أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري يوسف - [10]. استمراريّة القهقهات الصَّاخبة، قصَّة قصيرة















المزيد.....

[10]. استمراريّة القهقهات الصَّاخبة، قصَّة قصيرة


صبري يوسف

الحوار المتمدن-العدد: 6095 - 2018 / 12 / 26 - 04:00
المحور: الادب والفن
    


10ـ استمراريّة القهقهات الصَّاخبة

إهداء: إلى ديريك العتيقة (مسقط رأسي) ..
وإلى الأحبّة الأهل والأصدقاء الأصدقاء.

منذُ بدايةِ الشِّتاءِ حتّى نهايتِهِ، تتراكمُ أكوامُ الطّينِ في الشَّارعِ المؤدّي إلى منـزلي. تستقبلُني صباحاتُ كانون القارسة. يتَسَرَّبُ البردُ إلى مساماتِ جلدي وأنا في طريقي إلى الدَّوام. أرحِّبُ بساعي البريد .. أترقَّبُ مِرْسالاً من خلف البحار .. أقلِّبُ عشراتِ الرَّسائل. أناجي قلبي: لابأس غداً سألتهمُ كلماتِهِ، ويأتي الغدُ وكانون لا يرحمُ الأجسادَ النَّحيلة!
.. ويوماً بعدَ يوم يكتظُّ جسدي، بطبقاتٍ سميكةٍ من الأقمشة. أحاولُ أنْ أطردَ البردَ، لكنّهُ يتغلغلُ رغمَ أنفِ الأقمشة. لا أملكُ شيئاً سوى الاِنتظار. المغلّفاتُ الرَّقيقةُ تتوزَّعُ على أصحابِها، وأنا يطولُ بي الاِنتظار. أخرجُ من الدَّوامِ منهوكَ القوى. لا أعرفُ أينَ أوجِّهُ أنظاري؟ .. أتردَّدُ قليلاً ثمَّ أسألُ نفسي:
هل أذهبُ إلى البيتِ وأستريحُ قليلاً، ثمَّ أعودُ لأرى العجوزَين الَّذَينِ يحملان أوقارَ الشَّيخوخةِ، أم ماذا؟
أنادي أحدَ طلّابي، فيأتي مسرعاً وينتظرُ طلباتي .. أهمسُ في أذنِ الطَّالبِ: ممكن تأخذُ كتبي للبيت؟ فيجيبُني: لا أعرفُ بيتَكم (أستاس). يلفظُ حرفَ الذَّال سيناً .. أرسمُ لهُ مخطّطَ البيتِ ثمَّ أسألُهُ: هلْ عرفْتَ البيتَ الآن؟ .. نعم (أستاس). أُسَلِّمُهُ الكتبَ وأغيّرُ مجرى طريقي .. أريدُ دائماً اِختصارَ المسافاتِ. أقرعُ البابَ: ( ...... ...... ) يستقبلُني العجوز ويزرعُ وجهي بالقبلاتِ. يُعاتِبُني قائلاً:
لِمَاذا لا تأتي عندنا مرّتين في الأسبوعِ؟ .. أشرحُ لهُ ظروفي، فيشاطرُني أعذاري ولكنّهُ معَ ذلكَ يطالبُني بمزيدٍ من الزِّياراتِ .. تسمعُ زوجَتُهُ حوارَنا من المطبخِ فتأتي والبشاشةُ مرسومةٌ على وجهِها الّذي حفرَ الزَّمنُ بصماتِهِ بينَ ثنايا تجاعيده. تسلِّمُ عليّ بحرارةِ وحنانِ الأمِّ. تقبِّلُني وعيناها غارقتان بالدُّموعِ، إنّها دموعُ الشَّوقِ. يفرحان كثيراً عندما أزورُهما .. يجلسانِ على مقربةٍ منّي ويبدآن (بالدَّردشة) معي. يسألانني فيما إذا جاءتني أخبارٌ من خلفِ البحارِ؟ .. أومئُ لهما برأسي نحوَ الأعلى. يأخذُني الشُّرودُ قليلاً، فتقطعُني الزَّوجةُ من شرودي وتطلبُ منّي أنْ أحدِّثَها عن اِبنها الّذي عبرَ المسافات .. فأسردُ قصصاً وأحداثاً من الذَّاكرة .. تحملُ قصصي طابعَ الفكاهةِ فأبدّدُ أحزانَهما .. ويغمرُهُما الضُّحكُ .. يضحكانِ بملء شدقيهما. خيطٌ من الصِّدقِ والحنانِ يربطُني بهما. أحاولُ دائماً أنْ أدخلَ السُّرورَ إلى قلبيهما النَّظيفَين. أعرفُ ماذا يريدان؟ فأقدِّمُ لهما رغبةَ الأبوَين عندما يرحلُ عزيزهما بعيداً .. يجدانِ سلوى في مجالستي .. وحينَ يحينُ موعدُ العشاءِ، يلحّان عليّ كي أتعشّى معهما .. أحقّقُ رغبتهما الملحاحة .. أحبُّ الخبزَ المقمّر، خلالَ لحظات أرى حصّتي مقمّرة. أشعرُ بنكهةِ فرحٍ حقيقيّة أثناء دردشاتي معهما. يخيّراني بين شربِ الشَّاي أو القهوة بعدَ العشاء، أفضِّلُ الشَّاي الخفيف مع قليلٍ من السُّكّر. أنظرُ إلى ساعتي بعد شَرْبِ الشَّاي ثمَّ أطلبُ منهما الاِستئذان. ينهضُ العجوز قائلاً:
لِمَاذا ستذهبُ الآن؟ .. إنَّنا لم نشبعْ من مشاهدِتِكَ .. وتضيفُ زوجَتُهُ بعتاب: صارَ لكَ أُسبوعاً لم تأتِ إلى عندِنا. كمْ كنّا بشوقٍ إليكَ. اِقعدْ نصف ساعة أخرى، بعدئذٍ اذهبْ في حالِ سبيلكَ. "اقعدْ الله يخلّيك"، إنَّنا نحبُّكَ مثلَ أولادِنا .. نريدُ أنْ تتحدّثَ لنا عن صديقِكَ المهاجر. حديثُكَ ممتعٌ وشيّقٌ .. نرتاحُ كثيراً عندما نسمعُ أحاديثكَ الحلوة ...
يحرجانني في إلحاحِهما فأنصاعُ لرغبتِهما .. تغيبُ الزَّوجةُ قليلاً ثمَّ تأتي ومعها حفنةُ راحة .. تعرفُ عاداتي .. كالأطفالِ أحبُّ الرَّاحة .. وأحياناً كثيرة أسلكُ أمامهما سلوكاً كالأطفالِ، مبرِّراً موقفي بأسلوبي السَّاخر قائلاً:
جميلٌ عالم الطُّفولة، والأجملُ أن يكونَ متوّجاً في عالمِ الشَّباب! .. عقاربُ السَّاعة اِقتربَتْ من الثَّانيةِ عشرة ليلاً .. يسمحانِ لي بالاِستئذانِ .. كانون في الشَّارعِ العريضِ يرحِّبُ بي. أسيرُ بخطى سريعة كَمَنْ يطاردُهُ شخصٌ. أتخيَّلُ نفسي في تلكَ اللَّحظةِ أنَّني في غرفتي متكوّرٌ تحتَ اللّحافِ، أقرأ أشعارَ (نيرودا) .. أسمعُ إيقاعات أقدامي