أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (27)















المزيد.....


-خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (27)


احمد جمعة
روائي

(A.juma)


الحوار المتمدن-العدد: 6600 - 2020 / 6 / 23 - 13:13
المحور: الادب والفن
    


في هدأة القمر وسكون الليل اللندني استشار روحه وقلبه اللذين ولدت منهما العلاقة بينهما، نَوى مباغتتها في شقتها والاعتراف لها بالحب الذي يؤدي للزواج، كان لابد من الاتحاد معها للأبد والمضي بطريق باركه الأب وباركته مشاعره واعْتزَم العبور عليه وإضرام نار الحب بغزو الجسد بعد فترة الصيام التي كان خلالها غارقاً في البحث عن سبب يبرئه من الشعور بخيانة أنجيلا. أحس لحظة براحة داخلية منبعها تحريض تقي له للخوض في رحلة الحسم بين العاطفة والشفقة، بين الحياة والرحيل، ربما شاء القدر أن يلتقي بوالده هنا في لندن خلال الشهور الماضية برفقة كل تلك الأحداث الجسام ليعرف طريقه وسط هذه الألغام التي بثتها دنيا الواقع من حوله، وقد يكون في ذلك أيضاً متنفساً للأب كي يُلقي بثقل السنين وراءه عبر الإفاضة في سكب مشاعره وفضح المسكوت عنه في حياته المديدة المليئة بألوان قوس قُزح الدنيا كلها التي خاض غمارها منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها وبعدها، لتأتي هذه الرحلة المصادفة في لندن ويندلق كأس الأسرار الذي ظلَّ يرتوي منه طوال العقود المنصرمة وحده، لعل المحنة التي شَمَلَتهما في عثرة الجسد الخاطئ الذي أوشك أن يعيش الحياة برمتها فيه لولا الفتاة التي وُلِدَت من رحم الاحتيال، لربما لم يجتمعا معاً هنا ويبدآ هذه الرحلة معاً، بين من أَوْشَك على النهاية والرحيل ومن يُوشك على بدء الحياة من أولها، بين تقي وسفيان ترَيثَ الزمن وعقد صفقة بينهما عند ميناء العمر بين خريف الأب وربيع الابن.
خرج من باب الفندق وعبر من حول الحديقة الصغيرة على الطرف، تنشق هواء المساء البارد نسبياً كان الوقت يفسره انتشار الأوراق الصفراء على طول الطريق وبدا لون الخريف يغلف الأرصفة والممرات ويطبع لون الأصفر القاني على الطرقات التي تمتد على أطرافها الأشجار الكبيرة العتيقة منذ سنين، سرت في جسمه رعشة عند منحنى الشارع العام مقابل المنعطف الذي يخرجه لشارع أكسفورد وقد اعتاد الغوص بين محلاته التجارية والانْخراط في الزحمة، كلما أراد القفز لمكان يأتي بعده مكان، كانت الخطة المرور بشقة شيري واصطحابها إذا لم تكن مرتبطة، وحتى لو كانت فقد حمل لها حديقة أزهار كاملة. مرت بذاكرته عبارة كالنسمة التائهة نسي أين سمعها؟ أو ربما هو من قالها "لا تشهر حبك حتى تتأكد أن قلبك هو من وقع في الحب وليست عيناك من رأته" كانت الساعة التاسعة ودقيقتين حينما حدق فيها وما زال يجول في الشارع التجاري مستجمعاً قواه قبل العبور نحو المرأة المنتظرة، تذكر أن تقي الآن وحده في الفندق يسبح في ملكوت جوري وإفيلين مقابل تسكعه الآن وحده على أرصفة اكسفورد، فكر بالاتصال بها بدلاً من مفاجأتها، ثم عاد وانْقلَب على فكرته، وأخيراً أخرج الهاتف ورن رقمها، جاءته نغمة الهاتف