التعليم والثّقافة خلط أم تشويش


حنان بن عريبية
الحوار المتمدن - العدد: 5352 - 2016 / 11 / 25 - 16:28
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الثّقافة ذلك المصطلح المترامي الأطراف في أهدافه والسّامي في جوهره والّتي تعطي المرء فرصة عدم الإذعان لنمط فكري محدد بقدر كونه منبعا لتوالد قدرات إبداعية ومميّزة له بما يكتسبه من معرفة بدورها لا تقتصر على مراحل التّعليم فقط فالمعرفة هي التّي تحمي الثقافة من الوهن والضّعف لذلك هي عصب الحراك الفكري المتجدد.. .وهذا المفهوم البسيط الّذي طرحته بعيد بالطّبع عن مفهوم الثّقافة الّذي يبحث في السّلوكيّات الموحدة لمجتمع ما بمعنى "علم الإنسان ككائن ثقافي"

وفي هذا السّياق دعا موريس شابلان إلى عدم الخلط بين التعليم والثّقافة بقوله: "التّعليم :حجارة داخل كيس.. الثّقافة :بذرة في وعاء.. فمهما كان حجم الكيس ومهما تعددت الحجارة فيه فانّه لن ينبت شيئا ومهما صغر الوعاء وصغرت البذرة فإنها تنبت وتنمو وتزهر"
كما ميّز عالم الاجتماع علي الوردي بين التعليم والثّقافة تمييزا في غاية الدّقة يستحق من خلاله مراجعة جوهر الثّقافة بقوله :"ينبغي أن نميز بين المتعلم والمثقف، فالمتعلم هو من تعلم أموراً لم تخرج عن نطاق الإطار الفكري الذي اعتاد عليه منذ صغره. فهو لم يزد من العلم إلا مازاد في تعصبه وضيّق في مجال نظره. هو قد آمن برأي من الآراء أو مذهب من المذاهب فأخذ يسعى وراء المعلومات التي تؤيده في رأيه وتحرّضه على الكفاح في سبيله. أما المثقف فهو يمتاز بمرونة رأيه وباستعداده لتلقي كل فكرة جديدة وللتأمل فيها ولتملي وجه الصواب منها"

على ذلك فانّ التّصورات التّي يحملها الإنسان العادي من أنّ المثقّف لزاما أن يكون أكاديميا وصاحب رتب ومؤهلات علميّة عالية تصوّر مغلوط وهشّ فالمجال متاح أمام كل شخص يمكن له بسط إضافات أو رؤى قد تثري لا الفكر فقط بل الثّقافات إذ ليس كلّ من لديه مخزون شهائد استطاع النّجاح ثقافيّا أوالإلمام بمهمّة المثقّف السّامية ويتّجلى هذا عبر حواراتهم وطريقة تحليلهم السطحي والمتهافت للمسائل التّي تحتاج عمقا وبعدا فكريا إلى جانب الهوّة الشاسعة بين مفهوم المثقّف في الدّول المتقدّمة وبين المثقّف في الدّول العربيّة خاصة مع استفحال النّرجسيّة التّي تحجب النّقائص وتفضح تزايد نسبة جموع القول الذّي لا يقول شيئا...
ويقع الخلط دائما بين المتمدرس والمثقّف. وهذا لا يقصي التّعليم كقيمة أساسيّة لصقل آليات البحث وتعزيز أرضيّة التّخصص في مجال ما

ولكن ما الّذي يجعل الفرد المعني بالتثقيف ينفر من مثقف اليوم ليقع تباعد بين الثّقافة والشّريحة المجتمعيّة وبالتالي تحصل القطيعة وتستفحل ؟

إن غزو أشباه المثقفين للسّاحة الثّقافية أحدث شرخا كبيرا في البنية الثّقافيّة فهذه النّوعيّة لا تبحث عن النّهوض بالثّقافة والفكر وحمل الأمانة بأمانة بقدر البحث عن الشهرة وحجب أيقونات فكريّة تعمل بدون غايات نفعيّة فرديّة ونتيجة لهذا نجد أنّ هناك من يعرّف المثقف بمعيار الظّهور الدّائم بوسائل الإعلام حتى وان كان لا يقول شيئا أمّا خزعبلات الاشتهار عبر مواقع التواصل الاجتماعي فحتّى الرّداءة تجد رواجا ورواجا كبيرا لذلك لا يجب تقييم المثقف عن طريق هذه المعايير علما أن هؤلاء يفتقدون لأبسط مقوّمات الحس النّقدي البنّاء ويتسببون بمنزلقات تعود سلبا على فحوى الثّقافة والتثقيف
إذ ليس من الثّقافة في شيء عندما يقع التّوجه لمن يراد تثقيفهم ارتداء جلباب الأستاذ المحاضر الحازم وإملاء الدّروس أو التّشكل في مظهر المعلّم الصّارم الّذي لا ينفصل عن عصاه وليس من الثّقافة في شيء اللّجوء للتّعالي أو معاملة الآخر على أنّه غير كفئ لأن يسأل أو يبدي رأيا وليس من الثّقافة في شيء من يعتقد أنّه كلّما كان المرء فظّا وغليظ القول سيجد آذانا صاغية وكلّما استرسل في سرد مصطلحات تقنيّة والتجأ للتّعقيد والتّضخيم أنجز مهمته في التّوعية خاصّة إذا كان الموضوع يهم القضايا الإنسانية التّي تستوجب من المثقف القرب من أرضيّة المشكل لا التّعامل معها عن بعد فهذه النوعية من المسائل تفترض وجوبا وعيا وإدراكا بمعنى الثقافة الإنسانية وصلة وثيقة بالعمل الفعلي

