حنان بن عريبية - مفكرة وشاعرة وباحثة في التشريعات المقارنة والدين والفلسفة - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: الغُموض فِي عَلاقة الدِّين بالتَّمدُنْ .


حنان بن عريبية
الحوار المتمدن - العدد: 5833 - 2018 / 4 / 2 - 09:53
المحور: مقابلات و حوارات     


من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة، وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى، ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء، تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -221- سيكون مع الأستاذة حنان بن عريبية - مفكرة وشاعرة وباحثة في التشريعات المقارنة والدين والفلسفة -  حول: الغُموض فِي عَلاقة الدِّين بالتَّمدُنْ.


إننا لا نستخلص تفاوت التّقدم بين الدول عبر معيار مدى محافظتهم على معتقداتهم الثّابتة ولا عبر التّشبث بتقاليدهم التّي ورثوها وهذا أمر بديهي طالما ينبثق التّمدن من العقل البشري في حد ذاته. فالسمّو الإنساني المنتج والمبتكر والمبدع والمتجدد والمتسائل والمتغيّر..ينبع من ملكة العقل. وبالرّجوع إلى الحضارات القديمة نجد سطوعا واضحا للعقل البشري في شتّى المجالات مهما اختلفت الأديان أو انعدمت ومهما تباينت المذاهب ومهما تنوّعت العادات والتّقاليد حيث أن الخلايا الدّماغية كانت نشطة جدّا ومبدعة في الطب في الهندسة في الفلك في الفلسفة في الرّياضيات في الفيزياء الخ...
في المقابل هناك حضارات كاملة تمت معاقبتها والحط من قيمتها فقط لعدم إيمانها بالتّوحيد بالرّغم من أنّه لا يمكن تجاهل الحضور الطّاغي للعقل البشري فيها بقطع النّظرعن طريقة تعبدّها التّي اختارتها كما برهنت عليه المخطوطات أو الآثار وما كشفت عنه الحفريّات.. ولو تطرقنا لواقعنا المعاصر نجد استمرارية النظرة السلبيّة جدّا للتطوّر والتقدم بصفة عامّة من طرف المنظومة الفقهية المهيمنة ممّا يحيلنا على التّساؤل بخصوص نوعيّة العلاقة بين الدّين والتّمدن وعن الغموض في هذه العلاقة التّي تتسم عموما بنظرة محقّرة وسلبيّة رغم أنّ ملكة العقل أسمى قيمة في الكائن البشري.
إن البحث في هذه العلاقة لن يتم بالاستناد إلى الأدلة التاريخية المادية وذلك حتّى يكون تحليلنا من منطلق النص القرآني والنّصوص الحافة به والتي مثلت قاعدة المنظومة الفقهية التّي تحكم عقول المسلمين إلى اليوم لدرجة تحول العلاقة بين الدِّين والتَّمدُنْ إلى علاقة مَرضِيّة تبعث على العديد من التّساؤلات من بينها هل يشكل التمدن خطرا على الدين الذي لا يرى العقل البشري في الحضارة بقدر ما يرى كفرا وفساد !!