مغلق، كرر المحاولة ثم أقفله وعاد أدراجه لبداية الشارع بحثاً عن سيارة أجرة ثم تذكر رقم أحد السواق دأب على الاتصال به فأدار رقمه، في الطريق راح يستمع لأغنية أجنبية لا يعرفها أطلقها السائق وبدا مستطرباً بها فيما اكتفى هو بالنظر من نافذة السيارة وراح يستعرض ويقارن الوجوه والسيارات والأصوات وبين الصور المتخيلة للحياة التي تنتظره مع شيري "إنتهى زمن المعاناة" قالها في داخله وشكر السماء أن والده أهاجَه على الانتفاض والفرار من وجه القنوط والتردد وإلقاء المرساة عند لجة بحرها الهائج بالموج والحركة والمغامرة، كانت شيري بالنسبة للأب أكثر من زوجة للابن، كان ينظر لها مثل كوكب جديد تسلل لمجموعة المرجاني الشمسية، كانت شفافة، رقيقة، مرحة، ذكية وجميلة وقارئة وشبقة وراقية السلوك، جمعت كل تلك الصفات وكانت في ذات الوقت محتالة، كيف تجتمع كل هذه الصفات مع الاحتيال؟ ابتسم لدى مرور هذه الخاطرة، تولد لديه شعور مباغت بالرغبة في احْتضان والده وتقبيله والبوح له بما تضمره مشاعره في هذه اللحظة، هو الذي حَضَّهُ للمضي بمغامرة العمر، لن يختلف معها على المكان، لندن أو المنامة أو كوكب المشتري بعد عبور الثقب الأسود الذي سَبَق واجْتازَه عندما لم يدرك طبيعته السوية لولاها، كان مشهداً خيالياً ذاك الذي شهد انْبِعاث إنْتفاضة جسده وخروجه من محنته، لقد تحقق الحلم وآن له أن يستقر العمر معها. أعاد الاتصال بها وهو مُتَجه لشقتها وقد بدأَ المساء يبرد، أحس به عبر فتحة صغيرة من نافذة السيارة تسلل منها تيار منعش من هواء لندن الخريفي المشبع بنكهة ورق أشجار المدينة التي بان عليها الكسل في مثل هذه الساعة من الليل أفصَحَت عنها وجوه سكانها المتباينة الأعراق والألوان والجنسيات، ما يكاد الوقت ينتهي عند التاسعة أو العاشرة حتى يتسرب إليها القنوط والخمول، تنسل متخفية وراء ضباب المدينة العالمية التي تكدس تحت سقفها كل أطياف وأشباح البشر وقد تْجَلَّى عليهم التعب والضجر.
هَبَط من السيارة عند منعطف معرض للسيارات الصغيرة المستعملة وسار بخطوات بطيئة متناسقة مع روحه الراقصة على وتر صَبابَة تهتز الأرض من شدة هيام ضارٍ جاش بقاع أعماقه كلما خُيِل إليه أن العمر كله سيقضيه معها، نظر للساعة وكانت تشير للتاسعة وخمسة وخمسين دقيقة، لاح له شبح خيال ينبئه بأنها قد تكون خارج الشقة أو نائمة واسْتَهلك هاتفها بطاريته من غير أن تشعر كما تكرر ذلك معها مرات عدة، كانت من عادتها أن تستنزف هاتفها الأول ثم تركنه حتى تستنفد الآخر، فكر وهو يصعد درجات السلم بأنها تخبئ هاتفاً ثالثاً لا يعرف عنه شيئاً، كانت من عادتها إذا ما رَنّ أحد الهواتف تجيب عليه وهي بمكانها، وإذا ما رَن الآخر تنهض وتبتعد وتُجيب عليه بصوت مسموع، وحدث في أوقات عدة أن تجاهلت رنين الهاتف، خمن أنه الهاتف الثالث السري، ابتسم وقد بلغ الطابق الثاني من البناية التي تقع فيها شقتها، من الغريب أن يجد الممر المكون من أربع شقق متقابلة قد فُرش بسجاد تجاري من نوع المستخدم عادة في ممرات المكاتب، كان مزخرفاً بأشكال هندسية بسيطة وبألوان خفيفة تخلو