ليس سهلا أن نطلق صفة المثقف ومن البلاهة أن يعرّف شخص نفسه على أنّه مثقف فالثقافة ليست مرحلة بل هي توالد لمراحل أخرى وليست صفة تختص بها فئة معيّنة دون أخرى كما يرّوج وهو أمر يعود بالسّلب ويشكّل عقبة أمام أهداف الثّقافة وعائقا نفسيّا على المتلقي ويكون التّواصل مفبركا وهو مايفضح كذلك ضعف التّكوين الأكاديمي
من الأخطاء الشّائعة التّي تستوجب وعيا بها استغلال الشخص لشعبيته لتمرير خطابات التفرقة أو العنصريّة أو اعتماد تمييع القضايا الجادّة التّي تشغل الرّأي العام أو الانحياز لتيّار أو طبقة إذ نلاحظ تفشّيا ملحوظا لتأثير الأدلجة على الثّقافة ويبرز هذا خاصّة من خلال تأجيج عناصر الخلاف النّابعة في المجتمع لتطفو الأحقاد على السّطح في حين أنّ دور من يروم التّثقيف بالأساس هو تأليف القوى الفاعلة في مجتمعه وكيفيّة التّعامل مع القضايا الأساسيّة بهدف تعرية مخلّفاتها التّي لا تلاحظ بسهولة.. على ذلك فانّ غياب آلية النّقد الموضوعي والواعي والمجرّد من كلّ مصلحة نفعيّة شخصيّة يغيب معها دور المثقف وهذا ما عبّر عنه علي الوردي بقوله :"إذا وجدت نفسك تريد الكلام وكان الدّافع الحصول على تقدير الحاضرين أوالتقرّب لأصحاب النفوذ فاعلم أنك فاشل عاجلاً أو آجلاً"

لذلك قيمة النّقد والتّعامل مع المسائل التّي تحتاج بعدا فكريّا ونظرة ثاقبة بغاية التوعية والتثقيف تكمن في البحث عن الإقناع لا الإطراء وموافقة الجميع وهذا لا يتوجّه فقط لمجال الثّقافة فحتى المجالات الأخرى التّي تعنى بالرّيادة...

نحن اليوم أمام اجتياح موجة المثّقف الجائع الّذي يحاول امتصاص جوهر الثقافة والفكر لصالحه وفرض أهوائه التّي لا تخرج عن دائرة الأنانيّة والغطرسة والشعبويّة سواء باعتبار الآخر بمثابة الغريم والمنافس وهذا سلوك تم صقله إبان فترة مراحل التّعليم سواء بتعمد إقصاء من يصنفهم دونه وبأنّه صاحب مراتب علميّة وحرفيّة أكاديميّة عند تقديمه لنفسه كحصانة نفسيّة تحرره من تساؤلات الآخر وبالتّالي نجد هذه الفئة لا تسمح إطلاقا بالاعتراف بعقول أخرى تفكّر بل تتعمّد تهميشها بأيّة طريقة حتّى وان لجئت لأسلوب التحقير والتقزيم الّذي يعكس من ناحية أولى فقرا معرفيا في اِسْتِيعاب عمق مهمّة الثّقافة لديه لا التّشبع بها ومن ناحية أخرى فضح الخواء الفكري وذلك بتفشي أسلوب التّهرب من السّؤال عند تقديم رأي ما عن طريق منع أي وجه من أوجه التّساؤلات عبر اللّجوء للتنكيل النّفسي بالطّرف المقابل ليضمن الإصغاء فقط ووابل المديح وبالتالي انحرفت الثقافة عن أبعادها..يقول جون ستيوارت ميل "ان ما يعزز عقول البشر ويوسعها هو التّأمل الحر والجريء في أرفع المواضيع وأسماها"

إن الثّقافة كمحرك لسيرورة مجتمع ما هو موضوع يستحق البحث فيه خاصة أمام قصور اِسْتِيعاب دور المثقف وفي اعتقادي مواجهة كل ما يعوق التقدم والبناء يبدأ بصهر كلّ الجهود التّي يبذلها الشخص مهما كانت مرتبه فاعتماد الانتقائيّة الغائيّة بقصد البحث عن قاعدة تتلقى بدون تفاعل هو نفس التخبط في عقلية "إن لم تكن معي فأنت ضدّي"
وكم زهقت عقول خلاّقة بمجرد أنّها تسأل أسئلة بقصد البحث عن فهم..وكم تفشت عقول إسفلتية لا تُنبت بالتّخفي وراء صلاحيّات التفهيم....