أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - مقالات في الرواية . الجزء الأول.















المزيد.....



مقالات في الرواية . الجزء الأول.


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4862 - 2015 / 7 / 10 - 00:31
المحور: الادب والفن
    


(1)
* البطولة الجماعية في " فرس العائلة "
تحار وأنت تقلب صفحات رواية " فرس العائلة " لمحمود شقير من أين تبدأ الحديث عنها لكثرة ما حوت من شخصيات ووقائع . أكثر من مائة شخصية أحصيتها وأنا أقوم بفهرسة لأسماء الشخصيات وأهم ما يجري معها . ولو أننا قسمنا عدد صفحات الرواية ( في حدود 300صفحة ) على مائة من الشخصيات ، لكان نصيب كل شخصية قرابة ثلاث صفحات .
و قد يكون هذا التقسيم وحده كافيا لإثبات أن البطولة في الرواية جماعية ، بغض النظر عن الشخصيات التي قد تستأثر بالحديث عنها أكثر من غيرها ، وبغض النظر عن بعض الوقائع التاريخية وحكايات الناس وتقاليدهم وصراعاتهم وأهازيجهم ، التي لا تنسب إلى شخصية بعينها ، بقدر ما تنسب إلى العشيرة التي تتحدث عنها الرواية ، بحيث تغدو العشيرة هي بطل الرواية وليس الشخصيات بحد ذاتها . فالشخصيات تقدم بوقائع وأفعال ، فلا تعود الشخصية بحد ذاتها مهمة بقدر أهمية الأفعال والوقائع الناجمة عنها . والأمر نفسه ينطبق على حكايات الناس وتقاليدهم وأهازيجهم ، التي شكلت النسيج الروحي لتكوينهم ، بحيث يمكن القول أن الرواية بدت وكأنها منجم لتراث العشيرة التي تتحدث عنها الرواية ، وهو ما لم نشهده في أية رواية أخرى بهذا القدر من الثراء .
هذه المقدمة تشير إلى التكثيف الشديد الذي كتبت به الرواية . ومن الواضح أن محمود أفاد من تقنياته الفنية في كتابة القصة القصيرة ، كونه كاتبا لها بامتياز ، فطبق تقنياتها على عالم الرواية
ولو قدر الإمكان .
سنتوقف قدر الإمكان مع أهم شخصيات هذه الرواية وأفعالها ، وسنتوقف مع مكنونها التراثي إذا اتسع المجال، لكن بعد أن نوجز ما تتحدث عنه الرواية ، متطرقين قدر الإمكان إلى بنائها الفني ، مع ادراكنا التام أن هذه الرواية قد تحتاج إلى دراسة بحجمها لتحيط بكل جوانبها .
**********
يحدثنا محمود شقير عن رحلة عشيرة ( العبد اللات ) من البرية إلى مشارف مدينة القدس ، يحدثنا عن التحول من البداوة والدخول في المدنية ، عن هجر مضارب بيوت الشعر إلى البيت الحجري الحديث، عن ترك الرعي والزراعة ولو جزئيا للعمل في مرافق المدينة المختلفة . عن هجرالدراسة عند الشيوخ ببيضة ورغيف إلى المدرسة الحديثة ، عن ترك الثوب البدوي إلى الفستان ، عن اشعال النار بالحطب إلى موقد الكاز ( البابور ) عن التحول من الحكم التركي إلى الحكم الإنكليزي . عن رجال ارغموا على خوض الحرب إلى جانب الأتراك ليعودوا جثثا أو يختفون ، وعن رجال حاربوا مع الإنكليز ليعودوا محملين قتلى على ظهور البغال .
يحدثنا محمود عن رجال مزواجين يعشقون النساء والأبناء ، ويحبون الحكايات الشعبية والخرافات والبطولات والفروسية . يحدثنا عن نساء يعشقن وينجبن ويحببن دون حدود ، ويحلمن بالجن والشياطين ، أو يهرب بعضهن مع عشاقهن . عن الشحادين والباعة المتجولين
عن الجبليين وقرودهم التي ترقص للنساء ،عن رجل أطعم ظله بيضة ورغيفا ، عن الغجر وهجراتهم وفنونهم ،عن ثورات مجهضة وبطولات فردية .عن عادات وتقاليد وطقوس ومشاعر وأحاسيس وصلوات وأغان ترسم نسيج أرواح هؤلاء الناس ، وتسبر خفايا نفوسهم .
يحدثنا محمود بمحبة لا تخلومن طرافة عن طقوس الخصب عند هؤلاء الناس ، ليوحد بين خصب الأرض وخصب الأنثى . المواقعة الجنسية مع المرأة قد تتم في حقل الحراثة ،على ظهر البغل أو استلقاء على الأرض، ليبدو فعل الحرث مشتركا بين الأرض والمرأة . فكلاهما حرث ينتج عنه خصب ، لنجد أنفسنا وكأننا أمام طقس تموزي من طقوس ما قبل التاريخ .
وفي مواقعات أخرى يتم الطقس على البيدر بين حصيد الكرسنة ، أوبين القطيع الهاجع على نور القمر، ورائحة الخصب تتضوع منه . أو إلى جانب نار مشتعلة في البرية .
يوظف محمود شقير خبرة طويلة مع الكلمة في قرابة أربعين مؤلفا وقرابة ستين عاما مع الكتاب وفنون السرد الأدبي ، ليبدو كساحر يجمع رزمة من الأوراق تتحدث عن أكثر من مائة شخصية ، ثم يشرع في سحبها ورقة ورقة ، دون أن نعرف كيف سحبها ، بما لا يتأتي إلا لمن خبروا فن السرد وأتقنوا سحر الروي . يسير بشخوصه بخطوط شبه متوازية وكأنه يسير بهم معا في آن واحد، فلا يطيل الحديث عن شخصية إلا لينتقل إلى أخرى ، والقاريء الذي لا يركز في القراءة قد يضيع ،غير أنه وإن ضاع سيجد نفسه مشدودا إلى متابعة الواقعة الحدث دون أن يعير كثير اهتمام لإسم الشخصية التي تجري معها الواقعة . فنحن لسنا أمام رواية شخصية ،أو قصة بوليصية تكتم انفاسنا ونحن نتابع مجريات البحث عن القاتل ، نحن هنا أمام بطولة جماعية نتابع فيها حياة هؤلاء الناس في مجتمع البداوة .وهذا لا يعني أن محمود أهمل رسم شخصياته ، أبدا ، فقد كان حريصا على تميز كل شخصية وتفردها عن غيرها . لكن كثرة الشخصيات والتنقل من واقعة إلى أخرى حال دون تركيز القارئ على الشخصيات . ورغم ذلك تعلق في الأذهان شخصيات كثيرة لا يمكن أن تنسى .
يسيرمحمود مع شخوصه خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف . إلى الأمام في ما هو مستجد وما سيستجد من أحداث ، وإلى الخلف لنعرف ماضي الأسرة أو ماضي الشخصية في الرواية . يتم السرد عن الماضي باستقراء ذاكرة الشخصية ، أو عبر حكايات الأم ، أو من قبل الراوي نفسه باسترجاع الماضي ، أو عبر أحلام الشخصيات . يتنقل بنا من حدث إلى آخر بتكثيف شديد ودون أية مطمطة أواستطراد .
يحدثنا محمود عن مشاجرات عشائرية قبلية ، عن أناس يغرقون في الينابيع أو في برك المياه .عن امرأة تلد طفلا بأذني حصان ، يجيد الصهيل .. عن تاجر دجال يزني بالنساء بذريعة تقديم دواء للنساء العقيمات ، وعند موته يتحول ضريحه إلى مقام يضاف إلى مقام آخر تقدم له النذور
وتجري فيه طقوس العبادة . يحدثنا عن جني يظهر للنساء في كلب أسود . يحدثنا عن فرس العائلة الغائبة الحاضرة التي تظهربصهيلها في الملمات من الأيام ، لتدخل الزمن الماضي بالزمن الحاضر ، مذكرة بالأصالة والحنين والوفاء إلى فارسها الراحل الذي قتل غيلة وغدرا ، يحدثنا عن رجال يقتلون الضباع والغيلان . يحدثنا محمود عن أم الغيث وموسم النبي موسى ، وعن أعراس هؤلاء الناس وأغانيهم . يحدثنا عن قطعان تجرفها السيول أو تسطو عليها الذئاب . يحدثنا عن الجدب ، عن أطفال يدهمهم فيضان فيغرقون في لجة مياهه . يكاد محمود أن لا يترك شيئا إلا ويتحدث عنه ، لنجد أنفسنا أمام كنز من التراث لا يستطيع أن يحيط به إلا من عايش هؤلاء الناس وخبر منجم حياتهم وتاريخهم الإجتماعي وأساطيرهم وحكاياتهم .
يستوحي محمود من اسم عائلة من السواحرة تدعى عائلة ( العبد اللات ) (باللام المضخمة ، كونها جمعا لمفرد عبد الله باللهجة العامية ) اسما للعشيرة المنحدرة من أصول بدوية التي تتحدث عنها الرواية ، وليبقي على اللام مبهمة لتلفظ مخففة ، ليوغل بنا بعيدا في التاريخ ، إلى أناس كانوا يعبدون في الجاهلية وثنا يدعى اللات ، يرمزون به إلى الله ، فيتقربون منه ويتعبدون إليه ، وقد اقترن اسمه غالبا في مدونات التاريخ بالعزى ومناة .
غير أن هذه الأصول الضاربة في التاريخ تأخذ مكانها في التندر حين نجد أبناء العشيرة يمزحون ويجذفون على العشيرة بنسبها إلى أبي جهل .
أقام محمود شقير بناءه الدرامي أو المحور الذي تدور حوله الأحداث ، على هجر البرية والرحيل إلى مشارف مدينة القدس . والمرور على شخصيات العشيرة هو لتحديد موقفها إما مع الرحيل أو ضده . وحين نكاد ننسى في غمرة الأحداث المتلاحقة ،الغاية من هذه الرواية يفاجئنا محمود بموقف شخصية من الرحيل .
غير أن هذا الحامل الدرامي للأحداث لا يغدو مهما إلى هذا الحد أمام سحر الحياة االميثولوجية لهؤلاء الناس ، فلا يترقب القاريء حدوث الرحيل بل وقد لا يهمه إن لم يحدث .
وأخيرا يتم الرحيل . لكن متى ؟ في الصفحة 144 و145 من الرواية :
( صبيحة يوم الرحيل كانت قاسية على الأنفس وعلى الأبدان ،نهضت النساء منذ الفجر ورحن يحزمن الأمتعة )
( توجه منان وأبناء عشيرته غربا ، يحملون على الجمال والخيول والبغال والحمير أمتعتهم ، وكانوا أسبق في الرحيل من عشائر عرب السواحرة )
سأكتفي بهذين المقطعين من الرحيل لأشير هنا إلى التداخل بين الواقع الفني المتخيل والواقع التاريخي الواقعي أو الحقيقي . فمحمود هنا يشير إلى عشائر عرب السواحرة وهي عشائر حقيقية ما تزال تعيش في أراضي جبل المكبر والسواحرة الشرقية ، بينما عشيرة العبداللات التي يقودها المختار منان هي عشيرة متخيلة . ثم إن بلدة رأس النبع التي يقيمها الراحلون على مشارف القدس هي بلدة متخيلة ولا وجود لها على الخريطة المقدسية . غير أن محمود يجعلها بلدة لها وجودها حين يجعل بعض الثوار وقادتهم يزورونها ، كالشهيد القائد عبد القادر الحسيني وبعض رفاقه . كما أنه يتطرق إلى بعض أبناء السواحرة الذين كانوا مع الثورة أو في جيش الإنقاذ.
لقد حاول محمود قدر الإمكان الإبتعاد عما هو واقعي تاريخي ليتيح لنفسه كمؤلف التحليق ولو جزئيا في عالم الخيال الذي هو أهم متطلبات الأدب ، وبالقدر نفسه حاول الإبقاء على الإلتصاق بالواقع ليتيح لنفسه التحدث عن هموم الناس وحياتهم وتحولاتهم ، دون أن يفارق الواقع مخيلته ، لتنتمي روايته إلى الأدب الواقعي . والحق إن تعبير مدرسة الواقعية السحرية التي انطلقت وسادت بعد ظهور أدب أميركا اللاتينية في العالم العربي ، يمكن أن ينطبق على رواية فرس العائلة بجدارة .
بالتأكيد ليس في الإمكان التوقف عند كل شخصية من شخصيات الرواية وإلا لاحتجنا كتابا بحجم الرواية نفسها كما أسلفنا . سنحاول قدر الإمكان الوقوف عند أهم الشخصيات .
*منان
منان هو مختار العشيرة وشيخها لكن ليس بالمعنى الديني للمشيخة. ولا شك انه استأثر بحصة الأسد من الوقائع .من أول سطرين في الرواية يقدمه محمود كأحد أبناء البرية العاشقين لها حتى وإن أجدبت . لكن هذا العشق لن يمنعه من التفكير في الرحيل إلى مشارف القدس لإيجاد فرص للرزق لأبناء العشيرة ، ولتحقيق بعض ما يصبو إليه من رغبات ، فالبرية لم تعد كما كانت" فالريح التي تقبض على الغيوم من أذيالها لتأخذها إلى شتى البقاع جالبة معها المطر ، لا تحضر إلا لتعيث خرابا في مضارب العشيرة ، والمطر منقطع أو هو شحيح في أحسن الأحوال ، والأغنام جفت ضروعها ، وسبل العيش أصبحت أكثر صعوبة " ( ص 9)
لمنان وقفات صلبة مع الإنكليز كما لأبيه مع الأتراك من قبل . يقسو أحيانا على أبنائه مثلما فعل مع محمد الصغير حين ألقاه في بئر لسبعة أيام ليردعه عما يود فعله بعد أن غدا متدينا . ومنان عاشق للنساء ، تزوج ستا منهن . يمارس الجنس بطقوس خاصة أقرب إلى طقوس الخصب في العبادات القديمة .. في الطبيعة : في المرعى ، بين شياه القطيع الهاجع في الليل ، على ضوء القمر ، في الحقل ، في بيت الشعر.
حين مارس الجنس لأول مرة مع فاطمة كان شابا يرعى قطيع أهله ، وكانت فاطمة ترعى أغنام أهلها .. تركا الأغنام ترعى وقاما بفعل الحب . قلقت فاطمة من وضعها بعد أن فقدت عذريتها . فعقد قرانه عليها ببساطة ودون أية تعقيدات . " جلست فاطمة على حجر وهي مطرقة برأسها إلى الأسفل ورموشها تنسدل فوق عينيها الواسعتين ، رف جفناها ورمقت منان وهو جالس أمامها على حجر ، سدد نظرة نحوها وقال : أنت على حجر وأنا على حجر .بلعت ريقها وقالت : أنا الأنثى وأنت الذكر " ( ص 17 و 18 )
عقد قران يرتبط بالطبيعة وبساطة الحياة بالجلوس على الحجر ، وجعله جزءا من نص عقد القران !
هذه المواقعات الطقسية تتجلى أكثر حين يمارس منان الحب على نور القمر ، وأكثر حين يمارسه في حقل الحراثة ، فيغدو ممارسة مقدسة للخصب ، فكما يتم حرث الأرض لتخصب ، يتم حرث المرأة لتخصب أيضا . فحين كان الصراع ملتهبا بين الإنكليز والأتراك ، جاءت وطفاء إلى منان في الحقل ، وراقها مشهد سكة المحراث وهي تغوص في التربة وتقلبها ..
أجلسها منان على ظهر البغل ووركاها منفرجان على ظهره ، وما لبث أن طرحها أرضا وشرع في حرثها . (ص78)
جاء في النص القرآني : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم "
( البقرة 223)
فهاهو القرآن يعتبر المرأة حرثا ، والحرث مفردة لا يمكن ربطها إلا بالأرض للدلالة على الخصب .
حسب هذه الرؤية تعامل محمود مع الجنس في روايته وبشكل خاص مع ممارسات منان : همدت حركتها وهي تتأمل بكسل لذيذ ما جرى قبل لحظات .
نهض من جوارها وملأ راحة يده بالماء ورشقه على التربة الحمراء ، وقال إن هذا يجعلها أكثر خصوبة . اختلج جسدها وهي تراه يرشق الماء " ( ص 78 )
الربط هنا واضح بين انتشاء جسد المرأة ورشق الماء على التربة .
تزوج منان ست نساء : فاطمة ومثيلة ووطفاء وسميحة وصفية ووضحاء . كان لكل منهن مكانة خاصة في نفسه .انجب منهن أربعة عشر ولدا وست بنات . تميز منهم وطاف ومحمد الكبير وأدهم ويوسف .
يوسف : التحق بثورة القسام . القي القبض عليه . وسجن .
محمد الكبير : دارت حوله تقولات كثيرة بذهابه إلى يافا ومعاشرة اليهوديات ، إلى أن أحب المسيحية مريم واستقر في القدس، وصلى مع مريم في الكنيسة ،وراح يردد ابتهالات مسيحية
وإسلامية ، وحين سمعته مريم راحت تردد مثله ، لتغدو الديانتان دينا واحدا . هذا الجانب الديني
المتسامح جدا نلمسه في رواية فرس العائلة بوضوح . فالبدوي تحديدا يعيش الدين كطقس لا أكثر ولا يعرف التعصب والتكفير إطلاقا .
أدهم : الذي له أذنا حصان : اتصف بالحكمة والذكاء .وكثيرا ما كان يصهل مقلدا صهيل الفرس ، والفرس ترد بدورها على صهيله بالصهيل ، يمتطيها وينطلق بها ليجوب المضارب
والبراري ويعود .. خافته النساء وأعجبت به عمته مهيوبة .