من التكلف، صادف في طريقه وهو متجه نحو الشقة المقصودة سيدة أربعينية تجر كلبها الصغير، حَيّتهُ بابتسامة وهزة من رأسها، بادلها التحية فيما انْبعَثت نكهة شهية لطبخة برزت منها رائحة الثوم والبقدونس وبعض النكهات التي أثارت شهيته، بدت الرائحة متسللة من فتحة أسفل باب الشقة المقصودة، ابتسم وأغرته النكهة بأن يشاركها لو كانت حقاً من شقتها، ضغط على جرس الباب وتعمد أن ينخفض للأسفل، كانت حركاته لحظتها تنم عن رغبة مكبوتة في الاستسلام لها وهَتْك مشاعره المكتومة منذ أن تردد من الإفراط في الكشف عنها حتى لا يلتزم بما يفوق ما يقدمه لها، لكن اللحظة أَزَفَت ليس فقط للإعلان عن بَوْن مشاعره بل وإلى أين تقوده؟
حين طال الوقت أحجم عن تخمين جهة الرائحة الزكية القادمة منها، كانت الشقة مثار حدسه، لكنه صرف النظر عن تخمينه وبدأ التفكير في الانكِفاف والهبوط للشارع لكن صوت الخطوات البطيئة القادمة من الداخل حركت نبضات قلبه، جهز الكلمات التي سيقولها ويفاجئها بها و بدأ يرتب أولى الكلمات والتي كانت تبدو له مناسبة أن يطلب يدها عندما يُفْتَح الباب، وكلما غار في التَخَيُّل والتَجَهُز كلما زادت ضربات قلبه حتى كاد يشعر بها كأنها صادرة من طبل.
فُتح الباب وَثَبَت أمامه أنجيلا بقميص حفرة أسود شفاف وسروال أحمر رقيق بكيني فيما بدا شعرها مثاراً، انْتصَب مكانه وتفادى للحظة الانهيار، كانت نظرتها له مع ابتسامتها ودهشتها قد إاحْتَشَدَت جميعها في رعشة صدرت منها وكانت بمثابة صعقة ترجمتها بصوت صدر من أعماقها.
"هاي.
جنباً إلى جنب وقفتا بملابس النوم تحدقان فيه، هذه المرة بخلاف المرة السابقة، ولج الشقة بغريزة فضولية من دون أن تفقده الصدمة مهارة النفاذ لقاع العلاقة وإسْتجلاء بذور الاقْتران بينهما ومتى نُسِجَت خيوط هذه الرابطة من ورائه؟ كان دائم الملاحظة والالتصاق بينه وبينهما، كيف مرت هذه العلاقة تكسوها خيوط النمو والتطور لتصل عند هذا الحد الضاري من الاقتران من غير أن يلمح أو يشك؟
وقف ينظر لكلتيهما، كانت الابتسامة المُرّة مازالت عالقة على شفتي أنجيلا فيما النظرة المثقوبة الوجلة كأنها سحابة مستديرة حول نفسها تبحث عن ثغرة تفلت منها، وقفت شيري باستقامة كأنها تتهيأ لتَثب من فوق قمة لتسقط إلى الأسفل، بدا له وضعها محاصرة بين نظرته الجسيمة ونظرة الأخرى الساهمة، وسط رائحة الطعام الذي كانت بقاياه فوق سفرة مفروشة على السجاد بأرض الصالة الفاصلة بين الممر وغرفة النوم المفتوحة، بدا السرير مبعثراً في فوضى تُفْصح عن ما جرى عليه، كانت هناك بعض زجاجات البيرة ملقاة أسفل السرير وفي الصالة، وزجاجة فودكا روسية مفتوحة وبقربها صحن به بقايا فراولة مقطعة وبضع حبات من الكرز، كما ظهرت أدوات الماكياج حول طاولة صغيرة بقرب مصباح أصفر يضيء من الممر، وثمة ملابس داخلية وحذاءين أحدهما أسود والآخر كعب عال بنفسجي اللون عند طرف الصالة، كانت عيناه خلال الثواني المعدودة التي جالت فيها الصالة قد اسْتوعَب من خلالها هول المشهد الذي لم يتخيله في ذاكرته حتى لو أراد أن يتخيله"شيري وأنجيلا؟"
"أنا سعيد لأجلكما.