الممزوجة معَ همهماتِ اللَّيلِ. وقبلَ أنْ أصِلَ إلى الشَّارعِ المؤدّي إلى بيتي، أرفعُ بنطالي وأطويهِ طويتَين. أكوامُ الطِّينِ لا ترحمُ نهاياتِ بنطالي ونعالي. وآهٍ .. يا نعال! .. أغسلُها مرّتين، أو ثلاثَ مرّاتٍ في اليومِ! .. راودَني أكثرَ من مرّة أنْ استأجرَ غرفةً يتيمةً بعيدةً عن أكوامِ الطِّينِ خلالَ الشِّتاءِ الطَّويلِ، وذلكَ تخلُّصاً من أكوامِ الطِّينِ المتراكمةِ في الشَّارعِ العريضِ المؤدّي إلى صومعتي .. لكنّي عدلتُ عن فكرتي بعدَ أنْ أجريتُ حسابات دقيقة لمردودي، وآهٍ يا مردودي! .. ثمَّ قلبْتُ الموضوعَ من جميعِ جوانبِهِ فوجدْتُ حلَّاً لهذهِ التَّراكمات الطِّينيّة .. وتلخّصَ الحلُّ بأنْ أضعَ مجموعة من نعالي في بيتِ أحدِ أقربائي الواقع على الشَّارعِ النَّظيفِ نوعاً ما .. وخصّصْتُ نعلاً لقطعِ الشَّارعِ ذهاباً وإياباً، وتركْتُ هذا النَّعل البائس يرتجفُ من البردِ في بلكوني تارةً، وفي بلكونِ أقربائي تارةً أخرى .. وهكذا تخلَّصْتُ من غسيلِ النِّعالِ إلى الأبدِ!
كانت كتبي وأوراقي المبعثرة في أركانِ غرفتي تنتظرُني بفارغِ الصَّبرِ .. وكانَ النَّعلُ المخصّص لقطع الشَّارع، ينتظرُني في بلكونِ أقربائي. تساءَلْتُ نفسي: هل أعبرُ أكوامَ الطِّينِ بحذائي النَّظيفِ، أم أذهبَ وأرتدي ذلكَ النَّعل البائس المرتجف في البلكونِ؟
تردَّدْتُ قليلاً ثمَّ حسمْتُ الموقفَ، موجِّهاً أنظاري نحوَ بيتِ أقربائي .. وبعدَ لحظات وصلْتُ المنـزل.
كانَ بيتُ أقربائي قد وضعوا صفيحةً كبيرةً من التُّوتياءِ على المدخلِ الخارجي، تفادياً من عبورِ الحيواناتِ الشَّاردةِ إلى الحوشِ. تقدَّمْتُ لأزيحَ صفيحةَ التُّوتياءِ، لكنّي وجدْتُ خلفَها صخرةً ثقيلةً. اِنحنيتُ كي أقلبَ الصَّخرةَ ولكنّي لم أستطِعْ. كانت رؤوسُ أصابعي تلامسُ الصَّخرةَ .. ما كنتُ أريدُ أنْ أوقظَ أقربائي من النَّومِ. كنتُ حريصاً جدّاً أنْ لا أصدرَ أيّ صوت .. حاولْتُ بعدّةِ طرق كي أعبرَ الحوشَ ولكنّي لم أستطِعْ .. خطرَ على بالي أنْ أدفعَ الصَّخرةَ وصفيحةَ التُّوتياءِ معاً، ولكنَّ الصَّخرة كانتْ متمركزةً على قاعدتِها المسطَّحة .. وكانَ من الصَّعبِ إبعادها .. ثمَّ تبادرَ إلى ذهني أن أزيحَ التُّوتياء، إلَّا أنّني خشيتُ أن تصدرَ زعيقاً مزعجاً، يعكِّر صفو اللَّيل ويوقظُ أهلَ البيت. ولَمَّا لم أجد حلّاً بديلاً، اِضطرَرْت أنْ أزيحَ الباب ..