وطاف : ابن وطفاء القوي . إنه شمشون الفلسطيني ، إنما بسبع شعرات فقط في رأسه ، لهن سحر خاص كما تعتقد النساء ، منهن يستمد قوته الطاغية ، وليس هناك دليلة أو قوة قادرة على نزع الشعرات .. أحب الغجرية مروادة وتزوجها .استشهد في مواجهة مع الإنكليز والصهاينة . كانت أمه وطفاء مولعة باللعب بالحجارة والإلتصاق بالأرض . ورث هذا عن أمه بعد رحيلها . واكتسب بنية قوية واجهت تدفق السيل بصلابة ولم تجرفها . يوم استشهاده في المواجهة كان بطلا . واجه رجال الإحصاء بيديه وراح يطرحهم أرضا واحدا بعد الآخر . إلى أن أطلقوا عليه النار .شيع كبطل . بكاه أبوه منان بلوعة ، وبكاه الرجال والنساء وتحسروا عليه.ورثاه عمه عبد الجبار بقصيدة ، وشقت مروادة ثوبها ولطمت خديها ، وأبت الزواج من بعده طيلة سبعة أعوام .
في مشهد استشهاد وطاف يرسم محمود صورة شامخة لسقوط البطل الفلسطيني تجلت في تشييعه والحزن والندب عليه . وهذه المسألة لا يلتفت إليها الكتاب الفلسطينيون كثيرا أو لا يعطونها حقها . يشعرنا محمود بوصفه لسقوط وطاف أن نجما هائلا قد هوى وآل إلى الإندثار .
*الأب محمد :
تزوج ست نساء . قتل له ابنان في حروب السلطنة العثمانية . اشتهر بملاحقة النساء . واضطر إلى تحمل مسؤوليات العشيرة بعد مقتل أبيه .ذهب إلى الحج ليعود منه متعبا ومريضا .. ومن ثم يموت . ليخلفه ابنه منان في المخترة .
* الجد الشيخ عبد الله :
خاض مشاجرات عشائرية كثيرة على الأرض والمراعي والمياه . " على مسافة من مضارب العشيرة برز له عدد من فرسان عشيرة الفرارجة واشتبكوا معه وأردوه قتيلا ثم لاذوا بالفرار .
ظلت فرسه تحمحم بالقرب من جثته ، وحين اشتمت رائحة دمه المتخثر ، راحت تشب رافعة قائمتيها الأماميتين إلى أعلى كأنها تطلب النجدة ، وحين لم يصل أحد انطلقت تعدو مثيرة النقع خلفها ، ولم تتوقف إلا أمام مضارب العشيرة " ( ص 35 )
*الأم صبحاء :
راوية العشيرة ، وحافظة تاريخها الميثولوجي وحكاياتها وأساطيرها ومشاجراتها وفضائح نسائها. كان منان يلجأ إليها دائما ليستمع إليها ويأخذ بنصحها . برحيلها تنتهي الرواية . آخر ما نطقت به أنها طلبت فرس العائلة :
" وظل المختار يحدق في وجه أمه إلى أن انطفأت قبيل الفجر بقليل ، تاركة خلفها حكايات ظل يتناقلها أبناء عشيرة العبداللات وبناتها جيلا بعد جيل " ( ص 310 )
للأسف ليس في الإمكان الإستطراد أكثر لأن المجال لا يتسع . فهناك شخصيات كثيرة يمكن
التطرق إليها من النساء والرجال . كعبد الجبار قاتل الضباع وصاحب الحكايات الطريفة ، والشيخ عبد الرحمن الذي يكفر العشيرة ووضحاء التي تهتم بظلها ، وحفيظة التي قتل بسبب عشقها عدد من الرجال والعراف الدجال ، والتاجرالنصاب ، والتركي علي اوغلو والإنكليز والأتراك والجن وعشرات غير هؤلاء ، عدا الفرس التي تحتل بطولة شبه مطلقة في الرواية . وعدا الحكايات الكثيرة ، والأهازيج والطقوس والعادات التي تشكل النسيج الروحي لهؤلاء الناس والتي شغلت قدرا كبيرا من صفحات الرواية .
الإنتقال إلى مشارف المدينة أدى إلى تحولات كثيرة طرأت على حياة الناس ، كارتياد الحمامات
وارتداء اللباس المديني والعمل في المهن المختلفة التي لم تكن معروفة في البادية .
قد لا أبالغ إذا ما قلت أنه لا توجد صفحة في الرواية لا تثير الدهشة ، وما أدهشني أكثر في الرواية هو الإنتقال من حدث إلى آخر ، أو الإنتقال من شخصية إلى أخرى ، وإذا لم يكن القاريء متنبها فإنه سيضيع . لأضرب مثلا :
" بنى منان لزوجته الجديدة بيتا على مقربة من بيت زوجته الأولى ، وانقطع عن الخروج إلى المضارب سبعة أيام بلياليها . فسرت بعض النسوة ذلك بأنه عائد لجمال مثيلة ولقدرتها على اجتذاب الذكرإلى فراشها أإطول مدة ممكنة . حينما علم الشيخ محمد بذلك أدرك أن جيلا جديدا آخذ في الإنتشار فوق البرية ، ما أشعره بشيء من البهجة ، وراح يفكر في الزواج مرة أخرى .
في زمن سابق امتلك الشيخ الجرأة على تحقيق رغبته في الحال.. ألخ "(23)
ويستمر الحديث عن الشيخ محمد الأب وليس عن منان الإبن . مع أن الحديث كان عن زواج منان . والقارىء الذي لا يتنبه لدخول الشيخ محمد في السرد ، سيضيع أو يظن أن الحديث عن منان .وبعد انتهاء الفقرة التي أنبأتنا بإدراك الشيخ للجيل الجديد ، يتابع محمود السرد عن الشيخ وليس عن منان الذي انتهى الحديث عنه هنا بالإنقطاع عن الخروج سبعة أيام بلياليها .
هذا الإنتقال شبه الخفي والسريع هو الذي ألقى بظلاله على الخطاب السردي في الرواية ، فما أن يفتح محمود دائرة حتى يدخل منها إلى غيرها لتظل الدوائر كلها مفتوحة ، ولهذا قلنا أن محمود يسير بشخوصه بخطوط شبه متوازية وكأنه يسير بها جميعا في آن واحد.
خلاصة القول : إن (فرس العائلة ) هي ملحمة أدبية بامتياز ندر مثيلها في الأدب العربي على الإطلاق ، ولا شك أن الروائيين العرب ، والفلسطينيين منهم بشكل خاص ، سيجهدون كثيرا
لبلوغ هذا المستوى من الخطاب السردي الرفيع ، الملم بكافة نواحي الحياة لمجتمع ما ، لما حواه من تكثيف في السرد ، وبلاغة في اللغة ، واستعارات طريفة ،وعادات وتقاليد راسخة وميثولوجيا مدهشة . ووقائع مصطفاة ونادرة .
إنه حديث الروح إلى الروح . روح محمود شقير إلى أرواح السواحرة والعيازرة والديسة والسلاونة والطورة والعبيدية والتعامرة والصورباهريين والعساسوة .. والمقدسيين جميعا ، والفلسطينيين إن شئتم .
ثمة ملاحظة لا بد منها :
لمست خلال متابعتي للروايات الفلسطينية التي حصلت عليها منذ قدومي إلى عمان قبل أكثر من عام إلى تفاعل وتواصل ملحوظ بين الروائيين في اتجاه تطوير وإغناء الرواية . فالفرس رمز الأصالة تظهر في خمس روايات لأربعة كتاب ، كل كاتب يحاول أن يضفي عليها ما يجود به خياله ، وكذلك الأم رمز الأرض ، إضافة إلى شخصيات يتم تعميق حضورها ، ما ذكرني بالتفاعل الذي كان قائما بين غسان كنفاني وسميرة عزام . فحين كتب غسان كنفاني قصة "القميص المسروق" عن فلسطيني يحرس مخازن وكالة الغوث يقوم بقتل فلسطيني آخر جاء ليسرقها ، ردت عليه سميرة عزام بقصة " لأنه يحبهم " وهي عن فلسطيني يعمل في مخازن الوكالة أيضا، لكنه يقوم بدوسها بقدميه ومن ثم يشعل النار فيها للتخلص من لقمة الذل .
التفاعل القائم الآن يسير في اتجاه آخر أشعرني بالتأكيد بتطور الرواية الفلسطينية ، القادرة على الخروج من عبء التاريخ ، والواقع الإجتماعي السياسي ، لتدخل أعماق النفس الإنسانية ، وتنتج المعادل للمأساة ، وما أثمرته ، وليس ما سارت عليه ، ولا شك أنني لمست البوادر الأولى في ما قرأت لولوج هذا الإتجاه ، وبشكل خاص عند محمود شقير ، وابراهيم نصر الله ،
وجمال ناجي ، ويحيى يخلف ، ورشاد أبو شاور ، وسحر خليفة ، وغيرهم .ولا أعرف ما إذا يتاح لي أن أذكر اسمي مع هؤلاء بصفتي عملت في هذا الإتجاه وبشكل خاص في آخر روايتين لي وهما " الملك لقمان " "وغوايات شيطانية " وروايتي الجديدة التي شرعت في كتابتها وأنشرها على فصول في شبكة " بلا رتوش " بعنوان " رحيل معلن إلى رحاب المطلق الأزلي "
*******
(2)
*عناق الشكل والمضمون في " مديح لنساء العائلة "!
مقدمة :
إذا كانت الرواية الواقعية تطمح في رسم معادل فني للواقع الذي تعبر عنه فإن رواية محمود شقير " مديح لنساء العائلة " الصادرة مؤخرا عن داري الأهلية ونوفل نجحت إلى حد كبير في رسم معادل فني مغرق في الواقعية في خطابها الملحمي الشمولي للمجتمع الفلسطيني خلال الفترة الزمنية التي تعبر عنها ، والتي تغطي كافة مناحي الحياة الفلسطينية اجتماعيا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا عبر تناولها لحاة عائلة منان العبداللات. وإذا ما أضفنا الجزء الأول ( فرس العائلة ) إلى هذا فإن الرواية غطت مرحلة تزيد على القرن بتناولها لجوانب من حياة والد الشيخ منان وجده .
لست بصدد تلخيص وقائع الرواية كما فعل كثيرون .. سأحاول قدر الأمكان أن أتحدث عن جدلية الشكل والمضمون في الرواية وكيف اجتهد محمود في خلق معادل فني لسيرورة مجتمع خلال ما يقرب من أربعة عقود ممثلا في أسرة العبداللات وعشيرتها ، لتشمل معظم جوانب الحياة الفلسطينية . ورغم أن مسألة فصل الشكل عن المضمون تبدو مسألة شائكة لعدم إمكانية فصل أحدهما عن الآخر ، إلا أنني سأحاول قدر الإمكان الحديث عن أحدهما بمعزل عن الآخر .
(1)
المضمون الوقائعي في الرواية :
يشمل المضمون الوقائعي للأحداث كافة ما طرأ على حياة الأسرة من تحولات وأحداث بعد استقرارها مع العشيرة في بلدة رأس النبع التي أصبحت واحدة من ضواحي القدس بعد أن قام الإحتلال بتوسيع حدود المدينة لتشمل المناطق المحيطة بها من الشرق والشمال والحنوب.
ويمكن تلخيص بعض هذه الوقائع بتنوع العمل : كاتب في محكمة ( محمد الأصغر ) تاجر ( فليحان ) عامل في فنادق ومناضل ( محمد الكبير ) شيخ متدين ( محمد الصغير ) مهاجر إلى البرازيل بحثا عن عمل ( عطوان ) ومهاجر إلى الكويت أيضا ( سلمان ) راعي شؤون العائلة وحامل همومها ( الأب منان ) مهاجر إلى هولندا ( أدهم )
وثمة نساء عاملات أيضا في بنوك وغير ذلك .. غير أن معظم النساء لا يقمن إلا بأعمال البيوت والإعتناء بالأسرة ويكثرن من جلسات الثرثرة والنميمة باستغياب بعضهن ، فهذه نزعت السروال واستبدلته بسروال قصير ، واستبدلت الثوب الفلاحي بثوب مدني أو فستان .وهذه غاصت في مياه البحر رافعة فستانها عن ساقيها وفيما بعد ارتدت ملابس سباحة فاضحة كاشفة جسدها للآخرين ومسلمة نفسها إلى (ذكورية) البحر !
تحولات سياسية ثقافية مختلفة : من مسلمين متدينيين إلى قوميين و أمميين شيوعيين .
حرب (48 ) ونكبتها . انتخابات في الخمسينيات والستينيات .. حرب 67 .. حرب أيلول 70 في الأردن . حرب 82.
زيجات بين رجال ونساء .. أفراح وأتراح .. أحلام .. اقتناء أدوات منزلية حديثة : من ثلاجة وغسالة ،ووصول الكهرباء . ميثولجيا وحكايات وأساطير وأهازيج .. الطب الشعبي والجن والشياطين يمثلون بقوة في الوقائع.. وحتى الإنتقام والثأر والنضال ضد المحتلين .. والإنتماء لأحزاب سياسية .. رحيل منان ومعزوزة .. وغير ذلك من أحداث .
* الواقع الإجتماعي الثقافي الفكري :
شهدت الأسرة تحولات نوعية قليلة على صعيد الواقع الإجتماعي كزواج محمد الكبير من مريم المسيحية وزواج عطوان أيضا من مسيحية في البرازيل ، كما شهدت بعض الإنفتاح على الآخرين بالإختلاط بالمحيط المديني ومحاولة ارتداء أزيائه من قبل بعض النساء والجيل الجديد من الفتيات والشباب .والإختلاط بين الطوائف وزيارة الأماكن المقدسة . غير أنه لم يطرأ الكثير من التغيير على تحولات النساء عن الثرثرة والنميمة ورؤية الشياطين تتسلق سيقان النسوة اللواتي ارتدين الفساتين والتنانير ، والغيرة بين الضرائر والتقول على العاقرات وحتى بعض زوجات الأبناء .
في الجانب السياسي الفكري تحول بعض الشباب إلى الأحزاب بتنوعاتها الدينية والقومية واليسارية ،كما شهد الواقع الثقافي حضورا نادرا للسينما والمسرح ومقبولا للتأليف والصحافة .
غير أننا لو تأملنا الواقع الثقافي الفكري الذي تناولته الرواية للمسنا أن الفكر اليساري لم يؤثر إلا تأثيرا محدودا جدا في المجتمع ، وإن كان الناس قد لا يبدون ضغينة أو تذمرا تجاه هؤلاء اليساريين . حتى محمد الكبير الذي غدا شيوعيا ،وأمضى عمره من سجن إلى سجن سواء في العهد الأردني أو العهد الإسرائيلي لم يلق أي استنكار لانتمائه من قبل أهله ، بل كانوا يزورونه في سجنه أينما حل . كما أن مرشح الشيوعيين ينجح في الإنتخابات كدليل على تعاطف سياسي معهم ، أنتجه التعامل الإنساني للشيوعيين مع الناس وخاصة الفقراء . وأنا شخصيا أذكر جيدا أن أبي كان يصحبني في طفولتي إلى عيادة الدكتور يعقوب زيادين حين كانت تلم بي حمى قوية تجعلني أشعر وكأن إبرا تنغرس في جسدي ..وكان أبي (الذي لا تخلو شخصية منان من بعض جوانب حياته وهو جد محمود شقيرلأمه ) أحد منتخبي الدكتور . وكنت بدوري أحد الذين سارعوا للكتابة عن كتابه (البدايات كما أذكر) الذي صدر عام 1980 ،كما أذكر أيضا ..
رغم كل هذا التعاطف مع اليسار الشيوعي حينذاك إلا أنه لم يشكل حالة عامة مؤثرة بشكل فعال في المجتمع ، وقد أدى ظهور تنظيمات يسارية أخرى فيما بعد انضمت إلى المقاومة الفلسطينية إلى تشتت قوى اليسار وتحجيم دوره في المجتمع الفلسطيني سواء في الوطن أو في الشتات . وظلت السيادة للقوى الوطنية لتنازعها فيما بعد القوى الدينية . ولم تستطع الأحزاب القومية أن تحتل مركزا متقدما هي الأخرى .
على الصعيد الفكري . ظلت الميثولوجيا الدينية بشقيها الإسلامي والمسيحي مهيمنة على المجتمع الفلسطيني ، فإذا ما ذهبنا إلى أسرة منان العبداللات سنجد أن معظم أفرادها يؤدون الصلاة رجالا ونساء . ونجد وضحا ما تزال تشعربالجن والشياطين في كل مكان ، أمام عتبات البيوت . في الساحات ، في المهاجع ، في المنامات ، في الطرقات ، في الراديو والتلفزيون ، في الثلاجة ، في الغسالة ، في المرآة ،خلف الشبابيك .. كما أنها تكاد لا تؤمن إلا بالطب الشعبي وعلاج الشيوخ والمشعوذين ،وتؤمن بالحسد ،والإصابة بالعين ، فتتقيها بوسائل بدائية متوارثة كطاسة الرجفة وحرق قطع من ثياب النساء وأردانهن ،وغير ذلك ، يشاركها في الأمر نفسه عبد الجبار الذي يحضره الجن ليلا ..
وفيما لو انتقلنا إلى الجيل الجديد الذي امتشق البندقية للنضال وانضم إلى التنظيمات المختلفة
سنجد أن العمل الأبرز الذي قام به سرحان هو إطلاق النار على فليحان الذي خطف منه خطيبته وتزوجها ، ليبقيه مقعدا ومصابا بالعنة مدى حياته .
