أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - راتب شعبو - حسين العودات، النهضة العربية المفترضة والهمّ المزدوج















المزيد.....



حسين العودات، النهضة العربية المفترضة والهمّ المزدوج


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 6188 - 2019 / 4 / 1 - 15:28
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


العرب جميعاً في موقع الهزيمة، مهزومون حتى في المرحلة التي يسمونها نهضة، العلمانيون والإسلاميون والقوميون والليبراليون ..الخ، الراضي الوحيد في البيئة العربية المحبطة (بالكسر وبالفتح) هم أرباب الاستبداد ومحيطهم السياسي والثقافي. هؤلاء راضون بالتخلف لأنهم نتاجه ولأنه سندهم الذي لا يريدون له أن يتضعضع فتذهب ريحهم. ليس في هذا، بالتأكيد، حكم عقلي أو منطقي يقول إن ديمومة التخلف في مجتمعاتنا تعود حصراً إلى الاستبداد، أو أن أرباب الاستبداد قادرون، لو شاؤوا، أن يضعضعوا التخلف، إنما هو قراءة واقع.
لا يوجد موضوع استهلك من الكتابة العربية أكثر من موضوع النهضة العربية. كل موضوع عربي آخر، بدءاً من نكبة فلسطين والهزائم التالية إلى وقوعنا ضحايا الفقر والأمية وتدني مستوى التعليم والاستبداد السياسي والديني وصراعات الدول العربية فيما بينها والاقتتال الأهلي العقيم ..الخ، يتدحرج الحديث فيه تلقائياً إلى مستقر أليم اسمه إخفاق النهضة العربية. يكاد لا يوجد كاتب عربي لم يتطرق لهذا الموضوع وينشغل به ويضع فرضيته أو يكتفي بالوصف أو يتفجع على حالنا أو يهجوه. ويكاد لا يخلو بحث عربي يتناول واقع مجتمعاتنا من مفردات النهضة والحداثة والتنوير والتخلف والأصالة والمعاصرة والتراث والجمود ..الخ.
الجميع انشغل بالأسئلة التي تفرزها الملاحظة المباشرة: لماذا فشلنا كعرب أو كمسلمين أو كعالم ثالث أو رابع؟ لماذا أصبح زمننا عقيماً أو نكوصياً؟ أين مكمن الخلل؟ ويتضخم وقع هذه الأسئلة، وتكتسب صدى نفسياً خاصاً، على خلفية الازدهار الذي شهده العرب والمسلمون في فجر الإسلام وضحاه. هناك شعور المذلة بعد العز، التبعية بعد الريادة، حالة نفسية ممضة تجمع الشعور بالتخلف إلى الشعور بالخسارة.
ينشغل الباحث السوري حسين العودات (1937-2016) بإشكالية النهضة العربية في كتابه "النهضة والحداثة، الارتباك والإخفاق" الصادر عن دار الساقي في 2011 . يستعرض فيه عدداً مهماً من النهضويين العرب ومن مختلف التيارات باستثناء التيار الماركسي، ويحاول أن يتبين من خلال استعراض هذه التيارات ونقدها، مكمن العلة وسبب "الارتباك والإخفاق" في النهضة العربية. يشير الباحث في مقدمة كتابه إلى سعة التباين بين تيارات فكر النهضة وأثر "التيارات السياسية العربية" في قتل المفهوم في المفهوم، ويرد هذا الأثر إلى نسبية مفاهيم ومعايير الحداثة، هذه النسبية التي جرى استغلالها "لتكبيل المفاهيم ومحوها واستبدالها":
(وقد تم استغلال نسبية هذه المفاهيم من قبل تيارات سياسية عربية مما أتاح لها إعطاءها معاني أخرى ألغتها في نهاية المطاف. ووضعت بدائل لها تكبلها أو تمحوها وتستبدل بها مفاهيم أخرى (إسلامية) تارة و(قومية) تارة أخرى و(ليبرالية) تتماهى مع المفاهيم والقيم وأنماط الحياة الأوروبية تارة ثالثة. كما أتاحت للأنظمة السياسية العربية الحاكمة أن تساهم في إفشال نداءات النهضة، وتغير مفاهيمها، تحت شعار الخصوصية والنسبية.) (ص4 من نسخة وورد)
منذ البداية يضعنا الباحث أمام ظاهرة عربية لافتة هي الالتفاف والتحايل على مفاهيم الحداثة، أي الاحتفاظ بالمفهوم شكلاً مع "تكبيله أو محوه أو استبداله" كما يقول الباحث. للمفهوم إذن قوة تجعل الإسلامي أو القومي أو الليبرالي يعمل على تبني المفهوم أو "حيازته"، بوصفه جزءاً من منظومته الفكرية والقيمية وليس من منظومة التيارات المنافسه الأخرى. في هذا سعي لاكتساب قيمة عامة من الارتباط بهذه المفاهيم وزعم تمثليها. السلطات السياسية العربية "الحديثة"، تعمل من جهتها الشيء نفسه، حين تضع اليد على هذه المفاهيم وتتبناها لفظياً. تشير هذه الظاهرة إلى التباين العنيد بين مفاهيم النهضة وواقع مجتمعاتنا، العجز عن غرس تلك المفاهيم في أرضنا هو ما يدفع إلى التحايل عبر تكبيل أو محو أو استبدال المفهوم. ولكن من جهة أخرى يشير ذلك إلى إقرار واسع بتفوق تلك المفاهيم الأمر الذي يغري التيارات الفكرية (داخل أو خارج السلطة) بالعمل على استثمار قيمتها الرمزية (التي حازتها من تفوق الحضارة الغربية) مع العجز عن الوفاء للمنظومة الفكرية السياسية التي تنتمي إليها.
هذا المؤشر لا يخلو من دلالة جيدة على أي حال، فقوة المفهوم الحداثي التي تجعل السلطات تتبناه، تعني أن له حضوره وتقديره في الوعي العام إلى حد يغري أو يضطر السلطات لمراعاته. دون أن نغفل بالطبع عن وجود تيارات فكرية إسلامية ترفض جملة المفاهيم التنويرية والحداثية بوصفها خطراً على الدين وعلى الهوية. غير أن هذه التيارات اللاعقلانية باتت اليوم في وضعية دفاعية مهما أظهرت من حضور وفاعلية عسكرية وتعبوية. ويبقى الموقف المتوتر والعدائي لهذه الجماعات من الحداثة شبيهاً بموقف السلطات والتيارات الفكرية السابقة الذكر، ففي الحالتين نحن أمام انفعال فكري وليس أمام فعل فكري، أمام تيارات متوترة تحت ضغط الشعور بضعف سيطرتها على تاريخها.
في هذا الانشغال الفكري الجامع، يلاحظ المتابع مقدار التباين، أو الأصح التناقض، في تحليل وتفسير حالنا بين الكتّاب المهتمين. بين من يرى أن حالنا المتردي يعود إلى هجر الدين الإسلامي "الصحيح" (دون أن تعني هذه "الصحيح" شيئاً في الواقع)، ومن يرى في الدين الإسلامي نفسه سبباً في ما نحن فيه. بين من يرى الحل في "العودة إلى الأصل" ومن يراه في تجاوز الأصل، بين من يراه في "الوصل" ومن يراه في "القطيعة". أو بطريقة أخرى، بحسب عبد الله العروي : "يمكن أن نميز ضمن الايديولوجيا العربية المعاصرة ثلاثة تيارات أساسية. يفترض التيار الأول أن أم المشكلات في المجتمع العربي الحديث تتعلق بالعقيدة الدينية والثاني بالتنظيم السياسي والثالث بالنشاط العلمي والصناعي." التيار الأول يمثله الشيخ والثاني رجل السياسة والثالث داعية التقنية، بلغة العروي الذي يرى أن هذه التيارات تمثل لحظات متتالية ومتداخلة أيضاً في وعي العربي لذاته وللآخر.

