أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تيماء حسن ديوب - أنا أبي لا يموت!














المزيد.....

أنا أبي لا يموت!


تيماء حسن ديوب

الحوار المتمدن-العدد: 5467 - 2017 / 3 / 21 - 02:09
المحور: الادب والفن
    


تتماشى الصورة مع الذاكرة في أبهى حلة. كل الصور تهاب سطوة قطبي الذاكرة، كل الصور تبحث عن انعكاساتها في جمال الذاكرة المشتهى، كل الصور تخشى قبح الذاكرة، تمشي بحذرٍ بين دمامل قيحها، كل الصور تسجد لآلهة الذاكرة! كل الصور تبحث عن الخلود في الذاكرة.

مع نضج السنوات من جهة ونضجها هي من جهة أخرى ستفهم كيف تقمص شخصية المعلم رغماً عنه، لتطغى فيما بعد حتى على شخصية الرجل الإنسان فيه. دخل إلى الغرفة بعد قيلولة الغداء، قال "كما أَحَبَ دائماً" بلهجة الأستاذ: اليوم ذكرى أربعينية الشاعر الكبير لابد و أن تأتي معي، حان الوقت كي تخّزني خبرة جديدة في ذاكرتك المشاغبة، لابد أن تسمعي وتفهمي معنى النص الأدبي الجميل.

عندما شخر ميكرو باص كلية الزراعة ايذاناً بوصوله ظهر ذلك اليوم، طارت كعيسوب على درج المنزل تحمل دفتر التعبير بين يديها، طلبت المعلمة منا كتابة موضوع عن الربيع، قالت بلهجة حازمة: سأقرأ لك ما كتبت!
تقرأ موضوعها بينما يخلع ملابسه، يغسل يديه، يتجه إلى طاولة المطبخ حيث يتحلق الجميع لتناول وجبة الغداء، تنصب كلمة مرفوعة أو تكسرها فيصحح لها ويطلب منها إعرابها، تمتعض وتتهمه بتشتيت أفكارها، تتجاهل طلبه وتكمل عندما لا تعرف إعراب الكلمة، وتجيب بتحدٍ عندما تعرفها، فيضحك بصوت رنان، تنهي قراءة موضوع الربيع وهي واقفة من فرط حماستها، يشاكسها كما العادة ويقول: الموضوع جيد، لكنني أعتقد أنك تكتبين أفضل بكثير من هذا! تلمع عيناها بدمعتين و تذهب لتدفن وجهها في مخدتها، يعلو صوته كي تعود لتتناول وجبة غدائها، لا تجيب، كأنها لم تسمع شيئاً. غالباً ما كانت الأم تتدخل في مثل هذه اللحظات، تلحق بها تقول: سيبقى هذا سرنا الصغير، إنه يغار من كلماتك الجميلة، هو يعرف جيداً أنك يوماً ما ستكتبين أفضل منه! تمسح دموعها، تعدّل جلستها، تتابع الأم: أنا على ثقة بأن أسلوبك جميلٌ جداً و أن موضوعك سينال درجة عالية غداً، هيا الآن إلى الطعام.
تعود إلى المطبخ، ترمقه بنظرة العارفة، يغمز والدتها و يضحكان.

تابع كلامه إلى ابنة الصف السادس الابتدائي: جهزي نفسك، يبدأ الحفل في الساعة السادسة، سأَلَتْه يومها لماذا يسمى حفل تأبين؟ قال: على الإنسان أن يحتفل بالموت ليهزمه! لم تفهم يومها كلماته، واليوم لا تقنعها! يهزمنا الموت ألف مرة في كل مرة يسرق منا من نحب. قررت ابنة الاحدى عشرة سنة أن ترتدي فستانها الأصفر ذو الدوائر الملونة، الفستان الذي طالما كرهته، فكرت دائماً أن الأصفر لون حزين!

وصلا إلى القاعة الأنيقة، كان كل شيءٍ في مكانه، غصت القاعة بالناس فالشاعر كان قامة من قامات سوريا الأدبية، لذلك لابد لمدينة البحر أن تحتفل به. توالت الكلمات الجميلة التي لم تفهم الكثير منها، كانت تسأل وتسأل عن معاني الكلمات وهو يجيب بطيب خاطر. انتهى الحفل التأبيني و بدأ يصافح الرجال و النساء، كم كان يحلو له أن يقول: هذه صديقتي و ليست ابنتي، ما أجملها مشاعر الاعتزاز في عينيه! قال لهم: أنا أعيش بين ثلاث زهرات، يضيف ممازحاً: قد اضطر يوماً ما لحمل سلاح عند مرافقتهن!
خرجا أخيراً، الآن عليهما المشي مسافةً لا بأس بها للوصول إلى محطة الباص، صمتت على غير عادتها، سألها: بماذا تفكرين؟ نطقت بكلمات لم تكن تفهم ألمها يومها، أجابت بعفوية طفلة: عندما تموت، أعدك أن أكتب أجمل الكلمات في حفل تأبينك! يومها تغيرت ملامح وجهه و لم تفهم سر اختفاء ابتسامته! اختنق صوته عندما قال: أنا على ثقة بأنك ستفعلين ذلك.