هذا ما أفرزه المجتمع بعد عقود عديدة من تحولاته . وهذا هو المضمون الرئيس الذي أراد محمود شقير أن يوصله إلى القارىء . فالمجتمع الفلسطيني في عموميته ما يزال مسكونا بالميثولوجيا الدينية والفكر البدائي ،والعادات والتقاليد القديمة ،وحتى رغبات الإنتقام والثأر وغيرها من النزعات العدوانية ، أي أن كل الطفرات والتحولات النوعية لم تنتج ثقافة جديدة
ومجتمعات حديثة بمعنى الكلمة ، كأي مجتمع عربي ، حتى الأدوات المستخدمة بما فيها السيارة والغسالة لم تؤثر إيجابا على تكوين العقل العربي ، وهذا ينطبق على النتاج الثقافي كله من أدب وفن وشعر . فالإنسان العربي ما يزال مسكونا بهذه الميثولوجيا وإلى أجل غير مسمى . لن نبحث في الأسباب وهي كثيرة ،ويمكن تلخيصها في أن المجتمع العربي بشكل عام لا يهتم بالثقافة إلا بحدود دنيا . وإذا كنا لا نلوم وضحا وعبد الجبارومنان كونهم ينتمون إلى أجيال أمية لم تعرف القراءة والكتابة ،فهل نغض الطرف عن الأجيال المعاصرة التي نال معظمها قدرا ما من التعليم ،ومع ذلك ظلت ترزح تحت نير ثقافة بدائية مرعليها آلاف الأعوام !
هذا ما يمكن قوله باختصار عن مضمون الرواية . فماذا في مقدورنا أن نقول عن الشكل الذي اختاره محمود للتعبير عن هذا الواقع .
(2)
* الشكل الفني في رواية " مديح لنساء العائلة "
إذا كان محمود شقير قد وضعنا أمام مضمون مغرق في واقعيته وأمانته للواقع ، حين اختار موضوعا لروايته ، فإنه وضعنا أمام شكل فني مغرق في واقعيته أيضا ليرسم معادلا فنيا لهذا
المضمون الواقع . فلغة الخطاب الروائي عنده ترسم جانبا مهما من مقومات الشخصية ، وقد تجلى ذلك أكثر ما تجلى في الخطاب الشعبي عند عطوان ووضحا . فخطاب عطوان صيغ بلغة الرسائل الشعبية إلى حد التناص معها وخاصة في المقدمات والنهايات ، حيث نجد جملا شبه مقتبسة مما يرد في تراث الرسائل الشعبية. نورد من المقدمات :" سلام سليم أرق من النسيم ، يغدو ويروح من قلب مجروح إلى حبيب الروح والدي منان " ومن النهايات " وإلى أبناء عشيرة العبداللات مني ألف حمل سلام ،وإلى زوجتي فهيمة وابني منان ألف حمل سلام ،وإلى كل من يسأل عني في طرفكم ألف حمل سلام "( 75+ 76) ثم يتخلل الرسائل أخباره في البرازيل واطمئنانه على أبناء العائلة في أماكن تشتتهم المختلفة .
وفي خطاب وضحا التي لا تجيد القراءة والكتابة نجد المفردات الشعبية والخطاب الشعبي العفوي الساحر ، مما يمكن أن نطلق عليه السهل الممتنع ، الذي لا يجيده إلا من عايش الناس وعرف أسرار لغتهم ومكونات أرواحهم " ويا حسرة راسي قديش عانيت من مثيلة ومن ابنها فليحان ! وقديش تعذبت لما رحلنا من البرية ! هذا العذاب كان يغطي على عذابي من فليحان وأمه " ( ص 60)
إذا استثنينا خطاب هاتين الشخصيتين فإننا لن نجد تمايزا لغويا ظاهرا بهذا الوضوح في الخطابات الأخرى إلا بما تحتويه من وقائع .
لقد اختار محمود تعدد الأصوات في هذا الجزء عكس الجزء الأول ، غير أن صوت محمد الأصغر يظل هو الصوت المهيمن الذي يحتوي كل هذه الاصوات ويمهد لحضورها بل ويشكل لغتها ، ليبدو محمود شقير وكأنه خارج لعبة هذا الخطاب .
تبدأ الرواية على لسان محمد الأصغر ، ليضعنا أمام حالة عامة تتشابك فيها خطوط متعددة منها خط البداية الذي يشير إلى الغاء السفر إلى بيروت بسبب اجتياح لبنان من قبل اسرائيل ،إضافة إلى بعض جوانب حياته وحياة الأسرة . لينتهي الى "الآمال التي يعلقها أبي علي ، لعلي أفعل شيئا نافعا للعائلة وللعشيرة ، فأشعر بثقل المهمة التي تعني تتبع الأسرار الخاصة والمصائر المتنوعة لنساء ورجال ، لعل من أبرزهم أخي فليحان ." (15)
وهنا يسلم محمود أو محمد الأصغر( إن شئتم ) الخطاب الروائي إلى فليحان ، قائلا : " قال أخي : أنا فليحان بن منان العبداللات ... "( 15) لقد انتهى خطاب البداية بذكر فليحان وبدأ الخطاب الثاني به وعلى لسانه . وهذا ما سنلمسه أيضا في نهاية خطاب فليحان حيث يتم التطرق إلى وضحا ، فيقوم محمد الأصغر بتسليمها دفة الخطاب بقوله قالت أمي .
هذا الأسلوب في تسليم دفة الخطاب من راو إلى آخر ثم العودة إلى الراوي المهيمن ( محمد الأصغر ) هو ما طبع أسلوب الرواية حتى النهاية .
لا شك أن هذا الأسلوب ليس جديدا لدى الرواة . مئات وربما آلاف الروائيين استخدموه . وأنا أحد هؤلاء في العديد من قصصي ورواياتي . والروائي الناجح والمتميز هو من يستطيع أن يحمل هذا الأسلوب خصويته وتميزه ككاتب ، بحيث يغدو في مقدورنا القول ، إن هذا اسلوب الكاتب الفلاني وليس اسلوب وليم فوكنر أو أي كاتب آخر . ولا شك أن محمود شقير استطاع أن يقول لنا وبجدارة مطلقة : هذا أنا وليس أي كاتب آخر . ترى لماذا ؟ لا شك أن بعض ما تطرقنا إليه يشكل جزءا مهما من هذه الخصوصية . لكنه ليس الأهم . فما هو الأهم ؟
الأهم في هذا الأمرهو أن محمود لا يسرد قصة شخصية بل قصة شعب عبر حياة أسرة لا بطولة مركزية لأحد أفرادها ، بل معظمهم أبطال . وكل واحد له قصة واقعية جدا حتى ليشعر المرء أن محمود لا يقص علينا أحداثا متخيلة مما يلجأ إليه الأدباء لخلق عناصر تشويق درامية تجعل القارئ يلهث خلف الصفحات . وأطرف ما حدث معي في هذا المجال هو خلال قراءتي لرواية علاء الأسواني الأخيرة ( نادي السيارات ) فالرواية تروى على لسان راو ، وشخصياته .. ونظرا لأن لكل شخصية حدثا دراميا مشوقا ، تركت الراوي ورحت أتابع الفصول حسب أسماء الشخصيات التي تحملها ، وما أن انتهيت من الفصول التي تحمل عنوان (صالحة) حتى رحت أتابع الفصول التي تحمل عنوان ( كامل ) وأخرشيء عدت إلى الفصول التي كتبها الراوي لأنني أدرك أن الخيوط في النهاية ستتجمع عنده . كانت قراءة ممتعة فعلا ،وأشرت إلى ذلك في المقال الذي كتبته عن الرواية .
هذا الأمر الذي اقترفته مع رواية علاء لا يمكن اقترافه مع رواية محمود شقير لأنها لا تستند إلى الإغراق في الخيال المصطنع،وأقصد بالمصطنع الدرامي المثير . رواية محمود تستند إلى واقع واقعي ،إلى ملحمة شعب في سيرورة حياته العادية ، يرويها بكل أمانة وصدق ،باذلا كل جهده في تقديم معادل فني واقعي لهذه الحياة بشموليتها وخصوصيتها. ولا أظن أن أحدا في الأدب العربي كله كتب رواية حسب هذا المنهج المغرق في الواقعية .
يبدأ محمود روايته من آخر نقطة فيها : الغاء السفر . ثم يعود القهقرى إلى الماضي ، ليفتح منه خطوطا متعددة تتقهقر بدرورها في الزمن التاريخي أو تخطو خطوة إلى الأمام أو تدخل في النسيج الروحي والإجتماعي للناس ، أو تدخل حتى في أحلامهم وما يطرأ من تطورات على حياتهم وتحولات في طرق معيشتهم ، متنقلا بين شخصياته من شخصية إلى أخرى ، ليبدو محمود لاعبا ماهرا في تكثيف الزمن واللعب بسيرورته . أنا شخصيا لو أردت أن أكتب رواية تستند إلى التاريخ لاحتجت لأكثر من ألف صفحة .
لا يعود محمود بنا إلى اغلاق الدائرة ( النقطة ) التي انطلق منها (الغاء السفر إلى بيروت ) إلا في الصفحة ( 184) حيث يسافر محمد وسناء إلى اسبانيا .
أسهبت في الحديث كالعادة مع أنني لم أتطرق إلى أحداث الرواية إلا بالعموميات ، وهذا موضوع يحتاج إلى مقال آخر يلخص أحداث الرواية ،ولا أظن أنني سأقوم به ، لأن معظم من كتبوا تطرقوا إليه . وهناك أشياء كثيرة أخرى كانت تجول في مخيلتي وقد أهملتها أيضا ، حتى لا أطيل أكثر مما أطلت.
لكن بودي أن أشير إلى أنني قرأت مشهد رحيل منان أربع مرات عبر قراءات متباعدة ،وفي كل مرة كانت عيناي تغرورقان بالدموع ، ربما لأنني انسان عاطفي جدا ، وربما لأنني شعرت أن في منان بعضا من أبي وأب محمود ،وربما لأن محمود أبدع في رسم مشهد الرحيل.
****
(3)
" أصابع لوليتا " حب وألم وفهم خطأ لسفر أيوب !
في أكثر من خمسمائة صفحة يوغل بنا واسيني الأعرج في متاهات الحب والألم ، في ظلام السجون وعصور الإنقلابات ، متنقلا بين آلام الجزائر وأحضان المنفى الباريسي ، ثوار يقتلون وثورات تغتال ، أشراف يسقطون وأوغاد يعتلون العروش ، مناضلون وأدباء يلاحقون ،ويطاردون في المنافي ، حتى أريج الحب الذي يعبق فجأة في ليالي يونس مارينا ، لا يلبث أن
يتدمر على أرصفة الألم .
يونس مارينا كاتب جزائري مشهور ، يهرب من وطنه بعد ملاحقة انقلابيين له على أثرمقالات صحفية كان يكتبها عن معاناة الزعيم الذي انقُلب عليه في السجن . يقع في حب عارضة أزياء شابة (لولا) كانت معجبة بكتاباته . غير أن هذا الحب لا يلبث أن يتحطم حين تنتحر الشابة لما كانت تعانيه من آلام مكبوتة في نفسها ، فهي ضحية والدها التاجر الذي اغتصب عذريتها وهي في سن المراهقة .
في مشهد مؤثر طويل نسبيا يصف واسيني لحظات ما قبل الإنتحار ، حيث كانت الفتاة تخطوعلى رصيف الشانزيليزي وسط عاصفة ثلجية وتلقي نحو مارينا الذي كان يرقبها من شرفة غرفته في فندق ، نظرات وداعية وترسل إليه قبلات في الهواء :
" شعت ابتسامتها مثل البرق الخاطف . ما كادت ترفع رأسها من جديد نحوه وتعيد الحركة نفسها بقبلة أخرى ،حتى لمع برق أعمى بصره ، هل كان الألق القادم من كل حواسها الحية ،أم مجرد دوار سحره حتى غير كل شيء في عينيه ؟ فتح عينيه عن آخرهما ..
كان الإنفجار جافا وحادا هز الشرفة وزجاج الكثير من المحلات ،فتطاير جسدها الهش في كل اتجاه مشكلا حرائق صغيرة ظلت مشتعله في مكانها على كتل الثلج مدة طويلة " ( ص 476)
يأتي انتحار الفتاة مفاجئا وصادما،فلم يكن هناك أي تلميح له في مقدمات الفصول العاصفة بالحب بين الطرفين ، وإن كانت الآلام التي مرت بها الفتاة في حياتها حاضرة ،عبر لغة واسيني الشاعرية جدا في أغلب فصول الرواية ، غير أنها لا تخلو من اسهاب في بعض الفصول ، وخاصة تلك التي تتحدث عن الأزياء وعروضها وعارضاتها ، وعن شغف مارينا بلوليتا .
يوقع واسيني القارئ في حيرة حين يشير إلى ما نشره الأمن الفرنسي الذي كان مسؤولا عن حماية مارينا من التهديدات بالإغتيال التي كانت تلاحقه ، حين ينشر
( الأمن ) أخبارا مفادها أن الفتاة كانت مكلفة من قبل جهات ارهابية باغتيال مارينا . وليس في الرواية ما يشير إلى ذلك في حياة لولا التي لم يكن لها أية علاقة بالإرهاب والإرهابيين ،إلا عبر تصريحات الأمن التي أشارت أيضا إلى أنها قتلت أخاها ، ففي النص الصوتي المسجل على هاتف مارينا من قبل رجل أمن محذرا مارينا من فتح غرفته لأحد حتى للوليتا ، فهي " اسمها الحقيقي ملاك ، تتحرك بجواز مزور ، وهي متابعة من طرف الإنتربول بسبب جريمة ارتكبتها في جاكرتا ضد أخيها الذي كان يتاجر في إندونيسيا .. وهي مكلفة بقتلك من طرف تنظيم مرتبط بجهة متطرفة تم تفكيك جزء كبير منها ... "( ص 484)
ولو كان الأمر كذلك لاستغله واسيني ومهد له بأسلوب مختلف ، جعل الرواية أكثر تشويقا ودرامية ، فهل هناك ما هو مشوق أكثر من ترقب مقتل شخص أو عدمه من قبل من ستقتله بعد أن وقعت في حبه ؟!
تتضح الدعاية الأمنية حين تبث الأخبار بشكل مفتعل وخاصة من التلفزيون ، الذي راح يتحدث عن "عمل إرهابي في الشانزيليزي نفذته ارهابية " (485- 486)
فلوليتا ، كانت مع مارينا في الغرفة قبل أن تنزل ، ولو أرادت أن تغتاله لاغتالته بتفجير نفسها معه . ( وهنا يضعنا واسيني أمام احتمال آخر ، أن الفتاة عدلت عن قتل نفسها مع مارينا إذا كانت مكلفة باغتياله أو إذا كانت ترغب في الإنتحار معه )
ويظل الإلتباس قائما وخاصة بوجود النص الصوتي على الهاتف الذي يحذر مارينا
من فتح باب غرفته لأحد وإن جاء متأخرا ، أي بعد خروج لوليتا من غرفة مارينا ..
حفلت الرواية بالكثير من المشاهد المؤثرة . كمشاهد وصف الذبابة في سجن الريس بابانا الذي كما يبدو يرمز إلى شخصية ابن بلة أول رئيس للجزائر بعد الثورة . ولقاء مارينا له في أوروبا .. ومشاهد أخرى كثيرة ..كما حفلت بالكثير من الوقائع المتعلقة بالجزائر ، وعارضات الأزياء وغيرها .
وكثيرا ما يلجأ واسيني إلى استطرادات ثقافية وحوارات معرفية في الثقافة والفنون والآداب والنفس الإنسانية ، تثقل على العمل في بعضها .. فلا يدع الأحداث تسير وتتطور بتلقائيتها دون هذا الإثقال ، أو دون اسهاب فيها ، وأحيانا يقوم بطرح وجهات نظر تقليدية أو خاطئة في مسألة ما ، كما هي وجهة نظره في سفر أيوب .
* الفهم التقليدي والخطأ لسفر أيوب !
في معرض حديثة عن المازوشية التي حشر الحديث عنها على لسان بطله دون مبررات مقنعة ، يقول:
" وحدها الصدفة هي التي قادته إلى سفر أيوب ، وفتحت عينيه على الكثير من التفاصيل المبهمة فيه ، وعلى سحر المازوشية الآتي من بعيد ، تساءل لحظتها قبل أن يرتكن إلى إجابة في حالة ارتباك كلي : كيف يسمح الله للشيطان بأن يؤذي انسانا
خيرا فقط ليختبر قدرته على المقاومة ؟ " ( 15)
محاولة الله والشيطان مع أيوب كانت لاختبار مدى إيمانه وليس اختبار قدرته على مقاومة الألم . يقول الشيطان ليهوه ( الإله حسب التوراة ) كما ورد في سفر أيوب:
1 :11 و لكن ابسط يدك الان و مس كل ما له فانه في وجهك يجدف عليك
والتجديف على الله هنا يقصد به الكفر.. وقدرة أيوب على مقاومة الألم لم تكن مطروحة على الإطلاق في الحوار بين الله والشيطان . والدليل هو أن أيوب احتمل الضربة الأولى التي أوقعها الشيطان في ماله وعياله ولم يجدف على الله بل قال :
1 :21 و قال عريانا خرجت من بطن امي و عريانا اعود الى هناك الرب اعطى و الرب اخذ فليكن اسم الرب مباركا
وبدلا من أن يقتنع الرب بإيمان أيوب حسب هذا الكلام الجميل ، راح يستجيب للشيطان في اللقاء الثاني بينهما ، حين أشار عليه :
2 :5 و لكن ابسط الان يدك و مس عظمه و لحمه فانه في وجهك يجدف عليك
فيقول الله :
2 :6 فقال الرب للشيطان ها هو في يدك و لكن احفظ نفسه
وتتكرر مسألة التجديف ثانية على لسان الشيطان وليس القدرة على المقاومة .
