أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري يوسف - [4]. حالات اِنفلاقيّة قُبَيْلَ الإمتحان قصّة قصيرة















المزيد.....

[4]. حالات اِنفلاقيّة قُبَيْلَ الإمتحان قصّة قصيرة


صبري يوسف

الحوار المتمدن-العدد: 6093 - 2018 / 12 / 24 - 14:17
المحور: الادب والفن
    


4. حالات اِنفلاقيّة قُبَيْلَ الإمتحان

اِستقبلتني الكتبُ المبعثرة على الرُّفوفِ المغبرّة. الغرفةُ الحزينةُ تتلَمَّسُ الشَّمسَ ولكنَّ النَّافذة البائسة تأبى عبورَ الدِّفءِ إليها. تراكمَتِ اللَّوحاتُ الفنِّيّة في إحدى الزَّوايا وتناثرَ بعضُها على الجدرانِ، وأوّلُ ما يخطرُ على بالِ الزَّائرين أنَّ أحدَ الفنّانين يعيشُ بينَ أحضانِ هذه الغرفة.
وضعْتُ حقيبتي "العاجّة" بالكتبِ والأقلامِ بجانبِ ركامِ اللَّوحاتِ التَّشكيليّة، ثمَّ أنزلْتُ الحقيبةَ الّتي أرهقَتْ كتفي وتنفّسْتُ بعمقٍ. فتحْتُ البابَ والنَّافذةَ اليتيمةَ على مصراعيهما كي يتجدَّدَ هواءُ الغرفةِ ولملمْتُ الأشياءَ المتناثرة على الأسرّةِ وبدأتُ أنظِّفُ الغرفةَ من أعقابِ السَّجائرِ والزُّجاجاتِ الفارغة، ووضَعْتُ القاذورات في كيسٍ وربطتُهُ ثمَّ رميتُهُ في زاويةِ المطبخِ. قدماي متورّمتان، حلَّيْتُ سيورَ حذائي وخلعْتُ جواربي ورميتُها عندَ عتبةِ البابِ، ثمَّ اِسترخيْتُ على كرسيٍّ خشبيٍّ ذي مساند ورحْتُ أحدِّقُ بشرودٍ في سقفِ الغرفةِ .. رأسي كانَ يدورُ وخُيِّلَ إليَّ أنَّ المسافات الَّتي أمتطيها لا تنتهي.
الحشراتُ الصَّغيرةُ تحتَ الأسرّةِ المتهرّئةِ كانَتْ تدبُّ بأمانٍ، وفي الزَّوايا العليا كانَتْ تتشابكُ خيوطَ العناكبِ وتنامُ فراخُها بمنأى عن ضجيجِ العالم!
تناولْتُ صحيفةً من بين ثنايا الكتبِ، قرأتُ عناوينَها، اِبتسمْتُ بسخريةٍ ثمَّ رميتُها جانباً. نهضْتُ متوجِّهاً نحوَ حقيبةِ الكتبِ، هززْتُ رأسي وزمَمْتُ شفتي. أمسكْتُ قلماً ودوّنتُ بضعَ جملٍ على قصاصةٍ صغيرةٍ وهمسْتُ لنفسي: الإنسانُ يضيعُ بينَ متطلّباتِ الحياةِ المتعدِّدة، خاصّةً في أوقاتِ الاِمتحاناتِ، وكلّما اِزدادَتِ المطالبُ، تعاظمَ النُّسيانُ. لهذا وجدْتُ حلَّاً لهذهِ الحالات النُّسيانيّة من خلالِ القصاصاتِ الّتي أدوِّنُ عليها ملاحظاتي.
وفيما كنتُ غارقاً في تأمُّلاتي، بدأتْ "عصافير بطني" تغرِّدُ أنشودةً حزينةً، فمرَرْتُ يدي على محاذاةِ معدتي وقلتُ:
آهٍ .. لو كانَ بإمكانِ الإنسانِ أنْ يتناولَ حبّةً تغنيه عن الطَّعامِ لمدّةِ أسبوع كامل! .. تمنَّيْتُ ذلكَ من كلِّ قلبي، ولو توفَّرَتْ هكذا أقراص ما كنْتُ سأتوانى دقيقةً واحدة عن شراءِ أربعةٍ منها، كي أتخلَّصَ من همومِ إعدادِ الطَّعامِ وتناولِهِ ضمنَ هذهِ الظُّروف المأساوية القاحطة .. ولكي أتفرّغَ بعدئذٍ لواجباتِ التَّحضيرِ لهذهِ المقرّراتِ السَّميكةِ الّتي تنتظرُني بفارغِ الصَّبرِ منذُ شهور.