قال عبارته وسار بخطى متقاعسة نحو زجاجة الفودكا، الْتفَت حوله، تناول كأس، شمه في البداية ثم سكب الشراب فيه، تناول رشفة طويلة حادة تقلصت على إثرها ملامح وجهه، عاد أدراجه فيما جلست شيري على الكنبة بزاوية من الصالة، فتحت أنجيلا حقيبة حولها وأخرجت منها سيجارة وأشعلتها.
"ألا يتعارض الدخان مع مرضك؟
"لا شيء يهم على الإطلاق ولا حتى هذا المنظر الذي نراه الآن كلنا، لم يعد في العالم ما يهم سوى أن نعيش ما تبقى لنا، يومان، شهران، سنتان المهم نمضي من دون التزام أو قيود.
أطلقت دخان سجارتها، دخلت شيري غرفة النوم وارتدت قميصاً طويلاً شفافاً فوق قميصها القصير وعادت وبيدها زجاجة بيرة.
"لا يتوجب عَلَيَّ شيء تجاهكما.
مازالت رائحة الطعام تفوح في أنفه ورغم الشعور الداخلي الذي يحاول السيطرة عليه، إلا أن الرائحة وحدها كانت تتملكه، عاد يحتسي الفودكا ويمحي أي رد فعل يوحي بالِامْتعاض، أجبر ملامحه على الإرتخاء وكلماته على الهدوء ونظرته على السكون، توجه نحو غرفة النوم وجلس على حافة السرير وراح يحدق في المكان فيما راحت الفتاتان في الصالة تتهامسان، كانت هناك ابتسامة عالقة على شفتيه كأنها تتفوق على الألم الذي يَشْعره ويجادل ذاته في شأنه، لا شيء أوحى له بعلاقة بين شيري وأنجيلا، فجأة قفز من مكانه وتوجه نحو شيري التي كانت تدخن، وقف أمامها وبدا هادئاً موحياً بالاسترخاء.
"متى بدأ ذلك؟
سرحت بفكرها وكأنها تعد الكلمات التي ستخرج منها، لاحت في عينيها حيرة سرعان ما بددها بنبرة مشجعة تجاهها.
"لا يحق لي مُحاسبتكِ، بل من حقي فقط أن أعرف متى بدأ ذلك؟ هذه المرة الثانية التي أُخْذَل فيها.
"أنا محتالة ولن أَتَغَير.
"لم تَجيبي على سؤالي، متى بدأ ذلك؟
ضحكت ونظرت باتجاه أنجيلا التي جلست تتصفح مجلة بيدها، لكزتها الأخرى بنظرة مشجعة على أن تبوح بما يجول في رأسها، عادت تنظر لسفيان الذي مازال يحمل الكأس بيده.
"أنجيلا أغرت الجميع بالسقوط في نهر هواها ولم يكن خيارها بل خيارنا، أَنْتَ حبيبي سفيان، أعشقك ومستعدة للعيش معك، أنجيلا كانت بحاجة لي فقط، أعترف لك وأنا مدركة كم سيؤلمها هذا الاعتراف لكني مدينة لك به، وعن السؤال بدأ ذلك كله ليلة دعوتك لمشاركتي مشاهدة فيلم "cherry fall" ورفضت، هل تذكر؟
التَفَتَت نحو أنجيلا وقالت برقة ونبرة اعتذار.
"آسفة أَنجي، أُدين له بالحقيقة.