نشرع ببسط مختصر عن بلاد الرافدين عن أول حضارة في تاريخ الإنسانية وان كان الاختصار لا يحجب ثقلها كمستوى متقدم في النظام السياسي والإداري والطبي والزراعي والمعماري وتأسيس مبدأ الكتابة من حروف وأرقام.. بلاد الرافدين التي نشأت منها الكتابة المسمارية تزامنا مع التدفق الإبداعي للعقل البشري والتي انبثقت منها أيضا أول التشريعات الوضعية لحمورابي والتنظيمات الترتيبية في المجال الاقتصادي والاجتماعي والقوانين الجنائية والتي تم النقل منها في القران حيث جاء في الآية 45 من سورة المائدة "و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس و العين بالعين و الأنف بالأنف و الأذن بالأذن والسن بالسن" نجد أن هذا المنهج هو نفس قانون القصاص بشريعة حمورابي الأدمية راجع المادة 197 و198 و199 و200 لشريعة حمورابي . لذا من الأحرى أن يتم البحث في علاقة ما هو سماوي وما هو وضعي بدل اختزال حمورابي كشخص من حقبات تاريخية منصرمة فقط ونجد من يشرع للقصاص إلى اليوم (طرحت هذا في مقال سابق)
ومهما تعددت المآخذ لا يمكننا تجاهل الركيزة السامية للعقل البشري في هذه الحضارة والذي يختزله أصحاب الفقه في تفاسير مضيقة. إذ نجد حضارة كاملة تم حجبها وتحولت لخصومة بشرية بين النمرود كمثال للطغيان والكفر وإبراهيم كمثال للرسالة التوحيدية "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" البقرة 258
نفس الشيء بالنسبة للحضارة الفرعونية رغم تقدمها الرهيب في الهندسة والمعمار والى اليوم مازال البحث في سر المنشآت التي توجد إلى اليوم وتفرض سحرها على الإنسان المعاصر الذي لم يتمكن من فك شفرة كل هذه الدقة الحسابية والعظمة في الأهرامات ولم يستطع أن يأتي بمثلها رغم التطور التكنولوجي مقارنة بالحضارة الفرعونية التي توصل قومها أيضا لإجراء عمليات على المخ البشري التي تتطلب أدوات دقيقة جدا لخدمة المجال الطبي ورغم تقدمها في العديد من المجالات تقدما لا لبس فيه ويعكس أدمغة فاعلة ونشطة حتى تحنيط الجثث لم يتمكن عقل اليوم من الكشف عن أسراره إلا أن المعضلة أننا نجد من لا يبالي بكل هذا لدرجة حجب العقل البشري الذي مكننا في الأصل من رؤية جثث الفراعنة ونلحظ التشفي بموتهم فقط طالما أنهم يعكسون حضارة كافرة وفاسدة لأنها لم تستجب للرسالة التوحيدية "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ" الأعراف 133 مع العلم أن فرعون الغريق في النص القرآني لم يتم ذكره في أي وثيقة تاريخية عند المصرين القدامى رغم أنه عرف عنهم توثيق الأحداث حتى وان كانت قليلة الأهمية لذلك ذكرت أني لن أستند إلى الأدلة التاريخية المادية لأنها ستفتح أبواب تساؤلات أخرى....
قوم عاد بسورة الفجر" أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)" ومعاقبتهم "وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8) " سورة الحاقة قوم أهلك بريح صرصر محصلة كفرهم ويذكر المؤرخون أنهم كانوا عبدة أصنام. نلحظ أنه لم يشفع لهم عقلهم المتطور لخلق بلاد لم يخلق مثلها بشهادة النص القرآني نفسه ورغم ذلك تم القضاء عليهم .
نستخلص مما سبق من العرض المبسط لمختارات من حضارات كانت شامخة وعظيمة أنّ العقل البشري سطع فعلا بقطع النظر عما تداوله النص أو الموروث الإسلامي وبقطع النظر عن كل المآخذ يقتضي البحث في أسباب تجاهل هذا العقل العظيم فقط لأنه لم يستجب للرسائل التوحيدية خاصة وأن بعض النصوص تدعو لإعمال العقل كما أن التمييز الحاصل بين البشر والحيوان كان تمييزا مبنيا على تكريم البشر بالعقل. كما نعلم أيضا أنّ العقل البشري يرنو دائما للبحث في كينونة هذا الوجود. لذا لا أعتقد أن الخالق يتباهى بتدميره حضارات كاملة شهدت انبثاقا لقدرة هذا العقل وأن يقبل أن تزج حضارات عظيمة بجميع تركيباتها سواء المعمارية أو البشرية في سلوك من يحكمها. في المقابل نجد أن انبثاق الرسائل التوحيدية كان من مجتمعات بدوية وقبلية. كما نلحظ أيضا وعبر جميع الحقبات التاريخية أن عظماء التاريخ في الفكر وقع تكفيرهم دون استثناء. والى يومنا هذا كل من يتساءل أو يحاول تسليط الضوء على التاريخ الديني تقع مهاجمته آليا. هل يعني هذا أن كل من يفكر هو عدو للدين وبالتالي لا يؤمن بالله أو أن الدين يخشى الفكر طالما هناك استناد من النص لمحاربة كل أوجه التحضر. وإذا كان الدين مبنيا على أصول أساسها موجهة للبشرية فهل أن القصد منها هو مراقبة البشر في سلوكيات شخصية لا صلة لها بطريقة إيمانه تجاه خالقه. لنفترض أن الدين يحارب الفساد هل يبيح هذا مهاجمة الجميع بدون استثناء وكيف يمكن جمع المفاسد في كل من لا يرى أن الدين والمدنية تجمعهما علاقة التقاء وإنما علاقة تنافر.
يمكن أن يطرح البعض أن حضارة نشأت في ظل الإسلام وهو ما يمثل ردا على الكلام السابق وهو أن الدين لا يتعارض مع المدنية. يكفي التذكير هنا أن كل المفكرين والعلماء تقريبا تم اتهامهم بالكفر والإلحاد أو على الأقل الزندقة ولم يشفع لهم إسهامهم بالرقي العقلي.
العديد من الأسئلة طرحت وتطرح إلى اليوم عن الهدف من تدخل الدّين بخصوصيات الفرد طالما انه سيتخلى في المقابل عن أسمى قيمة وهو العقل وذلك بمحاصرته ورصد جميع أفعاله. بماذا نترجم كل هذا التجاهل لملكة العقل أمام التقدم اليوم واختزاله في ثنائية الفساد والكفر وهو عالم في فترة انتقال إلى ما بعد الحداثة لا الحداثة التي لم نحقق فيها غير تغلغل الجهل. كيف للإنسان العاقل أن يتقبل استنزاف مكامن وجوده وقولبته ليحيا فقط على إرضاء شريحة مجتمعية نهلت وتنهل من التلقين وتتشبث بأمور تهم الفرد لوحده. شريحة لا تبحث عن أسباب تخلفها فاقدة للروح في بعدها الأرقى وهو الانعتاق. شريحة بعواطف مسلوبة تطلق سلبياتها على الآخر ولا يفوتنا أنه تم تطويعها لترضخ للخوف من التمدن الذي ترى فيه خدعة تؤثر على معتقداتها وتشكل خطرا على علاقتها بربها. كذلك نلحظ التشويش المفتعل أمام كل من يتطرق لموضوعات دينية أو يتساءل بشأنها واعتباره عدوا للدين حتى لو انتقد الهمجية. إن الإصلاح يبدأ بتحررنا من كل وساطة بشرية تسلط خراطيش التكفير العشوائية على كل ما لا تجده متناغما مع مسلماتها ولا تستوعب أن هناك من لا يقبل بحواجز ذهنية تسجن تطلعاته ولا تستوعب أن التفكير لا يتوجب سجنه بين ثنائية الحلال والحرام.
كيف لنا تبويب كل هذا التنافر بين الدين والتمدن. وما هو جوهر وجود إنسان يحيا ويعيش للتعبد مع إلغاء عقله. إننا نعلم صعوبة التعامل مع من يتأله ولا يستطيع التخلص من قناعاته التامة في شخصنة الله على أنه ملك يجلس على العرش ويحشر الناس في الجحيم فقط لأنهم بحثوا عنه بطريقتهم...
كيف للعاقل المحب للإنسان أن يطبع بذهنه صورة خالق يتشفى بالإنسان..
الغُموض فِي عَلاقة الدِّين بالتَّمدُنْ يشكل مادة تزخر بالتساؤل. وإذا كان انطلقنا من النص فما بالنا بالشخصيات الاعتبارية التي نحتتها الخرافة والأساطير واندمجت مع الموروث الديني لتصبح حقيقة ثابتة بالنسبة لهم... ختاما وليس بخاتمة إننا نحيي الإيمان بالإنسان بالفكر والتساؤل الدائم وهي أعظم علاقة حضارية بالوعي الإنساني.

من منبري المتواضع شكرا لمؤسسة الحوار المتمدن على هذه الدعوة النبيلة من أجل الفكر في حوار مفتوح مع السيدات والسادة القراء .