أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - راتب شعبو - صادق جلال العظم، تراجيديا مفكر















المزيد.....


صادق جلال العظم، تراجيديا مفكر


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 6188 - 2019 / 4 / 1 - 15:28
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


حاز صادق جلال العظم (1934-2016) على مكانة مرموقة في المجال الفكري العربي، وكانت عناوين كتبه أشبه بالنجوم في فضاء الثقافة العربية لعقود. من "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (1969) إلى "نقد الفكر الديني" (1969) إلى "الاستشراق والاستشراق معكوساً" (1981) ..الخ. طُبعت كتبه مراراً، وأثارت دائماً رياحاً فكرية حولها، ولا يزال لها حضورها اليوم. ولا شك أن لذلك قيمة بذاته.
رغم برودة الفلسفة ونخبويتها، فإن العظم خاض بفكره الفلسفي مواضيع معاصرة وساخنة. واستطاع أن يخترق، إلى حد لا بأس به، التمييز بين النخبة والعامة، أو، بتعبير آخر، استطاع أن يوسع دائرة النخبة، فقد كان في كتابات كثيرة له، صوت العامة في النخبة. معه امتلكت الأفكار المغلوبة، أفكار الذكاء العامي، أفكار الحس الشعبي السليم، وسائل الدفاع عن ذاتها. والحق إن له اسلوباً سلساً وقدرة ملحوظة على بسط فكرته وتنويع مداخله، فضلاً عن جاذبية خاصة في كتاباته تتعلق ربما بالجرأة وقوة الهجوم على الخصم، وتقليب الفكرة ودفعها إلى نهايات بعيدة تحرّض الفكر في القارئ وتمتعه. ويكون لذلك أهمية أكبر على خلفية أن معظم كتاباته ذات طابع نقدي وتتناول آخرين، أكثر من كونها كتابة بنائية، أو تأسيسية.
عن "النقد الذاتي بعد الهزيمة"
في مناقشته أسباب هزيمة حزيران ال67 وجرأته في نقد الذات، يتناول العظم التبريرات الهشة التي شاعت غداة الهزيمة، واحداً واحداً، من الكلام عن عدوان إسرائيل وغدرها (وكأننا ننتظر منها الود والأمان!)، إلى الكلام عن مسؤولية الاستعمار والامبريالية، إلى المبالغة في الكلام عن اللوبي اليهودي وحكماء صهيون ..الخ. الحجج التي تهدف إلى تبرئة الذات وهدهدة الضمير العام. ثم يبحث في المجتمع نفسه عما يجعلنا مستعدين للهزيمة.
كانت هزيمة حزيران تلك صارخة إلى حد لا يسمح بالتهرب من المسؤولية، الشيء الذي جعل استقالة عبد الناصر غداة الهزيمة، المخرج الوحيد "لحبيب الملايين" الذي خذل محبيه، أو "لزعيم الأمة" المهزوم. ولم يكن في خروج الناس لرد ناصر عن الاستقالة إغفالاً للمسؤولية التي تقع على عاتقه، بل تمسكاً بحبل الزعيم الذي لا بديل له، أو تقديراً لصدقه وجرأته في تحمل المسؤولية، او للسببين معاً. وفي الحالين لم يكن ذلك تعبيراً عن غفلة أو سذاجة شعبية.
الحس الشعبي السليم لا يقبل مثلاً القول: "لقد تخلى العرب عن إيمانهم بالله ، فتخلى الله عنهم"، كتفسير لهزيمة العرب المدوية في حزيران 1967. وإن قَبِله، فمن باب الكفر بالواقع السيء ليس إلا، وهذا ليس قبولاً، أو هو قبول احتجاجي إن صح القول. ولا يقبل الحس الشعبي السليم، مثلاً، بأن "الملائكة التي نصرت محمداً وجماعته سوف تنزل إلى جانبنا اليوم وتؤمن لنا النصر في معركتنا مع العدو." في العمق النفسي للناس هناك "كائن معرفي" يحتكم إلى الواقع بعد كل شيء، تماماً كما يحتكم الضمير إلى الخير والحق المستقلين عن الأهواء الشخصية. وما القصف "النخبوي" المكثف والثقيل بمثل تلك الأقوال الميتافيزيقية، وغيرها من التنويعات التبريرية الأخرى التي يتناولها العظم في كتابه، سوى محاولة لإخماد بؤر الحس الشعبي السليم الذي ينتصر له العظم في كتابه، لأن الأفكار الأكثر رجعية تنبع أساساً من "قمم" النخبة وليس من "حضيض" العوام.