عَمّ المكان صمت بدا مخيفاً من شدة الإحساس الذي اسْتَحوَذ على الثلاثة، حاول الرجل أن يستأثر بالهيمنة عليهما من خلال امتصاص الصدمة واحْتواء الغضب الذي تَأجَّج وكَظَمه بداخله ثم بان واضحاً في حالة التوقد التي تَجَلّت في ملامحه ونظراته الباردة فوق طاقته وعرت سكونه المفتعل، حاولت شيري الاختباء وراء الصمت فيما الأُخرى بدت مستفزة بابتسامة إكتسبت بصمة تهريجية ما دفعه للقول بنبرة خرجت عن سياق البرودة المزوَّرة.
"كفى احتيال وراء هذا الوجه الصناعي.
الْتَفَتت شيري نحوه بغتة وصرخت فيه بنبرة عالية مذكرة إياه بمرضها العضال.
"سفيان اسكت.
تغيرت نغمة ابتسامة أنجيلا.
"دعيه، إنه يقول الحقيقة، نحن محتالتان لماذا نخفي أنفسنا؟
تقدمت منه شيري خطوة وبدت غاضبة مما أثار سخطه الذي بدا على أثره تتغير ملامح نظراته فتبدو غائرة في اللون البني الغامق.
"أنا لم أَخُنْكّ سفيان، وأَنْتَ لم تَعدّني بشيء وأنجيلا كانت بحاجة إِلَيَّ فيما أَنتَ قضيت وقتك كله مع والدك، لماذا أَخَذتَ كل هذا الوقت معي من دون أي التزام؟ ربما في مجتمعاتكم الشرقية مقبول الانْتِظار، هنا العلاقة مفتوحة على كل الاحتمالات وإحداها ما رأيته الآن هنا، لا تغضب هذا طبيعي بيننا كما هو طبيعي ما بينك وبيني، أنا وأنت وأنجيلا نشكل ثلاثياً إنسانياً وليس جسدياً، فلا تُدَمر العلاقة بيننا أو اهْرَب إن كُنت لا ترى العلاقة من هذه الزاوية.
راح يمشي خطوات في الصالة ملتزماً الهدوء وبدا السكون العاصف من الداخل على سمات وجهه وهو يحاول إخْفاءه، تبادلت كل منهما النظرات فيما بينهما بينما ظل سارحاً وهو يقطع الغرفة بخطواته التي توقفت حينما تدخلت أنجيلا قائلة بنبرة رجاء.
"لنبقَ أصدقاء.
"أنا لا يناسبني العرض.
قالت شيري جملتها ودَلَفَت الحمام، فيما إلْتفَتت أنجيلا نحو سفيان واسْتَدرَكت.
"هي غاضبة فقط، أنا واثقة أنها تُحبك.
تنهد ونظر في وجهها كما لو يتأكد من صدق ما قالت.
"والعلاقة بينكما؟ لا أريد الألم لَكِ.
ردت بسرعة مع ظل الابتسامة تطبع شفتيها المتوردين.
"أنا راحلة خلال أيام فيما ستبقى لك هي الوقت كله، نصيحة لا تخسرها بسبب نزوة طارئة أنا سببها، أوعدك أن أنْتَهي منها الآن، ما حدث صدفة.
بدا التأثر على وجهه وتذكر لوهلة مرضها العضال وقال نادما على ما تفوه به من لحظات موتورة انْصَرمَت.
"كم بقي من الوقت؟
لحظة صمت عبرت ثم جاءت الكلمات على شفتيها باردة مثقلة بنبرة طبعها الانقباض رغم ظل الإبتسامة ذاتها.
"ليس الكثير.
تقدم منها وأمسك بيدها.
"كم الوقت الباقي؟
انْحَنَت للأسفل وأسقطت سروالها من جانب للأسفل، فظهر ثقب صغير بدا من خلاله لولوب مغروس في الداخل عند طرف مؤخرتها.
"من هنا يتم تغذية بقائي على الحياة، وبحسب التقرير ليس أكثر من شهر.
"آسف أنجي.
"لا، لقد استنفذت بقائي الليلة فقط، آسفة سفيان مرة أخرى شيري تحبك لا تخسرها رغم أنها محتالة.