فالله يطلق يد الشيطان في جسد أيوب شريطة أن لا يميته (و لكن احفظ نفسه )


ويمعن واسيني في التحليل الخطأ بعد أن يتساءل :
" وكيف على الإنسان الذي يتلقى أقصى المحن والعقوبات المجانية ، بسبب أخطاء لم يرتكبها أبدا ، أن لا ينكر الله ، بل وأن يحبه على الرغم من الظلم المسلط عليه ،ويتلذذ بهذا الألم المقدس . لا بد أن يكون شيء من المازوشية في كل الكائنات لتتقبل هذه الحالات بلذة " ( ص15)
وهذا ما جعلني أتساءل : هل فعلا قرأ واسيني سفر أيوب ووجد أن أيوب يتلذذ بالألم المقدس ومحبة الله ؟ أم أنه قرأه على عجل ولم يسبر ما يبطنه، خاصة وأنه يشير إلى تفاصيل مبهمة في النص ؟!
لقد وضحت ذلك في دراستي المقارنة على النت ( أيوب التوراتي وفاوست غوته ) وهذه بعض شكاوي أيوب من الظلم الذي وقع عليه بعد أن أصبح مجرد جلد مسلخ على عظم :
16 لو دعوت فاستجاب لي ، لما آمنت بأنه سمع صوتي
17 ذاك الذي يسحقني بالعاصفة، ويكثر جروحي بلا سبب
18 لا يدعني آخذ نفسي، ولكن يشبعني مرائر
**************
32 لأنه ليس هو إنسانا مثلي فأجاوبه، فنأتي جميعا إلى المحاكمة
33 ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا
34 ليرفع عني عصاه ولا يبغتني رعبه
35 إذا أتكلم ولا أخافه ، لأني لست هكذا عند نفسي
*******
( سفر أيوب 10 )
20 عظمي قد لصق بجلدي ولحمي، ونجوت بجلد أسناني
21 تراءفوا، تراءفوا أنتم علي يا أصحابي، لأن يد الله قد مستني
22 لماذا تطاردونني كما الله، ولا تشبعون من لحمي
23 ليت كلماتي الآن تكتب. يا ليتها رسمت في سفر
24 ونقرت إلى الأبد في الصخر بقلم حديد وبرصاص
( سفر أيوب 19 )
النص واضح جدا وليس في حاجة إلى شرح ، أيوب يطالب الله أن يرفع عنه عصاه وأن لا يسلط عليه رعبه . ورد فعل الله معروف لمن يهمه أن يرى الحقيقة .. وفي الإمكان العودة إلى بحثنا على النت إن أراد التوسع في فهم الأمر ، أو بالعودة إلى السفر نفسه ، وهوملحمة أدبية تقع في 42 صفحة .
لقد تحول سفر أيوب إلى صراع بين أيوب والله بفتنة شيطانية .. ولم ينتصر الله على أيوب إلا بجبروته :
:6 فاجاب الرب ايوب من العاصفة فقال
40 :7 الان شد حقويك كرجل اسالك فتعلمني
40 :8 لعلك تناقض حكمي تستذنبني لكي تتبرر انت
40 :9 هل لك ذراع كما لله و بصوت مثل صوته ترعد
والمسكين أيوب لم يبق لديه حقوان ليشدهما ويقف كرجل أمام الله بكل جبروته وصوته المرعد ، فلا يجد غير الإستسلام .
قلنا في بحثنا إن ملحمة أيوب هي أول وأقدم ملحمة انسانية تراجيدية تطرح أسئلة وجودية عميقة ما تزال قائمة في عالمنا حتى اليوم ،صيغت بلغة غاية في الرفعة والسمو . وأنه لأمر مؤسف جدا أن يأتي كاتب مثقف بحجم واسيني الأعرج ويفهمها بشكل تقليدي بل وربما أسوأ بإسقاط المازوشية عليها . لقد سبق ملحمة سفر أيوب " ملحمة جلجامش " السومرية ، وهي ملحمة تبحث في سر الخلود ،وليس في ما هية وجوهر الله وعما إذا كان يحمل الخير والشر في ذاته ، كما في سفر أيوب .
*****
(4)
تألق الخطاب الملحمي بين الشاعرية والتاريخ
في " زمن الخيول البيضاء "
( مجلة نزوى العمانية العدد 83 حزيران 2015)
مدخل:
على مدار أكثر من خمسمائة صفحة في ثلاثة كتب تشكل أجزاء الملحمة هي ( الريح ، التراب ، البشر ) يحلق بنا ابراهيم نصر الله بلغة شاعرية ملحمية متتبعا آثارالألم الفلسطيني عبر زمن يمتد لبضعة عقود ، من أواخرسني العهد التركي إلى عام النكبة ، عام 1948 .
يتنقل ابراهيم بين الحب والألم ، بين عشق التراب والأفراس ووله الحب بالفاتنات من النساء ، بين تماوج سنابل القمح وصهيل الخيول ، بين زغاريد النساء وعشق الجمال ، بين فيض العادات والتقاليد الراسخة والترنم بأغنيات الفرح إلى التفجع بالندب على الراحلين . سيول من الدماء وأنهار من الدموع . تعسف وصلف محتلين وغزاة ، يواجه بتمرد عاشقين لا ينتصرون رغم بطولاتهم ، كما لم ينتصر جليات على داود قبل ثلاثة آلاف عام ، . شموخ وكبرياء ، أصالة ونبل . كرم ورجولة . حب وحرب . عمالة ونذالة . تواطؤ وتآمر . قتل وتدمير . ترحيل وتهجير وسجون . حرق ونسف بيوت . إنها القيامة ! قيامة شعب أبى أن يركع على أقدام الغزاة ، وظل مخلصا لتراب أنجبه ، كما كان مخلصا طوال ثلاثة آلاف عام ونيف ، ليواجه الغزاة القادمين ، مسلحين بالسيوف والوعود ألإلهية ، ليبيدوا الإنسان والحيوان .
ينهض جليات من أعماق التاريخ ممثلا بالحاج خالد ليواجه ديفيد ، وتنهض دليلة من العمق نفسه لتقص شعر شمشون ، سر قوته .
يطوي ابراهيم صفحات التاريخ متلاعبا بوطأته بين تقديم وتأخير وتجاوز، ليجعل الزمن ماثلا بين يديه ،متحكما به ، متنقلا من حالات اجتماعية متخيلة إلى حالات وثائقية تاريخية ، جاهدا لأن يماهي المتخيل الملحمي بالوثائقي التاريخي ، ليوحد بينهما في أفق يمتد طويلا ليغطي صفحات الملحمة ، مضفيا عليها جمالية خطابية لم يطرقها ويبلغها كاتب من قبل .
في رسالة لي لإبراهيم خلال قراءتي الثانية للملحمة للكتابة عنها ، قلت :
( لم أذرف دموعا في حياتي كما ذرفتها على صفحات هذه الملحمة ، ، وعلى مواقف يتعلق معظمها بالعادات والتقاليد والتعامل مع الخيول ، مما تأصل في نفوس هؤلاء الناس الطيبيين وشكل نسيج أرواحهم ، لم أحب الخيول في حياتي كما أحببتها في الرواية ولا أظن أن كاتبا في العالم كتب عن الخيول بهذه المحبة وهذا الوله .. شاعرية مدهشة .. رواية استحقت عنوانها بجدارة .. ما أستطيع قوله أن هذه الدموع أراحتني كثيرا ربما لأنني كنت في حاجة إليها ، ليس لأغسل عيني بل لأنفس عن حالي ! )
سنتوقف قدر الإمكان مع الكتب الثلاثة التي شملتها الملحمة ، كل كتاب على حدة ، لعلنا بذلك نلم بهذا العالم الذي رسمته بتؤدة وجلد ومعاناة ، خطها قلم ابراهيم نصر الله .
* الكتاب الأول : الريح .
ضم الكتاب الأول 56 فصلا حسب ترقيمي ، إذ لم يرقم ابراهيم الفصول . شملت 182 صفحة ، بدأت ب "وصول الحمامة "( الفرس ) وانتهت ب " حافة القيامة " حيث هبت عاصفة هوجاء كادت أن تقتلع البيوت والأشجار .
يبدأ الكتاب باستجارة فرس مسروقة ( الحمامة ) بمضافة الحاج محمود، تأبى الإذعان لسارقها ، يهرع الحاج وابنه خالد وآخرون نحو الفرس وفارسها الذي نزل عنها وفر هاربا ما أن رأى الهارعين إليه..
هذه البداية كانت في العهد العثماني أما النهاية فكانت في العهد البريطاني حيث أطلقت النار في ليلة العاصفة على الإبن خالد الذي غدا حاجا .
يبدأ ابراهيم روايته بنفس ملحمي شاعري هيمن على الكتاب الأول بكامله ، فمن الصفحة الأولى نلمس هذا النفس ، حين وظف التشبيه المجازي لوصول الفرس البيضاء واصفا إياها بكتلة الضوء :
" كان الفارس يحاول ما استطاع السيطرة على كتلة الضوء المتقافزة تحته ، كتلة الضوء التي تعانده غير عابئة بذلك الألم الذي يسببه اللجام . الألم الذي يتصاعد همهمات محترقة مع حرارة اللهاث . تطلعت كتلة الضوء إلى الأعلى وراحت تطلق صهيلها المجروح . عند ذلك صاح الحاج محمود : يا رجال هنالك حرة تستغيث . أجيروها ". (ص9)
صياح الحاج محمود ينقلنا إلى عالم الأساطير والحكايات ومفاهيم عميقة متأصلة في نفوس أهل البلدة ، فهو عرف من همهمة الفرس وصهيلها أنها مخطوفة وأنها تستغيث ، فهب الرجال وامتطوا خيولهم لنجدتها وهذا ما كان . لتصبح الفرس وابنتها وحفيدتها بعد ذلك من المعشوقات لدى الأسرة وخالد بشكل خاص ، حتى أنه لم يجد غيرها ليهيم بحبه بعد وفاة زوجته الأولى ( أمل ) متسممة بتناولها حفنة قطين . وليظل اسم (الحمامة ) ملازما للأفراس الثلاث رغم انتمائهن إلى ثلاثة أجيال .
هذه المفاهيم ومثول العادات والتقاليد والأعراف وأغاني وزغاريد الأفراح والمآتم والبطولات والمكرمات والتفاني والحب ، التي مثلت بقوة في الكتاب شكلت النسيج الروحي لأبناء البلدة ورسمت مقومات الشخصية الفلسطينية .
في مشهد عاطفي مؤثر يصف لنا ابراهيم لقاء طارق ابن الشيخ السعادات بفرسه الحمامة :
" أخذ وجهها بين راحتيه . أخفضت رأسها . هدأت تماما ،وأمام دهشة العيون المتطلعة إليه انحنى أمامها حتى استوى على ركبتيه . أمسك بحافرها الأول . رفعه برفق وقد منحته إليه . قبله بهدوء وأعاده إلى الأرض بهدوء أكثر . ثم أمسك بحافرها الثاني وقبله بالطريقة نفسها وهي تراقبه بانفعال " ( ص 30 )
يضعنا ابراهيم بهذا المشهد أمام أعمق سلوك روحي أخلاقي يعبر عن العلاقة الإنسانية الحميمة التي تربط العربي بما يملكه من ماشية وإبل وأغنام ، والخيول بشكل خاص ،وقد تأتي الإبل بعدها .
ومن القصص المحزنة عن الخيول يروي الشيخ السعادات قصة عن انتحارحصان أصيل كمموا عينيه ليسفد أخته ، وحين رفعوا الكمامة بعد اتمام الأمر . أدرك الحصان أنه سفد أخته . فامتنع عن الأكل والشرب إلى أن مات .
وعن حكمة الشيوخ يروي لنا ابراهيم كيف أعاد الشيخ ناصر (أمل) إلى خالد بعد أن طلقها خطأ قبل وفاتها ، فقد قال إنها أحلى من الشمس والقمر ، وهذا الكلام تطاول على خلق الله حسب الأعراف لا يجوز ، ومن يرتكب هذا الخطأ تصبح زوجته بحكم المطلقة ، مما أوقع خالد في حزن وكمد شديدين ، دفعاه إلى أن يجوب البلاد طولا وعرضا بحثا عن حل . وحين جاء إلى الشيخ ناصر ، قام الأخير بجمع الناس للصلاة وتعمد أن يخطئ في سورة التين قائلا :.. لقد خلقنا الشمس والقمر في أحسن تقويم ! فاعترض بعض المصلين . قطع الشيخ الصلاة وسألهم : ما الذي يقوله الله ؟ ردوا : ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) " فقال الشيخ " مادمتم تعرفون أن الله يقول ذلك وأن الإنسان هو أجمل خلق الله ، فلماذا تفرقون بين الرجل وامرأته ؟ "
هذه الأجواء الملحمية التي تنهل من النسيج الروحي للناس لم تكن تجري في أجواء فردوسية أو عالم فردوسي كما قال بعض النقاد ، فتعسف العثمانيين كان ماثلا في الكثير من الصفحات والضرائب الباهظة التي يفرضونها لم تكن تحتمل فقد طالت حتى غطاء الرأس ، كالكوفية والعمامة والطربوش ! . ونهب الأموال والخيول وذبح المواشي والدجاج والحمام من قبل الدرك ، وتخريب البيوت وتدمير الحقول .. وسوق الرجال إلى حروب لا يعرفون أين تدور رحاها وقد لا يعودون منها أدت إلى تهرب كثيرين في الجبال .. وإذا أضفنا !لى ذلك تعسف عملاء السلطة يكون الظلم الواقع على الناس فظيعا .. فالهباب كان يقتل أي رجل يعترض على مطالبته بالأموال ، وكان يخطف من النساء الأجمل بموافقة الأهل أو عدمها ، حتى أنه قتل زوج ريحانة وتزوج منها وإن أذلته ، حتى موته كان مكيدة لسكان البلدة حين طلب إليهم أن يربطوه بالحبال ويجروا جثته حول البلدة مما دفع الدرك إلى القاء القبض على المئات بالجرم المشهود . فأين الفردوس الذي تحدث عنه النقاد ؟!
هذا عدا الصراعات العشائرية التي كانت تدور بين العائلات الكبيرة في البلد وتابعيها ، والتي كانت السلطة تغذيها .. وما يدفعه الناس إلى الدير الذي تبين أنه لفق عقود ملكية وشراء لأراضي البلدة وبيوتها ، بحيث أصبح سكان البلدة خدما وعبيدا له !
بطولات خالد بدأت تظهر شيئا فشيئا إلى أن توجت بملاحقة محصلي الضرائب ( الدرك ) ليلا لاستعادة الحمامة وكل ما نهبوه . قضى على أفراد الدرك جميعا واحدا واحدا في عتمة الليل ، إلى أن توج انتقامه للبلدة والناس وما فعلوه بهم بقتل قائد المجموعة ( الياور ) وأعاد الحمامة وكل ما نهب إلى أصحابه .. وبهذا يكون خالد قد توج فارسا للبلدة من قبل جميع سكانها .
أصبح معظم أبناء البلدة مشردين في الجبال بما فيهم أولاد الحاج محمود ، خالد ومصطفى ومحمد وسالم . قام محمد ومصطفى بزيارة أختهما العزيزة ليلا . وبناء على وشاية لم يكن زوج العزيزة والهباب بريئين منها قام الدرك بتطويق البيت وألقي القبض عليهما ليعدما في القدس بعد يومين . بكى خالد أخوية وهو يحتضن وجه الحمامة التي شاركته البكاء .
لم يكن التعسف هو مشكلة الناس بل القحط أيضا .. " جفت الآبار ولم يجد الرجل جرعة ماء يروي بها ظمأ أولاده ، أو ظمأ خرافه " " وفي السهول العالية كانت التجارة الرائجة التي يزداد بها الهباب غنى ، هي مبادلة النعجة بسلة تبن ، أما الخيول فكان الأمر معها مختلفا تماما " ( 153)
العزيزة التي تركت بيت زوجها هي وأولادها .. هالها يوم عاصف ممطر جرف سيله من على تلة تعلو البيت أشلاء أخويها من قبريهما .. راحت تلاحق السيل لتجد الأشلاء قد تجمعت أمام الباب في زاوية إلى جانب جدار " دخلت البيت . غابت قليلا , وحين خرجت ، كانت ملتفة بعباءة سوداء تحجبها تماما فوق ظهر الجليلة ." ( 158 )
لقد ذهبت العزيزة وقتلت زوجها عبد المجيد ، فيما راح الحاج محمود يجمع أشلاء وعظام ابنيه من زاوية الجدار ويدخلها إلى داخل الحوش ليتم دفنها فيما بعد ثانية في قبر واحد .
ينهي ابراهيم الكتاب الأول بظهور الإنكليز ليطوي صفحات الزمن العثماني ولا يعود إليه إلا لماما ، مشيرا إلى ذلك بإضافة لقب الحاج إلى اسم خالد ومحاولة اغتياله على يد دورية انكليزية ليلية برفقة أحد العملاء .
* الكتاب الثاني : التراب .
احتوى الكتاب الثاني (41) فصلا شملت ( 208) صفحات .
يبدأ الفصل الأول بعودة الحجاج وإطلاق الزغاريد والأغاني وسباق الخيول . ونكتشف في الفصل الثاني أن الحاج خالد قد تزوج من سمية ابنة البرمكي التي كانت قد صممت على الزواج منه بعد شهرته رغم أنه كان يخطب فتاة ثانية هي ياسمين .
ينجب الحاج خالد من سمية ثلاثة أبناء وبنتين ونعرف أنه تزوج منها في أواخر أيام العهد التركي .
يلاحظ أن ابراهيم يقوم بتعداد المواليد الأحياء منهم والأموات ليتجاوز الزمن إلى بدايات الصراع مع الإنكليز ، فقد حفلت الأعوام الأولى التي تلت الحرب العالمية بعض الهدوء لأن الأوضاع لم تتوضح بعد إلى أين تتجه وكان الناس منهكين من آثار الحرب .. ولم يسبق ثورة 1936 إلا تحركات قليلة كان أشهرها ما سمي ثورة البراق سنة 1929 .
