تحرير الدين من أجل فهم الدين


حنان بن عريبية
الحوار المتمدن - العدد: 4694 - 2015 / 1 / 17 - 17:34
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

إن النهم المتزايد من أجل التموقع وبسط قواعد النفوذ يحتاج لأرضية عمرانية طيعة تتجاوب مع المصلحة المنشودة التي لا تخرج عن إطار السيطرة. هذا المشهد يعكس تقريبا جل الأنظمة المستبدة وجل حالة الشعوب المطحونة. فأينما وجدت القوة المفرطة والغاشمة وجد الضعف ولو أن إرساء هذا الأخير يتطلب دراسة ممنهجة وحنكة. ذلك أن الحديث عن التغيير بجميع فسيفسائه لا يستحسنه رؤوس التحكم سواء على الصعيد الداخلي أو الإقليمي إضافة إلى نقاط هامة يجب الإحاطة بمكنوناتها من أهمها معرفة العوامل المباشرة التي تتربص بعملية التغيير التي ستجعل الضعف ينبذ جميع أساليب التحكم ثم العوامل المبطنة التي لن تسمح به .

الحديث عن الجهل والتخلف يضعك وجوبا أمام العرب والمسلمين نظرا لانتساب الدول العربية للمجتمعات المتخلفة. وشعوب هذه الدول أنفسهم أبدعوا في إبراز تخلفهم وجهلهم. فالفخر بالعروبة والإسلام يستمد قوته من نعت انفتاح الدول المتقدمة بالانحلال والمفاسد. لتكون زاوية النظر التي دأب عليها المسلمون بصفة عامة زاوية ضيقة تقصي الانجازات العلمية في شتى الميادين وتلغي معنى المواطنة ليكون الجهل هنا هو الخروج من موروث الدين والتخلف هو عدم تطبيق شريعة الله. ولو أن هذا المعيار لم يجلب غير التقهقر والتراجع في المجتمعات الإسلامية كما أن عدم الوعي بمقاصد الدين وشريعة الله التي يرومها عن طريق أنبيائه ورسله لا تعكس جموع المتشددين ولا حتى من ينصبون أنفسهم حماة للشرائع السماوية وهذا يأخذ على إطلاقه .

ماذا لو قمنا بتحرير الدين قبل أن نستنكر جانب الشدة فيه وذلك بفهم الغاية منه والمقاصد التأسيسية التي وضع من أجلها قبل البحث في علاقة الخالق بالمخلوق أو الخضوع لثنائية التحريم والتحليل. نحرره بتجريده من جميع المرويات في شأنه ونتخذه من الناحية الموضوعية كجانب ايجابي يتمثل في تأطير الإنسان ضمن منظومة أخلاقية واجتماعية تمكنه من التعامل مع أخيه الإنسان في كنف الوعي بالعمل على رقعة من الأرض بكامل الدراية العقلانية وأن ما يوحدهم يخرجهم من التعامل بقانون الغاب ويجعل الدين يكتسب علوية دون أن يحول بين البحث فيه وبين الذات البشرية بمعنى مصدر علويته الالاهية تسمح بالغوص في من يرتفعون بالإنسان من أجل صورة لدين قويم وبين من يحطون بالإنسان من أجل رفعة الدين. وهنا يكون المبحث الأساسي حول ما يجب تقديمه خدمة للدين أو إلزامية الذات البشرية لتطبيق جميع ما يتصل به حتى ولو انتقص من الإنسان. هنا تطرح أيضا مسألة القبول بالاختلاف رغم أن الدين واحد. فهل يثري الاختلاف التنوع من أجل الفهم أو يسيء للدين بدون السماح بالفهم.