كانَ مواءُ القططِ الآتي من المطبخِ يرنُّ بأذني بشكلٍ متواصل، شعرْتُ وكأنَّ القططَ تتكلّمُ معَ بعضِها أثناءَ صراعاتِها على النّفاياتِ. أمسكْتُ مكنسةً وتوجَّهْتُ نحوَها فهربَتْ بعيداً تاركةً خلفَها قشورَ الجبسِ والبطِّيخِ والنّفاياتِ مبعثرةً في المطبخِ الصَّغيرِ. لملمْتُ النّفاياتِ ووضعتُها في كيسٍ وربطْتُهُ بإحكامٍ. الفراشي كانتْ متناثرةً على رفوفِ المطبخِ وبقايا أدواتِ الرَّسمِ مرميّةً هنا وهناك .. زوايا المطبخ مكتظّة باللَّوحاتِ المرسومةِ على الكارتونِ، كانت الفئرانُ تقضمُ ما يقعُ تحتَ أسنانِها الحادّة، وعندما كانت الألوانُ تذوبُ في أفواهِها الصَّغيرة، كانتْ تشعرُ بنكهةٍ غريبةٍ ولذيذة!.
فتحْتُ الحنفيّة لأغسلَ يدي فخرجَ من فُوَّهتها هواءٌ مغيظٌ، بصقْتُ بغضبٍ مشحونٍ بإنفعالاتِ الرَّفضِ لواقعي المريرِ. أرهفْتُ سمعي إلى خشخشةِ الفئرانِ، تألَّمْتُ عندما سمعتُها تقضمُ اللَّوحاتِ الملوّنة الّتي رسمَها فنّانٌ تشكيلي في اللَّيالي الحنونة.
وضعْتُ يدي في جيوبي، أبحثُ عن منديل، العرق تصبَّبَ على جبيني، قلبْتُ الغرفةَ رأساً على عقب ولم أعثرْ على منديل .. العرقُ اِزداد اِنصباباً .. شعرْتُ بضآلةِ حجمي وضخامةِ غيظي واِمتعاضي .. تناولْتُ منشفةً متَّسِخةً، مقرمطة ومسحْتُ عرقي ثمَّ دخلْتُ الحمّام.. (بابور الكاز) كانَ ينتظرُني منذُ شهورٍ، تفقَّدْتُ الأواني البلاستيكيّة، كانت مكوَّمة على بعضِها .. وجدْتُ في أحدِ السُّطول ماءً ملوَّثاً، تراكمَتْ على سطحِهِ فقاعاتُ الصَّابونِ والأوساخِ .. أمسكْتُ السِّطلَ وأفرغْتُ ماءَهُ في البالوعةِ. اِغتظْتُ جدّاً عندما وجدْتُ تصريفَ المياهِ مسدوداً. جلبْتُ عوداً ووضعْتُهُ في المكانِ المسدودِ، وحرّكْتُ النّفاياتِ والحثالاتِ المتراكمة في الأسفلِ، لأفتحَ الإنسدادَ وأجرفَ القاذورات المتراكمة، ولكنّ الاِنسداد كانَ عنيداً وسرعانَ ما شعرْتُ بدوار في رأسي، واِمتلأ صدري برائحةٍ نتنة، اِنتشرَتْ سريعاً في أرجاءِ المكانِ من جرّاءِ تحريكِ الأوساخِ المتفاقمةِ في القاعِ. قطعْتُ نفَسَي وسَدَدْتُ أنفي ثمَّ قادتْني ساقاي بعيداً عن الرَّوائحِ العفنة. اِستقبلتْني مرّةً أخرى الكتبُ المبعثرةُ على الرُّفوفِ واِنتشرَتِ الرَّوائحُ الكريهةُ تلاحقُني وتتعقَّبُ خطاي، فأسرعْتُ أغلقُ البابَ والنَّافذةَ الكئيبةَ، ورحْتُ أكفرُ بهذهِ العفوناتِ الَّتي تطوِّقُني وأنا غائصٌ في الهمومِ حتّى أذني، ثمَّ بدأتُ أقلِّبُ كتبي ودفاتري، أبحثُ عن جدولِ مواعيدِ الاِمتحان .. أهزُّ رأسي متمتماً: آهٍ .. يا أيُّها الزَّمن الملوَّث بروثِ البقرِ! .. المادّةُ المقرّرة أنْ أقدِّمَها بعدَ ثلاثةِ أيامٍ هي: "بحوث اجتماعيّة" .. يا حبيبي! جحظَتْ عيناي وأنا أردِّدُ: بحوث اجتماعيّة، عشنا و"شفنا" بحوث اجتماعيّة .. ناجيتُ أعماقَ أعماقي قائلاً:
لا بدَّ من إيجادِ حلّ لهذهِ الرَّوائحِ العطنة الّتي تطوِّقُنَا، ولا بدَّ من فتحِ هذهِ الاِنسدادات الّتي تقفُ في طريقِنا، ولا بدَّ أنْ نجرفَ خزعبلات آخر زمان بعيداً عنّا، كي نتنفّسَ هواءً نقيّاً ونفرشَ حولنا الزُّهورَ الفوّاحة، ماذا قلْتُ؟ .. الزُّهور الفوّاحة! .. زمان .. كنّا صغاراً، كنّا نمرحُ بينَ سهولِ القمحِ وكانَ النَّرجسُ البرّي يملأ صدورَنا شذىً .. وعندما شبَبْنا عن الطّوقِ وأحببْنا أنْ نعبرَ بوّابةَ الحياةِ من بابِها العريضِ، اِرتطمَ رأسُنا بهذهِ العفوناتِ الّتي أدمَتْ خاصرةَ الشَّبابِ في وضحِ النَّهارِ.
وفيما كانَتِ الهمومُ والأحلامُ تتقاذفُني، نهَضْتُ وأمسَكْتُ كيساً مِنَ النَّايلون، ودسَسْتُ يدي فيه ممسكاً بنهاياتِهِ ثمَّ فتحْتُ البابَ ووضعْتُ يدي اليسرى على أنفي سادّاً إيّاه .. وقَطَعْتُ نَفَسي ثمَّ توجَّهْتُ بسرعةٍ خاطفةٍ نحوَ الاِنسدادِ البغيضِ وأدخلْتُ يدي اليمنى إلى القاعِ وبدأتُ أنظِّفُ المجاري الَّتي كوَّمتْها النُّفوسُ البليدة .. ثمَّ عدْتُ بأقصى ما أستطيعُ من سرعةٍ وأغلقْتُ البابَ وزفرْتُ شهيقي المحبوس. وبعدَ لحظاتٍ أعدْتُ الكرّةَ من جديدٍ، وتتالَتْ عددُ الكرّاتِ وبعدَ محاولاتٍ عنيدة ومدروسة، اِستطعْتُ أنْ أجرفَ الحشراتِ والعفوناتِ المتراكمةِ عبرَ المجاري .. بعدَها أرخيْتُ جسدي ورحْتُ أصفنُ شارداً، مستسلماً لأحلامي المتلاطمة كالأمواجِ .. وفجأةً قطعَ شرودي زعيقَ طفلٍ، كانَ يشاكسُ أختُهُ الصَّغيرة، حاولْتُ أنْ ألتقطَ خيوطَ الحلمِ وأسبحُ في فلكِهِ ولكنَّ زعيق الطّفلِ المتواصلِ، شتَّتَ الحلمَ وأصبحَ من الصَّعبِ عليَّ التَّخلُّص من ضجيجِ الواقع.
مرَرْتُ يدي على جبيني، خلعْتُ قميصي .. فاحَتْ رائحةُ العرقِ من إبطيّ .. كم كنتُ بحاجة إلى حمّامٍ ساخنٍ، يزيلُ عن جسدي غبارَ الأيامِ. تنفَّسْتُ بطريقةٍ اِنفلاقيّة وقلْتُ: الماءُ مقطوعٌ أغلبَ الأحيانِ في حيِّنا والأحياءِ الوضيعة الأخرى، شعرْتُ في قرارةِ نفسي أنَّ مشكلةَ الاِستحمامِ لا تقلُّ صعوبةً عن خوضِ الاِمتحانِ!