يتغير الحاج خالد بعد زواجه حسب ما يشير ابراهيم " كما لو أنه طوى كل الصفحات القديمة مرة واحدة ، كما لو أنه أغلق كتاب الماضي ، لم تعد الإبتسامة تفارق شفتيه أبدا إلا حين يغضب " ( 189)
يشهد الكتاب العديد من التحولات الإجتماعية وزواج ناجي ومحمود والعمل في معسكرات للإنكليز.من أطرف ما فيه ولع فاطمة بالحيوانات والتخاطب معها والتأثير عليها فالجمل الهائج يهدأ أمامها والغزالة تستجير بها .. وقصص وحكايات كثيرة عن العمل والماضي ، واكتساح الجراد للبلدة ، وفرض ضرائب على الأرض .. وإقامة مستعمرة يهودية على قمة تل مجاور للبلدة ، والحمدي يأخذ مكان الهباب في التعامل مع الإنكليز واضطهاد الناس . وظهور الضابط الإنكليزي بترسون المولع بالقتل الهمجي وكتابة الشعر* . نقيضان اجتمعا في شخص كائن يقتل دون رحمة ويشرع في ركل ضحيته وهي تحتضرأو بعد موتها، ويكتب شعرا في اليوم نفسه . يتم قتله فيما بعد .
من المهم في هذا الكتاب هو دخول الوثيقة التاريخية كهامش يسند ما يتطرق إليه الخطاب الروائي . فبعد مقتل أول شرطي بريطاني في ( ثورة البراق ) نجد ابراهيم يشير في الهامش إلى " اعتقال 26 شابا فلسطينيا ممن شاركوا في ثورة الدفاع عن حائط البراق في القدس وأصدرت بحقهم أحكاما بالإعدام في محاكمة صورية ، ثم خففت الحكم عن 23 منهم إلى السجن المؤبد ،وأبقت حكم الإعدام بحق كل من محمد جمجوم وفؤاد حجازي ، وعطا الزير ، وتم اعدامهم في سجن عكا يوم 17/6/1930. وقد أعدم من المحكومين في ست سنين ( على يد الإنكليز ) في فلسطين وحدها أكثر مما أعدم في المملكة العثمانية الكبيرة في عهد السلطان عبد الحميد الذي طال أكثر من ثلاثين سنة ) ( 262)
تتصاعد الوقائع بعد ذلك بإضرام النار في المستوطنة ومداهمة الإنكليز للبلدة واعتقال الرجال وإحراق الحقول والبيوت .. مقتل بعض الرجال وإهانة الحاج خالد من قبل بترسون بنزع شاربيه .( 278)
الحاج خالد يعود إلى الحياة بعد محاولة اغتياله التي تم استباق الحديث عنها في نهاية الكتاب الأول . وكانوا قد حفروا له قبرا إلى جانب ابنيه ، غير أن معجزة طبية أنقذت حياته في المستشفى الذي نقل إليه . ليتم اعتقاله على أثر مقتل شقيق النجار . غير أنه هرب من السجن ليتحول إلى اسطورة ويشرع في قيادة مجموعات قتالية للنضال ضد الإنكليز في ثورة 1936 . وحين لم يتم لبترسون القبض عليه قام بنسف بيته .
معارك طاحنة مع الإنكليز .. ولجوء الحاج خالد إلى الشام لبضعة أشهر.. وإعدام ابني العزيزة فايز وزيد بتهمة قتل ضابط وثلاثة جنود بريطانيين . ( 341)
مشاهد مؤلمة لحزن العزيزة على ابنيها وهي تلطم خديها وتصرخ وتبكي وتتمرغ على سجاد المسجد الأقصى وكأنها تريد لله أن يشاركها مأساتها ..
تعذيب سكان البلدة بأن يبقوا طوال الليل في العراء في فصل الشتاء . ونسف وتدمير للبيوت ..
وقوع الحاج خالد ومن معه في كمين يؤدي إلى استشهاده . وعكس ما كان يفعله بترسون مع ضحاياه أمر جنوده بحفر قبر للحاج خالد وبحضور الجنرال مونتغمري قائد القوات الإنكليزية في شمال فلسطين . تم "إطلاق النارفي الهواء تحية للحاج في الوقت الذي كان بترسون ومونتغمري والضباط الكبار يؤدون التحية العسكريى للجسد المسجى " ( 375)
سنكتفي بهذا القدر من أهوال الكتاب الثاني لننتقل إلى الكتاب الثالث:
* الكتاب الثالث : البشر .
شمل الكتاب الثالث ( 116) صفحة في (24) فصلا بدأت بعصر الأب ( منولي) الذي حل محل الأب ثيودورس في الدير وانتهت بحرق البلدة وتهجير السكان إلى المنافي وسط الدموع والأحزان والويلات ليطول الفراق ويمتد إلى الزمن الحاضر .
الدير يسعى لمصادرة أراضي البلدة وسعي أهلها لدى سليم بيك الهاشمي للمساعدة . مقتل باترسون على يد الثوار . طيور سمان منهكة تعلق بشباك الصيادين على شاطئ بحر يافا ومحمود ابن الحاج خالد يغرق في حب ليلى . قضية أرض الهادية تخسر أمام المحامي ابن الهاشمي .. واللجوء إلى المحامي سليم المروزقي الذي اشترط أن تكون حقوقه خمسين جنيها مقابل كل كلمة يقولها في المحكمة !. الدير يحاول بيع أراضي البلدة ليهودي والحاج سالم وحشد من الناس يتصدون لجماعة البائع والشاري .مقتل اثنين وجرح آخرين بقذائف أطلقت من المستوطنة . ناجي يلتحق بالبوليس الإنكليزي ، ليساعد الناس في الحصول على السلاح من معسكرات الإنكليز . محمود يغدو سكرتير تحرير للصحيفة التي يعمل فيها لاستغلال اسمه كإبن للحاج خالد . عفاف تكتشف حب محمود لليلى . ناجي في نوبة حراسة ليلية يذيق طعم الموت لمستر ( كمن ) قائد المعسكر.سمعة الهاشمي، (رجل بريطانيا) تسوء بين الناس فيلجأ إلى المندوب السامي ليعتقل أمام الناس ويسجن لثلاثة أسابيع في سجن مفتعل بخمس نجوم ليخرج بعدها بطلا وطنيا . أبناء البلدة يسلبون السلاح من معسكر انكليزي بمساعدة ضا بط عربي .
المرزوقي يكسب قضية أراضي البلدة ، والأهالي يجمعون مواشيهم ليطلقوها دفعة واحدة أمام لجنة الكشف التي أرسلها القاضي لإثبات ملكية الأرض بأن الناس ملاك وليسوا عبيدا وعمالا :
" اندفعت الجمال والأبقار والخيول والأغنام والكلاب والقطط والدجاج كلها معا ،وخلفها الناس يستحثونها ويندفعون معها " ( 465)
لم يكن من السهل على سالم شحاده عد الكلمات التي نطق بها المحامي المرزوقي في قاعة المحكمة ، فاتفق على أن تكون ألف كلمة وبهذا يتوجب على سكان البلدة أن يدفعوا خمسين ألف جنيه! بهت الجميع وصمتوا .. تنازل المرزوقي عن نصف المبلغ مقابل إحضار السكان بعض الكواشين والوثائق التي تثبت الملكية . وحين ظل الرجال صامتين . قال المرزوقي :
" حين قلت لكم أريد خمسين جنيها مقابل كل كلمة أقولها . يا أخوان لم أكن أريد إلا شيئا واحدا لا غير ، أن أتأكد من أنكم مستعدون لفعل أي شيء من أجل قريتكم . لقد أعدت لكم الهادية نعم . ولكني أعدتها لي أيضا ، أم أنكم تعتقدون أنها لكم وحدكم ؟!!
في تلك اللحظة طفر الدمع من عيون الرجال " ( 467/468)
معارك عديدة تحتدم وجيش الإنقاذ يدعي أنه لم يتلق أوامر للمشاركة في القتال .
نصب كمين لقافلة انكليزية وحرق جميع مصفحاتها . يقول متحدث : ( ما حصل ذلك اليوم لا يمكن أن أنساه أبدا . لا،لا يمكن)
كتابة اسم الحاج أمين الحسيني على حمار دار به اليهود شوارع محانيه يهودا ، أثار غضب الناس فانتفضوا في كافة أنحاء فلسطين وتم نهب سوق الشماعة وإحراقه .
الإستيلاء على سلاح مركز بوليس انكليزي . نسف برج المستوطنة في الهادية . المستوطنة تنتقم بقنص الرجال وقتلهم ، لتختفي الحركة في شوارع البلدة .
وصول قوة من جيش الإنقاذ إلى البلدة . وبعد بضعة أيام جاءت الأوامر بالإنسحاب لأنه تم إعلان الهدنة .
اليهود يفجرون المقاهي بالقنابل ويزرعون ألغاما موقوتة في الأسواق لتحصد العشرات .. ( هامش 486)
وصول ناجي إلى الهادية والنار تشتعل في بيوتها .. دار في أحيائها لم يعثر على أي أثر لحياة . فقد داهم اليهود البلدة وفتكوا بالسكان فقتل من قتل وهرب من هرب .
القاوقجي الذي نجح في إيقاف ثورة 1936 ، عين فيما بعد بإجماع الملوك والزعماء العرب قائدا ميدانيا لجيش الإنقاذ .. انسحب بقواته ليستقر في جنوب لبنان . ( هامش 488)
قوة مصرية تصل إلى البلدة وتساعد من بقي من أهل القرية على دفن القتلى .
" من الحوادث المشهودة قيام فرقة من جيش الإنقاذ بقصف فرقة أخرى هاجمت مستعمرة اسرائيلية قرب غزة لأنها لم تأخذ الإذن من الفرقة الأولى وأمرتها بالتراجع " ( هامش 491)
" بعد أن استقبل القاوقجي في الشمال الفلسطيني بحفاوة كبطل يقود جيش الإنقاذ خرج من فلسطين مذموما تلاحقه اللعنات " ( هامش 492)
القوة المصرية تحاصر في الهادية وتواجه الحصار ببطولة .وحوار بإشراف الأمم المتحدة بين قادة القوة والضباط الإسرائيليين . تم الإتفاق على هدنة نقضها اليهود بعد عشرة أيام حين باغتوا القوة المصرية بهجوم . دارت معركة بين الطرفين . امتلأت الحارات والملاجىء بجثث القتلى ..
القائد المصري قرر أن ينتقم بأن أعلن لقوات الأمم المتحدة أنه سيخرج مع قواته مستسلما رافعين الرايات البيض شريطة أن تضمن سلامتهم . فرح اليهود بالأمر وتجمعوا في ساحة ينتطرون ظهور رايات القوة المصرية ، لكنهم فوجئوا بالقذائف تنهال عليهم ..
"أدرك الإسرائيليون أن الهادية لن تسقط بالقوة أبدا " ( 500)
أخيرا تم الإتفاق على خروج القوة التي اصطحبت بعض رجال البلدة معها وفي مقدمتهم الحاج سالم .
عودة إلى قنص الناس من المستوطنة وسط فرض حظر التجول .. مصفحات تجوب البلدة وتطلق النار .." اقفلت أبواب الحياة تماما ..نفق ما تبقى من مواش لعدم وجود شيء تأكله .." ( 501)
لم يبق أمام الناس إلا الرحيل بضمانات من قوات الأمم المتحدة .."بدأ الناس بجمع أشيائهم بانتظار يوم الرحيل وجاء عدد آخر من مراقبي الهدنة لتنظيم خروج الناس " ( 503)
أمطرت السماء ولم تأت شاحنات ..فبات الناس تحت المطر في العراء وقد منعوا من العودة إلى بيوتهم ..نصبت لهم خيم .. وبدأت القذائف تتساقط على القرية وحتى على الدير في محاولة لمحو القرية من الوجود ...( 504)
مرت أيام قاسية مريرة إلى أن وصلت الشاحنات أخيرا ..صعدوا إليها بصعوبة لإنهاك قواهم من جراء الإقامة في العراء ..
"انحدرت شلالات الدمع على وجه منيرة وأحفادها وعفاف وأولادها وحسين وأولاده وأم الفار، الذين كانوا قد تجمعوا في صندوق تلك الشاحنة البيضاء.. دوت عدة انفجارات .. التفتوا فإذا بالنار تلتهم عددا من بيوت البلدة ..راحت العزيزة ترقب النار التي تتصاعد ملتهمة البرج وما فيه وعندها رأت ذلك المشهد الذي لن تنساه أبدا : كان الحمام يطير محترقا قاطعا مسافات لم تفكر يوما أن حماما بأجنحة مشتعلة يمكن أن يبلغ نهاياتها، وحيثما راح يسقط في البساتين والكروم والسهول المحيطة كانت نار جديدة تشتعل .. وحين وصلت العربات إلى تلك النقطة العالية التي تتيح للناس مشاهدة الهادية للمرة الأخيرة ، كانت السنة الحرائق تلتهم الجهات الأربع " ( 506)
******
لا شك أن بلدة الهادية إن كانت متخيلة أو غير متخيلة (أي أن يكون لها وجود حقيقي على التراب الفلسطيني ) قد نسجت وقائعها من تفاصيل الواقع الفلسطيني في الزمنين التركي والبريطاني ،واستلهم ابراهيم التراث الفلسطيني بمعظم جوانبه
ليرسم به النسيج الروحي لأبنائها ، لتغدو ممثلة لفلسطين كلها ، بل فلسطين نفسها . ولقد ساعدت الوقائع التاريخية الوثائقية على رسم صورة متكاملة للواقع أغنت رسم النسيج المتخيل للملحمة ، بحيث غدا النسيج كلا واحدا بكتبه الثلاثة ..
وقد أضفت الموهبة الشعرية لإبراهيم على إثراء البعد الملحمي لخطابه الروائي .
ولا ننسى أن القضية الفلسطينية بحد ذاتها تحمل في طيات تاريخها بعدا ملحميا ، فمنذ أن غزا بنو اسرائيل أريحا بقيادة يشوع بن نون عام 1186 ق. م. استنادا إلى وعد إلهي ، فقتلو جميع سكانها ما عدا العاهرة العميلة راحاب ، وقتلوا حتى حيواناتها .. مرورا بقيام يهوة بقتل الإله الفلسطيني داجون ،وصراع جليات مع ديفيد ومصرعه بحجر من مقلاعه ، وانتهاء باغتيال ياسر عرفات في عصرنا ، وفلسطين تعيش ملحمة صراع طويلة ، لم يشهد تاريخ البشرية مثيلا لها . كما لم يشهد الأدب العربي برمته عملا تاريخيا عن فلسطين بحجم " زمن الخيول البيضاء " وإذا ما أضفنا إلى ذلك " قناديل ملك الجليل " وخمسة أعمال أخرى تكمل الملهاة الفلسطينية ‘ فإن ابراهيم بذلك يكون قد عمل ما لم يعمله أي كاتب عربي قط ، لا ليؤرخ لحياة شعب ، بل ليرسم نسيج روحه ، وينشر على الملأ أصالة هذا الشعب ، برسوخ عاداته وتقاليده وأهازيجه وأغانيه وشجاعته ،وكل ما يغرس جذوره بعيدا في أعماق التاريخ .
ولا يسعني في الختام إلا أن أقول : إن زمن الخيول البيضاء هي الملحمة الفلسطينية في جزئها الأول .. ولا نعرف من سيكتب الملحمة في جزئها الأخير( ما بعد 48 وحتى اليوم ) الذي لن يكون له نهاية . ويهمني أن أنوه بجهود الأديب يحيى يخلف في ثلاثيته وجهود محمود شقير في ثنائيته التي ستغدو ثلاثية بالتأكيد ، ولا أعرف إن كان هناك آخرون حاولوا أو يحاولون .وأدرك وعورة هذا الطريق الشائك الذي يصعب سلوكه !
******
* طرحت على ابراهيم بعض الأسئلة حول الأشعار التي كان يكتبها بترسون بعد قتل ضحاياه عما إذا كانت من تأليفه ، فلم يرغب بالإفصاح ونوه أن هذه مسألة تتعلق ببناء الشخصية . وعن الوثائق التاريخية التي وردت ضمن النص بحرف مميز أو في الهوامش ، أكد على صحتها وأنها لشخصيات تاريخية ، لكن لم يكن هناك داع لذكرها ، باسثناء الشخصيات التي اشتهرت كالقاوقجي .
*****
(5)
" قناديل ملك الجليل " ملحمة الفارس الأسطورة .
عن رجل ليس ككل الرجال . عن قائد ليس ككل القادة .عن بطل فذ ببطولته ، بفروسيته ، بنبله ، بشهامته ، بشجاعته ، بعدالته ، بحلمه بوطن حر ، وشعب حر ، يبحر بنا ابراهيم نصر الله لأكثر من خمسمائة وخمسين صفحة ، متتبعا سيرة الجليلي ظاهر العمرالزيداني ، الشخصية التاريخية التي عاشت ما بين أواخر القرنين السابع عشر والثامن عشر،وثارت على السلطة العثمانية ، لتنشئ أول كيان سياسي عربي شمل " عكا ويافا وحيفا والجليل وبلاد اربد وعجلون وأجزاء من سورية وحوران وصيدا وسواها، في حين أن صور كانت في يد حلفائه المتاولة ، وبيروت في يد حلفائه الشهابيين " ( ص 528)
عن رجل رحلت أمه عند ولادته فأرضعته فرس ( حليمة) فكانت أمه بالرضاعة ، وربته زوجة أبيه (نجمة) فكانت أمه بالتربية . تعلم الفروسية منذ صغرة وشارك في أول حرب وهو لم يتجاوز سن الطفولة .
رجل لم ينته من معركة إلا ليشرع في أخرى ، ولم يطو أوجاع حرب إلا لتنزل عليه حرب أخرى فظائعها ، ليمضي عمره محاربا حتى سن الخامسة والثمانين .
