوى معرفة الغرفة التي تقيم بها وسيكون لكل حادث حديث.
بدأت يومها من الغرفة 296 بالطابق الثاني وكانت غرفة عادية جداً ولا تستفزها في شيء وبدا من محتوياتها شخصية النزيل، رجل عادي طبيعي لا تتضمن مخلفاته على ما يثير فضولها ولم تستغرق سوى بضع دقائق انتهت منها بسرعة وكحسن نية منها لكونها لم تتعب في تنظيفها تركت له هدية على الوسادة، طريقة جديدة في تصفيف الفراش مع وضع مميز للمخدات بالإضافة لكمية جديدة من أدوات الاستحمام وخرجت مسرعة تستعلم عن رقم غرفة سعاد البشرواي، بحثت عن فلين ليساعدها عن طريق علاقاته مع قسم الاستقبال ولم تجده، فآثرت أن تسند المهمة لنفسها في البحث والتقصي بالمرور على الغرف الخاصة والمزدوجة لتتأكد في البداية من المكان، ثم تحيك الوسيلة للوصول إلى الغرفة قبل غيرها سواء بالتلاعب بجدول تنظيف الغرف أو بالاتفاق مع زميلة لها على ألا يكون ذلك مثيراً للشك.
كانت الساعة الثامنة والنصف صباحاً ونادراً ما تكون هناك غرف في هذه الساعة فارغة وقابلة للتنظيف، وحتى تتخلص من أعمال الخدمة الداخلية بالقسم في إعداد عربات التنظيف أو بتلقي التعليمات الروتينية، توجهت للإدارة العليا وسجلت طلبها في قائمة الدورات التدريبية التي أعلن عنها لشغل وظيفة بقسم الاستقبال، وهذه المرة الثالثة التي تملأ فيها طلب من هذا القبيل دون أن توفق في الحصول على مقعد بهذه الدورات التي تعتبر فرصة لكل من يقع عليه الاختيار، فالراتب أعلى والمكان أنظف والفرصة للتعرف على النزلاء ولفت انتباههم أكثر، حيث يتيح اللباس الرسمي اجتذاب الأنظار، بعكس اللباس الخاص بتنظيف الغرف الذي عادة ما يثير التقزز لدى النزلاء لكونه يوحي بتنظيف الحمامات ويعطي انطباعاً بأن الشخصية ما هي إلا خادمة.
تراءى لها وهي تدخن سيجارة بناصية البوابة الخارجية أسفل الفندق بأن الوقت يمر بطيئاً وثمة حافز يشغل بالها منذ أن صادفت البشرواي في ردهة الفندق الخارجية وعلق بذهنها فكرة التغيير وفرصة القفز من موقعها المنحط كما تعتبره، اليوم من بد سائر الأيام المنصرمة ولا تعرف السبب وراء هذا الشعور المباغت الذي قطعه سامي الماليزي الوافد للتو من فرع آخر والذي يعمل بقسم الإدارة المالية، وقد ظهر فجأة أمامها بقامته القصيرة، ولون بشرته الخمرية وعينان تشعان عن ذكاء حاد، وصوته الهادئ البطيء، بدا من هيئته شاب ثلاثيني طموح من نظرته، أطل بسيجارته، حياها وانتظر فرصة ترد التحية ثم بادر باختلاق حديث عابر متسائلاً .
"متى ينتهي هذا البرد الشنيع ويستعيد الناس توازنهم؟"
ردت عليه بأن ثمة موجة أخرى أقسى من هذه في الطريق خلال اليومين أو الثلاثة القادمة، فانهار بقامته أمامها مختلقاً صيغة أخرى للحوار، فتح بموجبها الباب للتطرق لبعض الأمور الشخصية، فكان سؤاله لها ما إذا كانت في الشرق الأوسط تمر مثل هذه الموجات الباردة فردت عليه بأنها لا تتذكر موجات كهذه حين كانت تقيم بجانب البحر ولم تتطرق لأي شيء يتصل بالمكان أو الزمان أو الحالة التي يشتم منها أنها جاءت من خلفية مزدحمة بالأحداث أو من حالة معقدة، واكتفت بالقول إن الشرق الأوسط يختلف عن هنا.
" ما هي المميزات المطلوبة للعمل بقسم الاستقبال؟
ألقت عليه بالسؤال وهي مدركة بأنه ليس هو بالشخص المؤهل لمعرفة الأسرار ولا بمن يملك أن يساعدها بشيء في هذا المجال، ولكنه خدمها بشيء واحد حين أجابها بالقول..
