رَحِمْ الزَّبَرْجَدْ (2) … أنا الجنّة وهم أصفاد الجحيم


حنان بن عريبية
الحوار المتمدن - العدد: 5261 - 2016 / 8 / 21 - 20:55
المحور: الادب والفن     

إقترب عَاقِلْ من بيت زَبَرْجدْ.. وبالرّغم من أنّ بابه كان مفتوحا على مصراعيه صوّب بصره إلى نافذتها فوجدها موصدة تماما هذه المرّة.. تقّدم نحو الباب فشاهد ثلّة من النّسوة داخل الباحة، شيء ما بنفسه يدفعُه للدّخول لمعرفة ماذا يَجري وشيء آخر يَمنعه... مكث بُرهةً يتصارع مع أفكاره ولم يشعر برجليه وهي تتسارع نَحْو الباحة، لم ينتبه حتّى للجلبة التّي أحدثها وسط النّسوة.. فهذه تمسك بأطراف ثوبها مذْعُورة كأن هناك من يحاول تجريدها منه، وهذه أشاحت برأسها نَحو الحائط وأُخرى هَرولَت في اتّجاه إحدى الغُرَف، لم يبال عَاقِلْ بكلّ هذا فقد كان همّه معرفة ماذا حصل لِزَبَرجَدْ فقط.. وَكلّما اقترب من إحداهن ليسألها زادت حدّة الجلبة، ولولا تَقدّم الشّيخ نَبْهان منه ليُوقِفَه ما كان ليَنتبه أنّه قام بكسر قاعدة متأصلّة عند أهل المنطقة أنّه لا يَجُوز دخول الرّجال على النّساء ...فقال :

- يا شيخ نَبْهان.. كلّ ما في الأمر أردت معرفة هل زَبَرْ...أقصد معرفة ماذا يجري؟
فابتَسَم الشّيْخ ابْتِسامَة امتعاض وجذب عَاقِلْ نحو الخارج قائلاً:
- لا يحقّ لك الولوج في وسط النّسوة هكذا.. ألم ترى كلّ رجال القرية وشبابها خارجا ؟
فأجاب عاقل بسرعة وكأنّه يريد حسم معاتبة الشيّخ
- حسنا حسنا أعذرني...ماذا يجري يا شيخ نَبْهان
- زَبَرْجدْ !!
- ما بها ؟
- تعرضّت لمسّ شيطاني وتلفظ كلاما غريبا
- مسّ شيطاني.. زَبَرْجدْ أصابها مسّ شيطاني !!
- نعم يا عاقل هذه الأشياء لا تستثني أحدا خاصّة النّساء
- كيف يا شيخ نَبْهان؟ أقصد قد تكون أزمة نفسيّة
- وما درايتك أنت بهذه الأمور!!؟ لقد عالجت العديدات وحررت أجسادهنّ من ذالك الجنّ المسلّط عليهنّ.. هناك بشر يا بنيّ لا يتوانون عن فعل الأذى بغيرهم
- أعلم.. لكن زَبَرْجدْ متعلمّة ومنطلقة.. كيف تتأثّر بهذه الأشياء ؟
- ماذا تعني يا عاقل؟ لا حول إلا بالله!! ألا تؤمن بأنّ السّحر والجنّ حق وموجودان في القران !! ؟ ألا تعلم أنّ طبيب المنطقة ومدرّسوها وأهلها يتعرّضون لهذه الأشياء.. وأنا من أحبط كيد السّحرة كلّ مرّة.. حتّى والدتك استنجدت بي يوم دخلة أخيك ...
صمت عاقل برهة بعد أن علم أنّه من الصّعب مجادلة الشيخ نَبْهان في هذه المسائل...وأردف قائلا :