الفشل العربي بين الفكر "العلمي" والفكر المثالي
يستعرض العودات التيارات النهضوية العربية ويميز بين ثلاثة تيارات: إسلامي وليبرالي وقومي. لا أدري لماذا لم يتطرق باحثنا حسين العودات إلى التيار الماركسي العربي ورؤيته لموضوع النهضة العربية المخفقة، لذلك، لكي تكتمل الصورة، سأعرض لهذا التيار كما يظهر على يد واحد من أفضل من عبر عنه، وأقصد المفكر اللبناني الماركسي مهدي عامل، قبل متابعة مناقشة ما يعرضه باحثنا.
بجهد فكري لافت في تماسكه وحماسه، ينتقد مهدي عامل مساهمات مجموعة من أصحاب الفكر والثقافة في الندوة التي عقدت في الكويت بعنوان "أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي"، في نيسان 1974. ليس هذا التاريخ ببعيد رغم بعده، ففي 2014، أي في الذكرى الأربعين لتلك الندوة، عقدت ندوة في الكويت أيضاً وبالعنوان نفسه، يقول فيها أحد المشاركين: "السؤال الذي طرح قبل أربعين عاماً [1974] لا يزال اليوم دون إجابة". أي لا زلنا فكرياً حيث نحن إزاء هذا الموضوع.
قد كان باحثنا حسين العودات أكثر قسوة حين استهل كتابه "النهضة والحداثة، الارتباك والإخفاق" بالقول: "مازالت أسئلة النهضة التي طُرحت على المجتمعات العربية في نهاية القرن الثامن عشر ماثلة امام هذه المجتمعات". لا شك أن مجتمعاتنا لم تبق هي هي خلال هذا الزمن، غير أن "تطور" مجتمعاتنا لم يكن كما نأمل، كان مزيداً من الركود لا النهضة، ولا يزال يتعثر فكرنا ويتضارب ويتناقض في فهم أسباب تخلفنا أو تأخرنا وسبل الخروج منه.
لنعرض الآن كيف ينظر التيار الماركسي لموضوع النهضة العربية المخفقة.
ينتقد مهدي عامل مفهوم "النهضة" نفسه، بوصفه تعبيراً عن سيطرة الايديولوجيا البرجوازية الكولونيالية، التي استخدمت مفهوم النهضة للدلالة على "حركة فكرية ظهرت بشكل عام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي في الشروط التاريخية نفسها التي بدأت فيها عملية تكون تلك الطبقة المسيطرة. والحركة الفكرية هذه هي حركة فكرها بالذات التي أرادت لها أن تكون مماثلة لما كانت عليه حركة فكر البرجوازية الأوروبية في بدء نهضتها في القرن السادس عشر. فالنهضة الفكرية في أوروبا هي ولادة فكر البرجوازية الاوروبية الناهضة، أي – بالمعنى اللفظي للعبارة الفرنسية – هي الولادة الثانية أو الجديدة للفكر بولادة فكر البرجوازية نفسه ... بين (الولادة الجديدة) و(النهضة) اختلاف لفظي له دلالته. فكلمة "النهضة" لا توحي بما توحي به كلمة "الولادة الجديدة" التي هي جديدة لأنها ولادة شيء جديد ... وفي مفهوم "النهضة" يختفي معنى الولادة الجديدة، لأن النهضة ليست ولادة شيء جديد، بل هي نهضة الشيء نفسه."
لم تتكون البرجوازية العربية بتناقض تناحري مع الطبقة الارستقراطية والاقطاعية المسيطرة السابقة بل بتكيف داخلي للطبقة القديمة المسيطرة نفسها، وكان على الفكر القديم المسيطر أن يتكيف هو أيضاً، أي أن ينهض دون أن يقطع مع الأصل، أي دون ولادة جديدة، ففقد الفكر العربي السابق أصالته حين تحول من فكر لطبقة مسيطرة بذاتها، إلى فكر لطبقة مسيطرة عاجزة أن تسيطر إلا بخضوعها لسيطرة الامبريالية. وهذا الفكر المكيَّف الذي هو فكر البرجوازية الكولونيالية "هو العائق الرئيسي لولادة الفكر العربي الجديدة. معنى هذا إن نهضة البرجوازية هذه بالفكر العربي هي التي حالت دون نهضته الفعلية التي هي فيه ولادة فكر جديد، أو قل إن هذه النهضة البرجوازية هي الشكل التاريخي الذي تحقق فيه عدم نهضة الفكر العربي."
سوف نلاحظ، مروراً، إن آلة النقد الماركسي فعّالة وقادرة على تدمير أي كيان فكري مقابل، ولكنها في المقابل آلة ضعيفة القدرة على دعم البناء الواقعي، ويجب أن نضيف هذه الصفة (الواقعي) لأن النظر الماركسي قادر على البناء النظري قدرته على النقد النظري، ولكن يتأتى ضعفه من فشله في دعم البناء الواقعي. والمفارقة إنه يشبه من هذه الزاوية الفكر الذي يناقضه ويسهب في نقده، أقصد الفكر الديني. نقطة القوة في كلا الفكرين، تكمن في وجود نقاط ارتكاز نهائية يصعب دحضها، كما يصعب إثباتها في الحقيقة. نقاط الارتكاز هذه في الدين هي نقاط غير مُدرَكة لأنها تقع خارج دائرة الوعي البشري، "ميتافيزيقية"، وفي الماركسية هي نقاط ارتكاز "علمية" ترد البنية الاجتماعية إلى أساس تجريدي هو "علاقات الانتاج"، الأساس الذي يقوم عليه كل شيء، بتوسطات وانعكاسات وأشكال ظهور ..الخ . سوف نجد، في الكتاب المذكور، كيف يتمكن مهدي عامل، بسهولة، من "نقض" أصحاب الفكر المخالف، وسوف نجد بالمقابل، كيف يبدو مهدي عامل خالي الوفاض تقريباً حيال البحث في السبيل الملموس للخروج من أزمة تخلفنا التي هي، كما يقول، أزمة سيطرة البرجوازية الكولونيالية.
يستهل مهدي عامل نقده للمساهمات المقدمة في ندوة الكويت المذكورة، بجملة تحدد الموقع الذي ينطلق منه، وتحدد بالمقابل موقع المساهمين: "إن أول ما يلفت النظر في تلك اللوحة الفكرية التي ارتسمت في ندوة الكويت هو أن تحرك الفكر فيها قد تم من زاوية نظر البرجوازية المسيطرة" ، التحديد الذي يحيل المساهمين في الواقع إلى خصوم، لأنهم، بوعي أو دون وعي منهم، يخفون السبب الحقيقي "لأزمة الحضارة العربية"، ويبرّئون البورجوازية العربية من مسؤوليتها الأساسية عن هذه الأزمة، ويضللون إذ يطمسون المشكلات. ولكن لنر ما هي هذه المشكلات الحقيقية التي يجري طمسها.
أزمة المجتمعات العربية هي أزمة في بنية علاقات الانتاج الرأسمالية التابعة أو الكولونيالية، إنها أزمة سيطرة الطبقة البرجوازية العربية المسيطرة، أي أزمة سيطرتها الطبقية. هكذا يحدد مهدي عامل الأزمة ويؤكد على الفارق "بين منهج من التحليل يقود إلى إظهار أزمة التطور التاريخي للواقع الاجتماعي في شكلها الحقيقي كأزمة خاصة بالطبقة المسيطرة، ومنهج من التحليل يقود إلى إخفاء هذه الأزمة بإظهارها في شكل أزمة عامة هي أزمة حضارة"، ويتابع "إن بين المنهجين اختلافاً هو الاختلاف القائم بين زاويتين من النظر طبقيتين: زاوية نظر الطبقة المسيطرة وزاوية نظر الطبقة الثورية النقيض، وهو الاختلاف القائم بين زاوية نظر ايديولوجية وزاوية نظر علمية."