توجّهْتُ نحوَ الحمّامِ، السُّطولُ كانتْ خاويةً. أمسكْتُ سطلاً ثمَّ خرجْتُ أستجدي ماءً من الجِّيران!
مرحباً خالة.
أهلاً عين خالة.
ممكن تتكرّمي علينا بسطل ماء؟
يا ريت يا ابني، بَسْ والله الحنفيّة مقطوعة من أوّل البارحة.
طيّب كيف تعيشون بلا ماء؟
خلّيها على الله يا ابني، "ليش هايه عيشه هيّه!" ..
ويستمرُّ الحوار حول مسائل الاِنفلاق .. ثمَّ أعودُ خائباً، وأطرقُ أبوابَ الجيرانِ تباعاً، وبعدَ جهدٍ جهيد يتكرَّمُ عليَّ أحد الجِّيران الّذين يخزّنون الماءَ ضمنَ براميل كبيرة.
دخلْتُ الحوشَ وأنا حريصٌ على سطلِ الماءِ من الاِندلاقِ. عَبَرْتُ الحمّامَ ثمَّ بدأتُ أحقنُ البابور .. هزَزْتُ رأسي بشكلٍ سريعٍ ونفخْتُ نفخات متقطِّعة بشيءٍ من الاِغتياظ ثمَّ جمعْتُ لعابي في فمي وبصقْتُ بغضبٍ وأنا أردِّدُ عباراتٍ معيّنة، اِعتدْتُ أنْ أردِّدَها عندما أكونُ مستاءً وغاضباً جدّاً.
كانَ بابورُ الكازِ حلقَهُ جافّاً، كم كانَ بحاجة إلى لترٍ من الكازِ، كي يبلِّلَ ريقَهُ الجاف .. حتّى البوابير عطشى!
وكانَ مقرّرُ المادّةِ على الطَّاولة ينتظرُني، كي أمرَّ عليهِ مرورَ الكرامِ على الأقل .. والبابورُ أيضاً كانَ ينتظرُني. انتابتْني حالةٌ غليانيّة فريدة من نوعِها، وبدأ جسدي المعرَّق يلعنُ هذهِ الأبجديات العفنة الَّتي كانَتْ تحيقُ بي من كلِّ جانبٍ. أمسكْتُ بيدونةَ الكازِ الفارغة ثمَّ خرجْتُ أبحثُ عن لترٍ من الكازِ. كانَ "الكفرُ" يتطايرُ من فمي كالشَّرارةِ الملتهبةِ. شعرْتُ أنّي لا أختلفُ عن أيّةِ حشرةٍ تدبُّ على الأرضِ. تذكَّرْتُ طلابي وطالباتي وهمسْتُ في سرّي، ساخراً من طموحاتي وقبضتي مشدودة على بيدونةِ الكاز!
وهناكَ عندَ مفرقِ حيِّنا انتظرْتُ الباصَ طويلاً، ولمّا لم أحْظَ بباص، اضطرَرْتُ أنْ أركبَ سيرفيساً، موجّهاً أنظاري إلى إحدى الكازيَّاتِ القريبةِ من حيّنا.
يا لطيف .. يا لطيف! .. لم أجدْ نفسي إلَّا وأنا محشور خلفَ طابورٍ طويل.
ما أصعبَ الاِنتظار عندما يتطلّبُ من الإنسانِ القيام بعدّةِ أمورٍ في وقتٍ واحد! .. الأفواجُ البشريّة تنتظرُ أدوارَها للحصولِ على قليلٍ من الكازِ، ولكن الأدوار كانَتْ تتداخلُ وذوو البطونِ الممطوطةِ والرِّقابِ الغليظةِ كانوا يخرقونَ الأدوارَ ويركلونَ البيدوناتِ الفارغة الَّتي يصادفونَها في طريقِهِم!
نظرْتُ إلى ساعتي، الزَّمنُ ينهشُني دونما رحمة، طابورُ البشرِ اِزدادَ طولاً، والأملُ في الحصولِ على لترٍ من الكازِ أصبحَ وشيكاً ولكن! .. وآهٍ .. مِن لكن!