" الجمال والمظهر، وأنت جميلة"
عندما أطفأ سيجارته وانسحب استعادت جوابه لها، استغربت من تعمده عدم تطرقه لمظهرها، فقد ذكر الجمال والمظهر وقال عنها جميلة ولم ينعت المظهر، هل يريد أن يبعث لها برسالة عن مظهرها وهي تعلم بأنها في الفترة الأخيرة اعتنت بشكلها الخارجي أكثر من قبل؟ وماذا قال لو رآها من قبل؟ فجأة تنبهت إلى أنه رآها قبل ذلك عشرات المرات هنا وفي أماكن أخرى ولم يلمح لها ولم يفتح معها أي حديث ولعل مرجع الأمر إلى أنه لم يستحسن مظهرها، غاصت في الأفكار وقبل أن تطاردها الخيالات والمشاعر السلبية وتطفح على السطح الأفكار السوداوية والمفرطة في اليأس، سارعت إلى الداخل وهي ترتعد من البرد وقد جمدت قدميها وتورد وجهها وبدت حائرة فيما ستقوم به، انعطفت نحو الردهة الداخلية المؤدية إلى قسم الأمن وهناك صادفتها المسزز كالاهان السكرتيرة بالأمن وتوقفت تحييها ثم التفت نحوها قبل أن تعبر الردهة وسألتها.
" هل تؤدين لي خدمة مسزز كالاهان؟ آمل أن تساعديني في العثور على نزيل أين يقيم؟
حان وقت رد الجميل، فقبل شهور رجتها المرأة أن تخدمها بالتجسس على غرفة شقيقها الذي جاء إلى الفندق وسكن ليلتين، وقد سهلت لها مهمة الدخول للغرفة والتقصي فيها إلى أن أدت لها الخدمة على أكمل وجه، وسلمتها تقريراً شفوياً عن كل محتويات الغرفة، وكان من أهمها العثور على علبة واقيات مغلقة بداخل أحد الأدراج الصغيرة المحاذية للسرير مع حقنة فارغة بسلة النفايات بالحمام، وعندما مدت لها يدها بعشرين جنيهاً مكافأة لها على ذلك رفضت أخذها رغم حاجتها للمبلغ حينها، والآن حان وقت رد الخدمة.
كانت صدمتها عنيفة وهي تتلقى الجواب بعد بحث في قائمة النزلاء بأنه لا يوجد اسم سعاد البشرواي، لقد رأتها تدخل بنفسها قبل أربع ساعات مضت ولشدة غرابة الموضوع أن تأتي البشرواي الفندق بتلك الساعة المبكرة مع دخول الموظفين، "فأين اختفت إذن؟" كان ذلك سؤالها المباشر للمسزز "كالاهان" التي ردت بثقة قوية قائلة تنهي الموضوع.
" يستحيل أن تدخل باسم مستعار، فنحن فندق أربع نجوم ونظامنا الأمني لا يسمح بذلك، هناك تفسير أستطيع أن أعطيه، لقد جاءت زائرة لشخصية تقيم هنا"
"سعاد البشرواي سيدة ثرية وذات نفوذ، لماذا تسكن فندق أربع نجوم؟ بإمكانها أن تقيم بقصر من سبع نجوم ما الذي يأتي بها إلى هنا؟" هذا ما رددته لنفسها وهي تنتقل من ردهة لأخرى ومن جناح لآخر حتى حان دورها في غرفة رقم 459 التي دخلتها مكتئبة وغير متحمسة للعمل وتود لو تخرج وتطرق كل الغرف لفك شفرة المرأة الغامضة التي ما فتأت تأتي لهذا المكان خفية وتخرج خفية وكانت لها فرصة للتقرب منها ودخول فضاء عالمها وتجتذبها دائرتها المغناطيسية، لعل يكون من حظها اختراق عالم الغموض والنفوذ حتى لو على شكل تابعة أو مساعدة أو حتى خادمة، فمن شأن ذلك أن يفتح مغارة علي بابا التي تحوم حولها منذ سنوات، لكن يبدو الولوج لهذا العالم بحاجة أولاً الانزلاق للعالم السفلي وهي مستعدة منذ الآن، وهذه اللحظة اليائسة بالذات أن تسقط فيه.
راحت تقضي الوقت بتنظيف الغرفة غير مكترثة على غير عادتها بمحتوياتها وبالها مشوشاً من شدة الانشغال حتى وقعت عينيها على ورقة صفراء صغيرة أسفل قدم الطاولة المحاذية للسرير، تناولتها وقرأت العبارة التالية.