وفيما هو يحتضنها خرجت شيري من الحمام ورأتهما فعلقت قائلة وما زالت ساخطة.
"دعك من الوجه الصناعي.
ردت أنجيلا بعدما تحررت من حضن سفيان.
"سفيان يُحبكِ.

****
ترك جسده الذي غَمَره التَصدّع يسبح في الطريق مع موجات الأثير الخريفي وقد أدْرَك الوقت الساعة الحادية عشرة وسبعة عشرة دقيقة والليل ازداد برودة وهو لم يرتدِ سوى القميص، لم يحسب للوقت ولا للطقس حسابه، مضى بخطوات سَئيمَة وقدمين متعبتين لا تكادان تحملان جسده الواهن، كان التيار البارد يلفح وجهه وعيناه من شِدة الإرهاق أصبحتا حمراوين كالجمر، ظل يسير في شارع انْكَمشَت فيه حركة السيارت وخلا من المارة باستثناء أحد الرياضيين كان يهرول على الرصيف وامرأة متوسطة العمر نحيفة الجسم تمشي على الطرف المقابل. تبعد عمارته نحو عشرين دقيقة بالسيارة ويوماً كاملا مشياً على الأقدام، تراءت له المسافة كأنها كوكب في المجموعة الشمسية، لن يعبر الطريق للفندق ولن يترك صوته المثقل بالصدمة يصل لآذان تقي الحساسة ذات الحدس المصقول حتى لا يَرى تلك النظرة في عينيه، لا مفر من أن يستلقي على فراشه ويتناول قرصي زناكس ويخلد للنوم ليرى في المنام الطريق الذي يتوجب أن يسلكه.
"لكن عَلَيَّ قبل ذلك أن أصل لفراشي.
شوارع لندن في الخريف تبدو أشد ضجراً من الشتاء الزمهير الذي يغطي فيه الجليد كل شيء، لكنه أقل كآبة كما تبدت له صورة الشوارع هذه الليلة الصفراء الموبوءة بالكسل والرتابة، حتى السيارات القليلة التي مرت من أمامه وكانت قديمة ورخيصة خُيِلَ إليه كأنها تزحف على عجلات مثقوبة "هل الأمر كذلك أم أنها الليلة المشئومة تراءت لِيَّ بهذه الصورة؟"
عند أحد المنعطفات صادف سيارة أُجرة تقودها امرأة شبه مسنة، كانت تنظر إليه وهي مُلْتفتة وتقود وكأنها ترجوه أن يشير لها بالوقوف، حينما تجاوزته بضعة أمتار لوح لها بيده في الهواء فتوقفت.
"الجو رائق ودافئ.
قالت السائقة تلك الجملة التي اسْتوقَفَته وبدت له غرابة العبارة، فمن منظاره هو رأى الجو بارداً وليس دافئاً، عكراً وليس رائقاً، بحث عن السلاسة في الخارج فوجد شوارع خالية رتيبة وسيارات عتيقة وحدها تسير في الشارع ولا وجود للمارة، ربما لأنه خارج حزام قلب المدينة. أراد أن يجامل السائقة التي وحدها وقفت له وتبرعت بإيصاله في هذا الوقت، رَغِبَ أن يفتح معها حديثاً يقطع المسافة خلاله وربما تواسي مزاجه العكر، فلم يجد سوى هذه العبارة التي اخترعها من مخيلته اللحظة.
"تبدو الليلة رتيبة، أين ذهب الناس؟
ضحكت المرأة ونظرت له من مرآة السيارة أمامها وقالت بنبرة كمن تواسيه رغم عدم درايتها بما لحق به من عطب قبل دقائق انْصرمَت، تأمل وجهها وشعرها من الخلف واكْتشَف كم هو جميل وناعم ولونه أشبه بأشعة الشمس في الصباح، لم يصدق أن هذا الشعر له رونق مراهقة وليس امرأة مسنة كما لمحها للوهلة الأولى وهي تعبر بالسيارة قبل أن تتوقف له.