هذا اليقين والحزم الفكريان هما من سمات التيار الماركسي الذي يسهل عليه نقد أي فكر آخر لا يقول إن الأزمة هي أزمة سيطرة الطبقة البرجوازية المسيطرة، ولا يرى جوهر الأزمة في بنية علاقات الانتاج الكولونيالية (حسب مفاهيم مهدي عامل). سبق لعامل أن قال إنه حين ينقد الخصوم الإيديولوجيين فإنه يشعر كما لو أنه يلهو أو يلعب، كناية عن السهولة في النقد. يكفي أن تبرهن أن الفكر المنقود لا يرد التخلف إلى بنية علاقات الانتاج، حتى تضعه في خانة الايديولوجيا أو التضليل. حين تتكلم من "زاوية نظر الطبقة الثورية النقيض" فأنت في دائرة العلم لا الايديولوجيا. مع ذلك، ورغم النبرة العلمية الطاغية عند مهدي عامل، تبقى الحلقة سائبة، فكيف نتيقن من أن قولاً ما يرى الواقع من زاوية نظر الطبقة الثورية؟ وكيف نفسر تناقض أقوال "ماركسية" تزعم جميعها إنها تتكلم من زاوية نظر الطبقة الثورية؟ أين لنا أن نعثر على الخط الفاصل بين العلم والايديولوجيا؟
التماسك الداخلي لمنطق مهدي عامل في كتابه المذكور شديد الجاذبية، وقدرته ظاهرة على نقد أو "نقض" الفكر الآخر (كما يفضل عامل أن يقول)، ولكنه لا يبني، على "أنقاض" مساهمات ندوة الكويت الايديولوجية، سوى تصور "علمي" بسيط أو سهل يقول إن الأزمة هي أزمة برجوازيات عربية مسيطرة، وإن الخروج يكون بحركة تحرر وطني "تنتقل بالعالم العربي من واقعه الكولونيالي الحاضر إلى الاشتراكية."
هنا يتركنا مهدي عامل، الذي يمثل الالتماعة الأخيرة، وربما الأنصع، للفكر الماركسي العربي، مقطوعين بلا دليل، بعد أن كان شديد الدقة في نقد خصومه الإيديولوجيين. شديد الدقة في النقد وشديد العمومية في البناء البديل أو في تصور أفق الخروج. كيف نخرج من مجتمع رأسمالي كولونيالي إلى مجتمع اشتراكي؟ كيف لمجتمع كولونيالي أن ينتج الطبقة الثورية القادرة على إنجاز وحماية هذا الانتقال التاريخي إلى الاشتراكية؟ على أي اسس وبأي قوى ووفق أي منهاج؟ هذه أسئلة لا إجابة محددة لها، وتحيل مرة ثانية الفكرة الماركسية إلى شبيه بالفكرة الإسلامية التي، بدورها، تنتقد (تكفر) خصومها جميعاً وبسهولة ويسر، ثم لا تقول بعد ذلك أكثر من إن "الإسلام هو الحل"، دون أن يكون لهذا القول أي معنى محدد في الواقع.
لئن كان من غير السهل نقد منطق مهدي عامل لأنه يقوم على نقاط ارتكاز باتت تشبه البديهيات التي يصعب نسفها بقدر ما يصعب البرهان عليها، فإن الواقع هو من تكفل بنقد النظرية، الواقع التاريخي هو من تكفل بنقد هذا المنطق النظري الصارم والقطعي الذي تقترب "علميته" من حدود الميتافيزيقيا، فنرى بوضوح كيف يمكن أن يتقارب طرفا قوس التناقض الفكري، الفكر الماركسي والفكر الديني، حين يغترّ الفكر الماركسي بامتيازه النقدي بعيداً عن التباسات الواقع وضياعاته وعالمه المعقد.
النهضة العربية المخفقة
في بحث أسباب إخفاق النهضة العربية يوجد تياران رئيسيان، الأول يعزو الإخفاق إلى الوعي أساساً، والآخر يعزوه إلى الواقع بالدرجة الأولى.
يعرض حسين العودات، في مهمته كباحث وشارح وعارض لأفكار من تناولوا موضوع النهضة والحداثة، في تفسير إخفاق النهضة، طيفاً واسعاً من الأسباب التي جعلت النهضة والحداثة بعيدتا المنال إلى الآن، كما يقول.
"لأسباب عديدة ومتشابكة، بعضها تاريخي وبعضها الثاني يتعلق بمستوى التطور وانتشار الأمية والجهل وندرة التعليم وضعف الوعي، والبعض الثالث بالمفاهيم والقيم والدين وغيرها، والرابع بعدم وجود حامل اقتصادي اجتماعي للنهضة، والخامس بسبب تقليد النهضة الأوروبية ومجرياتها دون إبداع أو أقلمة مع الواقع القائم، لهذه الأسباب ولغيرها أيضاً فشل النهضويون في تحقيق النهضة وإنجاحها وبقيت محاولاتهم صيحات في واد فردية وغير فعالة" (ص7)
لكن هذا الطيف من الأسباب يحتاج، لكي يكون مفيداً، إلى تحديد ما هو أساسي فيه. تثير الفقرة السابقة أسئلة دالة مثل: كيف يكون الفقر والأمية وندرة التعليم سبباً لفشل النهضة، وهل يحتاج إلى النهوض غير الأمة التي تعاني من الفقر والجهل؟ من نافل القول إن الأمة الغنية والمتقدمة تعليمياً هي أمة ناهضة سلفاً ولا تحتاج إلى نهضة. أما إذا كان التقليد دون إبداع أو أقلمة هو السبب، فما الذي يدفعنا إلى التقليد؟ وإذا كان الجواب هو إن تقدم غيرنا هو ما يغرينا بالتقليد، يبقى السؤال: لماذا لم ننجح في الإبداع والأقلمة؟ هل لمشكلة في "العقل العربي" أم في الواقع العربي؟ هل مشكلتنا فيما نحمل من تراث ثقيل لا نستطيع النهوض به ولا نستطيع الخلاص منه؟ ولماذا لا نستطيع هذا ولا ذاك؟ هل مشكلتنا في الدين الإسلامي؟ ولماذا لم يكن الدين الإسلامي عائقاً حضارياً في لحظة ازدهارنا الحضاري؟ ..الخ.
يقول باحثنا، "قامت حركة النهضة الأوروبية على حامل اجتماعي واقتصادي هام وأساسي، شكل أقوى الحوامل وأصلب القواعد وهو نشوء البورجوازية الأوروبية ونموها ... بالمقابل لم تتيسر مثل هذه الظروف والشروط في البلدان العربية، حقاً أنه وجدت إرهاصات فكر بورجوازي وفعالية بورجوازية، ولكن أمر نشوء البورجوازية كطبقة لم يتحقق ... وبسبب عدم نشوء بورجوازية محلية قوية في المجتمعات العربية قادرة على حمل التطور وحركة النهضة بجوانبها المتعددة وأبعادها المتنوعة، وقع عبء النهضة على حراك أفراد ونشاطهم الفردي ورؤاهم الشخصية، وليس على عاتق تيار اجتماعي، سياسي، أو تيار شعبي أو طبقة." (ص62)
يبدو لنا أن هذه الفقرة تلخص السبب المرجعي في إخفاق محاولة النهضة العربية. لم يتوفر لفكر التنوير، الذي هو فكر عالمي، وإن كان أوروبياً في نشأته، طبقة صاعدة عندنا، كالطبقة البرجوازية الصناعية، تجد فيه وسيلة مناسبة لصراعها من أجل السيطرة، أو قل يتطابق مضمونه وآفاقه مع حاجاتها. ولذلك ظل هذا الفكر التنويري عائماً ويتيماً من الناحية الطبقية إذا صح القول، وبقي يدور في حلقات نخبوية دون فاعلية اجتماعية، ولذلك ظلت نهضتنا في حدود التنوير، وراح كثير من المتنورين، أمام عطالة النهضة العربية الشاملة، "ينهضون بأنفسهم"، فيقلدون الغرب في حياتهم ومسلكهم وأثاث بيتهم ..الخ، في مسعى نفسي للانتماء إلى الناهضين في وسط راكد، على طريقة المتنبي: "وما أنا منهم في العيش فيهم".