تمنَّيْتُ لو كانَ كتابي معي، كنْتُ سأستغلُّ الزَّمنَ وأتصفَّحُ بعضَ الفقراتِ الهامّة خلال هذه الفترة الاِنتظاريّة المرّة. كنْتُ أغلي في داخلي كالبركانِ، ولعنْتُ آلافَ الأشياءِ .. وكنْتُ أسألُ قلبي الحزين: لماذا كلّ هذه الاِعوجاجات؟! .. كنْتُ حريصاً جدّاً على أيَّةِ كلمةٍ ألفظُها ضمنَ هذا الطَّابورِ الطَّويل. همسْتُ لنفسي أكثر من مرّة: (للحيطانِ آذان) .. وعندما جاءَ دوري، بعدَ فترةٍ انتظاريّة مُرّة، توقّفَ عاملُ الكازيّة عن البيعِ وقالَ: اِنتهى الدَّوام اليوم.
وباِنفعالٍ قلْتُ للعاملِ: أيُّ دوامٍ تتكلّمُ عنه يا ابن الحلال؟ .. ثمَّ اِستدركْتُ اِنفعالي وبدأتُ أشرحُ للعاملِ ظروفي بهدوءٍ، لعلّهُ يتحنَّنُ عليِّ، لكنّهُ لم يكترثْ لظروفي وقالَ لي: يا عزيزي، ما ذنبي أنا؟ .. وتابعَ حديثه مردِّدَاً: أنا لسْتُ قاضياً كي أعالجَ مشاكلَ النَّاسِ، وأشارَ بسبابتِهِ نحوَ الطَّابورِ قائلاً:
إنَّ ظروفَ أغلب هؤلاء النَّاسِ لا تختلفُ عن ظروفِكَ عن قريبٍ أو بعيدٍ، اِعذرني فأنا لا أستطيعُ أنْ أعطيكَ كوباً واحداً من الكاز، لأنّني لو أعطيكَ سأضطرُّ أنْ أعطيَ لمَنْ هم خلفك، والطَّابورُ كما ترى، لهُ أوّل وليسَ لهُ آخر .. من جهتي أنا أقدِّرُ ظروفَكَ، ولكن كما ترى ليسَ باليدِّ حيلة و ..
أتدخَّلُ وأعقِّبُ بلطفٍ على حديثِهِ، موضّحاً لهُ أنَّني اليوم آتٍ من أقصى الشِّمالِ الشَّرقي، وأنا بحاجة ماسّة كي أستحمَّ و ..
قاطعني العاملُ قائلاً:
ليسَ مهمّاً أن تستحمَّ اليومَ، بإمكانِكَ أنْ تستحمَّ غداً .. تعالَ باكراً في صباحِ الغد، سوفَ أعطيكَ لتراً من الكازِ .. وإذا تريدُ، بإمكاني أنْ أعطيكَ لترينِ كاملين، وأستطيعُ أن أملأ لكَ بيدونتكَ الفارغة كلّها .. أيوه، أستطيعُ أنْ أساعدَكَ غداً، نعم غداً في الصَّباحِ الباكرِ ...
كنتُ أهزُّ رأسي، وعندما قطعْتُ الأملَ، بدأتُ أشردُ، وراحَ العاملُ يسردُ لي همومَهُ هوَ الآخر، وعندما وجدَني أهزُّ رأسي يمنةً ويسرةً، محدِّقاً في الفراغِ، تركَني في حالي وغابَ بينَ الأزقّةِ، تاركاً خلفَهُ بيدونتي الكاز فارغة.
