|
صاحبي الشحرور
يحيى علوان
الحوار المتمدن-العدد: 5594 - 2017 / 7 / 28 - 03:17
المحور:
الادب والفن
البارحة ، فقط ، نزَعَت سماءُ برلينَ عنها رداءً من غيمٍ هائلَ المطرِ، سدَّ الآفاقَ و"أغرَقَ" المدينة على مدى ثلاثة أيامٍ بلياليها . إختنَقَتْ مجاري الصرف .. كنتُ أسمعُ رَشقات الماء عندما تمرُّ السيارات في البُرَكِ التي ملأت الشوارع . لا إرادياً ، ذَكّرَتني العاصفةُ ، بأمطار ماكوندا في "مئةِ عامٍ من العزلة"- ماركيز - ، وما أثارته فيَّ من إنقباضٍ نفسيٍّ / قُلْ كآبة ، لمّا قرأتها نهاية السبعينات من القرن المنصرم ! في خريف عام 1979 زارني في برلين ، قادماً من براغ ، الراحل شمران الياسري/"أبو گاطع"، ولما رأى الرواية على طاولة في الصالة، سألني مُستغرباً : " كيفَ تتصابر على قراءة هذه الرواية ؟! أنا لم أستطع مواصلة قراءتها ؟ يا أخي اللي بينا يكفّينا ! وفوقها يأتينا ماركيز بكل هذا الحزن والكأبة ..!!" * * * منذ بدأت عاصفةُ الأمطار في برلين ، غابَ صاحبي الشحرور ! إشتقتُ إليه . كُنّا تآلفنا مع بعضٍ منذُ فترة .. مع غَبَشِ الصبح ، يأتي إلى شجرة تفاح بَرّيًّ عندَ شباك غرفة النوم .. يصدَحُ بلحنه الشَجِيِّ ، أُودّعُ الفراشَ .. أخرجُ إلى الشُرفَةِ ، كأنّي به يفرحُ لمّا يراني .. ينطُّ من غصنٍ إلى آخر، ثم ينظرُ ناحيتي ، أرنو إليه رشيقاً بمنقاره الأصفر وريشه الأسود اللامعِ ، كليلِ البادية .. في غالبِ الأصباح أرقَبُه ، بحجم الكفِّ ، يسيرُ على الأرض عَجولاً، ليسَ كبقيةِ الطير .. لايقفزُ مثل العصافيرِ،أو يتهادى كالحَمَام ، ولا يعرِجُ كالغُراب .. يُطبِقُ جناحيه فيغدو جسمه مع رأسه متوازيا مع الأرض ، مثلما يفعل عجوز كردي يضمُّ يديه إلى الخلفِ ، يُسنِدُ بهما ظهره ، عندما يصعد تلةً أو جبلاً .. شجرة التفاح البَرّي مكانه الأثير في كل الفصول ، يأتيها كلَّ صباحٍ ، يقتاتُ على ثمرها ، وحين يملُّ منها ، ينزلُ إلى الأرضِ يبحثُ عمّا يقتاتُ به من حبٍّ وبذورٍ وجذور طريّة، يَنبُشُ التربةَ الرطبة بعدَ المطرِ علَّه يفوز بدودة المطر (خرطون) وجبته المُفضَّلَة. صاحبي الغِرّيدٌ ، ما رأيته مرةً يُغرّدُ على الأرض ، يبدو أنه لايأمَنَها ! لذلك يختارُ غصناً فوق الشجرة ، ويروحُ يُغني .. غَسَلَ مطرُ الأيامِ الفائتة الأرضَ والشَجرَ . وحينَ أفرَغتِ السماءُ قِرَبَها ، وأشرقت الشمسُ ببهائها ، جاءَ صاحبي ... راحَ يُنشدُ أجملَ الألحان ... ظلَّ يُكرِّرُ اللحنَ عدة مَرّاتٍ ... يبدو أنَّ اللحنَ إستهوى شحروةً فوقَ شجرةٍ أخرى ، رَدَّتْ عليه بلحنٍ آخر .. بَقيا يتناوبانِ غناءاً ، دونَ أن يرَيا بعضاً ... فجأة حَطَّتْ شحروةٌ بلونها البُنيِّ الممُيَّز . أَخَذَت "حَمّاماً" في بُركةٍ صغيرة ، خَلَّفَها المَطر ، ثُمَّ إنتقَلَتْ إلى مَلعبِ الصغار، حيثُ الأرض رملٌ ، راحت تُكمِلُ حمّامها ، تُهيلُ الرملَ على جسمها وتروحُ تخُضُّ نفسها وتنفشُ ريشها ، كما نفعلُ نحن بعد السباحة .. خلالَ ذلك كان صاحبي قد إصطادَ دودة . لم يأكلها .. ظلَّ مُمسكاً بها حيَّةً تَتَلوّى في منقاره ، راحَ يصدحُ ويتلفَّتُ في كل