أو هذا الّذي أخذَ دوره كباب! .. وبعدَ عدّةِ محاولات، اِستطعْتُ أنْ أزيحَهُ قليلاً. كانَ الظَّلامُ دامساً جدّاً .. مصباحُ الشَّارعِ كانَ محترقاً. وفيما كنتُ أُبْعِدُ التُّوتياء اللَّعينة، خرجَتْ قطّة من الثَّغرة ولامسَتْ قدمي اليسرى، فجفلْتُ ورفعْتُ قدميّ بسرعةٍ لاشعوريّة ودسْتُ على ذيلِ القطّة، فأصدرَتْ مواءً عالياً جدّاً .. وبدا لي مواءُ القطّة ممزوجاً بالبكاء .. كنْتُ آنذاك ماسكاً التُّوتياء من الأعلى، وكان رأسي وصدري نحوَ جهةِ الحوشِ، فلم أجدْ نفسي إلَّا وأنا أرفع قدميّ إلى الأعلى .. اِختلَّ توازني وأصبحَ كلّ ثقلي فوقَ ما يُسمّى بالباب، ثمَّ وقعْتُ في الحوشِ بجانبِ الصَّخرة، تاركاً خلفي القطّة تملأُ سكونَ اللَّيلِ مواءً متواصلاً، فاستيقظَ صاحبُ البيتِ .. وسمعتُه يقولُ:
"خِجّ خِجّهْ جِيلِي!" أي ابعدي من هنا أيَّتها البقرة! .. كانَ يظنُّني بقرةً شاردة عبرَتْ الحوشَ وأصدرَتْ كلّ ذلكَ الضَّجيج والاِرتطام!
كنْتُ آخذاً مساحةً "محترمة" من الأرضِ .. تلوَّثَ بنطالي وجاكيتي .. وربطةُ العنق كانت قد تمرَّغَتْ في الطِّينِ. حاولْتُ أنْ أنهضَ لكنّي لم أستطِعْ .. تلمَّسْتُ رأسي وجسمي وتأكَّدْتُ من سلامةِ أعضائي .. وبدأتُ أسندُ نفسي على الصَّخرةِ محاولاً النُّهوض، وعندما اِستويتُ واقفاً، سمعْتُ صاحبَ المنـزلِ يردِّدُ مرّةً أخرى "خِجّ خِجّهْ جِيلِي!" .. بشيءٍ من الاِنزعاجِ! .. وتقدَّمَ نحوي .. كنْتُ في موقفٍ لا أُحْسَدُ عليهِ. تنفَّسْتُ بألمٍ عميق وقلتُ: عفواً، أنا فلان!
عندما سمعَ صوتي، اِندهشَ تماماً ثمَّ بدأ يردِّدُ اسمي .. وسمعتُهُ يطلقُ ضحكةً بكلّ عفويّتِهِ، ثمَّ تقلَّصَتْ ضحكتُهُ وتخلَّلَها إيقاعاً من الإحراجِ وسألَني قائلاً:
خير! .. ماذا تريدُ بهذا الوقتِ من اللَّيل؟ .. ألَا ترى أضواءَنا مطفأة؟ .. أخشى أن يكونَ قد حصلَ لعمّي مكروهٌ ما!
لا .. عمُّكَ بخير.
إذاً .. ماذا حصل؟
وبإحراجٍ نبرتُ: عفواً، أنا لم آتِ بقصدِ زيارتِكُم وإنّما جئْتُ من أجلِ حذائي!
من أجلِ حذائِكَ! .. "ولفظَ عبارتَهُ الأخيرة باِندهاش".
أيوه، من أجلِ حذائي الذّي خصَّصْتُهُ لعبورِ أكوامِ الطِّينِ!
أيُّ حذاء .. وأيَّة أكوام طين تتحدَّثُ عنها؟ إنّني لا أفهمُ قصدَكَ.
لا تفهمُ قصدي؟! .. إنّني أقولُ لكَ آتٍ من أجلِ حذائي، أيوه حذائي الَّذي أعطيتُهُ لزوجتِكَ وأخبرتُها بأنْ تتركَهُ في زاويةِ البكون، وشرحْتُ لها الأمر .. قائلاً لها بالحرفِ الواحد، هذا الحذاء مخصَّص لعبورِ أكوامِ الطِّينِ ...
وفيما كنتُ أشرحُ له مهمّات هذا الحذاء، سمعتُهُ فجأةً يملأُ سكونَ اللَّيلِ بضحكةٍ صاخبة .. وبعدَ أنْ فرغَ من ضحكتِهِ نبرَ قائلاً:
أخشى أنْ يكونَ ذلكَ الحذاء المملوء بالطِّينِ الأحمر هو حذاؤكَ الّذي تتحدَّثُ لي عنهُ!
بالضَّبط! .. إنّه مملوء بالطِّينِ من كلّ جوانبِهِ.
ضحكَ مرّةً أخرى.. وقالَ باستغراب: هل ذلكِ الحذاء هو حذاؤكَ؟
أيوه .. إنّهُ حذائي، وجئْتُ الآنَ من أجلِهِ.
بالحقيقة يا أستاذ، زوجتي لم تخبرْني عن هذا الموضوع على الإطلاق .. وبصراحة وجدْتُ عصرَ هذا اليوم حذاءً مقرمطاً ومملوءً بالطِّين الأحمر، فظننْتُ أنّهُ لأحدِ الشّحّاذين .. وتصوّرْتُ أنَّ شحّاذاً ما ربّما جاء خلسةً إلى دارنا واِستبدل حذاءَه بأحدِ أحذتي .. هكذا توقَّعْتُ لأنَّ الحذاءَ الّذي شاهدْتُه يُشبِهُ تَماماً حذاءَ الشّحّاذين من حيث كثافة الطِّينِ ومن حيث التَّقرمطِ أيضاً. لهذا رميتُ الحذاءَ في برميلِ الزّبالة .. ولم أشرح الأمرَ لزوجتي، لأنَّني توقَّعْتُ أنْ تهبَّ في وجهي وتتّهمني بالتَّقصيرِ وعدم الحفاظ على أحذتي .. وفضَّلْتُ أن أرمي الحذاءَ دونما أيّةِ شوشرات مع زوجتي! .. ولكن قُلْ لي كيفَ كنْتَ تستطيعُ أن ترتدي ذلكَ الحذاء المقرمط يا أستاذ؟ .. كيفَ كانت قدماكَ تتموضعُ فيه؟
إنَّني كنتُ قد خصّصْته فقط لعبورِ الشَّارعِ.
حتّى ولو لعبورِ الشَّارعِ .. إنّهُ كانَ مقرمطاً ومقوّساً تقوّساً عجيباً!
ربّما تقوّسَ من البرد.
( .... ..... ..... ) .
هزَزْتُ رأسي متمتماً لنفسي: ربّما تقلَّصَ من البرد.
تفضّل يا أستاذ تحتَ البلكون، لقد بدأتْ تُمطِر.
عندما تقدَّمْتُ نحوَهُ، تسلَّطَ عليّ ضوءَ البلكون، فسمعتُهُ يصفِّرُ بدهشةٍ قائلاً:
ما هذا الطّين الّذي فوقَ صدرِكَ وسروالِكَ؟ كرافيتتُكَ كلّها طين يا أستاذ. "حوارٌ محرج للغاية كانَ يدورُ، ورأسي بدأ يدورُ أيضاً". عدْتُ خائباً .. ولا أعلمُ فيما إذا شرحَ هذه المستجدات فيما بعد لزوجتِهِ أم لا؟
( .... ..... ) استقبلتْني أكوامُ الطّينِ فعبرتُها بطريقتي القرويّة، كنتُ أنزلقُ أحياناً ولكنّي كنْتُ أعرفُ كيفَ أحافظُ على توازني، مستفيداً من خبراتي القديمة في عالمِ الاِنزلاق!