بكلام آخر، لم تكن الحداثة أو الفكر التنويري وليد تراكم الزمن الإقطاعي العاطل في أوروبا، بل وليد تفسخ هذا الزمن بفعل نشوء الطبقة البرجوازية الأوروبية. على هذا، كان التنوير أحد جوانب بزوغ هذه الطبقة، أو كان بالأحرى فكرها، فيما وصل فكر التنوير إلى مجتمعاتنا باستقلال تام عن تطورنا المجتمعي الخاص، وظل لذلك خارجياً، ليس لأنه جاءنا من الخارج، بل بفعل غياب الأرضية الاجتماعية الطبقية التي يمكن أن تستقبله وتطوره وتتطور به. ولذلك "ظلت اسئلة النهضة ماثلة أمام مجتمعاتنا منذ أواخر القرن الثامن عشر"، كما يشير باحثنا.
الحق إن النهضة العربية لا تنطوي على مدلول النهضة بالمعنى الأوروبي، فهي تقتصر على انتشار أفكار التنوير في النخبة العربية وما ولّد ذلك من نقد للواقع العربي الذي بدا متخلفاً على ضوء تلك الأفكار كما على ضوء الاحتكاك المباشر مع المجتمعات الأوروبية التي دخلت مرحلة التوسع الخارجي ودخلت إلى مجتمعاتنا غازية ومستعمرة، وهذا التوسع هو ما تسبب بذاك الاحتكاك وجلب معه تلك الأفكار. أي إن ما تسبب في بروز الظاهرة التي نسميها النهضة العربية، هو نفسه ما جعل زهور تلك النهضة عقيمة لا تثمر.
في الوقت الذي كان الفكر العربي، بتلاوينه، يتنور بفكر النهضة الأوروبية ويتفاعل معه ويبحث عن مكمن العلة التي تشل تطور المجتمع العربي، كانت المجتمعات الناهضة (مجتمعات النهضة الأوروبية) أنجزت مرحلة مهمة من تطورها الخاص وامتلكت القوة الاقتصادية والعسكرية الكافية لفرض شروط تطورها على المجتمعات الراكدة، ومنها المجتمع العربي. الدخول الأوروبي إلى المجتمعات العربية حمل الفكر النهضوي معه، ولكنه ضرب، في الوقت والفعل نفسه، الآليات الداخلية الخاصة بتطور هذه المجتمعات تطوراً مستقلاً كان من الممكن، افتراضاً، أن يفضي إلى نهضة عربية فعلية، ولو تأخر في الزمن. نقصد إن الاقتحام الأوروبي عطّل إمكانية نشوء برجوازية عربية مستقلة تحمل مشروعاً نهضوياً بنفس آلية التطور والنهضة التي شهدتها أوروبا، وفرض علينا "نهضة" منزوعة الفاعلية.
هذا ما يفسر لنا في الأساس التأثير التاريخي الكبير للمصلح الديني الألماني مارتن لوثر، مقابل الفاعلية المحدودة لإصلاحي ديني جذري مثل محمد عبده.
هل كان يمكن للمجتمع العربي أن يحقق نهضته المميزة لولا الاقتحام الأوروبي المباشر لتاريخه الخاص؟ ربما كان هذا التساؤل قليل أو عديم المعنى، إنه يشبه في افتراضيته، تساؤل الكاتب المسرحي سعد الله ونوس عن الأشكال التي كان يمكن أن تتطور إليها نشاطات العرض الأولية البسيطة عندنا مثل الحكواتي وخيال الظل، لولا دخول المسرح الأوروبي وإزاحته هذه النشاطات التي حُرمت لذلك من أن تتطور. لكن رغم عبثية هذه التساؤلات يبقى لها جاذبية وقوة على الحضور، وهي قوة نابعة من تدهور حالنا وما يغذي هذا من نزعة إلى التعويض الخيالي أو الافتراضي، فضلاً عن أن هذا النشاط الذهني يدغدغ الشعور بخصوصية خصبة جرى سحقها بالعولمة.
بين الوعي بالنهضة والعجز عن تحقيقها عاش أصحاب الفكر النهضوي توتراً دائماً، الفشل والبحث عن أسبابه واقتراح سبل تجاوزه، كان الأصل في تعدد وتضارب التيارات النهضوية (بين التيار الإسلامي والتيار الليبرالي مثلاً)، وفي بروز النزعات التشاؤمية، "لم يكن فرانسيس مراش متفائلاً بمستقبل العرب، فهم، برأيه، قد لايخرجون من (دولة الخشونة والبربرية إلى دولة التمدن إلا بقوة المعجزات وبعد ألف عام) وعلل موقفه هذا بأن العرب شعب منقسم على نفسه من كل قبيلة وملة، وليس لديهم محبة وطنية منزهة عن أغراض الطائفية والتعصب الطائفي". (ص52)
الحق إنه لا يمكن رد "الارتباك والإخفاق" في النهضة العربية إلى خطأ في موقف النهضويين العرب كما يشير باحثنا، "من أسباب فشل حركة النهضة العربية موقف النهضويين الخاطيء والمتباين مما جرى في أوروبا، ومن أساليب الاستفادة من النهضة الأوروبية، ومن حركة التنوير والتطور بشكل عام" (ص63)، بقدر ما كان انعكاساً لإخفاق نهضوي خارج عن إرادتهم يتمثل في وقوع آليات تطور مجتمعنا تحت هيمنة تطور المجتمعات الأوروبية التي حملت لنا أفكار النهضة وضربت إمكانات النهضة الخاصة بنا، حين ضربت إمكانية تطور إنتاج رأسمالي مستقل وطبقة برجوازية صناعية مستقلة هي الطبقة الوحيدة التي كان يمكنها أن تنتج فكرها النهضوي الخاص أو أن تستثمر فعلياً فكر النهضة الأوروبية، أي كان يمكنها أن "تكرر" التجربة النهضوية الأوروبية، كما ذكرنا.