تزوج خمس نساء انجب منهن خمسة أبناء وبنت .وقف اخوته وابن عمه وأبناؤه معه مرات و تآمربعضهم عليه وغدروه مرات أخرى . ليقتل في النهاية على يد أحد قادته ( أحمد الدنكزلي ) الذي أكرمه وأعزه وعمل منه قائدا بعد أن كان مجرد محارب في جيش أحد خصومه .
عالم من التآمر والحروب والسلب والنهب والغدروالخيانة والقتل وقطع آلاف الرؤوس . عالم بلا رحمة ولا شفقة . القبيلة القوية تسطو على القبيلة الأضعف منها ، والجميع يرزحون تحت النير االعثماني .
وثمة فسحات للحب والمشاعر الإنسانية وعشق الأرض والإحتفالات والأفراح والأتراح ، مما يحرك الوجدان ويبهج القلب أو يبكيه في حالات أخرى.
عمل ظاهر العمر على أن يقيم عالما مختلفا فكان صراعه مع القبائل والمدن من ناحية ، وصراعه مع جيوش السلطنة من ناحية أخرى .نجح إلى حد كبير . وعم العدل والأمان وسادت المحبة ولو إلى حين .
بمهارة فنية عالية وبلغة شاعرية في بعض المشاهد وملحمية وغرائبية في أخرى ينقلنا ابراهيم من حالة إلى أخرى ومن واقعة صغيرة إلى حرب مستبقا الأحداث بالتلميح إليها أو داخلا في صلبها ، ليعود فيما بعد إلى ما خفي منها وما كان من الماضي . محركا ما يزيد على مائة وعشرين شخصية بين تاريخية ومتخيلة ، دون أن يغلب المتخيل على التاريخي ودون أن يطغى التاريخي على المتخيل . وإذا كانت الرواية التاريخية في العادة تستند إلى التاريخ أو تتكىء عليه عبر أبطال متخيليين ، فإننا هنا أمام رواية مختلفة لا تتكئ أو تستند إلى التاريخ بل تقوم عليه وبأبطال حقيقيين إضافة إلى الأبطال المتخيلين الذين قد لا نستطيع تمييز معظمهم عن الأبطال التاريخيين الحقيقيين . ولهذا نستطيع القول أننا أمام رواية تاريخية فريدة ، نجحت في أمرين :التأريخ من حيث كونها أرخت لمرحلة زمنية تقارب القرن بأبطال تاريخيين ، والإبداع كونها أبدعت عملا أدبيا ملحميا بلغة أدبية شاعرية لوقائع تاريخية وأخرى متخيلة . بحيث يمتزج الواقع التاريخي بالمتخيل المبدع دون أية امكانية للفصل بينهما .
يقول ابراهيم في مقدمة الرواية " لا يستند هذا العمل إلى دقة المعلومة تماما رغم إخلاصه لها ، بل يستند أكثر إلى قوة الحقيقة وقوة الخيال في اتحادهما بجوهر الأحداث وجوهر الشخصيات " ( ص 9)
ولو عدنا إلى المقدمة نفسها سنجد أن ابراهيم تطرق إلى تخوفه من الإقدام على عمل من هذا النوع " كان الخوف الوحيد الذي يسكنني هو أنني إذا ما كتبت رواية عن شخصية تاريخية حقيقية كهذه ‘ فإنني سأكون مقيدا إلى حد كبير ، لكنني حين قرأت سيرتي ظاهر المقتضبتين اللتين كتبهما ميخائيل الصباغ وعبود الصباغ ، بدأت أصبح أكثر جرأة ، وحينما أنهيت بحثي حوله وبدأت أشكل رؤيتي الخاصة لهذه الشخصية ، قلت لنفسي : لم لا ! فلتذهب إلى القرن الثامن عشر لتعيشه ، إنها فرصة لا تتكرر، ولتتعلم أيضا كيف يمكن أن تكون حرا وأنت تكتب عن شخصية تاريخية بهذا الوزن ، وهذا ماكان " ( ص8)
*************
مدخل أوسع إلى عالم الرواية .
في البدء لا بد من القول أنني لم أقرأ في حياتي رواية حملت هذا القدر من العناوين الفرعية ، 136 عنوانا ، تبدأ ب" الظل الشاسع والمرأة الحافية " وتنتهي ب " النهايات " وإذا ما عرفنا أن حجم الرواية هو 555 صفحة فإن معدل حجم الفصل في حدود أربع صفحات . وهذا يعني أن الرواية كتبت بلغة مكثفة تخلو من الإسهاب .
وإذا ما عرفنا أن أحداث الرواية تدور خلال ما يقرب من قرن ، وتدور بين دفتيه أحداث هائلة ، فإننا ندرك إلى أي حد هي مكثفة .
قسم ابراهيم روايته إلى اربعة أجزاء هي :
1- بحر الجليل .
2-الجنة بجانب البحر.
3-الجنة بين بحرين.
4- عذاب الجنة .
لم يقم ابراهيم بترقيم الأجزاء والفصول ، هذا ما قمت به أنا .
معظم العناوين كانت تشي بما يحمله الفصل ، كفصل " العدو والصديق "الذي يخون فيه الدنكزلي ظاهر ويقوم بقتله .أما عناوين الأجزاء فقد أشارت إلى بعض أراضي فلسطين " الجنة " وبحارها التي تنسب إلى المناطق المحاذية لشواطئها ، فيما أشارالجزء الأخير للعودة إلى الحروب والعذاب في ظل العسف التركي والولاة ومقتل الشيخ ظاهر واحتلال عكا وحيفا ويافا وغيرهما .
**********
تبدأ الرواية برحيل الأب عمر الزيداني ودفنه ، وتحاور الأبناء "سعد ويوسف وصالح وظاهر " حول من يخلفه ويحتل مكانه كمتسلم لمدينة طبرية يجبي الضرائب لخزينة الدولة ويسلم الأموال لها . لم يتم الإتفاق على أحدهم لصعوبة المهمة التي لم يرغب بها أحد حتى الإبن الإبن الأكبر سعد . وظاهر هو الأصغر
الذي أشار سعد وصالح إليه لتسلم المهمة.
في الفصل الثاني يعود بنا ابراهيم إلى الوراء لولادة ظاهر ورحيل امه ومشكلة ارضاعه بعد أن رفض حليب النساء ! وحين كانت الفرس البيضاء "حليمة " تصهل
وهي ترضع مهرتها " أشرق خاطر ما في قلب نجمة " فيما كان عمر الزيدي يصارع الموت بسيفه حتى لا يقترب من وليده .أسلمت الوليد إلى عمر وخطت إلى الداخل لتعود بصحن فخار وتهرع إلى الفرس التي كانت تصهل وكأنها تستحثها لتحلبها ، وهذا ما كان .
راق الحليب للوليد . وثابرت نجمة على حلب الفرس له إلى أن أخذ يرضع من الضرع بنفسه في بعض الأحيان ويعدو خلف الفرس إلى أن تجاوز الخامسة . وهكذا نشأت علاقة حميمة أشبه بعلاقة الامومة بين الفرس والوليد ظاهر .حتى أنه نام ذات ليلة إلى جوارها بعد أن أصبح رجلا.
هجمت سنوات القحط فتركت سهول القرى " شاحبة لا حياة فيه " وهدد وزير صيدا
بشن حرب على السكان إذا لم يقوموا بتسديد ما عليهم من ضرائب.لكن لم يكن لدى الناس ما يدفعونه . ثلاث سنوات من القحط أتت على كل شيء . ذبح الناس مواشيهم . وهناك من ذبح حصانه كي لا ينفق من الجوع .
زحف وزير صيدا بجيشه قاصدا عكا وحيفا ويافا ونابلس والقدس . حملت الأخبار من قرى البقاع " الكثير من الأهوال عن نهب البيوت واغتصاب أكثر من ثلاثمائة امرأة ... وإحراق قرى بأكملها "
جمع الشيخ حسين شيخ بلدة البعنة رجالا من بلدته وجوارها لملاقاة جيش الوزيروقطع الطريق عليه . اندحر جيش الوزير حين فوجىء بالأمر، لكنه عاد وجمع قواته استعدادا لمعركة كبيرة.
استغاث الشيخ حسين بسكان القرى . لبى الفتى ظاهر النداء لصداقة تربط العائلتين
وخاصة صداقة ظاهر للفتى عباس ابن الشيخ .
حصن الشيخ بلدته قدر الإمكان استعدادا للمعركة ، لكن وزير صيدا اتخذ قراره بتدمير البلدة على من فيها .
راح يدكها بالمدافع طوال سبعة أيام إلى أن نفدت ذخيرته.فتابع حربه بالسهام . إلى أن جاءته ذخيرة .
كان ظاهر وعباس من الفتيان المدافعين عن أسوار البلدة مع الرجال . صمدت البلدة خمسة أسابع . لكن مؤونة الناس وذخيرتهم نفدت ، وساءت أحوالهم .رفعت البلدة راية الإستسلام في اليوم الأربعين .
قامت امرأة بتهريب ظاهر عبر نفق سري يقود إلى خارج البلدة .
"فتحت أبواب السور ، خرج أهل البعنة وقد وضعوا مناديلهم في رقابهم وخلفهم كان الدمار يعلن عن قسوة الأيام التي عانوها " ( ص 37 )
نقض الوزير وثيقة الإستسلام وأمربقلع عيون سكان البلدة أولا ثم اعدامهم .
****
تدارس الأخوة قضية المتسلم ثانية ولم يجدوا إلا اللجوء إلى قرعة القناديل . من ينطفىء قنديله أولا يكون المتسلم . انطفأ قنديل ظاهر أولا فكان المتسلم . اقتادته نجمة إلى حقل فسيح وجعلته يسير معها حافي القدمين كما اعتادت هي أن تسير دائما .قالت له " أنت بحاجة لأن تسير اليوم فوق هذه الأرض وأن تحسها ، وتحس بكل الخيول التي عدت فوقها ، أنت بحاجة لأن تتشربهما معا : الأرض والخيل !"(ص43 )
امتطى ظاهر جواده وانطلق إلى صديقه بشر ليعلمه الفروسية .وهذا ما كان.
كان بشر قد فقد أسرته في مذبحة ويعيش وحيدا مع ابنة عمه "غزالة " الناجية الوحيدة أيضا. وكان أصبح بمثابة الإبن لعمر الزيدي بعد أن أنقذه من مطاردة الدرك له. تزوج من غزالة بعد أن رفضت فارسا من بني صخر ، وراحت
تعمل على أن تجعل من بشر شيخا بعد أن كان مجرد راع لقطيع صغير من المعز .
وهذا ما شرعت غزالة فيه منذ الخطوبة حتى العرس ، الذي كان حافلا بالناس تسابق فيه الفرسان وتبارزوا وغنت النساء وزغردن .
عاد ظاهر لتستقبله الفرس بصهيلها وليدنو منها ، يقبل جبينها ، ثم ينحني ليقبل قائمتيها الأماميتين.. وكانت الفرس تلعق وجهه كلما عانقها . علاقة الأمومة هذه بالفرس ظلت قائمة إلى أن ماتت الفرس ليحزن عليها ظاهر وتصرخ نجمة وتنثر شعرها وتهتف وهي تحتضن ظاهر " لقد ماتت وغبار الطريق على قدميها ، رحمها الله . ونظرت إلى الأعلى وقالت شيئا كما لو أنها تهمس في أذن السماء " ( ص 138)
تم في اجتماع لوجهاء طبرية بينهم المفتي والقاضي وإمام المسجد ومدير السجن ، توقيع طلب تعيين ظاهر متسلما خلفا لأبيه .
جاء جابي الضرائب وعساكره من صيدا. وجد أن ظاهر أعد له كل ما يريد لكنه لم يكتف . فقد راح يختار فوق الضريبة شاة أو عجلا ، جرة عسل أو بساطا .. راقب ظاهر الأمر بصمت ، وحين هرع الناس صارخين قبض على الجابي ومن معه ، أوثقهم رجاله وأودعوهم السجن .
كتب ظاهر إلى وزير صيدا يخبره بما جرى . تلقى منه رسالة " تثني على التزامه بما عليه من أموال الميري وبما أوفى به من ضرائب متأخرة ، ويعد فيها بمعاقبة الجابي على كل ما فعله "
أرسل ظاهر المال في صباح اليوم التالي .. وأفرج عن السجناء.
كانت تلك أول واقعة يؤكد ظاهر فيها قوة شخصيته .
*******
ذات يوم وفيما كان ظاهر عائدا من شاطئ البحيرة ممتطيا حصانه والفرس حليمة تسير خلفه ، سمع صراخا مكبوتا لامرأة وهو يجتاز بيارة ليمون .ترجل عن حصانه وهرع ناحيته . كان ثمة رجل يحاول اغتصاب امرأة ، مطبقا بيد على فمها ، مشهرا سيفه باليد الأخرى .
نهض الرجل وتهيأ لمواجهة ظاهر . كانت المرأة شبه عارية بثيابها الممزقة . تصارع الرجلان بسيفيهما ... وتمكن ظاهر من قتل الرجل .
خلع ظاهر عباءته وأعطاها للمرأة لتستر نفسها .. كانت فتاة في السابعة عشرة ، عرف ظاهرأنها ابنة صاحب البيارة . سألها عن اسمها فقالت : هنية ! وستظل هنية منذ ذلك اليوم ذكرى تتجدد كل بضعة أعوام ، وظلال حب انساني دفين ، بأن راحت ترسل جديلتيها معطرتين في صرة لظاهر ، وأوصت قبل موتها أن تثابر ابنتها على ارسال الجديلتين له .
ترك مقتل الرجل في نفس ظاهر أثرا عميقا راح ينعكس حتى على اخوته ونجمه مربيته ، فما كان منهم إلا أن باعوا أملاكهم وارتحلوا إلى ضواحي صفد حيث مضارب عرب الصقر الذين استضافوهم .
ابتاع واخوته بيتا واسعا في عرابة البطوف لا يقل وسعا عن بيتهم في طبرية .
في رحلة إلى دمشق تعرف ظاهر إلى نفيسة ابنة الشريف محمد الحسيني وخطبها وتزوجها بمساعدة الشيخ عبد الغفار الشويكي .
في العودة إلى صفد تعرضت القافلة التي فيها ظاهر ونفيسة إلى هجوم من قطاع طرق .. تصدى ظاهر ورئيس القافلة ومن معهم للمهاجمين وانتصروا عليهم ،
لكن أحدهم تمكن من قتل طفل ، وكان في مقدور ظاهر قتله ، غير أنه تركه طريحا على الأرض حين مثل مقتل مغتصب الفتاة في مخيلته ، وراح يطارد اللصوص ليستعيد ناقتين وثلاثة بغال ، وحين عاد وجد اللص قد قتل طفلا هاجمه بعصا .
أقدم ظاهر على سجن الجابي وعساكره مرة أخرى . ودبر أمره مع وزير صيدا " محمد باشا " بأن أهداه فرسا أصيلة ، ووعده بأن يصله مال الميري كاملا كل عام .
وهكذا تم تعيينه متسلما لعرابة وأراضيها .
" سارت الأمور كما خطط لها ظاهر تماما ، اختفى جنود الدولة ...وأصبحت كرامة الناس فوق كل اعتبار ، وحقوقهم خطا أحمر لا يجرؤ أحد على الإقتراب منه " 0 ( ص 149)
تحالف ظاهر مع عرب الصقر وانتقل إلى طبرية . وحين جاءه رجل مسيحي( جريس) يشكو ما جرى له من المتسلم من ابتزاز وخطف للزوجة، اعتقله ظاهر وقيده إلى نخلة وأفرج عن السجناء الذين كان يعتقلهم ظلما. جيء بزوجة جريس التي كانت قد قصت شعرها وسخمت وجهها ، وطلب إليها ظاهرأن تنتقم لنفسها ، فخلعت نعليها وظلت تضربه إلى شروق الشمس.
أشار ظاهر إلى جريس أن يأخذ زوجته ، وإلى مرافقيه أن يحلو وثاق المتسلم ويركبوه بالمقلوب على جحش ويطوفوا به في طبرية ليشتم ويصفع ممن يريد من الناس ، وليودع في السجن بعد ذلك .
انتشرت الأخبار في طبرية وما حولها عما فعله الشيخ ظاهربالمتسلم . فرح الناس وغنت النساء لظاهر :
خيي يا ظاهر ياتاجي وراسي .. يا سيف الفظة مشعشع بالماسي
في يوم وصولك رديت أنفاسي... وخليت الشمس تطلع علينا.
أخذ نجم ظاهر في الصعود بعد ذلك ، فطلب إلى صديقه بشر تكوين جيش من أهالي طبرية ومن البدو.وشرع في ضم البلدان المجاورة إليه ، وتحصين طبرية
بأن رفع أسوارها لتتحول إلى قلعة .
عبد الله باشا الأيضنلي والي الشام ارتاب مما يفعله ظاهرفقرر أن يخضع طبرية ، فاشار لرجاله بأن يبدأوا بإنهاء تحالف عرب الصقر مع ظاهر بالترغيب أو الترهيب.
نجح رجال الباشا في الأمر . وشرع رجال الصقر يشنون الغارات على القوافل ، إلى أن انتهوا بأسرأخيه صالح .
انتظر ظاهر عودة أخيه دون جدوى .أرسل إلى الأمير رشيد أمير الصقريسأله عن الثمن الذي يريده مقابل رأس صالح .كان الرد صاعقا لظاهر " مطلبي أكبر من كل ما ستدفعه لقد سبقك من يملك أكثر منك واشتراه ” يقصد والي الشام .
وهذا ما تم . فقد أرسل صالح إلى والي الشام ليتم شنقه . وصل الخبر صاعقا إلى ظاهر . هتف : لنعلم الأمير رشيد كم رأسا من رؤوس الصقر يساوي رأس صالح .