تقوم الثقافة الشعبية على ذكاء وإبداع عامي يلامس العبقرية أحياناً، وعلى الحس السليم الذي لا يتقادم والذي يبقى مواكباً لعصره. مهما أُخذت قطاعات واسعة من الناس بمعتقدات غيبية ولا عقلانية يعززها "مثقفون" كالذين يتناولهم العظم، يبقى للعقلانية وللحس السليم العاميين محل يمكن لكاتب مثله أن يستند إليه ويوسّعه ويدافع عنه في دائرة النخبة.
المشكلة تكمن في أن لدى العامة ميلاً "غريزياً" للاستلاب أمام نخبة ثقافية وسياسية مكرسة، فيكتسب كلام "النخبة" قوة ومقبولية نابعة من هذا الاستلاب أو التسليم الشعبي، أكثر مما هي نابعة من "ثقافة" الكلام وعمقه.
يُحسب للعظم أنه في نقده القيادات السياسية والأنظمة العربية المهزومة، لم يكن ممسوساً بداء "الالتهاب السياسي" الذي ينسب إلى السياسة سحراً خاصاً يحيي ويميت. فقد نظر بتوازن ومسؤولية في جوانب القصور السياسي و"اللاسياسي". والحق إن قصر النقد على الأنظمة السياسية في فهم أسباب الهزيمة يعكس نزوعاً للتهرب من مشكلة المركب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي الذي تشكل السلطات جزءاً منه. ولهذا يتحدث العظم عن تقدير العمل والمرأة والصدق في مواجهة الذات، وعن البرامج التعليمية والصناعة والعلم الحديث ..الخ. أي يتحدث عن المسار الصعب، ولكن المجدي، الذي غالباً ما تم الهروب منه بالتركيز فقط على السلطات السياسية التي كشفت لنا الأيام أن سقوطها أو قل استبدالها لم يُفض إلى الخروج من المأزق ومن تتالي الهزائم.
بين الهم الاجتماعي والهم الفلسفي
في كتابه الشهير "نقد الفكر الديني"، تناول العظم الفكر الديني (الذي يعرفه على أنه "الانتاج الفكري الواعي المتعمد في ميدان الدين كما يتم التعبير عنه صراحة على لسان عدد من الكتاب أو المؤسسات أو الدعاة" ص7 ) من خارج قلعة الدين، من موقع "لا ديني"، على خلاف مقاربات أخرى أرادت إصلاح الدين أو تطوير الذهنية الدينية وكسر انغلاقها من الداخل، مثل أعمال نصر حامد أبو زيد، أو محمد شحرور، على سبيل المثال.
يرسم العظم خطاً فاصلاً بين الفكر الديني والايديولوجيا الغيبية أو الدين. يقول: إنه (لا يقصد الدين باعتباره ظاهرة روحية نقية وخالصة) ص17، و(لا يقصد إيمان العجائز ولا ظاهرة التسليم البسيط الساذج الذي يطبع موقف معظم الناس في كل ما يتعلق بدينهم) ص18. إنه يقصد "الفكر الديني" الذي هو (الصعيد العلوي الواعي لكتلة هلامية شاملة من الأفكار والتصورات والمعتقدات والعادات التي يمكن تسميتها الإيديولجية الغيبية).
لدينا إذن كتلة هلامية شاملة صعيدها العلوي هو "الفكر الديني"، والكتاب لا يقصد نقد الكتلة الهلامية الشاملة التي هي "الدين" بكلمة واحدة، بل يقصد نقد "الصعيد العلوي" منها.
لماذا يريد العظم نقد "الصعيد العلوي من الإيديولجية الغيبية" دون نقد "الإيديولجية الغيبية"؟ جواب العظم هو التالي: لأن من الوظائف الرئيسية للفكر الديني (شرح مضمون الإيديولوجية الغيبية الضمنية والتنظير لها والدفاع عنها وتبرير محتواها) ص7. وأيضاً: (لأن وظيفته هي نقل الإيديولجية الدينية، بقدر الإمكان، من حالتها الضمنية العفوية اللاشعورية إلى حالة تتشبه بالعرض الصريح والتنظيم الفكري والوعي المنطقي) ص8.