على هذا، يبدو لنا النقد الموجه إلى رجال النهضة جائراً. لا التقليد الأعمى للغرب، ولا نزعة التأوروب ولا استيرد التحديث (المنتوجات التقنية) ورفض الحداثة (الفلسفة والأفكار) ولا الانبهار بالغرب هو المسؤول عن فشل النهضة. يحمّل باحثنا رجال النهضة مسؤولية ليست مسؤوليتهم ويندفع بحماس في هذه المرافعة النقدية:
"بالغت الفئة المندهشة بالحضارة الأوروبية في رغبتها بالعمل للتماهي مع هذه الحضارة وتقليدها دون تبصر، واعتبارها المثل الأعلى والطريق الوحيدة للخلاص، والأسلوب الأفضل للتطور، ولم تخش طمس الهوية العربية أو تجاهل القيم والتقاليد العربية الإسلامية، وهكذا بدلاً من أن تلعب دوراً فاعلاً في بناء النهضة تسببت بردود فعل وحذر وعدم قبول من فئات عديدة من المجتمع، وفي الخلاصة أعاقت الحوار حول مسيرة النهضة، ووضعت العراقيل أمامها لئلا تنطلق من داخل المجتمع لامن خارجه، ومن حاجاته لامن تقليد غيره، وبحثت عن تبريرات واهية حول حذر بعض الفئات الثقافية والاجتماعية والدينية من أفكار النهضة، وأعطت لبعضها المبررات لترفض أفكار النهضة أو ترفض التغيير وتنادي بالتجديد والتطوير، وتزين طريق المصالحة مع النظام القائم والتقاليد والقيم المعمول بها، وتحاشي الإصلاح الجدي والنهضة الحقيقية." (ص65)
توحي الفقرة السابقة بأن التطور العام للمجتمع خاضع لانفعالات نخبته المفكرة، وأن هذه النخبة قادرة على أن تعرقل النهضة حين تتوفر عواملها، وحين تكون طوراً ضرورياً في تطور البنية الاجتماعية. على أن الباحث يشير في مكان آخر إلى أنه كان إلى جانب هذه "الفئة المندهشة بالحضارة الأوروبية" فئة أخرى أوسع وأكثر عدداً، تدعو إلى النهضة تحت خيمة الشريعة الإسلامية، لماذا إذن لم يُفلح هؤلاء "غير المندهشين" في تحقيق نهضة فيما نجح المندهشون في عرقلتها؟
لا شك أن النهضة لا تحتاج لكي تنجح إلى استرضاء الفئات الشعبية أو التسلل إلى وعي الشعب من مداخل جانبية خشية إعطاء فئات معينة من الشعب مبررات لرفض النهضة والتغيير. على الأقل، ليست هذه "المراعاة" عاملاً حاسماً في تحقق النهضة. البحث عن سبب إخفاق النهضة في وعي وانفعالات وسلوك وتصريحات رجالات النهضة، لا يمكن أن يصل إلى أرض ثابته. هنا يبدو لنا أن النقد الماركسي لرجال الفكر الذين يبحثون عن تفسير "أزمة الحضارة العربية" في "العقل العربي" صائباً. في الواقع وليس في العقل يمكن تلمس أسباب الركود، وفي الحاضر (الواقع) يمكن تلمس أسباب سيطرة التراث، فالحاضر هو مفتاح الماضي ولا يصح العكس.
بين المواطنة والمساواة الإسلامية
الصلة التي قامت بين حركة الواقع وحركة الفكر في أوروبا كانت معدومة عندنا. تطور الفكر النهضوي الأوروبي كان لصيقاً بتطور الصراع الاجتماعي الذي شكل في الواقع بيئة تطور الفكر التنويري هناك، فيما جاءنا هذا الفكر في حالته المكتملة باستقلال كلي عن صراعاتنا الاجتماعية. الأمر الذي جعل بين "فكر النهضة العربية" وواقع المجتمع العربي علاقة خارجية أو علاقة اغتراب.
في حين كان لوقع كلمة "مواطن" بعداً يقترب من القداسة في الثورة الفرنسية، ليس فقط لأنها ارتبطت بلحظة انتصار وبتحرر "المواطن" من قيود الاقطاع، بل لأنها كانت بمثابة اكتشاف أو ابتكار أصيل يلبي حاجة ملموسة وممكنة في الوقت نفسه، فإن هذه المفردة تفقد سحرها في بلادنا، إنها وصلت إلى مجتمعنا باردة، لأنها لم تنبثق من سياق صراع اجتماعي محلي، ولم ترتبط بلحظة انتصار ضد ظلم مكرس، وهي لهذا لم تكن ممكنة بالمعنى الأوروبي الذي تنطوي عليه. المفارقة أن ارتباط أو ارتهان تطور مجتمعاتنا بمقتضيات تطور المجتمعات التي جاءتنا منها فكرة المواطنة أصلاً، هو ما حال دون تحقق المواطنة عندنا.
كان من شأن تفوق هذا المفهوم "المواطنة" بفعل ارتباطه بمنظومة فكرية وسياسية أكثر تطوراً قياساً على واقعنا الاجتماعي، أن جرى تبنيه من جانب كثير من "مفكري النهضة العربية"، ثم تبنته لفظياً السلطات العربية "الحديثة" التي كانت تقتل هذا المفهوم وترفعه شعاراً في الوقت نفسه، حتى تحول إلى مفردة جوفاء خالية من المعنى، وبات ليس أكثر من بديهة سمعية عند "المواطنين" العرب، لا يحمل في أذهانهم أي بعد تحرري، ولا يثير فيهم انفعالاً أو توقاً من أي نوع. وما ينطبق على هذا المفهوم يمكن سحبه على باقي مفاهيم فكر النهضة التي يتناولها بالتفصيل باحثنا العودات، العلمانية والوطن والدولة والديموقراطية ..الخ.
الحقيقة أن العربي لم يكن يعاني في تاريخه من مشكلة الاقطاعات وقيود السفر والتنقل التي تفرضها على الناس، كما لم يكن يعاني من التراتبية الاجتماعية، أقصد تقسيم المجتمع رسمياً إلى مراتب موروثة بحقوق وامتيازات مختلفة، الأمر الذي اختفى فعلياً مع سيادة مفهوم المواطنة بعد أن كانت تعاني منها الشعوب الأوروبية. فكرة المساواة المجردة أو العقلية، موجودة بكثافة في الثقافة العربية الإسلامية، وبمعنى يتجاوز معنى "المواطنة"، من زاوية محددة، لأنها منسوبة إلى العلاقة مع الله (أفضلكم عند الله أتقاكم) وليس إلى العلاقة مع سلطة سياسية، وهي منسوبة إلى الله الذي تحكم السلطة السياسية الإسلامية باسمه، أي إنها منسوبة إلى المرجعية الأعلى التي ليس بمقدور السلطة السياسية أن تتجاوزها. لنقرأ هذا التعليق للطهطاوي مثلاً: "فيما يتعلق بالحرية والمساواة والعدالة لا يوجد اختلاف كبير بين مبادئ القانون الطبيعي وبين الشريعة الإسلامية. وأن مبادئ النظام الأوروبي الجديد معروفة لدى المسلمين منذ مئات السنين، وأنها بالتالي لا تتعارض مع الإسلام بل تتواءم معه كلياً". إذا كانت هذه المبادئ "معروفة لدينا منذ مئات السنين"، لماذا كانت هذه المبادئ أساس لنهضة في الغرب، فيما نحن في سبات معها منذ مئات السنين؟
كلام الطهطاوي السابق الذكر ينم عن رغبة في ستر الفروق والتعمية لأن التدقيق ليس في صالح "الإسلام". حين نضع الدين الإسلامي في منافسة مع العلم الطبيعي والاجتماعي، كما يفعل الطهطاوي هنا، ينبغي أن ندرك أننا نظلم الدين لأننا نقحمه في غير مجاله. هذا الألم المستمر الذي يشعر به كثير من المسلمين تجاه تخلفنا العلمي والسياسي ويحاولون تهدئته بالقول إن "القرآن" يحتوي كل شيء، ويجتهدون في التأويل لتبيان ذلك، نقول إن هذا الألم ذاتي المصدر، فالمسلم يتسبب به لنفسه لأنه يريد من الدين أن يتغلب على العلم الطبيعي في ميدان العلم الطبيعي، وعلى العلم الاجتماعي في ميدان العلم الاجتماعي في حين أن للدين مجاله الخاص. هذا ظلم للدين الإسلامي، يرتد ألماً ومرارة على المسلم نفسه.
فكرة المساواة بين المسلمين (نضع جانباً هنا إشكالية التراتبية الدينية بين المسلمين وأهل الكتاب) في التاريخ الإسلامي أعلى "نظرياً" من سلطة الدولة الإسلامية، أي إنها تقع "نظرياً" بعيداً عن متناول السلطة السياسية، مع ذلك لا تجد هذه المساواة النظرية طريقاً لها إلى الواقع. هذا مثال نموذجي لإظهار هشاشة الفكرة حين لا يتوفر لها بيئة مناسبة وشرطاً اجتماعياً اقتصادياً مستقبِلاً.