إن الاختلاف من أسباب تواجد هذا الكون الذي يزخر بالتناقضات ويزخر بالثنائيات والتعددية. فالاختلاف حسب اعتقادي لا يسيء للدين طالما انه لا يمس بالذات البشرية التي تجسد نواة الكون عامة. لكن يكمن الخطر إذا ما وظف الدين للنيل من الإنسان أو للانتهاك حرمته وحقه في العيش بالصورة التي يرتضيها لنفسه. وهذا التوظيف للدين كشف عن تفاوت الغايات والأغراض. فليس باستطاعة أحد حصر وتعداد كل توظيف للدين يتم من خلاله النيل من كينونة الإنسان. خلافا لذلك ومن سلامة المنطق أن في احترام الإنسان للإنسان تمتين للدين وتحرير له من فظائع ترتكب تحت غطائه بدون رفع شعارات أن الدين في خطر كلما انتقد. إذ الغالب الآن عقلية إقصاء الإنسان كانسان وتجنيده بصفة المرخص له ليحلل ويحرم ويلعب دور المنزه عن الخطأ. وهذا أقرب ليكون حالة مرضية يتوهم الواحد فيها الملائكية ويتوهم كذلك أن الحقيقة هو من يمتلك مقاليدها ليكبر وهم التأله لديه. ويلاحظ عند هذه الفئة شدة الخطاب والدعوة الدائمة والمستميتة للعنف. ومن المفارقات أن تجتمع الأضداد للدفاع عن الإسلام. فمثلا نجد أن هناك من يقدم الفتاوى بجميع أنواعها والتي تمثل مجهودا بشريا و الأحاديث الضعيفة التي هي أيضا مجهود بشري على الأحاديث المتواترة وحتى على مصدر التشريع الأساسي وهو القران. وبالتالي يكون الاستناد للضد الأول بمعنى ضعف الفتوى و ضعف الحديث اللذان يتعارضان ومعاليم قواعد الأخذ بالأحاديث النبوية ضد القران الذي هو أساس التشريع الإسلامي والقمة الهرمية بهدف الدفاع عن شريعة الله. فشريعة الله عند هذه الفئة هي العمل باستقراء الشيوخ والدعاة وأغلبه استقراء لرصد أفعال البشر ومحاصرتهم ومعاقبتهم فشريعة الله حتى وان تعارضت مع نفسها لا يهم ويقع التشكيك في إيمان كل من ينقد أو حتى يسأل.

وبالتالي الفكر لا وجود له في منظومة النقل والأخذ بالمسلمات. فالداعية لذلك هنا يمثل الله في الأرض ويتوج بالقداسة ولا مناص من ذلك فما يجعلك موضوعيا يُعدم بمجرد أنك في حضرة حماة الدين.
تلك القداسة لمن ينصبون أنفسهم حماة للدين طوعت عقول العديد لنجد من يترك النص القرآني جانبا ويجعل من شيخه أو داعيته هو الهرم والمنبع الفقهي الذي يجب أن يطبق على الجميع حتى ولو أن هذا الداعية لا يستعين في محاضراته بأية آية قرآنية. وفي أغلب الأحيان إذا احتج بالقران نجد الانتقائية والتركيز على حرفية النص هما المعيار البارز ويغلب توظيف آيات القصاص والعقاب والجحيم مما يجعل المتلقي أمام صورة الإله الساخط والغاضب والمنتقم والمتعقب لمخلوقاته. هذه الصورة إجمالا تجد صدى لدى فئة بشرية تجانب الدعوة للإيمان الروحي والخروج من أسر النقمة والانتقام والتشفي. فالإيمان حسب دعاتهم وشيوخهم إلزامي ومقيد ويطبق بحرفيته ولا يترك مجالا لا للاجتهاد ولا للتفكير ولا حتى البحث في الفترة التي كان الخطاب الإلهي موجها إليها أو في مدى عدم انسحابها على واقع اليوم.

لنستخلص أن الدين بصفة عامة والإيمان بصفة خاصة تحولا لعبادة أفقية ترضي الشيخ أو الداعية مهما كان موضوع الخطاب وتلاشى شيئا فشيئا الإيمان كعلاقة عمودية بين الخالق والمخلوق وكلما طيعت هذه العلاقة وتخللها أشخاص فقدت جانبها الروحي والمعنوي...