- هل هي بخير الآن ؟؟
- تصّور يا عَاقِلْ ترفض الاستماع للقران وتصيبها نوبة كلّما وضعت يدي على رأسها ...بالكاد تغلّبت على الجن الأولّ...
- تعني أنّ زَبَرْجدْ يسكنها نفر من الجن ؟؟
- نعم هذا ما تأكدّت منه فهي تنطق كلاما بلغة غريبة
- يعني ليست اللّغة العربيّة ؟؟
- لا، من الواضح أنّه سحر أسود يا عاقل
- ما معنى سحر أسود يا شيخ نَبْهان ؟؟
- إنّه أقوى سحر أين يُسْتَوْلى على الشّخص ليصبح عبدا لأهواء الجنّ
- حسب ما فهمته يا شيخنا أنّ السّحر يقوم به بشر مثلنا بواسطة الجنّ.. هل هذا صحيح ؟
- صحيح يا عاقِلْ
- وما هو العلاج الفعّال لذلك ؟؟
- بالطّبع القران والرّقية الشرعيّة
- لكن يا شيخنا لقد قلت لتوك أنّ من استولوا على زَبَرْجدْ يتحدثون بلغة غريبة.. فكيف سيفهمون اللغة العربيّة !!؟؟
- انتبِه لكلاَمك يا عَاقِلْ وتَذَكّر أنّك تُخاطِب الشّيخ نَبْهان!!
- وهل قُلْت ما يُسيء لك لاسمح الله ؟؟
- أنت تُشكّك في مقدرتي !!

فتمتم عَاقِلْ إني أشكّ في وجود السّحر والجنّ أصلا...
- أقُلت شيئا!!؟
- لا، بَل دَعوْت لِزَبَرْجَدْ أن يُذْهِب الله عنْها شرّ الإنس ويقيها من وطأة ما حلّ بها من بلاَء...
- تَذكّر يا عَاقِل.. هناك أشياء لا يَجب لا الخَوض فيها ولا البحْث في طيّاتها، إنها تَدخُلْ في عِلم الله والجنّ من علمه...
- وهل يرضى الله لعَبْدِه أن يتحكّم فيه جن يُسلّط عليه أو سحر من بشريّ ؟؟ حقيقة لا أفهم...
فرّد عليه الشّيخ نَبْهان بنَبرة حادّة :

- عَاقِلْ!! هذا يَكْفي.. لَسْت مطالبًا لتفهم أيّ شيء.. هذه أمور علمَها أجدادنا ونَعلمها نحن...
اثر ذلك سمِعا ضّجة عارمة داخل بيت زَبَرْجَدْ وصراخا شديدا...
- ابق هنا يا عَاقِلْ.. يبدو أنّ الجنّ تمكنّ منها مرّة أخرى
- اسمح لي يا شيخ نَبْهَانْ أن أدخل معك
- لا يا عَاقِلْ.. أنَسيت الباحة كلّها نِسوة!!
- رُبّما أساعدك في شيء...
فأجابه الشيخ نَبْهَانْ ابق في مكانك فقط.. وستساعدُني بذلك...ومضى مُسْرِعًا للدّاخل...
فقال عَاقِلْ غاضبا :

تبّا.. ألانه شيخ المنطقة له تأشيرة بالدّخُول على النّساء.. لا أفهم كيف يفكّر أهل المنطقة ...وحاول أن يبحث بعينيه الواجمتين من خلال الباب عن زَبَرْجدْ ...وفجْأةً تخلّل الصّراخ نَحيبا وكلمات متقطّعة بالكاد ميّز منْها: فِرْدوسْ...هَاوية...
اقترب أكثر فمرّت من جانبه امرأة مُسرعة كانت بالدّاخل وهي تقول :

لقد جُنّت ...لقد جُنّت
لم يستطع عَاقلْ حتّى سُؤالها وحاول الاقتِراب أكثر من الباحة
فسمع أخرى تلْعن زَبَرْجدْ والصّراخ يشتد...