مما سبق يعتقد المرء أن العظم لا يريد نقد الدين حين يبقى هذا الدين في دائرته، دون أن يتدخل في إدارة الحياة العامة، وذلك انتصاراً لفصل الدين عن الحياة العامة (النشاط العلمي والسياسي). ولاسيما أن العظم يكتب نقده هذا متأثراً بهزيمة ال67 التي يعزو إلى الذهنية الدينية دوراً أساسياً فيها. غير أن العظم لا يسمح لقارئه بهذا الفهم، لأنه يكمل بعد سطور قليلة: (بمقابل الوظيفة التي يقوم بها الفكر الديني على هذا الصعيد، يوجد الفكر العلمي التحليلي الذي يفترض فيه أن يمارس النقد المستمر للإيديولوجية الغيبية السائدة على كافة المستويات). الفكر العلمي التحليلي ينبغي أن لا يكتفي بنقد "الفكر الديني" باعتباره الصعيد العلوي للإيديولوجيا الغيبية، بل يفترض أن ينقد باستمرار كل مستويات الايديوجيا الغيبية، وليس فقط مستواها العلوي.
بين إن العظم لا يقصد (الايديولوجيا الغيبية ...) وبين تأكيده ضرورة (النقد المستمر للإيديولوجيا الغيبية ...) اضطراب يرخي ثقله على القارئ. هل يريد الكتاب الانتصار للعلمانية التي تحصر الدين في مساحة شخصية واجتماعية محددة ومحترمة، أم يريد مهاجمة الاعتقاد الديني في أصله، في قضية وجود الله نفسها؟ هل يريد رد الدين إلى حدود ما، أم يريد الإطاحة بالدين؟ هذا الاضطراب ينتظم الكتاب من بابه إلى محرابه، ويحيله إلى محاججات جزئية تفتقد، رغم ذكائها، إلى غاية بحثية محددة. وسنجد أن العظم في آخر الفسم الأول الذي يحمل عنوان "الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني" ينشغل تماماً في مناقشة قضية "وجود الله"، ما يشكل دليلاً واضحاً على اضطراب ناظم البحث بين العلمانية واللادينية. يبدو العظم مشتتاً بين هم اجتماعي سياسي (علماني) وآخر فلسفي (لا ديني). وبالمناسبة فإن القسم الثاني من الكتاب "مأساة إبليس" هو نص ممتع وألمعي فعلاً، غير أنه واسع الاستقلال عن القسم الأول، وأيضاً عن الهم "الاجتماعي-السياسي" الذي حرّض العظم، حسب قوله، لكتابة "نقد الفكر الديني".
ثمة صفة غريبة يكررها العظم في تحديد موضوعه، أي في تعريف الفكر الديني الذي يقصده: (الانتاج الفكري الواعي المتعمد في ميدان الدين). كل إنتاج فكري هو فعل متعمد بطبيعة الحال، غير أن إضافة هذه الصفة النافلة تلفت الانتباه. العظم يتناول كتاب "دينيين" معاصرين وفي شأن قضايا معاصرة، يحاولون التوفيق بين العلم والدين أو تفسير هزيمة ال67 من موقع ديني أو ..الخ. هؤلاء الكتاب "يتعمدون" الدفاع عن الدين في الحياة المعاصرة، والمحاججة دينياً في شؤون العصر، عصر الثقافة العلمية، وهو ما يريد العظم تفنيده ومواجهته. الكاتب هنا علماني في صراع إيديولوجي - سياسي مع الفكر الديني "الدنيوي". لكن العظم العلماني صاحب الهم السياسي، يخسر الدفة، في سياق الكتاب، لصالح العظم اللاديني صاحب الهم الفلسفي، كما سوف نرى.
العظم العلماني يقبل الدين كقضية شخصية شعورية أو عاطفية، ويتسع المجال لديه لقبول "إيمان العجائز"، ويكتفي بنقد محاولات الدين الخروج من هذه الدائرة. لكن العظم اللاديني يتدخل لينتقد فكرة الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس المدافع عن حق الإنسان، الذي نشأ في أجواء الثقافة العلمية الحديثة، في الاعتقاد الديني، لأن البينات العلمية والأدلة العقلية غير كافية بحد ذاتها للبرهان على وجود أو عدم وجود الله. هنا يتكلم العظم اللاديني بلغة المنتصر، ويرى في موقف جيمس المتردد تراجعاً دينياً فرضته حركة النهضة والثورة الصناعية والتقدم العلمي من كوبرنيكوس إلى داروين وماركس.