المساواة (بين المسلمين) هي في الواقع فكرة مضادة للدولة الإسلامية المشبعة فعلياً بالتمييز والتراتبية إلى حد العبودية. ولكنها فكرة عاطلة أو ملجومة رغم أنها موجودة في النص القرآني وفي تضاعيف السنة النبوية. إنها فكرة مسيطرة في الحقل الثقافي العربي والإسلامي، وإلى جوار هذه الفكرة، التي تعتبر من أساسيات الدين الإسلامي، نما التفاوت الواسع في هذا المجتمع. أن تكون فكرة المساواة جزءاً أساسياً من الدين السائد، وأن تتعايش هذه الفكرة لقرون مع كل التفاوت الاجتماعي والظلم المقيم والانتهاكات الفظيعة التي تملأ كتب التاريخ، يعني أن مشكلتنا ليست مع الفكر، بل مع الواقع الذي لا يوفر إمكانية تحقيق المساواة، ولا يوفر ما هو أقل من ذلك أيضاً، مثل حماية حياة كريمة لأبناء "الأمة".
بماذا تختلف فكرة المواطنة عن فكرة المساواة الإسلامية؟ الفارق بين المساواة الإسلامية والمساواة بالمواطنة فارق جوهري، هو الفارق بين أساس مادي متين يمكن أن تبني عليه، وأساس ضبابي وافتراضي لا يمكن البناء عليه. المساواة الإسلامية هي مساواة أمام الله، وهي إذن ليست شأناً دنيوياً صلباً، إنها بالأحرى وعد مؤجل وفكرة غيبية مثلها في ذلك مثل الحساب الأخروي. فكرة المواطنة تنطوي على تعديلين جوهريين في فكرة المساواة الإسلامية الآنفة الذكر، الأول هو أنها تساوي بين الناس أمام القانون، هذا المعطى البشري المحدد والواضح والملموس مع وجود سلطة دنيوية تحمي حقوق الأفراد وفق هذا القانون؛ والثاني أنها تنسب الناس إلى الوطن وليس إلى الدين. المساواة الإسلامية التي هي المساواة أمام الله، هي مساواة ذهنية أو "متعالية" أي غير عملية وغير ملموسة، إنها مساواة معنوية بالأحرى وليست مادية. أن ينصفك الله شيء يختلف عن أن ينصفك القانون البشري. في الحالة الأولى هناك إحالة إلى ما فوق العقل البشري والغيب، وفي الثانية حصر فعل الإنصاف في دائرة العقل والإدراك البشري والملموسية. في الحالة الأولى لا يملك "المسلم" أن يعلم كيف يتم إنصافه ومتى، وفي الحالة الثانية يعلم "المواطن" أن هناك جهة محددة ومخولة بأن تحكم بما له وما عليه. الحالة الأولى تفتح طريقاً إلى الأمل في "الإنصاف في الآخرة"، وفي الحالة الثانية يكون الإنصاف دنيوياً محضاً، أي ملموساً ومحدداً. في الحالة الأولى ينتظر "المسلم" المظلوم برجاء الإنصاف الإلهي، وفي الحالة الثانية ينشط "المواطن" لكي يدرك حقه الدنيوي الملموس والقابل للفهم كما هو في نص القانون.
على هذا، حملت فكرة المواطنة في ثناياها تعارضاً مع الوعي العربي السائد من حيث أنها تضع الدولة فوق الدين، ومن حيث أنها تساوي بين أبناء الديانات بجعل الانتماء إلى الوطن يعلو على الانتماء إلى الدين، ما ينسف أفضلية المسلمين المستقرة في الوعي (كنتم خير أمة). كما ارتبطت فكرة المواطنة بالاستعمار، فظهر أن مصدر الفكرة "الغرب" هو مصدر نكرانها من حيث أن الاستعمار فعل عدواني وقسري وتمييزي أي مضاد للفكر النهضوي. لو سلّمنا أن فكرة المواطنة طيبة، فإن طبيعة حاملها العدوانية تترك انعكاسها، بطبيعة الحال، على تقبل هذه الفكرة. لكن الأهم أن فكرة المواطنة لم تشكل، فوق هذا، إجابة دقيقة على وجع الفئات الشعبية الواسعة في مجتمعاتنا، وهي لذلك لم تترك صدى مميزاً وظلت مفهوماً خاملاً في الوعي الشعبي العام، ولا تزال فكرة مرفوضة من جماعات الإسلام السياسي التي ترى أنها تمتلك فكرة أسمى من الرابطة الوطنية وهي الرابطة الدينية التي لا تعترف بالأوطان.
النهضة العربية والهم المزدوج أو "عقدة الشريعة"
يعرض باحثنا حسين العودات لتيار من مفكري النهضة يصفهم بالليبراليين الذين يرون ضرورة فصل الدين عن السياسة واحترام حرية الفرد واستقلالية قراره وخياراته، وإن دين العلم هو إعلان الحرب على الديانات، فالدين عنصر تفرقة، لابحد ذاته، بل لأن رؤساء الدين يبذرون الشقاق بين الناس، مما يبقي المجتمعات ضعيفة، وتقوى الأمم بقدر ما يضعف الدين، وما أضعف الأمة ليس الإسلام أو القرآن بل سلطة رجال الدين (شبلي شميل). أو "لامدنية حقيقية ولا تساهل ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا إلفة ولا حرية ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم في الداخل إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية" (فرح أنطون)؛ رأى الإسلاميون "إن العلاج يكون في مزيد من اللجوء إلى الدين، لأن الروحانية الدينية تقود وحدها إلى التقدم الحقيقي المرادف للكمال" (الأفغاني). بين القول إن الدين عنصر تفرقة، والقول إن العلاح يكون في المزيد من اللجوء إلى الدين، تعارض صريح يفضح في الحقيقة مفهوم النهضة العربية، حين تتبدى بوصفها تيارات متعارضة لا يمكنها أن تشكل قيادة لنهضة مجتمع.
الكتاب الثلاثة الذين يستعرضهم باحثنا في باب النهضويين الليبراليين هم من منبت مسيحي (فرانسيس مراش، شبلي شميل، فرح أنطون)، هذا أمر له دلالته الفكرية. قد يميل المرء للقول إنه يسهل على هؤلاء، بحكم منبتهم، أن يحرروا قلقهم على حال الأمة من القلق على الدين، الذي هو هنا الدين الإسلامي باعتباره الدين السائد، هذا على خلاف النهضويين الإسلاميين الذين يدفعهم إسلامهم إلى حمل الهم المزدوج (همّ تخلف الأمة، وهمّ الحفاظ على الشريعة)، وإذن إلى ابتكار حلول تلفيقية أو إصلاحية تسعى مرة لتطويع الشريعة مع متطلبات النهضة ومرة لتطويع مفاهيم النهضة مع متطلبات الشريعة، ما يشير إلى ما يمكن تسميته "عقدة الشريعة" عند النهضويين الإسلاميين. لنلاحظ مثلاً هذا التحفظ المتكرر الذي يبديه هؤلاء: "الأمة تستطيع وضع قوانين لكنها يجب أن تخضع للشريعة إذا اصطدم حكم القانون مع مقتضيات الشريعة التي تستمد قوتها من مبادئ الإسلام" (رشيد رضا).
يمكن بسهولة فهم القلق "الإسلامي" إزاء هذا الفيض الأوروبي "المسيحي"، الذي تشكل مفاهيم النهضة أحد تجلياته، ذلك أن هناك تاريخ طويل من الصراع والعداء الذي تغلف بالدين وصار لذلك أكثر عمقاً في الوجدان الشعبي، ومن المفهوم أن "الأفكار" الأوروبية صار عليها أن تمر إلى الوعي الإسلامي عبر بوابة محروسة بالشك ومحاطة بالقلق على الهوية التي كانت سيدة حضارة حين كانت أوروبا في الظلمات. الاستقبال الإسلامي للفكر النهضوي الأوروبي محكوم بعقدة الشريعة التي يتم اعتبارها معيار الهوية العربية الإسلامية. في الواقع جمّد الإسلاميون هذه الهوية كما جمدها الليبراليون، جمدها الإسلاميون خشية عليها من الابتعاد عن ذاتها بفعل ريح النهضة الأوروبية اللادينية الجارفة، وجمدها الليبراليون حين رأوا أن لا أمل في تطويرها إلا بتجاوزها إلى هوية أوروبية جاهزة للنسخ وماثلة للعيان.