الأسباب عديدة لكي لا يفهم الإنسان معنى الإيمان الروحي المترفع عن جميع الشكليات والطقوس. إيمان يسعى لنشر ثقافة الإنسان و يوصي خيرا به لا أن يجعل منه العدو لمجرد اختلاف في اللباس والتفكير ورؤية الأشياء. إيمان نقي من الترهيب والضغط ليكون خالصا للمعبود. وهذا الموقف نتاج العصور أين تأصل منطق الإلزامية لتواجد رجل الدين الذي يكون واسطة إجبارية وعن طريقه تغفر الذنوب. مسألة تحرر منها الغرب ومازال المسلمون يؤمنون بها. نفس الأمر لعقلية التبرك بالأولياء التي ومع الأسف لا تزال منتشرة ليومنا. هذا إلى جانب الخلط في المفاهيم بين التأويل الذي يتوسع في طيات النصوص السماوية بغاية مصلحة الجميع وما يتطلبه العصر وموجة التقدم وبين خطاب التهويل والترهيب الذي ينفّر ويستقطب شريحة من البشر ثبت تعطشهم للانتقام. كذلك المزج بين الإيمان والتدين والدين والتدين. إذ ليس ضرورة أن تكون متدينا لتخدم الدين. وفي هذا السياق لا بد أن نشير إلى أهمية خدمة الدين للإنسان وليس العكس ولقد أشرت لهذه النقطة في بعض المقالات السابقة. ذلك أن تسخير الإنسان لخدمة الدين جعلت ذهنية الحياة بعد الموت تقصي الحياة الدنيوية وتهمشها. ولم يوفق هذا الفعل لتأصيل الوعي بالتعامل كبشر. لذلك يكون المشهد تنازعا بين فئات تخدم الإنسانية في توجه خالص لربهم أو حتى من أجل إنسانيتهم وفئات أخرى تبرر جميع الانتهاكات وجميع المعاملات غير الإنسانية وتجعل منها طريقا لنيل جنان الله. ولم يوفق أصحاب هذه النظرية الأخيرة لا في الدين ولا في الدنيا.

لا ننسى كذلك الشروخ التي أحدثتها الأنظمة المستبدة التي تلاحق عقول الشعوب بإضعاف جميع سبل الوعي. فهي تضرب التعليم بمعنى أن تجعل منه مصدر تمدرس فقط ولا تنمي الثقافة وتجعل الإعلام هشّا خاضعا لا حديث له غير مزايا السلطة وكل انتقاد محضور. كذلك احتكار ثورات البلاد لتتفاقم المظالم والفقر والحاجة وإضعاف سلطة الشعب لتنوبها سلطة السياط والقمع وتكميم الأفواه. حقوق مهدورة ومعاملة سيئة كلها عوامل تجعل العديد يرون خطابات الدين التي تغلب عليها نزعة التّشفي والانتقام ملاذهم خاصة وأن هذه الخطابات تقنع المتلقي بأن مشروع الدولة المدنية على مر عقود لم يثبت نجاحا دون الإشارة أن هناك أسبابا عميقة ودون التنبيه إلى مغالطات الأنظمة الاستبدادية التي تمارس القوة والقمع حفاظا على تطبيق القانون وحفظ الحقوق وهي مسألة أخرى قد يتم التطرق لها في مقالات لاحقة.

إن الحرب الذهنية في المجتمعات العربية تجد حاكما مستبدا يدعي محاربة التطرف الديني ويتجاهل الرقي والتقدم والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية في بلاده الخ ...والحرب مع الدول المتقدمة دين أيضا وتجاهل جميع الانتهاكات والجرائم التي ارتكبتها وترتكبها ومشكلة رجل الدين دخولك للجنة بتجنيد عقليات التعصب ودوس الإنسان أما المسائل السابقة لا تهمه ليطلق الشعوب صيحة فزع حرروا الدين لنتحرر ممن جعلوا إطالة اللحية والحجاب أهم ممن يموتون جوعا كل يوم وأهم ممن تنتهك حرماتهم في عقر ديارهم وأهم من جميع المسائل الحياتية...