وبخطابية "مؤمنة" بالثقافة العلمية وبالاشتراكية يقول العظم اللاديني: (بالنسبة لنا يبدو الموقف الديني القديم الممتلئ بالطمأنينة والتفاؤل في طريقه إلى انهيار تام، لأننا نمر في طور نهضة مهمة، وبانقلاب علمي وثقافي شامل، وبتحويل صناعي واشتراكي جذري، (...) لقد ولى بالنسبة لنا الموقف الحازم الإيجابي نحو الدين ومشكلاته مع أشلاء المجتمع التقليدي الإقطاعي الذي مزقته الآلة ونخرت عظامه التنظيمات الاقتصادية والاجتماعية الحديثة.) ص21.
المثقف الذي صدمته هزيمة ال67، وزعزعت استقراره وطمأنينته، يحاول أن يستعيد الاستقرار من خلال تطلع تفاؤلي عام وعالمي يتجاوز الهزائم المحلية، فهناك حركة تقدمية شاملة. العالم (نحن!) في طور نهضة مهمة! وانقلاب علمي وثقافي شامل ..الخ. المثقف نفسه، وتحت مهماز قهره، يتجاوز "العلمانية" التي حددها لنفسه، إنها لا تكفيه، لا تستوعب شحنة انفعاله. لا بد مما هو أبعد وأكثر جذرية، لا بد من نسف أساس الدين، والاشتباك مباشرة مع "قضية وجود الله". التطرف ديدن العاجزين. في هذا تفسير التداخل غير المنتج بيين العلماني واللاديني في الكتاب.
البحث في مشكلة خاملة
يتناول العظم في كتابه الدور الاجتماعي والسياسي للدين، باعتباره ركيزة للأنظمة الرجعية، وينتقد توفيقية الفكر الديني الذي يجعل الدين رداءاً لكل وضعية اجتماعية، من الإقطاع إلى الاشتراكية إلى الرأسمالية بتدرجاتها. ولكن الثقل الأساسي، الذي يشكل متن الكتاب، يتركز على مشكلة أخرى هي في الواقع مشكلة ضعيفة الفعالية، ولا تشكل الوجع الفعلي الذي يتسبب به الدين في حياتنا المعاصرة. أقصد النزاع بين العلم والدين، (والإسلام بصورة رئيسية بالنسبة لنا)، كما يؤكد الكاتب.
يبحث الكاتب في مشكلتين تتفرعان عن النزاع بين العلم والدين: عامة (التعارض بين المنهج الديني والمنهج العلمي)، وخاصة (مشكلة التوفيق بين المعتقدات الدينية وبين العلم داخل الوعي الفردي).
فيما يخص المشكلة العامة، يعرض العظم التمايز بين المنهجين الديني والعلمي. من المعروف أن الدين الإسلامي، على خلاف مؤسسة الكنيسة، لم يحل دون تطور العلوم طوال تاريخه، وإنه كان الإطار الإيديولوجي للحضارة الإسلامية التي احتضنت أعلى مستوى من التطور العلمي في حقبتها. ومعلوم أن أحداً لم يعترض سبيل علماء مثل ابن الهيثم أو ابن سينا أو الخوارزمي ..الخ، الذين لم يتوصلوا إلى نتائجهم العلمية عن طريق "المنهج الديني" (البحث في النصوص الأولى وفي شروحات الشروح) الذي هو طريق العلوم الشرعية، بل عن طريق المنهج العلمي في البحث والتجريب والاستقراء.
تنطوي المواقف التوفيقية بين العلم والدين، التي يتوسع الكاتب في نقدها، على اعتراف خفي بأولوية العلم، وتسعى إلى استعارة قيمة وأهمية للدين من قرنه بالعلم بطريقة ما، "توفيقية بالتأكيد". وتعبر هذه المواقف عن حالة دفاعية للدين دون أن تتضمن في الواقع إعاقة للبحث العلمي أو مواجهة معه. هذا ما جعلنا نقول إن هذه المشكلة موجودة ولكنها خاملة، وقلما كانت جبهة ساخنة.