كانَتْ غرفتي الفسيحة ترتجفُ من البردِ .. فتحْتُ خزّان مازوت المدفأة، تمتمْتُ: يا حبيبي! لا يوجدُ في الخزّانِ نقطةُ مازوت. خرجْتُ وجلبْتُ بيدونةَ مازوت يكفي لهذا المساء وليومِ الغد. آهٍ! .. أينَ هو القمع؟
كيفَ سأُفرِّغُ المازوت في خزّانِ المدفأة بدونِ قمع؟ .. يبدو أنَّ القمع موجود في غرفة والديّ.. فكّرْتُ أن أفتحَ غرفتهم وألقي نظرة هناك، لكنّي عدلتُ عن فكرتي كي لا أزعجهم في هذا الوقت المتأخّر من اللَّيل. اِلتقطْتُ ورقةً قريبة منّي وصنعْتُ منها قمعاً وبدأتُ أفرّغُ المازوت بتمهُّلٍ في هذا القمع الورقيّ .. وانتابتني في تلكَ اللَّحظة نوبةُ ضحكٍ على موقفٍ طريفٍ ومضحكٍ حصلَ معي صبيحةَ هذا اليوم، لكنّي تَمالكْتُ أعصابي خشيةَ ألَّا يندلقُ المازوت على كتبي وأوراقي المبعثرة حولَ المدفأة .. أشعلْتُ قصاصةَ صغيرة ورميتها في المدفأة .. كلُّ شيء في الحياة يتوقّفُ، سوى عقاربُ السَّاعة تدورُ ولا تتوقَّفُ عن الدَّوران .. بدأتُ المدفأة تطردُ البردَ من حولي. كانَ الوقتُ قد تجاوز الواحدة بعد منتصفِ اللَّيلِ .. همسْتُ لا بأس، غداً دوامي هو بعد الظّهر .. بإمكاني أن أسهرَ حتّى السَّاعات الأولى من الصَّباح.
وهناكَ! .. على اِمتدادِ طاولتي، تبعثرَتْ مئاتُ الأوراقِ وحولها الأقلامُ تفتحُ أفواهَهَا بتعطّشٍ كبير! .. لَمْلَمْتُ الأوراقَ ثمَّ كوَّمْتُها على مقربةٍ منّي واستلقيتُ بجانبِ المدفأة .. اِلتقطْتُ قلماً أحمر وبدأتُ العراكَ معَ الأوراقِ .. مَنْ يراني سيظنُّ أنَّ هناكَ عداوة حقيقيّة بيني وبينَ كومةِ الأوراقِ.
كانَت الأوراقُ تتوارى من أمامي بسرعة، والأرقامُ كانَتْ تتوزّعُ بآليةٍ سريعةٍ ضمنَ دوائر على الهوامشِ وفي أعلى الصَّفحات أيضاً. تَمْتَمْتُ: هذه الأوراق تُشبِهُ بئراً لا يجفُّ ماءَهُ. ثمانٍ وعشرين رزمةً، وفي كلّ رزمةٍ ما بين أربعين إلى خمسين ورقة، بعضُ الخطوطِ كانَ مخربشاً كخربشاتِ الدّجاجِ، وبعضُها الآخر كانَ متناسقاً تناسقاً جميلاً. بدأ القلمُ يسعلُ سعالاً متقطِّعاً .. تناولْتُ قصاصةً صغيرةً ومرَرْتُ رأسَهُ المدبّب عليها يمنةً ويسرةً بشكلٍ سريع فتبيّنَ لي أنّهُ مصاب بالسُّعالِ الدِّيكي فرميتُهُ جانباً واِلتقطْتُ قلماً آخر.
وبعدَ عراكٍ طويل، وضعْتُ كومةَ الأوراقِ جانباً منقوشةً بأرقامٍ حمراء. وقبلَ أنْ أخلدَ للنومِ، كتبْتُ على قصاصةٍ صغيرةٍ الأعمال المطلوبة منّي في اليومِ التَّالي ثمَّ اِستسلمْتُ لنومٍ عميق.