أليس هذا إثباتا كافيا أن الخطاب الديني العنيف مثله مثل الأنظمة المستبدة. الأول لخدمة الدين والثاني لخدمة شخص الحاكم. أما المشاكل الحقيقية تؤجل بل تواجه بالتعتيم. ويبدو أن هناك شراكة بين الاثنين والعمل في نفس المسار لمحاصرة ومراقبة الذات البشرية سواء برجال الدين أو برجال الشرطة لتتحول حياة الإنسان قفصا وسجنا .

إن سلب الإنسان إرادته عن طريق الدين يندرج في الغايات المبطنة لإزهاق شعلة التغيير. حيث يتم بدأ ترسيخ ثقافة العداء والإقصاء اللذان يجردان الإنسان من أخلاقيات التواصل والاختلاف ثم تأصيل عقدة الاضطهاد وعقدة الضحية. وهذا موروث أثبت مصادرة كل تمرد وتفرد بحس الانطلاق لينخر الألم كل متنفس لينخر الحزن كل قول لينخر اليأس كل فعل ولينخر الحقد كل نجاح لنجد اليوم تبريرا للكراهية بالاستناد لجميع مصطلحات قانون الغاب فلسفة أغلبية المتشددين. فهؤلاء لا يخافون على الدين بقدر خوفهم على مصالح قد تعرى إذا تم تحرير الدين والتوجه لرفع قيمة الإنسان.

الجلي أن المتشددين والمتطرفين كلما ازدادوا تشددا وتطرفا يهاجم الإسلام من قبل الدول المتقدمة ولا يهاجم النظام الفعلي الذي يسمح لهؤلاء بزيادة تعميق هوة التخلف وتغلغل القوى العظمى كلما ازداد هؤلاء تطرفا بحجة محاربتهم. ولو أن الأقرب للمنطق أن هؤلاء المتطرفين يرتبون جميع التدخلات الخارجية في شؤون الدول. وإلا ماذا نسمي التوسعات الجيوسياسية والإقليمية والتدخل في كل كبيرة وصغيرة في شؤون الدول العربية. هل حرصهم عليها للخروج من التخلف أم الحرص بعدم المساس بمصالحهم. وبالتالي حتى بنود حقوق الإنسان تمسي حروف على ورق وشعارات كلما كان هناك غاية مستقبلية واستراتجيات على المدى البعيد. ولا أحد ينتقد سياسات تدعو فعليا لصبغ عجلة التحضر والتمدن بالعنف وإراقة الدماء ثم يتم توجيه التهم للإسلام والمسلمين كافة وتنتهي القصة. ولا يحق لك البحث ولا الفهم ولا محاولة معرفة حتى من يدير مواقع تظهر الإسلام دين الشيطان رافعة راية الله أكبر من يتحكم بها من ورائها لا أحد يعرف. فقط ما نعرفه أن مصالح الأنظمة المستعبدة قد تسجن أحدهم وتلاحقه حتى في بيت استحمامه إذا شاءت من أجل تدوينة نقد أو دعوة للحرية أما من ينشرون للجريمة هم أشباح وفطريات غير مقدور عليهم . كل التناقضات من أجل البناء في كفة وتناقضات أيادي التحكم في كفة أخرى. ينتقد لباسك ولا ينتقد من يروم حتى نزعه منك. لذلك لم يعد غريبا أن ترى الجلاد والضحية في الصفوف الأولى لمناهضة الظلم أو ترى الظلم ينظّر في الإنصاف والعدالة.

إن تحرير الدين يحرر الجمود الفكري ويحرر زوايا النظر والغوص في أعماق ثقافة الإنسان التي بدورها تبني للتقدم والخروج من الأسر أنك كلما صرخت كفى للظلم والتظليل والتمويه قالوا فجّر نفسك وستجد بديلا ينسيك معاناة الدنيا ويجعلك سلطانا بين أحضان حور العين وكلما صحت حرية رصدك سوط الجلاد ثنائية تجعلك بين الرضوخ للجهل وبين ويلات الملاحقة إن بدت عليك مؤشرات الفهم بين أن تتحول لمجرم باسم الحفاظ على الدين وبين بقائك عبدا حفاظا على نفسك ....