في محاولة لتجاوز شعور النقص إزاء الغرب، وفتح باب لاستقبال مفاهيم النهضة الأوروبية دون مس بالحساسية العربية الإسلامية، ابتكر بعض أصحاب الفكر المنشغل بالهوية الإسلامية، مفهوم (الحس النهضوي) الذي يميز الإنسان العربي وخصوصية الثقافة الإسلامية، والذي هو، بحسبهم، ما يفسر النهضة العربية وليس الاحتكاك بالغرب: "أرضيتنا في هذا العمل تقوم على أن النهضة العربية التي ظهرت منذ قرنين والتي تركزت مع التقاء الذات العربية المتشظية بأوربة صاحبة الريادة والسيادة، هذه النهضة كانت استعادة للحسّ النهضوي الذي تأسّس منذ قرون مع الرسالة المحمدية والذي ظل بارزاً في مفاصل معروفة باهتاً أو مستتراً في مراحل أخرى. من تلك البذرة القديمة انطلقت النهضة الحديثة، وليس نتيجة الصدام مع جيوش أوربة الغازية .. بتعبير آخر فرضيتنا في هذا المستوى تنطلق من اعتبار ما للالتزام النهضوي الحديث من علاقة مع الخصوصية الثقافية الإسلامية؛ إنها هي التي تفسره أكثر مما يفسره الصدام مع الغرب الغازي." ويرى الكاتبان أن "كل حراك سياسي واجتماعي عربي هو ذو معنى ديني بالضرورة". هذا التأكيد الغريب لا يمكن فهمه إلا في ضوء هاجس الهوية والهاجس الديني المرتبط به، لأن من شأن هذا التأكيد تخفيف القلق النفسي المقيم والذي منشأه الخوف من الابتعاد عن الهوية وفقدها بمقتضى التطورات ومتطلبات العصر. يتوسع الكاتبان في الفكرة: "إن مرجعية الحراك العربي منذ القرن السابع موصولة بطبيعة الخطاب الديني، وخاصة بتصوره للألوهية دون أن يعني ذلك من جانبنا تنكّراً لأي تأثير لعناصر موضوعية أخرى في صيرورة ذلك الحراك العام. لكن هذا لاينبغي أن يغيّب عنّا الفاعلية الخاصة للتصوّر الديني، وهو ما جعل الإنسان العربي يظل كائناً متديناً بالأساس، حتى وإن عبّر عن تنكّره الصارخ لتعاليم الشريعة أو شعائرها." هناك إذن تأكيد على فرادة عربية إسلامية عابرة للزمن، تمتلك قيمة جوهرية دائمة حتى في حقب الانحطاط والتخلف، بوصفها استعداد كامن للنهوض.
نهضة العرب القديمة كانت برافعة دينية، فيما نهضة الغرب الحديثة جاءت علمانية وتقوم على رد الدين إلى مجاله الخاص، إن لم نقل جاءت على الضد من الدين، هذا التباين يترك اثره على الاحتكاك بين التجربتين أو المجتمعين، ويخلق لدى العرب، عموماً، قلق الابتعاد عن "خصوصيتهم" ذات الأساس الديني فيما لو هم أخذوا بأسباب نهضة علمانية. نهضنا سابقاً بالدين، ولا ننهض تالياً إلا به. حديث الإمام مالك "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما يجد من يتعامل معه كنبوءة يُبنى عليها.
الحداثة "جاهلية القرن العشرين"
يشترك التياران (الإسلامي والليبرالي) بالتركيز في معالجة مشكلة التخلف على مستوى الوعي والإرادة، بصرف النظر عن الاختلاف فيما يصلح أو لا يصلح لهذا الوعي. الليبراليون يحاكمون بطريقة تماثلية تقول طالما أن أفكار ومفاهيم وقيم ومعايير النهضة الأوربية قد "نجحت في نقل أوروبا من عصر إلى عصر، من عصر الانحطاط والتخلف إلى عصر المدنية، فلابد أن تنجح في البلدان العربية لو تم تبنيها" (51). في الأمر، كما هو واضح، إرادوية تدير الظهر إلى تغاير الواقع من بنية اجتماعية اقتصادية إلى أخرى، ومن عصر إلى آخر. هذا الإعجاب بالغرب والتوق إلى تقليده، حرّض عند هؤلاء تكرار القول "إن ولاءنا هو للشرق" دفعاً لتهمة التغرب ودرءاً للاغتراب. أما الإسلاميون فقد رفضوا الحداثة الغربية لأنها تضع العقل فوق الدين: "رفض أنصار التيار الإسلامي الدخول في عالم الحداثة، لأن مرجعيتها كانت غربية. ولاشك أن شعار الحداثة المدوي ومقتضاه أن العقل هو محك الحكم على الأشياء وليس النص الديني، هو أحد الأسباب التي جعلت أنصار التيار الإسلامي يهاجمون الحداثة الغربية .. لم يعتبر المثقفون الإسلاميون المتنورون أن الحداثة تغيير بنيوي للمفاهيم الفلسفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية قد تؤدي إلى قطع مع التراث، كما اعتبرها بعضهم عملية إحياء تستطيع الشريعة تحقيقها بالاجتهاد إذا عادت إلى أصول الدين، ولذلك قالوا عن الحداثة أنها (جاهلية القرن العشرين)، ورأوا أن المسلمين الذين قالوا بها ابتعدوا كثيراً عن الأخلاقية القرآنية وغلب على الدولة وفئات أخرى مع الحداثة الشر السياسي." (ص84)
يميل العودات إلى اعتبار "شكل الخطاب الثقافي العربي، والخطاب الديني، والموقف من التراث" (ص86) هي عوائق حقيقية أمام دخول الحداثة المجتمعات العربية". هنا يعزو باحثنا العوائق إلى الوعي (الخطاب والموقف)، فيما كان من قبل قد مال لاعتبار الواقع (عدم ظهور حامل اجتماعي اقتصادي) هو السبب المهم في إخفاق النهضة العربية. رغم تداخل العلاقة بين الأسباب والنتائج وتعقدها، يبدو لنا إن عبارة مهدي عامل في هذا المجال تمتلك قيمة دلالية ومعرفية "ليس التراث في وجوده الحاضر هذا سبباً للتخلف بل هو وليد هذا التخلف، أي أثراً له" . أصحاب الخطاب الديني لا يمتلكون قوة مؤثرة في الواقع إلا بسبب تعثر خروج مجتمعنا من دائرة التخلف.
المشكلة الأساسية ليست في التراث ولا في الدين، بل في الشروط التي تجعل من التراث والدين قوة إعاقة كبيرة يصعب تخطيها. فشل النهضة وشكل الحداثة الرديئة التي دخلت مجتمعاتنا وتبني مفاهيم الحداثة من قبل سلطات تقوم على القوة والتمييز وترفع شعارات المواطنة والديموقراطية والحرية ..الخ، ساهم في تعزيز الموقف العام السلبي من الحداثة، وهو ما أتاح للخطاب الديني أن ينتشر بوصفه نوعاً من حماية المجتمع من شرور حداثة أدت، كما يجري تصويرها لدينا، إلى انتشار الرذيلة وتفكك الأسرة وزواج المثليين وانعدام البعد الروحي في الحياة ..الخ.
الوضعية المنهزمة أمام الغرب المسيطر والذي هو أبو الحداثة، تتيح لمن يعتبرون أنفسهم ناطقين باسم الدين الاسلامي تصوير الحداثة باعتبارها سياق من التغريب والقسر على مجتمعاتنا: "إن التغريب هو بذاته أبرز وأفدح أنواع العنف الذي تمارسه الدولة، إنه عملية سلخ مجتمع عن أصوله وضميره، من أجل فرض ما سمي بالحداثة، وهي في الحقيقة دكتاتورية الغرب على شعوبنا من خلال وسيط جماعة التحديث، الأمر الذي يجعل التغريب أوالتحديث على النمط الغربي نقيضاً كاملاً للديموقراطية من كل وجه" (راشد الغنوشي) (ص90).
