أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى علوان - شمهودة















المزيد.....

شمهودة


يحيى علوان

الحوار المتمدن-العدد: 6237 - 2019 / 5 / 22 - 21:02
المحور: الادب والفن
    


حطّتْ كأنها تَزَحلَقَتْ من غيمة ، تربّعتْ على سريري باسمةً ، تراوغ بنظرةٍ ماكرة .
قلتُ مُستغرباً من المفاجأة : ما الذي جاء بكِ إلى هنا يا شمهودة ؟!
" ويش درّاني !! موش إنتو قارين عِلِمْ وتعَرفون كِلْ شَيْ ؟! حِنّه – نحن – ناس بدو، وإنتم حَضَرْ الله عاطيكم ...!! " أجابتْ ،
تغالبُ ضحكة فيها قدرٌ من الخُبث والشَغَب .
منْ أينَ أتيتِ ؟ ما نَصَبتُ خيمةً للحُلم ، ولا أشعلتُ ناراً ،
وما أرسلتُ موجةً تَغسِلُ شواطيءَ النسيان ،
أتمادى في الصمتِ كي أنحتَ صرخَةً ملساءَ ..
على أيَّة حال أهلاً بِكِ ، شمهودة ، تُبعثرينَ سكينةَ النسيان !
ما هَمَّ ، تأتينَ في قطارٍ أو مَنام ..
أم على ظهرِ ريحٍ تأنُّ من آلامِ الظهر !
بسسست !! خَفّضي صوتك .. ! فالأفكارُ مثل القِطَطِ تقفزُ من كرسيٍ إلى آخر ..
ماذا تفعلين ؟ أينَ حَجراتكِ ؟ ليس لديَّ فنجان قهوة !!
أعترفُ لكِ الآن . قد كذبتُ عليكِ حينها! كانَ لي عمٌ وله ثمانِ بنات ..
إبتسَمَتْ بغنجٍ ، وغَطَّتْ وجهَهَا بكفٍ تُداري ضحكةً كَتَمَتْها في الحال ..
.............................
.............................
شمهودة ، هي ، هي ... لا تزال حلوة بَضَّةً ، نَسَتْ أن تَكبُرَ عمّا رأيتها ذاتَ ضحىً باهرٍ مطلعَ الستينات .
كنتُ في زيارة لقريب لي ، يعمل تاجرَ جملة للعطور الأجنبية في أحد الخانات بسوق الشورجة ...
كانت شمهودة تفترشُ الأرضَ أمامَ جامع مرجان عند مدخل الشورجة ، جهة شارع الرشيد.
ألقيتُ عليها نظرةً خاطفة وتابعتُ طريقي . سمعتُها تُصفِرُ ، ولمّا إستدرتُ ناحيتها ، رأيتُها تؤشّر لي بيدِها ، أَنْ تعالَ !
إقتربتُ منها .. كانت تتربَّعُ على الأرض بحشمةٍ وإمتلاءٍ حلو . لم تكن سمينةً ولا نحيفةً .. تَتَخوصَرُ بعباءتها .
أثوابها تظاهرةٌ من الألوان الفاقعة . تشدُّ رأسها بچرغَدٍ – عُصابة للرأس تستخدمها النساء - تتدلّى منه على جبهتها كراكيشَ
ملونةً بالأحمر والأصفر والأخضر ، عينان واسعتان تَشِعّان مُكراً ، حوّطتهما ، ليتها ما فعلتْ !، بكُحلٍ غليظ يُذكّرُ بصور
الساحرات في أفلام الأطفال ، وفمٍ مُلطَّخٍ بطبقةٍ لمّاعة من الديرَمْ*، يتدلّى من شَفَتها السُفلى خَطُّ وشمٍ مستقيمٍ أخضر، يتعامَدُ مع الحنْك ..
ما أَنْ تفتح فمها حتى يلصِفُ ناباها الذهب . قالت إجلسْ ، أريدُ أَنْ أقرأ لكَ طالعك ، حتى الآن لم أَستَفْتحْ ! عسى أنْ يكون فألكَ فاتحة خير هذا اليوم ..
قلتُ كم تريدين ؟ هزَّت بقفا يدها " ببلاش إلَكْ اليوم !"
قلتُ غير ممكن !
" هاتْ قْران جمهوري ! ما هو غَلِبْ - قَلِبْ بمعنى غير أصلي أي مغشوش وكانت تقصد القْران الملكي ** - حتى لا تگول ببلاش ، تَبي تغشني !!"
لمْ أكنْ أؤمن بقراءة الكفِّ أو الفنجان والبخت ، لكن ما شدّني إليها ، يومها كنتُ في عنفوان الفتوةِ والمراهقة ..غرائبية شكلها الذي يفوحُ غَنَجَاً وشهوةً .
قرفَصتُ أمامَها ، وهي تحدِّقُ فيَّ بنظراتٍ فاحصةٍ ، كأنها تُريدُ أنْ تَسبِرُ أَغواري ، وترسم على وجهها ظلال بسمةٍ ، فيما إمتدَّتْ يدها إلى خُرْجٍ بجانبها ،
أخرجَت منه قطعة قماشٍ رماديةً ، أفرَدَتها أمامها بعنايةٍ .
سألتها عن إسمها . رَفَعَتْ حاجبيها وقالت بدهشة " شَمهودَة !؟" قُلتُ عاشت الأسامي ، رغم أنني لم أسمع بهذا الأسم من قبلولا أعرف معناه !
ومن أينَ ؟
قالت " منْ گوم الطِلْگانْ !"
- وأين تسكنون ؟
" الحَمادَه - تريدُ بذلك الصحراء بلغة البدو- حِنَّه أصلنا من الحَسَه – منطقة الأحساء القريبة من صحراء الربع الخالي جنوب السعودية - ،
طول عمرنا نركض ورا النُوگ ، بحَمَاد الله ... نچودر وين ما نَبي – بمعنى نقيمُ مضاربنا أو ننصبُ خيامنا أَنّى شئنا- ! الولايات – المُدن - ،
خلّيناها إلكُمْ الحَضَرْ..! وين ما تسيرون ، جيفَتكم وياكُمْ ــ تقصد التواليت في بيوت المدن! ــ حِنّه نطلِگها برمل الخلا ، ما نخمّر جيفتنه مِثلْكُمْ !!"
قالتْ ذلك بشيء من الفَخَار والإعتداد بالنفس .
...................................
تناولَتْ من الخُرج قبضتين من الأحجار وأصداف المحّار، نثَرتْها فوق قطعة القماش وراحت تُمسِّدُها براحتيها ..
أَغمضتْ عينيها وبدأَتْ تُبَربِرُ هَامسةً بأشياءٍ غير مفهومة ،
كنتُ أُتابعُ حركاتها بدهشةِ طفلٍ ، تقرصُهُ لهفةٌ لمفاجأةٍ تحملُ إليه فَرَحاً تمَنَّعَ لوقتٍ طويل ...
بحنان مرَّت بيديها فوق الحجَرات والصَدَف، مرّتين أو ثلاثاً .
فجأةً جَحَظَتْ عيناها،" ما يَبْغَنْ، الحينْ ، خِيرٍ لَكْ ، هاتْ فنجان گهَوَه مِنْ ذاك الزِلْمَه " وأشارت بيدها إلى رجلٍ يقفُ في الطرف الآخر يحملُ دلّةً يبيع القهوة ،
فيما إنشغلَت هي تُلَملِمُ حاجياتها .
إشتريتُ فنجان قهوة ، مُحلّىً ، لأنني لا أستسيغُ القهوةَ المُرّة. شربتُ الفنجانَ على عجلٍ وعدتُ إليها. قَلَبَتْ الفنجانَ على راحة يدها ..
بعدَ فترةٍ قصيرة حَرَّكت الفنجان ورفَعَتْ طارفاً منه .. قَرَّبَته من وجهها ونَظرت .. ثمَ قالتْ ، معاتبةً تلومني لأنني وضعتُ شيئاً من السكّر في القهوة ،
لأنه يُعرقِلُ ظهور الأرواح التي تحملُ الطالع ، كما تقول !!
بعد ذلك قَلَبَت الفنجانَ وراحت تُدَوِّره بين أصابعها تتأمله صامتةً ، ثم تنظر إليَّ .. وأنا أنظرُ إليها مُحاولاً إستنطاقَ صمتها .
عادت تتأمَّلُ في الفنجان ، وتُحدِّقُ فِيَّ :
" يا وَلَدْ ! عندك بنت عمْ ، عينها عليك ، وعينكْ على غيرها !"
ضحِكتُ مخابثاً ومعاكِساً ، قلت لها " ما عندي عم أصلاً ، حتى تكون له أبنة عينها عليَّ "!
غضبت شمهودة ، وقالت بحدّة " يا ولدْ ، عيب تكذب !!" رَمَتْ الفنجان ناحيتي مع القْران ..
إنتهت " الجلسة " ! كانت تفورُ غيظاً منّي ، وانا أُكركِرُ هازئاً من الأمر كله ....!!
رنَّ المُنبّهُ يعلن موعدَ تناول حبَّةَ المُضاد الحيوي ... تبخّرَت شمهودة ، فيما كانَ الفجرُ ينولد على مهلٍ فيغدو الظلام هشَّاً ..
والضبابُ المُعلَّقُ في الهواء واطيءٌ وثقيلٌ ، كالهَمِّ المُكَدَّسِ ..!