عدْتُ أدراجي وقلبي مقمَّطٌ بأحزانِ الدُّنيا .. عندما عبرْتُ الحوشَ، استقبلَني مواءُ القططِ، وقفْتُ ذاهلاً .. فجأةً تراءَتْ أمامي مدرَّجاتُ الجامعة، وتذكَّرْتُ أنَّ لديّ موعداً مع صديقتي قبلَ هبوطِ اللَّيل، شعرْتُ أنِّ قلبي يشتعلُ بالأنينِ وتساءَلتُ نفسي:
كيفَ سألتقي معَ صديقتي وأنا بهذا الجَّسدِ المعرّقِ بالغبارِ؟ .. وأيُّ قميص سأرتدي؟ .. مقرَّرُ المادّةِ ينتظرُني، وصديقتي! .. هلْ ستنتظرُني طويلاً؟
كانَ رأسي يعجُّ بالأسئلةِ، تركْتُ الأسئلةَ جانباً وبدأتُ أراقبُ حركاتِ القططِ وصراعاتها دونَ أن تراني .. وفجأةً تذكَّرْتُ بعضَ الغجرِ الّذينَ صادفتُهم في حياتي، وتذكَّرْتُ في تلكَ اللَّحظةِ الكثيرَ من معاناتِهم .. ثمَّ تراقصَتْ أمامي معادلة تتعلَّقُ بأبجدياتِ الغجرِ، وهزَزْتُ رأسي قائلاً:
يبدو أنَّ هؤلاءَ الغجرِ كانوا على حقٍّ عندما كانوا ــ مراراً وتكراراً ــ يقولون لي أنَّ الحياةَ القاسية علَّمتهم أنَّ التسوُّلَ مهنةٌ من المهنِ!
الآن! .. تيقّنْتُ أنَّ التَّسوُّلَ فعلاً مهنةٌ من المهنِ، تولدُ هذهِ المهنةُ بطريقةٍ أو بأخرى داخلَ الأوطانِ المكتظّةِ بالبيدوناتِ الفارغة!

ستوكهولم: 28 . 6 . 1992

* حاشية:
فكرة هذه القصّة كانت تراودُني منذُ اِمتحان حزيران (يونيو) 1986، وبقيت الفكرة معلّقة في واحاتِ الذَّاكرة. في ليلة 28 حزيران 1992، وفيما كانت ستوكهولم غافية بين أحضانِ الفرح، نهضْتُ بدافعٍ غريب وبدأتُ أنسجُ خيوطَ هذه القصَّة، ... وعندما اِنتهيتُ من كتابتِها، كانَتْ خيوطُ الفجرِ موشكةً على الاِنبلاج!



#صبري_يوسف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 3 رنين جرس المدرسة، قصّة قصيرة
- 2 . امطري علينا شيئاً يا سماء! قصّة قصيرة
- المجموعة القصصية الأولى، احتراق حافات الروح، استهلال، [1] اح ...
- خمس مجموعات قصصية المجلّد الأول، مدخل للقصص
- تصفّح العدد السّادس من مجلة السَّلام الدولية الصادرة في ستوك ...
- حملة تضامن مع الشاعرة المبدعة فاطمة ناعوت
- صباح الخير يا مالفا أيّها المرفرف فوق تاج الإرتقاء في سماء ا ...
- إصدار جديد للأديب التَّشكيلي السُّوري صبري يوسف بعنوان: ديري ...
- طفولةٌ مزدانةٌ بأريجِ النّعناعِ البرّي
- كتابةُ الشِّعرِ إنغماسٌ عميق في رحابِ أحزانِنا وأفراحنا
- الكتابة معراج العبور إلى فراديسَ الجنّة، حلمٌ متطايرٌ من مرا ...
- تمتلكُ الفنّانة جاهدة وهبة حنجرة حريريّة صافية من شوائب هذا ...
- قراءة تحليليّة لقصائد الشَّاعر القس جوزيف إيليَّا
- تورنيه كونسيرت مشاهير -في الظِّل- إلى أرقى مسارح السُّويد
- يغوصُ العالم رويداً رويداً نحوَ القاع
- مساجلة شعريّة بديعة بين الشَّاعر أحمد غراب والشّاعر القس جوز ...
- حوار حول السَّلام العالمي مع الكاتب والصّحافي السُّوري يعقوب ...
- إصدار كتاب جديد للأديب التَّشكيلي صبري يوسف بعنوان: قراءة لف ...
- إصدار جديد لصبري يوسف بعنوان: قراءات تحليليّة لفضاءات شعريّة ...
- الأديب التَّشكيلي صبري يوسف يكتب ديواناً شعرياً من وحي لوحات ...


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري يوسف - [4]. حالات اِنفلاقيّة قُبَيْلَ الإمتحان قصّة قصيرة