مع الأيام، كلما كبرت أحلامها صار الندم أكبر، كانت الغصة تملأ روحها كلما تذكرت حادثة وعدها الشقي. كبرت الصغيرة، صارت صبية، نزف وعدها في 20 أذار من العام 2015، وقفت أمام أهل قريتها، أمام والدتها، ترتجف الأوراق بين يديها، يختنق صوتها، صورة ابتسامته تطل بين الوجوه، صدى كلماته تتردد: أنا على ثقة بأنك ستكتبين أجمل الكلمات، ترفع صوتها وتقول:

سامحوني إن تلعثمت أو تعثرت
إن رجف صوتي، شفتاي أو حتى يداي
تَسَعُ حزني وحدها السماء
ألملم كلماتي، أرتبها، أدلّلها علّها تسعفني فتقسو أكثر!

أنا الشقية بالكلمات
أنا من هزمها الموت فقط
أنا من انكسر قلبي أول أمس
أنا الأبنة وأنا الصورة وأنا المرآة

اعترف أمامكم جميعاً:
لن أستطيع كتابة الكلمات التي تليق بأبي
كيف أكتب ما يليق برجلٍ بحجم وطن!؟
بحجم قامةٍ من سنديان
وهل يموت السنديان؟

منذ عامٍ ونصف تقريباً
بدأ صوت أبي بالإنطفاء
ببطء حذرٍ وهدوء قاسٍ
هي ليست مصادفةً أن يصمتَ في زمن الثرثرة هذا
زمن الدم والعهر
الزمن الرديء بامتياز

سكتَ رجل المبادئ والمواقف
رجل الأفعال لا الأقوال
دفع زمن صدقه غالياً ولن أخوض في الذكريات
فهل مات أبي فعلاً؟ هل يموت السنديان؟

أن أقف اليوم أمام جمهور نساء و رجال
على تراب عزيز كتراب بسنادا
و أبو اللجين قد غاب
هو امتحان جديد تصفعني به الحياة
بكل حماقات الحزن و الجرح ينزّ على مهلٍ
و الطيف هنا، حدقوا مليّاً
أبي لم يتركني يوماً ولن يفعل الآن
حدّقوا جيداً فالشعلة لا تترك المصباح
المطر هل ينسى الغيمة؟
الريح كيف تهمل الشتاء
وبالشريان سيظل القلب يخفق، أبي يا أيها الشريان
سيبقى موعدنا حتماً مع الكتاب، مع المساء
مع الكأس و اكتمال القمر
مع أولاد لن تراهم إلا بروحك الطيبة

من جديد سامحوني إن تلعثمت أو تعثرت
إن رجف صوتي، شفتاي أو حتى يداي
اعذروا قلبي المسكين
اصغوا إليه جيداً
اشفقوا عليه حين يحيره السؤال: هل مات أبي فعلاً، هل يموت السنديان؟
رحم الله الشاعر الذي قال يوماً: أنا أبي لا يموت.



#تيماء_حسن_ديوب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسئلة من هواء
- كان اِسمها مريم
- في دُّوَارِات الذات
- ظِّلُ رجلٍ شرقي
- مذكرات أم تنتظر-3-
- رقص شرقي
- صورة الرئيس
- أنتِ طالق
- مذكرات أم تنتظر-2-
- مذكرات أم تنتظر-1-
- فضاءات حدقة
- أسئلةٌ مُرْهَقَة
- أنا والهُوَ
- قيثارة أوفنبورغ
- ذكرى فاطمة المرنيسي
- على عتبة قطار آخن
- موت غير مفاجئ
- ربيع غد
- شبق
- خيانة


المزيد.....




- الجمعة.. انطلاق نادي السينمائيين الجدد في الرياض
- غدا.. اجتماع اللجنة الفنية للسياحة العربية بمقر الجامعة العر ...
- “مبروك لجميع الطلاب ” رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2025 الدور ...
- مذكرة تفاهم رباعية لضمان التمثيل القانوني المبكر للأحداث بين ...
- ضحك طفلك طول اليوم.. تردد بطوط على القمر الصناعي لمتابعة الأ ...
- الياباني أكيرا ميزوباياشي يفوز بالجائزة الكبرى للفرنكوفونية ...
- كيف تحولت شقة الجدة وسط البلد إلى مصدر إلهام روائي لرشا عدلي ...
- القهوة ورحلتها عبر العالم.. كيف تحولت من مشروب إلى ثقافة
- تاريخ اليهود والمسيحيين في مكة والمدينة حتى ظهور الإسلام
- رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2025 لكل التخصصات “تجاري، زراعي، ...


المزيد.....

- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تيماء حسن ديوب - أنا أبي لا يموت!