"قابلني في مسجد "ريجنت بارك" في الزاوية المعهودة، الساعة المعتادة
ولا تصحب الأطفال"
اجتاحتها موجة فضول لمزيد من التقصي، فأخذت تبحث في بقية المكان، فتحت الأدراج وقلبت الأوراق والمخلفات وكل ما تقع يديها عليه مع وضعها في الحسبان مرور الوقت، أقفلت الباب ودست يدها في كل شيء حتى وقعت أخيراً على كتاب القرصان الأحمر، وهو عبارة عن مؤلف قديم يبحث في طريقة التسلل إلى البريد الإلكتروني للغير وتخريبه أو العبث فيه، وعندما تصفحت لاحظت تأشيره على بعض الفقرات في الكتاب بالخط الأحمر وركزت على طبيعة الفقرات فوجدت أغلبها تتعلق بالقرصنة الإلكترونية، أثارها ما وجدته بين الأوراق الأخيرة من الكتاب وهو ورقة أخرى من حجم ولون الورقة الأولى التي كانت أسفل السرير، الورقة الثانية تضمنت عبارة " السفر يوم 29 حزيران على البغلة الزرقاء" ثم كُتب سطر آخر أسفل الورقة "لا أنسى دعوة بوعائشة" أعادت الكتاب في وضعه بالضبط ورتبت المكان وأزاحت من رأسها صورة البشرواي وحلت مكانها أوراق الرجل الصفراء التي أثارت رغبتها في معرفة المزيد.
" هذا سلوك الإرهابي عادة"
لو تستطيع سبر غور هذا النزيل من دون تعريض مشاعرها وأفكارها للخوف والتشويش لاستمرت في البحث، ولكن الوقت يمضى وقد تجاوزت بدقائق الفترة المحددة لإنهاء التنظيف، سارعت بترتيب المكان كما وجدته، وفجأة تذكرت أين تضع الورقة الصفراء التي وجدتها أسفل قدم السرير، فليس من المبرر أن تتركها مكانها بما أنها قامت بالتنظيف ولا من المناسب أن ترميها، وقد تثير الشك حولها لو وضعتها له في مكان بارز فقد يتساءل عن معنى وجود الورقة هنا، وبعد تردد وضعتها على المكتب بجانب مصباح الطاولة وألقت نظرة سريعة على المكان للتأكد من أن كل شيء بمكانه ثم أسرعت بالخروج تدفع عربة التنظيف ورأسها يتأجج بالأفكار المختلفة حول نزيل الغرفة رقم 459 الذي أشعل ذهنها بالخيالات التي صنعها بنفسها وتستمر في توسيعها بسلسلة من الأفكار المتدفقة صعوداً حتى بلوغ الصورة النهائية للحدث، وهو أن ساكن هذه الغرفة أما أن يكون رجل غامض جاء من وراء الكون بحثاً عن هدف ما، أو هو مشروع لإرهابي لا يتقن فن الاختفاء وهي مترددة الآن بين الصمت أو الإبلاغ عنه لدى إدارة الأمن بالفندق كما هو الحال مع النظام المتبع.
بدد شعورها البرد الذي رافقها منذ عودتها من الردهة الخارجية للفندق إثر تدخينها السيجارة وبدأت تستعيد تدريجياً صورة سعاد البشرواي، مضى الصباح كله بين التفكير في البشرواي والغرفة 459 وكأنها على موعد هذا اليوم بكل هذه الأحداث التي لا تعرف ما علاقتها ببحثها عن وجودها وطموحاتها في بريطانيا التي جاءتها تحلم بحياة جديدة بعيدة عن كل إرث الماضي وتداعياته، كانت مشوشة لدرجة أنها لا تذكر أين وضعت الورقة الصفراء؟ الوقت المتبقي بالجناح الرابع من الفندق المخصص لها اليوم ضيق، راحت تعبر الممرات للبحث عن غرفة فارغة، فوجدت واحدة عند المنعطف القريب من ردهة المصعد، وقفت لبرهة وتأملت المكان ثم فتحت الباب ودلفت الغرفة رقم 476 وبدأت رحلتها مع الغرفة ومحتوياتها وبادرت للحظة الأولى بالدخول للحمام وتجرعت رشفة قاسية من علبة بيرة مفتوحة وجدتها عند حافة المغسلة، ما زالت صالحة، ألقت بها في الزبالة، ثم تنفست بحدة وأطلقت زفرة حادة وبدأت العمل.




****



#احمد_جمعة (هاشتاغ)       A.juma#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يسرا البريطانية (5) رواية
- رواية -يسرا البريطانية- (4)
- رواية يسرا البريطانية (3)
- في الكتابة إثارة...أنت بحاجة إلى العزلة!
- يسرا البريطانية ج (2)
- يسرا البريطانية (1)
- الموجب والسالب في الرواية!
- رحلة في عقل روائي...غارسيا ماركيز
- رواية يسرا البريطانية- من فنادق لندن إلى سجون داعش
- رواية -حرب البنفسج- والتحالف التركي العماني القطري لغزو البح ...
- الكاظمي والساعدي - أين ينتهي المطاف بهما؟
- تفاعلات روائية، جسدية
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (30) انتهت *
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (29)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (28)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (27)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (26)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (25)
- وعي الشعوب من وعي الأمم!!
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (24)


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - يسرا البريطانية (6) رواية