.. وتتوالى الصَّباحات وأزدادُ تساؤلاً: أينَ أنتَ يا عابرَ المسافات؟ .. أهزُّ رأسي قائلاً:
"الصَّداقة جسرٌ غير مرئي في عالمِ المرئيات، ولكي يعيشَ الإنسانُ زمن الصَّداقة وزمن الحبّ، لا بدَّ أن يعيشَ حالةَ شوقٍ واشتعال متواصل مع عالمِ الأحبّة .. وتدورُ الأيّامُ ويفترقُ الأصدقاءُ كما تفترقُ أسرابُ السّنونو .. ولا يملكون سوى هذه الجُّسور غير المرئيّة في عالم المرئيَّات!".
اِقتربَ العيدُ مبتسماً رغمَ برودةِ كانون. الآباء والأمّهات يجلبونَ السَّكاكرَ والحلوى ولباسَ العيدِ .. الأطفالُ ينتظرونَ هداياهم .. الجَّميعُ يقومون بترتيباتِ العيدِ .. وأمّا أنا وأقراني كنّا منهمكينَ في البحثِ عن أقلامٍ حمراء كي نوقّعَ في أعلى الصَّفحات.
يا إله الفرح!..في ليلةِ العيدِ استلمْتُ المرسالَ الّذي اِنتظرْتُهُ طويلاً. توجَّهْتُ مباشرةً نحوَ بيتي .. وفيما كنتُ أعبرُ صحْنَ الدَّارِ، بدأتُ أرقصُ رقصاً يحملُ فرحَ الأطفالِ .. اِستقبلَني والدي العجوز بسرورٍ، ثمَّ بدأَ يصفِّقُ لي تضامناً معَ فرحي وقالَ: وصلتْكَ رسالة من صديقِكَ، أليسَ كذلكَ؟
أيوه .. منذُ دقائق.
.. غمرَنا الفرحُ جميعاً. اِنزويتُ في غرفتي وبدأتُ أقرأ الرِّسالة بمتعةٍ غريبة ولذيذة، مع أنّي كنْتُ قد قرأتُها فورَ اِستلامي إيّاها. نبيذٌ أحمر على الطَّاولة كانَ ينتظرُني .. اِرتشفْتُ قليلاً منْهُ. كانت "إيرين باباز" تغنّي الأوذيسة بسموٍّ رائع. تواصلْتُ معَ صوتِها المنعش .. كم كانت موسيقى الأوذيسة انسيابيّة .. كنْتُ أحسُّ من خلالِ انسيابيّة الموسيقى بنوعٍ من التَّجلِّي. كانت روحي منتعشة .. وليلتي مطرّزة بالبهجة. نمْتُ نوماً عميقاً .. عميقاً للغاية.
نهضْتُ بفرحٍ في صباحِ العيدِ. جاءَ الزُّوّارُ تباعاً، وبدأتُ أزرعُ وجوهَ الأحبّة بالقُبُلات. الاِحتضانُ كانَ دافئاً .. طلبوا منّي مرافقتهم، لكنّي اِعتذرْتُ منهم واِعتكفْتُ في صومعتي أقرأ أشعاري تائهاً في عالمِ الذّكريات ...
وفيما كنْتُ شارداً معَ أحلامي جاءَني أحدُ الأصدقاء الحميمين وقطعَنِي من شرودي ووحدتي وسألَني:
ما رأيكَ أنْ نزورَ العجوزَين؟
بالحقيقةِ كنتُ باِنتظارِكَ لهذا الأمر .. وفعلاً جئْتَ في الوقتِ المناسب. (.... ..... ) كانَ العجوزان ينتظرانني بفارعِ الصَّبر. قُبُلاتُ العيدِ كانَتْ لها نكهةٌ خاصّة. لَمَحْتُ قامة طويلة. الاِحتضانُ كانَ عميقاً .. والقبلاتُ قامَتْ ركباً .. صاحبُ القامة الطَّويلة استمطرَ علينا بضحكاته الأرجوانيّة .. سألُهُ أحدهم:
هل جئْتَ من الكلّية وجلبْتَ لنا كلّ هذه السِّلال من الضّحكِ؟
أيوه .. جئتُ لأفرحَ وأضحكَ معكم.