"يبدو أن الحفلة لم تعجبك سيدي.
أصابت الضربة المفصل، اكْتشاف آخر وجده فجأة في صوتها الذي بدا له رخيماً وذا نغمة رهيفة، أيعقل هذه ذات المرأة التي رآها تمر وتوقفت له لوهلة؟ تمنى لو هناك أداة ما تعكس له وجهها، أو تلتفت نحوه، فكر فيما يثير فضولها ويجعلها تلتفت، ثم بَغتَةً ضحك من نفسه وهو يرى هذه السائقة التائهة لآخر الليل قد جذبت اهتمامه حتى إنه لدقائق نسي نَحس الليلة.
"فعلاً كانت الحفلة سيئة، بل عاثرة.
كانت تقود السيارة بهدوء وبدون انفعال كغالبية سواق أُجرة لندن وهم عادة من الجاليات، بدت من لهجتها إيرلندية تَليدَة.
"لو كُنْت مكانك لتوجهت لحانة صاخبة وهناك صنعت حفلتي على ذوقي وربما الْتقيت بوجوه تنسيني أُولئك الذين شوهوا حفلتي.
"سيدتي، طيري بي لتلك الحانة.
لم يجد سوى صوت لفرقعة عجلات السيارة ودوي المحرك بصخب وهي تنحرف بالاتجاه المعاكس.
"أَنتَ زبوني المميز.
هبط من السيارة أمام حانة صغيرة بحي صغير شرقي المدينة، عرج لواجهه السيارة عند النافذة ليصعق من رؤية وجه المرأة التي كانت غير ما خُيِلَ له في المرة الأولى، إذ بدت في منتصف العشرينات وذات وجه أنيق وبشرة رغم بعض البثور إلا أنها جذابة، أفاق على وجه آخر غير الذي رآه في الشارع وهو يسير، فأدرك كم كان مشتتاً عندما خرج ساخطاً من شقة شيري، نقدها الأُجرة وظل يتطلع في وجهها، ضحكت مبتسمة وقالت بنبرة ودودة بدت له ساخرة.
"عَرَفْت إنْكَ مُشتّت، ليلة سعيدة ولا تنسى الحفلة.
جاءه صوت موسيقى صاخبة من الحانة قبل أن يَدلف، لم يقلق بشأن جو المكان الذي بدا مخيفاً، الوجوه مهشمة بالرضوض والكدمات والنساء بَرَزْنَ كمقاتلات يشبهن بطلات أفلام هووليود، حتى رائحة المكان كانت غريبة، خليط من نكهة الحشيشة واللحم المقدد، برز المكان عند المدخل كأنه مقهى بحري، لكنه في الوسط بدا كحانة من فيلم هاري بوتر، توجهت نحوه بعض العيون ربما لتأنقه، فقد بدا جميع من في الحانة يرتدون ملابس رياضية وحتى الفتيات والنساء ارْتَدينَ الجينز الرياضي، توجه نحو النادلة وطلب كأس دبل ويسكي مع الثلج، رمقته النادلة التي كانت بدينة عند الوجه وذات بشرة وردية ثم ما لَبِثت وابْتسمت كاشفة عن أسنان صغيرة وأنيقة لا تتناغم مع حجم رأسها الكبير.
"أَنتَ من غير المنطقة؟
قالت ذلك وهي تدفع نحوه بالكأس وأَردَفت بنبرة واثقة.
"لابد أن آنيت سائقة الأُجرة هي من رَمَت بِكَ هنا.



#احمد_جمعة (هاشتاغ)       A.juma#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (26)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (25)
- وعي الشعوب من وعي الأمم!!
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (24)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (23)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (22)
- تجليات روائية، تشيخوفية
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (21)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (20)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (19)
- -خريف الكرز- رواية مُنعت في بعض الدول. ج (18)
- -خريف الكرز- رواية مُنعت في بعض الدول. ج (17)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (16)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (15)
- PDF الرواية والمثلث المُحرم...!
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (14)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (13)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (12)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (11)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (9)


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (27)