__________________________
* الديرم نوع من الماكياج الشعبي ، قوامه القشور اليابسة ، التي تُغلٍّف ثمرة الجوز ، تستخدمه النسوة لطلاء الشفاه بعد ترطيبه بالماء .
** في العهد الملكي كانت العملة العراقية المعدنية تبدأ بفلسٍ واحد ، فلسان ، عانه(أربعة فلوس)، عشرة فلوس ، قران(عشرون فلسا أي خمسُ عانات) ، يلي ذلك
درهم (خمسون فلساً) فمئة فلسٍ، ثم يأتي بعدها الريال (مئتا فلسٍ أي أربعة دراهم ). بعد ثورة 14 تموز 1958، صدر قرارٌ بزيادة العانه فلساً واحداً لتصبح خمسة فلوس،
وألغي الريال فحلَّ محله ربع دينار ورقي ... سرت في الشارعِ آنذاك مقولةٌ متهكمة وساخرة من قبل القوى المعادية للثورة ، " عاش الزعيم اللزوَّد العانه فِلِس !!"



#يحيى_علوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عبد الرزاق الصافي* رحلَ في الزمن الخطأ ...
- ومضات 2
- تنويعاتٌ في الحصافة
- يا الله .. يا بيروت ! مَحلاكِ ، شو حِلوي !!
- أ-تنظير- أم -خَزمَجة- جديدة ؟!
- قصاصات من المستشفى (2)
- قُصاصاتٌ من المستشفى (1)
- مُتفرّقات
- .. هيَ الرؤيا !
- -معضلتي- مع الكتابة ! (2)
- معضلتي مع الكتابة (1)
- وَجعُ الماء ..!
- المَتنُ هو العنوان !!
- طيف
- -جلالة- النسيان
- الواشمات
- لهفَة ديست فوق الرصيف
- عن الجواهري وآراخاجادور ...
- صقيع
- صاحبي الشحرور


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى علوان - شمهودة