" مباغتا كان الهجوم . أول ما فعله ظاهر هو الإغارة على خيمة الأمير رشيد ، مال واقتلع الرمح ( رمز القوة ) المغروس أمام بابها وكسره وألقاه في الهواء.حلق طويلا ثم هوى ، وما أن لامس الأرض حتى اندفع جنوده في مضارب الصقر كالإعصار " " تطايرت الرؤوس في ذلك الفجر الدامي قبل أن تشرع أعينها لترى ما يحدث . سقط الموت كله كغيمة صخرية باتساع السماء ساحقة كل ما تحتها " " لم يدم الهجوم طويلا ،كان خاطفا مثل مرور منجل في حزمة سنابل"(ص 191 )
هذا ما أمر به ظاهر الذي لم يكن يريد معركة . عبر مضارب الصقر بجيشه دون أن يرتد .
ذهل عرب الصقر مما جرى حين رأوا الجثث المبعثرة بين الخيام الممزقة .
ولم يكن هناك إلا الرعب وعويل النساء.
***************
لم ينل الأمير رشيد أي ثمن لصالح ، بل جاءه عسكر وزير صيدا لجمع الضرائب ،
أما باشا الشام فقد تسلم أمر سلطاني بعزله وتعيين سليمان باشا بدلا منه .
لم يجد عرب الصقر إلا الصلح مع ظاهر والعودة إلى التحالف معه .
اشتكى سكان جدين والمناطق التي حولها إلى ظاهر من سوء معاملة الشيخ أحمد الحسين لهم فبعث برسالة إلى والي صيدا يطلب فيها شن حرب على الحسين وأرسل الحسين رسالة مماثلة إلى الوالي ، فكان رد الوالي بأن بعث برسالة إلى كل منهما بشن الحرب على الآخر .
وهذا ما كان . التقى الجيشان وتعاركا .. قتل الحسين في المعركة . ضم ظاهر جدين ومناطقها إليه .
وهو يستعرض الجيش المستسلم توقف ظاهر أمام أحد الفرسان . كان يقاتل ببسالة لفتت انتباه ظاهر . سأله عن اسمه وهويته ، فقال أنه مغربي وأن اسمه أحمد الدنكزلي. عرض عليه ظاهر أن يكون جيشا من المغاربة وسكان طبرية . فوافق .
وهكذا أصبح الدنكزلي قائدا.. ولم يكن ظاهر يعرف أن منيته ستكون على يديه .
أخلص عقودا لظاهر لكنه خان في النهاية ، وظاهر يطوي سني عمره نحو حتفه .
نفيسة التي لم تنجب . كان ظاهر قد أسكنها في الناصرة . جاءت إليه بطلبين : أن يزحف إلى الناصرة ليضمها إليه ، وأن يتزوج من العروس التي اختارتها له من الناصرة (بدرية) .
تزوج ظاهر من بدرية التي أنجبت له ابنه الأول . " صليبي" في الوقت الذي كانت فيه نفيسة تذوي .
كان حب نفيسة قد ملأ عليه قلبه ، ولم تكن بدرية أو غيرها من الزوجات الثلاث اللاحقات أن تعوض الفراغ الذي خلفه رحيلها. رحلت وهي في حضنه وهو يمشط شعرها :
" في تلك العتمة لم يعد ظاهر قادرا على معرفة إن كان المشط لم يزل قادرا على معرفة طريقه في ذلك الشعر الطويل ، أم أن النتوءات التي تعترضه ما هي إلا العتمة القاسية الهابطة فوق جسديهما كحجر "
" رجل يحتضن رأس امرأته ، يتشبث بجسدها ، وأذرع الليل تتسلل لتختطفها وترحل بها بعيدا إلى ظلمة أقسى وأشد "
" بكى . بكى كثيرا . كانت دموعه تغرقه . تجرفه . وتجرفها بعيدا " ( ص 228)
راح ظاهر يتوسع في البلاد فضم صفد والبعنة وسحماتا.وتزوج من ابنة متسلم البعنة .
استقبل في صفد بالغناء بعد أن تسلمها دون حرب .عمل الدنكزلي استعراضا ليليا للجيش بالقناديل على مشارف صفد ، ما أرهب واليها فأرسل رسولا إلى ظاهر يعلمه بتنازله عن تسلم صفد .
الزوجة الرابعة لظاهر كانت سلمى التي أهداه إياها الأمير رشيد الجبر أمير عرب الصقر . لم ير ظاهر أجمل منها حتى حينه . لكنها كانت تخفي سرا في نفسها يجعلها تهرب بعينيها بعيدا كلما حدثته .
الحرب اللاحقة كانت مع المتاولة بعد أن طلب ظاهر من أميرهم ناصيف النصار التنازل عن قريتي البصة ويارون . أبى الأمير فأشعل فتيل الحرب .على مدار اثني عشر يوما كانت الدماء تنزف . ولم يتوقف النزيف إلا باختطاف ولدي الامير ناصيف ،الذي وافق على شروط ظاهر.
أصرت نجمة على أن تختار زوجة لظاهر بعد أن رأت أنه ظل مسكونا بنفيسة .
فسلمى طلقها ظاهر لتتزوج من تحبه ، بعد أن كشفه معها . وبدرية عادت إلى أهلها . أما ابنة متسلم البعنة التي فرضت عليه من أبيها ، فقد أخفى وجهه بين يديه
حين رأى وجهها !!
اختارت نجمة زوجة شامية جميلة ، فكانت دهقانة ، التي رأى فيها ظاهر ما كان يراه في نفيسة .
اندلعت الحرب مع نابلس التي كانت تعتبر ملكا خاصا للسلاطين العثمانيين . خان عرب الصقر ظاهر ثانية وانضموا إلى النوابلسة . كسب ظاهر الحرب وضم أراضيهم الساحلية إليه .
توالت حروب ظاهر بعد ذلك فخاض حروبا ضارية على أسوار طبرية وعكا وحربا مع دمشق وحروبا مع بعض أولاده ومن تحالفوا معهم .
جردت الدولة جيشا من ستين ألفا بقيادة محمد أبو الذهب والي مصر للقضاء على ظاهر وأولاده واستعادة المناطق التي تحت سلطته .
قتل أبو الذهب من قبض عليه من سكان يافا ، فقطع سبعة آلاف رأس جعل جيشه يعمل منها أبراجا ."وما أن وصلت أخبار مذبحة يافا حتى فر الناس تاركين قراهم ومدنهم صوب الجبال والحقول ... فأقفرت شوارع حيفا وعكا وصيدا وصولا إلى بيروت " ( ص 543 )
مات أبو الذهب قبل أن يقتل ظاهر ويسيطر على كامل المناطق .وعاد ظاهر إلى عكا بعد أن غادرها على أثر احتلال ابنه علي لها .
راح ظاهر يحصن المدينة من جديد ، فيما الدولة تعد جيشا عرمرما وضعت على رأسه ثلاثة وزراء ، هم وزراء دمشق والقدس وأضنه وأحمد باشا الجزار محافظ السواحل . إضافة إلى اسطول حسن باشا الجزائري الذي سيحاصر عكا من البحر ،
والذي كان يحمل فرمانا سلطانيا بقطع رأس ظاهر ورؤوس أولاده وذريتهم والعودة بها إلى اسطنبول.
كان الدنكزلي آخر خونة ظاهر فاتفق سرا مع الجزائري أن يكون معه . وأول ما قام به بعد المعركة، هو خطف جارية جورجية ساحرة الجمال اسمها باتريشا أطلقت عليها دهقانة قبل رحيلها اسم عيشة ، بعد أن أحبتها ورعتها، وأحبها ظاهربدوره بحيث غدت الفرح الوحيد في حياته .
حين راحت مدافع سفن الجزائري تدك عكا مستبقة وصول الجيش من البر، كان ظاهر يقف على الأسوار .. أطلقت مدافع جيشه لكنها كانت تسقط بعيدا عن السفن .
أدرك الخيانة . انقسم الجيش إلى قسمين : قسم معه وقسم مع الدنكزلي . بعد ثلاثة أيام حسم الدنكزلي المعركة واقتحم سراي ظاهر واختطف عيشة .
أتاح الدنكزلي لظاهر وما بقي من اسرته وجماعته أن يخرجوا ..
" في صباح التاسع والعشرين من شهر آب عام 1775 ألقى ظاهر من بعيد نظرة على المدينة . كانت صامتة مثل قبر . وبعد نصف ساعة اقترب من نجمة وشد على يدها يطمئنها فأشاحت بوجهها بعيدا تخفي دمعتين على وشك السقوط .
طاف يتفقد الجميع ، وفجأة سألهم السؤال الذي لا يعرفون إجابته : أين عيشة ؟!
ولم ينتظر إجابتهم . استدار بفرسه نحو نجمة . رأته فعرفت أنه اكتشف غيابها ."
"كان الدنكزلي يقف أمام بوابة المدينة وفي يده عيشه . شاهد ظاهر يعدو نحوه على حصانه الأبيض. وطلب إلى جنوده أن يتركوه له ليقتله . صوب وأطلق النار . افلتت عيشة وانطلقت تعدو نحو الشيخ ظاهر.وصلته .مد يده ليرفعها فوق حصانه ، لكن الطلقة التي عبرت كتفه ، اختطفت الكثير من قوته ..اختل توازنه .كانت يده أضعف من أن ترفع إنسانا .تمايل ثم سقط على الأرض بجانبها ."( ص 552)
"أطلق ظاهر النار فلم يصب . استل سيفه . أطلق الدنكزلي .. أصاب قلب ظاهر.لكنه لم يسقط .ظل واقفا والدم يتدفق من صدره وعيناه مثبتتان إلى وجه الدنكزلي .. العينان نفسهما القويتان الثاقبتان .. عند ذلك سحب الدنكزلي سيفه وأغار على ظاهر ، وبكل قوته قطع عنقه ففار الدم من جسده متحولا إلى أكبر شعلة قنديل يمكن أن يراها أحد تحت شمس وراحت تتقد وتعلو وتعلو " !! ( ص 552 )
" إلى البحر انطلقت عيشة .. وقبل أن تصله دوت طلقة .. رآها الدنكزلي تسقط "
حمل الدنكزلي رأس ظاهر وعاد إلى بوابة المدينة يتبعه جنوده . فيما كانت نجمة تغرس قدميها وكفيها في التراب .
**************
انسانية ظاهر وعدالته :
ثمة مشاهد كثيرة في العمل تعبرعن انسانية ظاهر ، ومن أهم هذه المشاهد هو اكتشافه لوجود رجل مع زوجته البدوية سلمى ، لم يكن إلا حبيبها وابن عمها قبل أن يطلبها الشيخ رشيد لظاهر .وحين عرف قصته طلب إليه أن ينسى ما حدث ويعود إلى أهله .
وحين عاد إلى سلمى قال لها وهي تداري حالها : خرجت هذا المساء من هنا وأنا زوجك وعدت الآن وأنا أبوك "
غارت عيناها في الأرض وانحنت على قدميه لتقبلهما .
" دخلت بيتي عزيزة وستخرجين منه عزيزة ليست ابنة ظاهر من تقبل قدمي أحد حتى لو كان أبوها "
طلب إليها أن ترسل في طلب أبيها وعند حضوره تشكو إليه شراسة أخلاق ظاهر وتعنيفه لها ليل نهار ، وأنها ستنتحر إن بقيت في بيته . وهو بدوره سيقول له أن ابنته جاهلة ورعناء .. وأنه سيطلقها .وهذا ما تم . عادت سلمى لتتزوج من ابن عمها " غيث " الذي كشف خيانة عرب الصقر لظاهر فيما بعد .
وحين راود ابنه عثمان مرضعة ابنه عن نفسها . أحضر عثمان وعلقه على مشنقة
وأحضر المرأة لتقرر مصيرة وهو معلق . فظل معلقا طوال الليل وحتى ظهيرة اليوم التالي حتى جاءت المرضعة وسامحته .
عدم تفريقه بين الأديان :
" على بوابة كنيسة البشارة سجد ظاهر وصلى . رفع يديه وشكر مريم العذراء . وحين وقف واستدارؤ أمام العيون المحدقة به ، العيون التي امتلأت بالدمع تأثرا ، أصدر أمره : كل ما يلزم الكنيسة من قناطير الزيت يتم احضاره لها في كل موسم .ويتم اقتطاع كرم زيتون من كفر كنا وآخر من المجيدل ليكونا وقفا أبديا لكنيسة البشارة " ( ص 274 )
وما يزال الكرمان وقفا للكنيسة حتى اليوم .

قال لابنه سعد ذات يوم " والله يا سعد لو وقف بباب قلبي رجلان ، رجل عادل من أي مذهب أو ملة أو دين ، ومسلم ظالم ، لأسكنت الأول قلبي وطردت الثاني " ( ص 254 )

لم يكن ظاهر يجبي من الناس أكثر من طاقتهم ، وأزدهرت في عهده تجارة القطن مع بريطانيا وفرنسا . وكان حرصه على أمن الناس شديدا ، وكي يطمئن طلب أن يأتوه بفتاة جميلة .. البسها أجمل الملابس وزينها بأجمل الحلي والجواهر وجعلها تجوب الجليل وحدها . وجعل جنودا يحرسونها عن بعد دون أن تدري . وحين عادت سألها إن تحرش أحد بها . فقالت إن أحدهم سألها إلى أين تذهب وآخر من رجال الصقر اعترض طريقها وحين عرف أن ظاهر هو من أرسلها ، تركها وهو يتفوه بكلمات غير مفهومة .
أرسل ظاهرفي طلبهما وأعدمهما شنقا !!
وأقام ظاهر ما يشبه الضمان الإجتماعي حين رأى مشعوذا عاريا يقوم باستدرار عواطف الناس ، فأمر بإحصاء للفقراء من السكان ودفع ما يكفيهم من مال كل شهر. ومنع التسول.
*************
ليس في الإمكان التوقف عند الكثير من المشاهد التي تعبرعن إنسانية ظاهر وعدالته وشهامته في الحروب حيث كان يحترم خصومه . وليس في الإمكان التطرق إلى البطولات والوصف الخلاق للمعارك ، والمواقف الإنسانية المؤثرة ، وأحوال الناس وعاداتهم وطقوسهم وعلاقتهم بالأرض ، وخاصة نجمة الحافية دائما ، التي تشبه الأرض عينها ، والتي ثابر ظاهر على تقليد حفيها حين تسنى له الأمر. مما جعلنا نعيش مع هؤلاء الناس ، نفرح لأفراحهم ، ونحزن لأحزانهم.
لجأ ابراهيم إلى لغة شاعرية جميلة جنحت إلى التغريب والأسطرة والترميز أحيانا ، مما أضفى على العمل أبعادا جمالية أخاذة ، كما في مشهد قطع رأس ظاهرحيث تحول الدم إلى شعلة قنديل كبيرة راحت تتقد وتعلو ..
في تقديمه وتأخيره للأحداث ، واستقراء أفكار شخصياته ، لعب ابراهيم لعبة ذكيه ، جعلت القاريء يتفكر في ما يجري ، كما في الفصول التي يتآمر فيها أبناء ظاهر عليه وغيرها.
خلاصة القول : لقد قدم ابراهيم نصرالله عملا أدبيا تاريخيا لم يكتب مثله أو بمستواه وعلى الإطلاق في الأدب الفلسطيني كله ، إن لم يكن في الأدب العربي .
ورسم لنا بنجاح باهر شخصية البطل الفلسطيني كما لم يرسمها كاتب من قبل .
البطل الفارس ، الذي يحارب بشجاعة ويحقق انتصارات ، لكنه يهزم ويستشهد في النهاية ، وكأن القدر قد رسم له مسبقا هذه النهاية التراجيدية . وهذه هي حال البطل الفلسطيني بدءا بجليات وانتهاء بياسر عرفات .
لقد حاول ابراهيم أن يرسم ببراعة لحظة سقوط ظاهر . ويا ليته لم ينه الرواية باستشهاده ، بل بتشييع جثمانه وإقامة جنازة مهيبة له ، تنثر فيها النساء شعورهن ، ويشققن ثيابهن عن جيوبهن ، ويدققن صدورهن بقبضاتهن ، ويلطمن خدودهن ، ويندبن الفارس الراحل من أعماقهن بأجمل ما تجود به قرائحهن . فبطل فارس بهذه
الصفات ، أشبه بكوكب أو نجم سقط من مكانه وآل إلى الإنهيار . ويستحق الحزن عليه وإقامة طقس فريد له بترحيله إلى مثواه الأخير .
**************
(6)
جنى الحسن :
أجيال التصالح والحب في " طابق " 99!!
في 264 صفحة تنقلنا جنى الحسن في روايتها " طابق 99 " - التي وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية – بين سنوات من الألم والحب .. سنوات الحرب اللبنانية بكل مصائبها وآلامها .. من القتل على الهوية والقصف العشوائي وحتى مجزرة صبرا وشاتيلا ، إلى ليالي الحب والعشق في نيويورك بين جيل ما بعد الحرب ، يمثله شاب فلسطيني " مجد " وشابة لبنانية " مسيحية " هيلدا "
مجد الذي قتلت أمه الحامل في مجزرة صبرا وشاتيلا وأصيب هو بجرحين في وجهه ورجله ، تركا أثرهماعليه طوال حياته ، ليظل الندب باديا على وجهه والعرج ماثلا في مشيته جراء الجرح . وهيلدا طالبة الرقص الجميلة التي تنتمي إلى أسرة حزبية معادية للفلسطينيين ، فقدت عمها الذي انتحر بعد أن قال أنه قتل ثلاثة من الفدائيين الفلسطينيين . أبوها قائد في حزب لبناني مسيحي توحي الوقائع بأنه حزب كبير .