قال عَاقِلْ لن أبقى هُنا.. وسُحقًا للتّقاليد والأعراف وكلّ شيء.. أشعر أنّ زَبرجَدْ في حاجّة ماسّة لي...وقفز إلى الدّاخل.. فسمع الشّيخ نَبْهان يقول احملوها إلى الغرفة سأتخلّص من هذا الجنّ الكافر ...
وقف عَاقلْ مشدوها.. فلقد رأى زَبرْجَدْ شبه عارية وهي تُحاول الإفلات من أيادي النّسوة المحيطات بها وهي تُردد بدون توقّف :
- أنا الفردوس ...أنا المأوى ...أنا دار السلاّم ...أنا الجنّة وهم أصفاد الجحيم ...وهم حطب سقرْ ... أنا الجنّة ...أنا الجنّة...
كانت زَبرْجَدْ تُقاوم بشدّة لكي لا يُدْخِلوها للغرفة ...

كانت تردد كلماتها كلّما زادوا في تضييق الخناق عليها، وسمع عَاقِلْ الشّيخ نَبْهان يقول : أخرج يا عدّو الله.. أخرج من جسدها الضّعيف الّذي لا حول له ولا قوّة.. ويصرخ "وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا" "مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ".. ويكرر أخرج من جسدها عبر تلاوة أحاديث أخرى وتمتمات مبهمة عليها ...ولكن زَبرجَد تزداد تَصلّبا وتزداد حدّة وهي تقول : أنا الجنّة ...أنا الجنّة ...وهم لهيب سقر...
وفجأة لطمها الشّيخ نَبهَان فتهاوت ولكنّها تشبثّت بردائه قائلة بأكثر حدّة :

- أنا الجنّة ...أنا المأوى ...أنا دار السّلام وهم حطب الجحيم ...لهيب السّعير ..
فانهالت على جسدها الغضّ ضربات النّسوة من كلّ جانب في محاولة لإسكاتها وحملها للغرفة ...
تهاوت زَبَرْجدْ مرّة أخرى ولكنّها لم تسكت ولم تسقط وهي تردد أنا الجنة ...أنا الجنّة ..
وسمع إحدى النّسوة المحيطات بها تقول اخرسي لعنك الله.. كيف تقولين أنّك الجنّة!! ؟ وأمسكتها من شعرها تَرُجّها وتطلب من الأخريات تثبيتها ...
و زَبَرْجدْ في هستيريا أين اختلط صُراخها بأنّاتها قائلة :
- أنا الجنّة ...أنا الجنّة...

ولم يطق عَاقِلْ صبرا وصرخ بأعلى صوته:

أنت الجنّة ...أنت الجنّة يا زَبَرْجدْ … أنت جميع الجنائن وأسراها...
فخيّم سكون مطبق والتفت نحوه الجميع ....بمن فيهم زَبَرْجَدْ التي أردفت تقول بعد أن كان لوقع كلمات عَاقِلْ صدى عليها :

- فِي مَوْلِد أَنْفَاس الغَسَقْ تَضطَرِب العَتمة ولكُلّ حِلْكةٍ أصابَت صُبحًا شَذَى نَسَمَهْ

فكتم الشّيخ نَبْهَانْ صوتها المتعب بأن طوّق خصرها بذراعيه ليحملها للغرفة صارخا بعَاقِلْ : ألا تخجل من نفسك.. لقد أفسدت العلاج !!
فتقدّم عَاقِلْ غير مبال لا بالشيّخ نَبْهَانْ ولا بالنّسوة قائلا :

- يبدو يا شيخنا الجَلِيلْ أن الجنّ الّذي بداخل زَبَرْجدْ هذه المرّة عربيّ يفهم علاج عَاقِلْ..
ووضع يده على خدّ زَبَرْجدْ التّي كانت هادئة تماما أمام ذهول الجميع قائلا برفق:
- أنت الجنّة ...أنت الجنّة يا زَبَرْجدْ... أنت الجنّة …وجميع أسرارها...