|
[7] . الشّروال، قصّة قصيرة
صبري يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 6099 - 2018 / 12 / 30 - 14:11
المحور:
الادب والفن
7 . الشّروال
عدْتُ من الدَّوامِ مبكِّراً في صبيحةِ يومٍ ربيعي قبلَ الموعدِ المعتادِ بحدودِ ساعتين، كانَتْ زخّات خفيفة من المطرِ النَّاعمِ تتناثرُ من قبّةِ السَّماءِ على إِيقاعِ الفرحِ، عبرْتُ خلْسةً إلى غرفةِ الوالدين حيثُ خزانةُ الشَّراويل، اِنتقيتُ شروالاً مناسباً للعبتي، لِلْمقلبِ القادمِ، بعدَ جهدٍ طيّب عثرْتُ على كوفيةٍ وعقالٍ يناسبان بهجةَ المشهدِ الَّذي أنوي القيامَ بِهِ بشكلٍ ارتجالي ظهرَ هذا اليوم، لأنّني وجدْتُ رغبةً قويّةً في أعماقي دفعتني للقيامِ بهذهِ اللُّعبةِ معَ أنّني لا أعلمُ دوافعَها، بقدرِ ما أعرفُ أنّني أنوي أنْ أضحَكَ من أعماقِ قلبي وأضحِّكَ من حولي. فيما كنتُ أستعرضُ الشّروالَ والكوفية والعقال، وجدَتْني أختي، فقالَتْ، هل عندَكم مسرحيّة هذه اللَّيلة؟ أومأتُ برأسي بالإيجابِ. لكنّكَ لم تجلبْ لنا بطاقات الدُّخول إلى المسرح! المسرحيّة القادمة لا تحتاجُ إلى بطاقاتِ دخول، لأنّ أحداثَها ستُمَسْرَحُ في الهواءِ الطَّلْقِ. تساءَلَتْ أختي باِندهاشٍ، وهل يوجدُ لدينا مسرحٌ جوّال في البلدة؟ لا يا عزيزتي، مسرحُنا هذا اليوم سيكونُ في غرفتي، وفي هذا البلكون الفسيحِ! لكنْ إيَّاكِ أن تسرّبي وشائجَ النّصِّ أو تداخلات خيوطِ المسرحِ، لم تفهمْ أختي شيئاً عن أبعادِ المقلبِ! شرحْتُ لها فكرةَ المسرحيّة الَّتي تراودُني، حيثُ أنّني أريدُ أنْ أتقمّصَ شخصيّةً أخرى غيرَ شخصيَّتي، على أساس أنّني آتٍ من آزخ، وأحد أقرباء والدي. وحالما شرحْتُ لها تفاصيلَ الفكرة، انتابتْها نوبةَ ضحكٍ متواصلة، ضحكَتْ من أعماقِها، كانَتْ قهقهاتُها تملأُ أجواءَ المكانِ، انفجرَتْ من الضّحكِ، جاءَت أمّي، بينما كانَتْ أختي تعبرُ عميقاً نوبات الضّحكِ، فضحكَتْ أمّي على السَّليقةِ، دونما أن تعرفَ شيئاً عن تداعياتِ العبقِ المهيمنِ على قهقهاتِ أختي. تسألُنا، عن سببِ ضحكنا، نهدأُ قليلاً، نشهقُ ثمَّ نشدُّ راحاتنا على خواصِرِنا ونعبرُ في جموحِ القهقهاتِ، تدخلُ أمّي واحةَ القهقهاتِ، لكنَّنا نسيطرُ عليها بقهقهاتِنا الأعلى، ترفعُ يديها متمتمةً (الله يجعله خير يارب) نردّدُ أنا وأختي سويةً (يااااارب!) ثمَّ نتابعُ القهقهات، لملمَتْ أمّي (القربالغ*) الّذي حولنا، ثمَّ أمسكَتِ الشّروالَ، متسائِلة مَنْ وضعَ هذا الشّروال هنا؟! سكتْنا في بادئِ الأمرِ، نظرنَا إلى بعضنا، خَفَتَ الضّحكُ رويداً .. رويداً، سألْتُ أمّي: ماذا ستعملينَ في الشّروالِ؟ هذا الشّروال، عملتُهُ منذُ أسبوع لوالدِكَ، إنَّني أريدُ أنْ أفاجِئهُ بالشّروالِ، هديةَ العيدِ! برافو ماما، ونحنُ أيضاً لدينا مفاجأة لبابا، واِضطرَرْتُ أنْ أفصحَ لأمّي عن فكرتي لئلّا تُحبطُ خطَّتي، وهكذا أقنعتُها للاِنضمامِ إلى عوالمِ المقلبِ، عندما سمعَتْ أمّي جموحاتِ الفكرةِ، ضحكَتْ من أعماقِها، متخيّلةً إيايّ في تفاصيلِ المشهدِ، حاولْنا أن نخفّفَ من ضحكِها، لكنّها غابَتْ في ثنايا اللُّعبةِ! كانَ والدي يلمُّ الحشيشَ لغنمتِهِ، عابراً في أعماقِ البراري، يملأُ صدرَهُ هواءً نقيّاً، يجولُ بينَ المروجِ، يُبعدُ الأغنامَ والأبقارَ الشَّاردة عن حقولِ القمحِ، يتجاذبُ أطرافَ الحديثِ معَ أطفالِ الحيِّ، يتحدّثُ معهم عن حجلاتِهِ أيّام زمان، وعن حمائمِهِ وأرانبِهِ. يسألُهُ طفل، ولمِنْ تلمُّ كلّ هذا الحشيش؟ يضحكُ، وبفرحٍ يقولُ، لغنمتي! .. حوارٌ طريف يدورُ بينَ الطّفلِ ووالدي، يحبُّ والدي المرحَ والقصصَ الفكاهيّة، ويأخذُ الكثيرَ من قضايا الحياةِ بسخريّةٍ أحياناً وبفكاهةٍ أحياناً أخرى ويقضي أغلبَ أوقاتِهِ بين سهولِ القمحِ، يحرسُها من الأغنامِ والبقراتِ الشّاردة متمتِّعاً بالطّبيعةِ الخلّابة والهواءِ النَّقيِّ في صباحاتِ بدايةِ الرّبيعِ على مدى شهورِ الرّبيعِ ويستمرُّ حتَّى بداياتِ الصَّيفِ الحارّ، مروراً بالصّيفِ القائظِ حتَّى نهاياتِ الحصادِ .. أعبرُ غرفتي، أرتدي قميصاً تناسبُ دُكنةَ ازرقاقِ الشّروالِ، أضَعُ الكوفيّةَ بطريقةٍ فلّاحيّة ماهرة، ثمَّ أثَبِّتُ العقالَ بطريقةِ والدي، أنظرُ إلى نفسي في المرآةِ الطَّويلة، أضحكُ، بصعوبةٍ أتعرّفُ على نفسي، بلحظاتٍ تحوّلْتُ إلى فلّاحٍ من الطِّرازِ العتيقِ، أحكمْتُ اللُّعبةَ، لملمْتُ كلَّ خيوطِ الحوارِ الَّذي سأقدِّمُهُ ارتجالاً، لم أنسَ خصوصيّةَ المسرحِ الجوّالِ، نظرْتُ إلى المرآةِ تدرَّبْتُ على الحوارِ، شعرْتُ بالبهجةِ وقليلاً من الاِرتباكِ، أضحكُ، يزدادُ قلبي خفقاناً، قهقهاتُ أختي تؤثّرُ على إمكانيّةِ تطبيقِ فكرتي .. رجوتُها أكثرَ من مرّةٍ أنْ تكونَ جادّةً وتساعدُني في تنفيذِ المشاهدِ وتحويلِ القهقهاتِ عبر مشاهدٍ مسرحيّةٍ إلى حيّزِ النّورِ! تعودُ مقهقهةً حالما تراني مرتدياً الشّروالَ والكوفية، وتزدادُ قهقهةً على جماليّةِ ونجاحِ تموضعِ العقالِ. تقولُ بسخريّةٍ ماكرةٍ، العقالُ يأخذُ العقلَ في جمالِهِ، يناسبُكَ تماماً، تُشبِهُ فلَّاحاً وكأنّكَ من (الشَّاقِ) العتيقِ، ثمَّ تتمادى في مُكرِها متسائلةً، ما رأيكَ يا أخي أن تداومَ من الآن وصاعد في الكوفيّةِ والعقالِ والشّروالِ في مدرسةِ البناتِ؟ في العيدِ القادمِ على الأرجحِ ستهديكَ ماما شروالاً من الطِّرازِ الرّفيعِ! أضحكُ أنا الآخر، راجياً إيّاها أنْ تتركَني أنفّذُ فرحتي وأعِدُها أنْ أُعيدَ النَّظرَ في طرحِها واِقتراحِها كي نلعبَ اللُّعبةَ أمامَ الطُّلَّابِ والطَّالباتِ، لكن لا بدّ أولاً أنْ ننفّذَ اللُّعبةَ على جنابِ الوالدِ .. فجأةً أجِدُنِي وجهاً لوجهٍ أمامَ الوالدِ، عدلتُ من وقفتي، وارتديتُ نظارات شمسيّة غامقة كي أحجبَ عليهِ معالمَ العيونِ، وكنتُ قد فرشْتُ شواربَ عريضة فوقَ شواربي، فتوارَتْ كلّيَّاً ملامحُ وجهي، تدخّلَتْ أمّي وقالَتْ لَهْ، جاءَنا ضيوف من آزخ، تقدّمْتُ نحوَهُ أسلِّمُ عليهِ بجدّيةٍ وشوقٍ، حضنَني ثمَّ باسَني بوستَين، وأنا قبّلتهُ أيضاً بكلِّ حنانٍ، رائحةُ العشبِ والأزاهيرِ البرّيّة كانَتْ تفوحُ منْهُ، فقلْتُ لَهُ هل تعطّرْتَ برائحةِ العشبِ الطَّري؟ ضحكَ قائلاً، في كلِّ يومٍ أتعطَّر برائحةِ العشبِ والزُّهورِ البرّيّة! نظرَ إليّ بتمعّنٍ بعد أنْ جلسنا في البلكونِ، فقالَ صوتَكَ يُشبِهُ وكأنّكَ من بيت شلو، فقلْتُ لَهُ أنا فعلاً من بيت شلو، جئتُ اليوم من تركيا، من قرية آزخ، فقد طلبَتْ منّي والدتي وأختي أن أسلِّمَ عليكَ كثيراً وأنزلَ عندكم ضيفاً لأنَّنا من عائلة واحدة، فقالَ لي، لكن ليسَ لدينا أهل من آل شلو في آزخ .. فقلْتُ له بلى لكَ أهل وأنا أحد أولاد شلو، ابن أخو العم يوسف شلو، فقالَ لي يا ابني فعلاً يوسف شلو هو أخي الوحيد وليسَ لدي أخاً سواه، فكيفَ ستكونُ ابن أخيه وأنا ليس لديَّ أخاً غيره؟ فقلْتُ لَهُ، صدّقني أنا ابن أخو العم يوسف شلو، فتدخّلَ على الخطّ ممازحاً إيّاي بطريقتِهِ القرويّة، إذا كنْتَ فعلاً ابن أخو يوسف شلو معناه أنّكَ اِبني، نهضْتُ محاولاً إيحائه أنَّني غاضبٌ لما أدلى به، يعني حضرتي جئتُ من آزخ من آخرِ الدُّنيا ضيفاً إلى عندِكم كي أتبلّى عليكم، إذا لم تستقبلوني، سأذهبُ إلى بيت عمِّي وأقولُ لَهُ أنّكم لم تستقبلوني بعدَ أنْ قطعْتُ رحلتي الطَّويلة من آزخ، فقالَ لي، لا لا ابني، طوّل بالك، دقيقة، خلّيني أفكّر لربّما كانَ عندنا أخ أو أخت ظلّت في تركيا أيّام الفرمان؟ على الأغلبِ أنّكَ ابن أختي الّتي تزوَّجت في الموصل، كان لنا أخت وتاهَتْ عنّا أيّام الفرمان ولم نسمعْ عنها خبراً حتّى الآن! لا لا أنا أبن أخيك ومتأكِّد من هذا مئة بالمئة وأقسمُ لكَ عظماً أنّني اِبن أخيك، ولا تخَفْ فنحنُ مستورون ولا نحتاجُ من ورثتِكُم درهماً، وجئتُ كي أعرضَ عليكم خدماتي وإذا كنتم بحاجة لمساعدة ما ربّما أستطيعُ مساعدَتَكم. نحنُ لا نحتاجُ إلى مساعدة، إنَّنا ندبِّرُ أمورَنا والحمدُ لله، أهلاً وسهلاً بكَ يا ابني، رحّبَ بي ثمَّ نظرَ إلى والدتي قائلاً لها، هل عزمتمونه على قهوة أو شاي أو أي شيء؟! لا، اِنتظرناك كي نأكلَ ونشربَ سويةً، لأنّهُ ضيفنا هذا اليوم وربَّما يظلّ عندنا فترةً من الزَّمن، هذا يتوقّفُ على رغبتِهِ. عبرَتْ والدتي المطبخَ وتبعتْها أختي وهناك تعالَتِ القهقهاتُ، ثمَّ همسَتْ أختي، يبدو أنَّ المقلبَ سيمرُّ على الوالدِ باِمتياز، ثمّ بدأنا ندردشُ على أيّام زمان، عندما كانَ في آزخ ورحْتُ أستعرضُ له القصصَ الَّتي كانَ يحكيها لنا ونحنُ صغار، فقالَ فعلاً هذهِ القصص كنتُ أحكيها لأولادي وهم صغار فأجبْتُهُ كنتُ آتي إلى عندكم وأسهرُ أيَّامَ الشِّتاءِ وأسمعُ إلى قصصِكَ الشَّيّقة وخاصةً قصّةَ "الكُمْكُمُوكْ"، وحالما سمعَتْ أمّي وأختي عبارة "الكُمْكُمُوكْ" ضحكتا من الأعماقِ، ثمّ تدخّلَ وقالَ لهما هذا الضَّيف يعرفُ حتَّى قصصي الّتي كنتُ أحكيها لكم في ليالي الشِّتاء، فقالَتْ أمَّي، إنّهُ يقولُ لكَ: "إنّني من آل شلو فلا تصدِّقُهُ"، فمن الطَّبيعي أنّهُ كانَ يأتي ويلعبُ ويسهرُ معَ الأولادِ ويستمعُ إلى قصصِكَ وأنتَ قدْ نسيتَهُ. عجيب فعلاً، لا يوجد لي سوى أخ واحد ولكن لا بأس أن تكون أنتَ أيضاً واحداً من آل شلو، فأهلاً بكَ يا ابني، البيت بيتكَ تفضّل، خذ راحتك، اِشلح جاكيتكِ وارتَحْ قليلاً إلى أن تحضِّرَ أمّ الأولاد طعامَ الغذاء. اِستأذنْتُ منْهُ قائلاً ممكن آخذ قليلاً من الرَّاحة أريدُ أنْ أنامَ قليلاً قبلَ أنْ نتناولَ العذاءَ لأنَّني منهوكُ القوى من رحلتي الطَّويلة فقالَ تفضّل، هذه الغرفة هي غرفة اِبني، خذْ راحتك فيها، سيأتي بعدَ قليل من دوامِهِ فقدْ تأخّرَ قليلاً، سنبشّرُهُ عن قدومِكَ، من المؤكَّدِ سيفرحُ بقدومِكَ، اِبني يحبُّ الأهلَ والنَّاسَ الطَّيِّبين! عبرْتُ غرفتي، ثمّ بدأتُ أراقبُهُ من تحتِ السِّتارةِ، وخلَعْتُ عقالي وكوفيَّتي والشّروالَ واِرتديْتُ لباسي وكأنَّني آتٍ من الدَّوامِ ثمَّ راقبْتُهُ جيّداً إلى أنْ تفرّغَ لحشيشِهِ، فبدأ يعرضُ الحشيشَ على شكلِ باقاتٍ صغيرةٍ للشمسِ وأخذَ باقةً وقدّمَها لغنمتِهِ، وفيما كانَ غائصاً معَ عوالم غنمتِهِ وحشيشِهِ، إنسلَلْتُ من المنزلِ بلباسي الطَّبيعي بحيثُ أنْ لا يراني، بعدَ أن أقفلْتُ غرفتي ورائي، ثمَّ عدْتُ بعدَ أنْ أصبحَ في معبرِ الدَّارِ، وإذْ به يرحّبُ بي ترحيباً حارَّا،ً قائلاً، تعرف يا اِبني جاءَنا ضيفٌ من آزخ منذُ قليل، بنفس طولِكَ وقامتُهُ تُشبِهُ قامتَكَ تماماً حتَّى أنَّ صوتَهُ يُشبِهُ صوتَكَ، فاجأني أنّه من آل شلو، ويؤكّدُ لنا أنَّه ابن أخيه لعمِّكَ يوسف شلو، فقلْتُ له هل لدينا عم آخر يا بابا؟ بالحقيقة يا اِبني نحنُ أخّان، أنا وعمّكَ لكن كيفَ ظهرَ لنا هذا الضَّيف من آل شلو لا أعلم، تفضّل سينهضُ بعد قليل، إنَّهُ نائم الآن في غرفتِكَ. نامَ في غرفتي؟! كيفَ ينامُ في غرفتي، لديَّ عشرات الأشياء الخاصّة وكتبي وأوراقي؟ كيفَ تتركونَهُ ينامُ في غرفتي بدونِ إذني؟ يا اِبني طوّل بالكَ، ضيفنا جدّاً رزين ومحترم ويستحيل أنْ يطّلعَ على خصوصيَّاتِك وأوراقِكَ ثمَّ أنّهُ فلَّاح مثلي شرواله يشبه تماماً شروالي ويلبس كوفيه وعقال أيضاً؟ يعني هو كبير في السِّنّ؟ لا لا هو شاب ربَّما في عمرِكَ، لكنّهُ على ما يبدو يحبُّ أن يحافظَ على لباسنِا وتقاليدِنا الرِّيفيّة. اِقتربْتُ نحوَ غرفتي مُهيَّأً نفسي أنْ أفتحَهَا لكن والدي تدخَّل قائلاً، لا تدخل الغرفة يا اِبني، اترك ضيفنا نائماً، لقد خبّرْتُهُ أنّكِ ستأتي من الدَّوام بعد قليل، اتركه يرتاحُ من عناءِ السّفرِ، سينهضُ من تلقاءِ نفسِهِ. جاءَتْ أمّي، أهلاً اِبني، مليح وصلْتَ الآن، تفضَّلوا العذاء جاهز! لكن بابا قالَ لي، لدينا ضيف من آزخ وهو نائم في غرفتي، لماذا لا ندعوهُ للغذاء؟ لنتركه على راحتِهِ، قالَ والدي. وافقته أختي وأمّي. ثمَّ بدأنا نتناولُ طعامنا وبدأ والدي يتحدّثُ لنا عن ضيفِهِ الجديد، قائلاً تصوّر أنّهُ مايزال يتذكّرُ قصّةَ "الكُمْكُمُوكْ" الّتي كنتُ أحكيها لكم وأنتم صغار، اِبتسمْتُ لوالدي، معقول أن يكون لديه هذه الذَّاكرة، أنا نفسي يا بابا لا أتذكّرُ هذه القصّة. يا ابني هذا فلاح أصيل. يعني أنا لسْتُ أصيلاً. لا لا يا اِبني لا تفهمني غلط، ضيفنا يحبّ القضايا الفلّاحيّة حتّى أنّه حافظ على لباسه القروي فهو يحمل نفسيّة الفلَّاحين. على كلٍّ عندما ينهضُ من نومِهِ سألتقيهِ. لو اِستيقظَ بعد قليل، بلّغوه أنَّني سآخذ دوشاً سريعاً .. توجّهتُ نحوَ الحمَّام، ضحكْتُ من أعماقي فيما كانت رذاذاتُ الدُّوشِ تنعشُني، خرجْتُ من الحمّامِ وأنا في كاملِ لياقتي لاتمامِ العرضِ، اِرتديتُ ملابسي ثمّ اِستأذنْتُ منهم على أنَّني أرغبُ أنْ أزورَ بيت عمّي كي أبشّرَهُم بقدومِ الضَّيفِ، بعدَ أنْ رتّبْتُ طريقةً معَ أختي وأمِّي كي يجرجرا والدي في الحديثِ بعيداً عن معابرِ الدَّارِ أثناءَ عودتي، وهكذا بقيَتِ السَّاحةُ مفتوحةٌ لاِستكمالِ حيثياتِ مشاهدِ المسرحِ. خرجْتُ مودّعاً إيّاهم ثمَّ عدْتُ بعدَ أن مهَّدا لي الطَّريقَ، فتسلَّلْتُ إلى غرفتي وبدأتُ ألبسُ الشّروالَ وأعدّلُ بثقةٍ كبيرة من وضعيّةِ العقالِ. عندما سمعتُهم يتناقشونَ حول نومي العميق، فتحْتُ البابَ، وإذ بهم يستقبلونني ببشاشةٍ حميمة ثمَّ قالَ الوالدُ، بالحقيقة جاءَ اِبني من الدَّوامِ بعدَ أنْ نمْتَ مباشرةً، اِنتظرناكَ قليلاً، ثمّ تناولنا الغذاء لأنَّنا ما أحبَبْنا أنْ نوقظَكَ من النَّومِ! تفضّل حصَّتكَ من الغذاءِ محفوظة يا اِبني. باركَ اللهُ فيكَ وفي أولادِكَ! الله يخلِّيك، راح يفرح ابني عندما يلتقي بكَ لأنّه يحبُّ الأهل والأصدقاء وعنده الكثير من الأصدقاء والصَّديقات. اِبني أستاذ، يشتغل في مدرسة البنات. حطَّ رأسه في القراءة منذُ أنْ كانَ طفلاً، دائماً أراه يقرأ، لا يشبعُ من القراءة والكتابة أبداً. ثمَّ بدأ الوالد يتحدَّثُ للضيفِ عن ذكرياتِهِ في آزخ واستعرضَ لَهُ بعضَ قصصِهِ وفكاهيّاتِهِ، وتوقّفَ عندَ "البيرمة": بركة الماء الّتي كانوا يسبحون فيها أيّام زمان، كما تحدَّثَ له عن أولادِهِ وبناتِهِ وأحفادِهِ وتطرَّقَ في الحديثِ عن غنمتِهِ وأرانبِهِ وكيفَ يجلبُ لغنمتِهِ العشبَ الطَّري، ويقطّعُ قشورَ الجبشِ والخبزِ لأرانبِهِ، كانَ الضَّيفُ يصغي إليهِ بإهتمامٍ كبير، وقالَ لَهُ سمعْتُ أنّ عمّة بيكي فتحَتْ قبرَها عن طريقِ عمّي يوسف وهي حيّة تُرزق، وتخطِّطُ لشراءِ عظامها من الله، ضحكَ الوالد وهو يقولُ فعلاً هذا ما قامَتْ به، وتريدُ أن تشتري عظامها من الله، ولكنَّ ابني صبري يريدُ أن يقنعها كي يشتري عظامها من الله عن طريقِهِ وليس عن طريقِ القساوسة، والمنافسات قائمة ما بينَ القساوسة من جهة وبينهما وبين ابني من جهةٍ أخرى، غاصَتْ نظيرة والوالدة في الضّحكِ، وضحكَ معهما الوالد، وفيما كانوا في أوجِ قهقهاتهم، وقعَت النّظاراتُ عن وجهي وفيما كنْتُ أحاولُ أن أضعَها على وجهي، وقعَتِ الشّواربُ أيضاً، فغاصَتْ أختي وأمِّي في الضّحكِ من جديد، فرأى والدي وجهي بكلِّ وضوح، وتفاجأ بي ثمّ بدأ هو الآخر يضحكُ قائلاً، هذا أنتَ، والله فكّرتكَ فعلاً ابن أخي يوسف شلو وجايي من آزخ، ضحكْتُ وقلْتُ له، ألسْتُ ابن أخو العم يوسف شلو، وأصلي وفصلي من آزخ؟ فقال بلى، معناها ما كنْتَ تكذبُ عليّ نهائيَّاً، ثمَّ أجابَ بفكاهيّاته المعهودة وهو يضحكُ، تعرف، الشّروال والعقال والكوفية "يهَرْبُوا منكَ شقَفْ" أي يلبقوا لكَ كثيراً، أنصَحُكَ من الآن وصاعداً أن تداومَ في هذا اللِّباس في المدرسة كي تفرحَ طالباتك ويضحكْنَ كما ضحكنا من القلب، هذا الاِقتراح يا بابا سبقتْكَ فيه نظيرة، ثمّ ضحكنا ضحكاً مبهجاً للقلب عن نتائج هذا العرض المسرحي الفكاهي في الهواءِ الطّلق!