كانَ الجوُّ مبهجاً للغاية فتخلّلَهُ نكتةً من هنا وضحكةً من هناك! .. اِنتهزْتُ الفرصةَ وبدأتُ أسردُ لهم ما حصلَ معي منذُ أيَّام. وعندما وصلْتُ عندَ عبارة "خِجّ خِجّهْ جِيلِي!"، ضحكوا على السَّليقةِ دونما أن يعرفوا معنى العبارة. ولكنَّ ذلكَ الطَّويل الشَّقيّ سرعانَ ما قاطعني وطلبَ منّي أنْ أشرحَ لهم العبارة الأخيرة.
وحالما شرحتُها لهم، سمعْتُ موجةً صاخبة من الضُّحكِ تتعالى من جانبِهم .. حاولْتُ تهدئتَهم لمتابعةِ ما تبقّى من الحكاية، لكنّي لم أستطِعْ تهدئتهم، غاصوا في بحرٍ من الضّحكِ .. وكنْتُ أرى بوضوح اِنفجار الضّحكِ من مآقيهم. كانَتْ راحات أياديهم مشدودة على بطونِهِم وخواصرِهِم .. فما وجدْتُ نفسي إلَّا وأنا منخرطٌ معهم بكلِّ عفويّتي، أضحكُ أنا الآخر، حفاظاً على اِستمراريّة القهقهات الصَّاخبة!!

المالكيّة: كانون الأوّل (ديسمبر) 1987



#صبري_يوسف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- [9]. وللزهور طقوسها أيضاً! ، قصّة قصيرة
- [8]. مشاهد من الطُّفولة، قصّة قصيرة
- [7]. احمرار السَواقي، قصّة قصيرة
- [6]. اللّص والقطّة، قصّة قصيرة
- [5]. قتل النَّاطور الحمامة، قصّة قصيرة
- [4]. حالات اِنفلاقيّة قُبَيْلَ الإمتحان قصّة قصيرة
- 3 رنين جرس المدرسة، قصّة قصيرة
- 2 . امطري علينا شيئاً يا سماء! قصّة قصيرة
- المجموعة القصصية الأولى، احتراق حافات الروح، استهلال، [1] اح ...
- خمس مجموعات قصصية المجلّد الأول، مدخل للقصص
- تصفّح العدد السّادس من مجلة السَّلام الدولية الصادرة في ستوك ...
- حملة تضامن مع الشاعرة المبدعة فاطمة ناعوت
- صباح الخير يا مالفا أيّها المرفرف فوق تاج الإرتقاء في سماء ا ...
- إصدار جديد للأديب التَّشكيلي السُّوري صبري يوسف بعنوان: ديري ...
- طفولةٌ مزدانةٌ بأريجِ النّعناعِ البرّي
- كتابةُ الشِّعرِ إنغماسٌ عميق في رحابِ أحزانِنا وأفراحنا
- الكتابة معراج العبور إلى فراديسَ الجنّة، حلمٌ متطايرٌ من مرا ...
- تمتلكُ الفنّانة جاهدة وهبة حنجرة حريريّة صافية من شوائب هذا ...
- قراءة تحليليّة لقصائد الشَّاعر القس جوزيف إيليَّا
- تورنيه كونسيرت مشاهير -في الظِّل- إلى أرقى مسارح السُّويد


المزيد.....




- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري يوسف - [10]. استمراريّة القهقهات الصَّاخبة، قصَّة قصيرة