كلام الغنوشي، كمعبر عن أحد أكثر تيارات الإسلام السياسي اعتدالاً، يقوم على أساس واقعي، بالفعل ارتبطت معرفتنا بالحداثة مع دكتاتورية الغرب وسيطرته، وهي لذلك تبدو من هذه الزاوية نقيضاً للديموقراطية. وصحيح أن الحداثة إذا أخذت بصورتها الأوروبية الحرفية تبدو تغريباً وسلخاً للمجتمع العربي المسلم عن أصوله وضميره، ولكن الصحيح أيضاً أن الماضي لا يحمل في ثناياه أجوبة الحاضر، وأن الحداثة، مفهومة بمعناها العام بوصفها تحرير العقل من السلطات المعيقة بما فيها، وعلى رأسها، سلطة النصوص المقدسة، أمر لا بديل عنه لتطور المجتمع، وأن الجهد الفكري الذي يذهب في اشتقاق الصلاح من التراث واستعراض "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" كما هو عنوان كتاب الغنوشي، هو جهد في غير محله. والأهم من ذلك، إن قدرة العرب على الخروج من الواقع "الحداثي" الغربي بوصفه واقعاً دكتاتورياً على شعوبنا، ترتبط باتصالنا بالحداثة وليس بانفصالنا عنها نحو تفعيل قدامة ما عاد لها أن تتفعل إلا لكي تعيدنا إلى الخلف.
بكلام آخر، ليست الحداثة "جاهلية القرن العشرين" التي ينبغي دحرها لتحقيق النهضة، كما تحققت النهضة الإسلامية الأولى بدحر الجاهلية العربية، بل هي سبيل ممكن للنهضة التي لا تكون إلا ابتكارية ومبدعة.
أخيراً، هل يمكن استثمار عالمية مفاهيم الحداثة؟
اقتحمت أفكار الحداثة مجتمعاتنا وباتت من معطيات الحاضر، وقد يكون هذا الاقتحام الغزير والمتواصل من أسباب زيادة تمسك الكثيرين بالدين قياساً على ما كان عليه الحال قبل قرون. تغدو الثقافة التقليدية للمجتمع ملاذاً آمناً حيال ما سمي "غزواً ثقافياً"، وهو غزو، ليس فقط لأنه مفروض ويصعب رده، بل الأهم لأنه لا قدرة للمجتمع المغزو على استيعاب (ليس بمعنى الاستيعاب العقلي) الأفكار القادمة المدعومة بالتفوق الحضاري لبيئتها الأم، ولذلك تبدو هذه الأفكار "تدميرية". تشبه أفكار الحداثة التي تصلنا مقطوعة عن بيئتها المنتجة، المنتجات التقنية الحديثة مع فارق إن توظيف الآلة والسيطرة عليها أمر متاح، فيما مجال تأثير وحركة الفكرة أكثر تعقيداً وأشد حساسية.
لماذا فشلنا في امتلاك طريقنا الخاص إلى الحاضر إلى الفاعلية إلى الحداثة؟ يقول باحثنا في جوابه على هذا السؤال المضمر: "أعتقد أن المثقفين العرب لم يستطيعوا الوصول إلى مفاهيم وأطر خاصة تطور الفكر الحداثي والوعي بالحداثة، وتقارب بين الجمهور والحداثة والتجربة الحداثية، وإنجاح الجهود لتوعية الناس وإقناعهم أن الحداثة ليست بالضرورة سلعة أوروبية، ولا تستورد كماهي" (ص88).
الفشل يتركز إذن في عجز المثقفين عن خلق "التقارب بين الجمهور والحداثة"، وعجزهم عن "توعية الناس". غير ان النخبة العربية المثقفة تضم تيارات عديدة ومتعارضة منها ما يرفض الحداثة أصلاً، ولم تشكل هذه النخبة في أي لحظة "قيادة" فكرية موحدة. يبقى القول إن الفشل على مستوى الوعي هو جزء من مركب الفشل النهضوي في مجتمعنا.
إذا افترضنا أن فشل النهضة العربية يعود، في الأساس، إلى غياب الحامل الاجتماعي الاقتصادي (طبقة ناشئة)، الأمر الذي جعل مجتمعنا يدخل في "حداثة رثة" ، فإن الطريق إلى امتلاك سبيل تحديث المجتمع العربي في ظل الشروط العالمية القائمة والتي لا فكاك منها، هو الوعي العام الحداثي الموضوع في سياق الفعل. ويكون ذلك بتغذية الوعي العام بقضايا محددة وملموسة وابتكار آلية للفعل المباشر حيال هذه القضايا. من شأن هذا أن يترجم الوعي الحداثي إلى فعل وأن يشكل رافعة حداثية في غياب "الحامل الاجتماعي الاقتصادي".
هذا يقول إن حركة مجتمعاتنا إلى الدخول الفاعل في العصر، قد يمر عبر طريق ثقافي، بمعنى نشر وعي حداثي وتفعيل هذا الوعي بإظهار جدواه في الدفاع عن حقوق ملموسة ومباشرة للناس ( ضد الفقر، ضد التمييز، ضد الفساد ..) من خلال أشكال تنظيمية مناسبة. أي إن الفراغ الحداثي الناجم عن ركاكة التكوين الطبقي للمجتمع العربي، يمكن ملؤه بنشاط ثقافي ومدني واع لأهدافه ومنظم وساع للاتساق مع العصر والاستفادة من عالمية مفاهيم الحداثة وقيمها.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصراع القطبي
- النظام السوري: افتراق السياسة عن القيم
- في علمانية اللاعلمانية
- عقدة نقص الدولة الفلسطينية
- العلمانية والديمقراطية وفك الاحتكارات
- عن العلمانية والديموقراطية
- لماذا الصحوة الإسلامية؟
- تعليق على مشروع البرنامج السياسي للتجمع الوطني الديموقراطي ف ...
- في شأن إعدام صدام حسين
- حول اعتقال علي الشهابي
- حرب لبنان ومأزق -العقلانية- السياسية
- سوريا السوريالية
- عن الداخل والخارج مساهمة في الحوار الجاري
- الخارج وفق محددات الداخل - المثال السوري
- الوحدة الوطنية بين السلطة والمعارضة في سورية
- قبل الرماء تملأ الكنائن
- أية علمانية وأي إسلام؟
- مفهموم الوطنية..مقاربة عامة
- مفارقة السياسة الامريكية في المنطقة
- إعلان دمشق ..تقدم في الشكل وتراجع في المضمون


المزيد.....




- بعد مظاهرات.. كلية مرموقة في دبلن توافق على سحب استثماراتها ...
- تل أبيب.. اشتباكات بين الشرطة وأفراد عائلات الرهائن في غزة
- مقتل رقيب في الجيش الإسرائيلي بقصف نفذه -حزب الله- على الشما ...
- دراسة تكشف مدى سميّة السجائر الإلكترونية المنكهة
- خبير عسكري يكشف ميزات دبابة ?-90? المحدثة
- -الاستحقاق المنتظر-.. معمر داغستاني يمنح لقب بطل روسيا بعد ا ...
- روسيا.. فعالية -وشاح النصر الأزرق- الوطنية في مطار شيريميتيف ...
- اكتشاف سبب التبخر السريع للماء على كوكب الزهرة
- جنود روسيا يحققون مزيدا من النجاح في إفريقيا
- الأمور ستزداد سوءًا بالنسبة لأوكرانيا


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - راتب شعبو - حسين العودات، النهضة العربية المفترضة والهمّ المزدوج