ستوكهولم: كانون الثّاني (يناير) 2006 مسودة أولى أيلول (سبتمبر) 2018 صياغة نهائيّة
#صبري_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
[6]. خوصة وخلّوصة، قصَّة قصيرة
-
[5]. إيقاعاتُ الشَّخير، قصّة قصيرة
-
[4]. الطُّفل والأفعى، قصّة قصيرة
-
[3]. نوال ودلال وعيدانيّة بالدَّين، قصّة قصيرة
-
[2]. تسطعُ ديريك فوقَ خميلةِ الرُّوح، قصّة قصيرة
-
[1]. حيصة وسلال العنب، قصّة قصيرة
-
[10]. ترتيلة الرّحيل، قصَّة قصيرة
-
[9]. حنين إلى تلاوين الأمكنة والأصدقاء، قصَّة قصيرة
-
[8] عمّتي تشتري عظامها من الله، قصّة قصيرة
-
[7]. اللّحية واللّحاف، قصّة قصيرة
-
[6]. الذَّبذبات المتوغِّلة عبر الجدار، قصَّة قصيرة
-
[5]. حنين إلى ديريك بعقلائها ومجانينها، قصّة قصيرة
-
[4]. أنا والرَّاعي ومهارتي بِبَيعِ العدس، قصّة قصيرة
-
[3]. الكرافيتة والقنّب، قصّة قصيرة
-
[2]. الّذكرى السَّنويّة، قصّة قصيرة
-
[1]. فراخ العصافير، قصّة قصيرة
-
[10]. استمراريّة القهقهات الصَّاخبة، قصَّة قصيرة
-
[9]. وللزهور طقوسها أيضاً! ، قصّة قصيرة
-
[8]. مشاهد من الطُّفولة، قصّة قصيرة
-
[7]. احمرار السَواقي، قصّة قصيرة
المزيد.....
-
الفنانة المغربية لالة السعيدي تعرض -المرئي المكشوف- في -دار
...
-
-الشوفار-.. كيف يحاول البوق التوراتي إعلان السيادة إسرائيل ع
...
-
“المؤسس يواصل الحرب”.. موعد مسلسل قيامة عثمان الموسم السادس
...
-
المسرح الجزائري.. رحلة تاريخية تجمع الفن والهوية
-
بفعاليات ثقافية متنوعة.. مهرجان -كتارا- للرواية العربية ينطل
...
-
حديقة مستوحاة من لوحة -ليلة النجوم- لفان غوخ في البوسنة
-
عودة الأفلام الرومانسية إلى السينما المصرية بـ6 أعمال دفعة و
...
-
عائلات وأصدقاء ضحايا هجوم مهرجان نوفا الموسيقي يجتمعون لإحيا
...
-
كيف شق أمريكي طريقه لتعليم اللغة الإنجليزية لسكان جزيرة في إ
...
-
الحلقة 2 الموسم 6.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 166 كترجمة على
...
المزيد.....
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
المزيد.....
|