في المشكلة الخاصة المتعلقة (بموقف المثقف ثقافة علمية من الدين، والمثقف ثقافة دينية من العلم) ص31، أثبت الواقع أن حيوية الفكرة الدينية أقوى من أن تهزم، لأنها تقوم على بقعة مجهولة، أرض مشاعر وعاطفة، ما زالت بعيدة عن متناول العلم. هذه الفكرة لم تهزم، كما هو معلوم، رغم سبعين سنة من محاولة طردها من المجتمع السوفييتي. للدين عمق استراتيجي لا يصله العلم، ولا ندري إذا كان سوف يصله يوماً. هذا ما جعل الدين يحافظ على وجوده وحيويته وسط الحضارة الحديثة. وحين يصل العظم في محاججته إلى قاع المسألة، حول السبب الأول أو المصدر الأول للاشياء، الذي هو المرتكز الأخير والأبدي للدين، لا يجد سوى القول: "لنعترف بجهلنا." يجد القارئ نفسه بالتالي أمام موقف تفضيلي يحسمه الشعور وليس العلم، على الصيغة التي يقترحها وليم جيمس وينتقدها العظم.
أمام التعارض بين العلم والدين واستحالة الجزم النهائي في حل معضلة المحرك الأول، تبين أن الإنسان لا يحتاج إلى موقف حازم ونهائي أيضاً من هذه المشكلة، وأن الغالبية العظمى من الناس، ومن ضمنهم الأكثر علمية، يحتفظون في نفوسهم بقدر ديني ما، دون أن يخلق هذا التجاور بين الدين والعلم اضطراباً شخصياً. يعرّف الفيلسوف ومؤرخ الأديان المعروف ميرسيا إلياد، الإنسان بأنه كائن متدين، دون أن يعني هذا بالضرورة التزامه ديناً محدداً أو تعليمات دينية بعينها. النفس البشرية قادرة على إخماد التوتر الناجم عن التعارض بين معطيات العلم والمعتقدات الدينية. على سبيل المثال، عالم الفضاء المصري فاروق الباز لا يجد مشكلة في القول إنه يؤمن بالجن والعفاريت انطلاقاً من إيمانه الديني، كما جاء في إحدى مقابلاته. حتى في بلد الفيلسوف الذي أعلن موت الله، كان الطيارون النازيون في الحرب العالمية الثانية يزينون أحدث الطائرات الحربية بالتعاويذ. من الواضح أن التكوين البشري أكثر تعقيداً من بساطة اللغة التبشيرية التالية: "هل باستطاعتنا أن ننكر أن الإله الذي مات في أوروبا بدأ يحتضر في كل مكان تحت تأثير المعرفة العلمية" ص27.
بعد سيطرة اللغة المنطقية عند العظم في معالجة موضوع الإيمان "اللامنطقي"، وبعد محاججته أن "أخلاق الاعتقاد" يجب أن تحكم الاعتقاد بقضية وجود الله كما بالحقائق العلمية، يستدرك، بلغة أقل حدة ولكن بنفس النزعة الاستئصالية، قائلاً: (هذا لا يعني أني أريد أن أنسخ الشعور الديني في تجارب الإنسان من الوجود، ولكني أرى ضرورة التمييز بين الدين والشعور الديني، ذلك الشعور المسحوق تحت عبء المعتقدات الدينية التقليدية المتحجرة، وتحت ثقل الطقوس والشعائر الجامدة. يجب تحرير هذا الشعور من سجنه ليزدهر) ص78. الكلام هنا ليس عن الفكر بل عن الشعور، ليس الغرض نقد "الفكر" الديني المتعمد، بل تحرير "الشعور" الديني.
ولكن كيف يمكن تحرير الشعور الديني من سجنه؟ قد يتوقع القارئ إن المقصود هو تحرير العلاقة بين الفرد والله، إلغاء التوسطات، إعادة الاعتبار للتصورات الفردية عن الغيب، ذلك أن الشعور الديني يتصل بطبيعته بالغيب والمفارق والعصي على الإدراك. غير أن العظم (اللاديني هنا)، يُخرج الشعور الديني من الدين، طامحاً إلى أن يكون (كيفية بإمكانها أن تصبغ جميع مشاعرنا ومواقفنا وأفكارنا وغاياتنا السامية التي نتطلع إليها لتدخل في نظرتنا إلى أحداث الحياة المتقلبة المشتتة شيئاً من الانسجام والاتساق والأمان. قد يتمثل الشعور الديني بهذا المعنى في موقف الفنان من الجمال، وموقف العالم من البحث عن الحقيقة، وموقف المناضل من الغايات التي يعمل لتحقيقها، وموقف الإنسان العادي من واجباته الحياتية واليومية) ص78.