الإتجاهات ، يطيرُ من غصنٍ إلى غصن ، فخوراً بـ"الوليمة" التي جهّزَها لأنثاه ..! أكمَلَت حمّامها وراحت تستعرض حالَها أمامه ... تَرَجَّلَ من على الشجرة ، إقترَبَ منها بخطوات قصيرة ، حّذِرَة ، كأنه يَجِسُّ ردة فعلها ! تَمنَّعَتْ وإستدارتْ كأنها لا تكترثُ به .. رَكَضَ وراءها ، وضعَ صيدَه أمامها . أغرتها "الهديةُ" الطازجة ، أمسَكَت بها بينَ مخالبها ، نظرت إليه وأصدرَتْ صوتاً قصيراً ، كأنها قالت له " شكراً " فقط ، دونَ إطنابٍ !! وفيما إنشغلت هي بمعالجة "الهدية"، رَكَضَ مسافة قرب الشجرة ، إلتقطَ شيئاً وركض عائداً إليها ووضعه أمامها. أعاد الكرّةَ بضعَ مرّات .. يبدو أنَّ حركاته الأخيرة فتَّتَتْ صخرةَ التمنُّعِ والدَلالِ من ناحيتها .. إقتربا من بعض وتلامسا بغنجٍ .. إبتعدا قليلاً عن بعض وراحا يرقصانِ في حركة دائريةٍ ... كانا مُنتشيين يغنيان ثنائياً / دووو، ثمَّ ما لَبِثَ أَنْ تركها تُغنّي لوحدها / صولو .. بعدها أفردا جناحيهما تعانقا بودٍ وشرعا يرقصان متلازمين ، ذكَّرني المشهد بدَبكَاتِ أهل پِشْدَرْ(بين كركوك والسليمانية) ... شدَّني المنظر، تمنّيتُ ساعَتَها لو كانت كاميرتي قريباً منّي ..! فجأةً إختفى الأثنان خَطْفَاً ، وتواريا وسطَ أكَمَةٍ كثيفةٍ يسارَ الحديقة .. سمعتُ صفيراً حاداً ، وفي أقلّ من رَمشةِ عين ، حطَّ صَقرٌ على الشجرة ، التي كانا يرقصانِ تحتها .. كان عبوساً لأنَّ طريدةً أفلَتَتْ منه ! ظلَّ ينفخُ أوداجه ويُصفِرُ، حتى تَهدَّلَ جناحاه وإندَلَقَ لسانُه من اليأس والغَضَب ...
برلين :27/7/2017
#يحيى_علوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مِعجَنَةُ سراب !
-
رحلَ صادق الصَدوق - صادق البلادي
-
أسئلة حيرى
-
.. تلك المنازل و-الشِريعه-
-
هو الذي تَبِعَ سربَ القَطَا
-
رواية داريغو : ترنيمة للبحر... ملحمة عائد من الحرب ... غنائي
...
-
مقاصير نصوص (4)
-
ومضات
-
هو الذيبُ .. صاحبي !
-
غِرّيدٌ أَنبَتَ صداهُ .. ومضى
-
الوداع الأخير للمبدع صبري هاشم
-
شَذَراتْ
-
مقاصير نصوص (3)
-
فائز الصغير
-
هيَ أشياءٌ عاديّة ، ليس إلاّ !
-
ضِدَّ التيّار (8)
-
مقاصيرُ نصوص (2)
-
ضِدّ التيّار (7)
-
لِنَكُن أكثر جرأةً على التنوير !
-
ضِدَّ التيّار (6)
المزيد.....
-
إعادة طباعة قصة -القنديل الصغير-، للروائي الفلسطيني غسان كنف
...
-
إطلاق دورة جديدة من جائزة غسان كنفاني للرواية العربية
-
-ذاكرة قلب- يثير تفاعل الجمهور في الموسم الرمضاني 2024
-
روسيا.. جمهورية القرم تخطط لتدشين أكبر استوديو سينمائي في جن
...
-
من معالم القدس.. تعرّف على مقام رابعة العدوية
-
القضاء العراقي يوقف عرض مسلسل -عالم الست وهيبة- المثير للجدل
...
-
“اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش
...
-
كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
-
التهافت على الضلال
-
-أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق
...
المزيد.....
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
-
الهجرة إلى الجحيم. رواية
/ محمود شاهين
المزيد.....
|