يبقى السؤال، إذا كانت الحياة في تقلبها أو تششتها أو لامعناها، تكتسب الانسجام والاتساق والأمان والمعنى في ذهن "المؤمن" أو صاحب "الشعور الديني" من اعتبارها تجليات لحكمة عليا لا يدركها إلا الحكيم القدير، فكيف يمكن لهذا الشعور الديني "الدنيوي" الذي يدعو إليه الكاتب أن يقوم بهذه المهمة؟
تراجيديا العظم
المراقب للحياة السياسية السورية يلمس غياب اللب الديموقراطي العلماني في سوريا منذ أكثر من نصف قرن. هناك ديموقراطيون وعلمانيون كثر، وهناك كتابات كثيرة تنتقد الدين وتنتقد الاستبداد السياسي الذي يصف نفسه بالعلمانية أحياناً وزوراً، لكن ليس هناك لب ديموقراطي علماني في سورية يلعب دور القطب حين يدخل المجتمع في مرحلة استقطاب. يحدث أن الديموقراطيون العلمانيون يُستقطبون بسلبية إلى القطبين اللذين حافظا دائماً على طاقة استقطابية، النظام السياسي "العلماني/الطائفي" المستبد والتيارات الإسلامية الطائفية المستبدة.
يمكن اعتبار تجربة العظم الفكرية، دليلاً كاشفاً ونموذجياً. المفكر الذي انشغل بنقد الفكر الديني واعتبر أن "الذهنية الدينية" من أهم أسباب هزائمنا، وكتب "دفاعاً عن المادية والتاريخ" للتصدي للنزعات المثالية في الفلسفة الحديثة، وسخر في "ذهنية التحريم" من المثقفين الذين هاموا بالثورة الإسلامية الإيرانية في حينها، يضع انتاجه الفكري جانباً في اللحظة الحرجة، ويستسلم لصدارة الدين في اللوحة السورية، موحياً أن قوى إسلامية، وجهادية فوق ذلك، ستقوم بفعل تغيير ثوري.
المفكر الذي احتفى بانهيار الدين في عصر الثقافة العلمية، يجد نفسه، مع تطورات الثورة السورية، أمام قوة كاسحة للدين لا تعبأ بكل ما حاجج به في كتاباته، وعلى الضد مما بشر به. ثم يجد أن عليه قبولها. في الأمر تراجيديا فكرية مكتملة، تثير التأمل والأسى.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حسين العودات، النهضة العربية المفترضة والهمّ المزدوج
- الصراع القطبي
- النظام السوري: افتراق السياسة عن القيم
- في علمانية اللاعلمانية
- عقدة نقص الدولة الفلسطينية
- العلمانية والديمقراطية وفك الاحتكارات
- عن العلمانية والديموقراطية
- لماذا الصحوة الإسلامية؟
- تعليق على مشروع البرنامج السياسي للتجمع الوطني الديموقراطي ف ...
- في شأن إعدام صدام حسين
- حول اعتقال علي الشهابي
- حرب لبنان ومأزق -العقلانية- السياسية
- سوريا السوريالية
- عن الداخل والخارج مساهمة في الحوار الجاري
- الخارج وفق محددات الداخل - المثال السوري
- الوحدة الوطنية بين السلطة والمعارضة في سورية
- قبل الرماء تملأ الكنائن
- أية علمانية وأي إسلام؟
- مفهموم الوطنية..مقاربة عامة
- مفارقة السياسة الامريكية في المنطقة


المزيد.....




- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- لوموند: المسلمون الفرنسيون وإكراهات الرحيل عن الوطن
- تُلّقب بـ-السلالم إلى الجنة-.. إزالة معلم جذب شهير في هاواي ...
- المقاومة الإسلامية تستهدف تحركات الاحتلال في موقعي المالكية ...
- مكتب التحقيقات الفيدرالي: جرائم الكراهية ضد اليهود تضاعفت ثل ...
- قناة أمريكية: إسرائيل لن توجه ضربتها الانتقامية لإيران قبل ع ...
- وفاة السوري مُطعم زوار المسجد النبوي بالمجان لـ40 عاما
- نزلها على جهازك.. استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة الجديد 20 ...
- سلي أولادك وعلمهم دينهم.. تردد قناة طيور الجنة على نايل سات ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - راتب شعبو - صادق جلال العظم، تراجيديا مفكر