مجد وهيلدا كانا طفلين إبان الحرب التي لم يكن لهما فيها أي شأن .. أب مجد وبمعرفة بعض أقاربه قرر أن يهاجر إلى أمريكا ليتابع ابنه دراسته فيها بعيدا عن أرض الحروب والويلات ، دون أن ينسى وطنه السليب " فلسطين " وهيلدا قررت متابعة دراستها للرقص في أميركا بعيدا عن الأمر نفسه .
تعارفا صدفة في نيويورك بعد أن أصبح مجد رجل اعمال ناجحا في صناعة تكنولوجيا لعب الأطفال وأصبحت هيلدا راقصة محترفة . لم يشكل عرج مجد حاجزا أمام هيلدا ،ولا كذلك الندبة في وجهه، بل أحبته بكل جوارحها .. وهو أحبها من أعماق قلبه :
" كلما فكرت في هيلدا ، شعرت كما لو أن خلايا الجلد التي تآكلت من وجهي ورسمت فيه تلك الندبة ، صارت تلد خلايا أخرى نضرة وطازجة ،وأن جلدا ينبعث من تحت اللحم ،وأن الدم بات أخضر يزهر كريات بيض وحمر وصفر لأصبح فجأة جميلا " ( ص12)
يبدأ القلق حين تقرر هيلدا الذهاب إلى لبنان للزيارة . فمجد يتخوف من أن تتخلى عنه ولا تعود إلى أمريكا ، وإن عادت فقد لا تعود إلا من أجل الرقص الذي تعشقه وليس من أجله . ورغم أنها ظلت تكالمه وتراسله إلا أنه لم يجب على رسائلها .
" كان قد مضى على رحيل هيلدا أكثر من ستة أشهر .انقطعت رسائلها ومكالماتها منذ اكثر من ثلاثة أشهر ولم أحاول أن أتصل بها . بدا لي أنها لن تعود وأنه يجدر بي أن أنساها إلى الأبد " ( ص 183)
" في لحظات ، كنت متأكدا من أنها ستعود ولكن ليس من أجلي . كانت ستعود لكي ترقص " ( ص 183)
لم تتأقلم هيلدا طوال ستة أشهر مع حياة أهلها .. فأختها ماتيلد التي كانت مدمنة مخدرات ووضعت في مصح لتركها، ما تزال مخلصة لوالدها وترى أنه رجل عظيم ولم يظلمها كما ترى هيلدا ، وتأمل أن يسامحها :
" أريد أن أتطهر من أخطائي عساه يسامحني يوما ما " ( ص 253)
وكلما حاولت هيلداأن تقاطعها " لأذكرها أن أبي نفسه كان يزود المقاتلين بالمخدرات أثناء الحرب ، كان لونها يمتقع وتستغرق في الدفاع عنه " ( ص 254)
لم تستطع هيلدا التأقلم مع حياة أهلها وباتت تشعر أنها امرأة مختلفة ،وأن " هوة كبيرة بيني وبينهم ، كأنني لم أعرفهم يوما ،وكأن هذه الفتاة التي كانوا جميعا يحبونها ويلاعبونها لم تكن يوما أنا " ( ص 257)
وراحت تحن إلى مجد " كنت أحتاج أن أكلمك لأشعر أن هيلدا أخرى ما زالت في مكان ما " " لقد حاولت أن أتصل بك منذ قليل ولكنك كنت قاسيا جدا معي " " اليوم تحديدا بدا لي غيابي عنك قاسيا ، كما لو أن هناك ثقبا في رحمي لا يمكن أن يملأه سواك " ( ص 257)
لم تجد هيلدا ضالتها في لبنان إلا في شاب يتيم ( جورجيو ) جننته الظروف الإجتماعية غير الإنسانية ؟ لمحته من الشرفة يركض هربا من الأولاد ، أسرعت لنجدته . وجدت رجله مجروحة بعد أن وقع . اصطحبته إلى البيت وأسعفته .
هذا الأمر أغضب الأب كثيرا . لا يريد أن يرى مجنونا في المنزل وبصحبة ابنته المحبوبة . وحين تشير هيلدا أن هذا من حقها ، يصرخ الأب قائلا :
" هذا منزلي وقواعدي تسري هنا "
ترد هيلدا :
" أتركه لك من غير عودة ، أقسم لك "
وهذا ماكان ، وخاصة بعد أن نفد صبر الأب من تصرفات هيلدا التي اعتبرها صبيانية وطائشة .( ص 261)
قبل رحيلها . راحت تحكي لهم على مائدة الطعام عن الشاب اللطيف الناجح في عمله الذي أحبته في نيويورك وأحبها بدوره كثيرا.. كانوا جميعا صامتين .. وحين سألتها أختها لماذا لم تخبرهم من قبل ولماذا لم يأت معها ؟
فجرت هيلدا قنبلتها :
" آه نسيت أن أخبركم أن أصله فلسطيني ،وأن هذه هي آثار شظية أصيب بها في مخيم صبرا وشاتيلا "
"ولم تكد تنهي جملتها وتضع الشوكة من يدها استعدادا للرحيل وسط ذهولهم جميعا ، حتى سمعنا طرقا على الباب . كان وفد من أهل القرية . زغاريد نساء في الخارج .. رجال يطلقون النار في الهواء .. رجل يبشر الأب بأن اسمه وارد في التشكيلة الوزارية .. "
" أمسكت هيلدا حقائبها بهدوء وانسحبت من الضوضاء .. " ( ص 264)
****
وهكذا تعود هيلدا إلى نيويورك لا لترقص فحسب ، بل لتجدد الحب مع مجد وليبدآ معا فصلا جديدا وزمنا جديدا لأجيال جديدة أبقت الماضي في مهده .
لم نتطرق إلا إلى البناء الدرامي الأساس الذي أقامت عليه جنى الحسن خطابها الروائي الجميل حقا . فهناك خطوط درامية أخرى رافدة ومساعدة هامة جدا . هناك محسن الفلسطيني المغرم بالنساء وايفا المكسيكية ،وهناك ماريان الأمريكية التي مات زوجها في حرب الخليج الأولى ولم يعثر على جثته . تاركا خلفه زوجة وطفلين . وحين أقيمت له جنازة رمزية رثته بكلمات مؤثرة جدا . وهناك خطوط درامية رافدة أخرى .
كما أننا لم نتطرق إلى الشكل الفني في الرواية وإلى الرواة أنفسهم . فالرواية تروى على لسان مجد وهيلدا . وثمة فصول قليلة جدا تروى على لسان راو . ولكن كان لمجد الدور الأكبر والأهم في السرد. فقد روى قرابة عشرين فصلا من ثلاثين .
أتوقع أن تفوز الرواية بجائزة البوكر لهذه الدورة . وأتمنى ذلك !
29/2/015
(7)
شرفة الفردوس :
لواعج النفس الإنسانيىة بين قدَرَين !
منذ زمن طويل لم أجد نفسي منقادا إلى قراءتين لرواية ، إحداهما واقعية والثانية رمزية . حدث ذلك مع " رجال في الشمس " لغسان كنفاني ، و" أولاد حارتنا " لنجيب محفوظ . فرواية " شرفة الفردوس " لإبراهيم نصر الله ، وضعتني من عنوانها أمام هذا الإحتمال ، غير أنني تجاهلته وشرعت في القراءة .
من الصفحة الأولى أعاد ابراهيم الشك إلي حين اختار لبطلته اسم ( حياة ) وأراد لها أن تسكن أعلى طابق في بناء عال تطل منه على العالم ، وكأنها تريد أن تسكن السماء نفسها ! كما أن الحوار بينها وبين رضوان (عفوا ادريس وكيل البناء !) وضعني في قلب الشك حين أكد أنه يعرف حياة تمام المعرفة . زاد شكي حين عرفت أن اسم زميلة حياة في العمل هو ( دنيا ) . وقطعت كل هذه الشكوك باليقين حين التقت حياة بخطيبها (أنس) في الشقة العالية المطلة على الكون ، مرتكبة بذلك الخطيئة ، التي استوجبت طردها منها من قبل المالك ، لتسكن طابقا سفليا لا تحبه . اتضحت الصورة لي ، وأسفرت الرموز عن دلالاتها . وأنا أتساءل في نفسي عما إذا كنت أمام الربة إنانا وقد هبطت إلى العالم السفلي؟ أم أنه هبوط عشتار ؟ أم أنني أمام حواء وآدم وقد طردا من الجنة ؟ ورحت أجزم أن ابراهيم علقني أو علق بطلته ( حياة ) بين قدرين لا فكاك منهما : قدر السماء وقدرالأرض ( الدنيا ) وأن الفكاك منهما أو التعايش معهما يتطلب معجزة ، فلكل منهما شروطه ، الشقاء في الدنيا والقلق والرعب مما يخفي القدر .
على ضوء هذه القراءة المبدئية ( التي تنبهت الدكتورة رزان ابراهيم لبعض رموزها، في مقالة لها في الاهرام ) رحت أتابع الصفحات بمتعة ، جاهدا قدر الإمكان الإفلات من سطوة الرمز ودلالته لأتمتع بالنص الواقعي تاركا التأويل والتحليل إلى وقته . فواقعية النص مشحونة بالمؤثرات والوقائع الدرامية المشوقة . فالمالك ( قاسم ) يجزم بأن حياة لن تكون إلا له ، وله وحده ، مهما حاولت الرفض ، ففي رسائله المدسوسة من تحت باب شقتها ، يؤكد لها " لم توجدي لسواي " وهذا ما يدفعه إلى تدبير أمر سفرلأنس إلى جده ، ليقتل هناك في حادث سير مدبر يُعزى إلى عاصفة مطرية . عدا عن توعده لحياة بالندم .. ثم إن غموض شخصيته يعمق من دلالات رمزيتها بعلاقتها بالسماء ! وهناك ( دنيا ) دنيا القبيحة بالبثور التي تنتشر على وجهها ، والحزن الدائم الذي يلفها ، والبكاء عند معظم لقاءاتها بحياة . والعلاقة الخفية التي تربطها بالمالك ، ووجودها كثيرا في شقته . تكاد تكون رمزا للدنيا ولقبح العالم . وإذا ما أضفنا إلى ذلك الكوابيس التي تتراءى لحياة في صحوها ونومها ، نجد أن ابراهيم وظف الكثير من المؤثرات التي تجعل القارىء يتابع الرواية بشغف وشوق . عدا أن ابراهيم الذي عرف بشاعريته وتوسعه ، وخاصة في النص التاريخي ، ابتعد في هذا العمل عن الإثنين ( وإن كان هناك بعض العبارات الشاعرية العابرة ) وحافظ على إيقاع خاطف وهادف وسريع ، دون أن يلجأ كثيرا ،حتى إلى التلاعب بالزمن تقديما وتأخيرا .. فالوقائع تجري بشكل تصاعدي في معظم الفصول ، مستفيدة قدر الإمكان من ثقافة سينمائية يوظفها ابراهيم في رسم المشهد الأدبي ، متوغلا في لواعج النفس الإنسانية وآلامها .
يأتي الجزء الثاني من الرواية بعد مقتل أنس مشحونا بالكوابيس التي تدهم حياة باستمرار. والأدهى من ذلك أنها بدأت ترى نفسها في شخص دنيا ، وترى دنيا في شخصها . لقد بدت حياة وقد هزمت أمام القدرين قدر السماء وقدر الدنيا ، ولم تعد قادرة على رؤية نفسها إلا كذلك . ورغم ذلك لا نرى دنيا تتباهى بهذا الجمال الذي يفترض أنها اكتسبته ، فالحالة نفسية لدى حياة لا تستشعرها دنيا ، ونظرا لأنه لا يوجد هناك إنسان أقرب إلى حياة من دنيا ، فقد تأثرت بشخصيتها سلبا ، ولو لم تكن حياة ذات إرادة قوية لغرقت في نوع من الشيزوفرينيا ( انفصام الشخصية ) لم تجد فكاكا منه .
جاء الأمل على يد الشاب الدكتور حين اتخذت حياة قرارا بأنها ستحبه رغم القبح الذي يكتنفها .. وما بدالي هو أن الدكتور طبيب نفساني قد كلف من قبل دنيا بمعالجة حياة من مرضها النفسي . فقدومه إلى سهرة في مقهى وترك مقعد له في مواجهة حياة لم يكن صدفة . كما أن كل سلوكه معها وتطرقه إلى جمالها الباهر ، يشير إلى أنه طبيب نفساني وليس طبيب عيون كما قدم نفسه . وإذا لم يكن طبيبا نفسانيا فقد كان ذا ثقافة رفيعة ساعدت حياة على الخروج من حالتها وأزمتها . معلنا لها عن حبه ، لتبدأ الحياة من جديد ..
القواسم ( جمع قاسم ) بين ما يرسمه القدران : قدرالسماء وقدر الدنيا ، كثيرة .. وقد وجد الإنسان ليكافح ،مراوحا بين الهزائم والإنكسارات ، وتحقيق الآمال ، والسير قدما في الحياة إلى نهايتها بخيرها وشرها ، فرحها وحزنها .. فالشخصيات التي رسمها المؤلف انتهت إلى ما أراده المؤلف ، وإن بدا لنا الأمر عكس ذلك ، حتى قاسم نفسه عاد إلى وحدته ..
******
(8)
" ترانيم الغواية " في مدينة السماء : موطن الآلهة ومقام الأمم والأنبياء !**
* بوابة التاريخ !*
القدس . بيت المقدس . اورشليم . يبوس . إيلياء . اورسالم . مورياه . بنت صهيون . مدينة داود*1 ، وأسماء أخرى كثيرة بلغات مختلفة تجاوزت العشرين اسما لمدينة الآلهة*2 . مدينة عناة وعشتاروت وإيل وبعل . مدينة يهوة *3ويسوع المسيح والله .مدينة الأمم والطوائف. مدينة المعابد والكنائس والأديرة والمساجد . مدينة العشق والحب والآلام ، ظاهرها ايمان مطلق بآلهة ( أو إله ) بمفاهيم وأسماء متعددة ، وباطنها لا يخلو من غواية وضلال من أقدم العصور،لا لأكل تفاحة، بل للوقوع في الخطيئة الأكبر من أكل تفاحة حسب الشريعة . فمن على سطح بيته فيها ، المبني من خشب الأرز، رأى داود بثشبع الجميلة زوجة المحارب أوريا الحثي تستحم ، فأغوته،فاشتهاها وأرسل من يحضرها له ليواقعها، رغم مئات النساء والسراري لديه ، وليأمر بقتل زوجها ليضمها إلى نسائه لتحمل فيما بعد وتنجب سليمان الأسطورة : مروض الجن ومروع الأمم المولع بالنساء، الموله ببلقيس ملكة سبأ ، والمتمرد على عبادة يهوة! أثارداود غضب يهوة فأعلن " أن السيف لن يفارق بيته وأنه سينزل الشر به ويجعل نساءه تزني بأقاربهن أمام عينيه " فقام أبشالوم بن داود باغتصاب ملك أبيه والإستيلاء على نسائه وسراريه ، كما قام أمنون باغتصاب أخته ثامار شقيقة أبشالوم مما دفع أبشالوم لينتقم من أخيه أمنون بقتله، لتستعر الحرب بين داود وابنه أبشالوم ليقتل أبشالوم معلقا بين أغصان شجرة بطم " *4
مدينة اختلف المؤرخون حول تاريخها بين من أعاده إلى حوالي خمسة آلاف عام وآخر إلى قرابة ثلاثة ألاف عام ..هدمت وأعيد بناؤها ثماني عشرة مرة ** كانت تنهض من دمارها لتحيا من جديد وتبقى رغم أنف جميع الغزاة عبر التاريخ، من كلدانيين وفرس ويونانيين ورومان وصليبيين وإنكليز وإسرائيليين .
*ندبها أرميا في مراثيه " مترنما " بعد الغزو الكلداني ، وكأنه يندب حالها اليوم ، قائلا:
1 كيف جلست وحدها المدينة الكثيرة الشعب كيف صارت كأرملة العظيمة في الأمم. السيدة في البلدان صارت تحت الجزية
2 تبكي في الليل بكاء، ودموعها على خديها. ليس لها معز من كل محبيها. كل أصحابها غدروا بها، صاروا لها أعداء
7 قد ذكرت أورشليم في أيام مذلتها وتطوحها كل مشتهياتها التي كانت في أيام القدم. عند سقوط شعبها بيد العدو وليس من يساعدها. رأتها الأعداء. ضحكوا على هلاكها
8 قد أخطأت أورشليم خطية، من أجل ذلك صارت رجسة. كل مكرميها يحتقرونها لأنهم رأوا عورتها، وهي أيضا تتنهد وترجع إلى الوراء
16 على هذه أنا باكية. عيني، عيني تسكب مياها لأنه قد ابتعد عني المعزي، راد نفسي. صار بني هالكين لأنه قد تجبر العدو
17 بسطت صهيون يديها. لا معزي لها. أمر الرب على يعقوب أن يكون مضايقوه حواليه. صارت أورشليم نجسة بينهم
19 ناديت محبي. هم خدعوني. كهنتي وشيوخي في المدينة ماتوا، إذ طلبوا لذواتهم طعاما ليردوا أنفسهم *5
15 يصفق عليك بالأيادي كل عابري الطريق . يصفرون وينغضون رؤوسهم على بنت أورشليم قائلين: أهذه هي المدينة التي يقولون إنها كمال الجمال، بهجة كل الأرض *6
1كيف اكدر الذهب، تغير الإبريز الجيد انهالت حجارة القدس في رأس كل شارع
4 لصق لسان الراضع بحنكه من العطش . الأطفال يسألون خبزا وليس من يكسره لهم
الذين كانوا يأكلون المآكل الفاخرة قد هلكوا في الشوارع . الذين كانوا يتربون على القرمز احتضنوا المزابل
6 وقد صار عقاب بنت شعبي أعظم من قصاص خطية سدوم التي انقلبت كأنه في لحظة، ولم تلق عليها أياد
7 كان نذرها أنقى من الثلج وأكثر بياضا من اللبن، وأجسامهم أشد حمرة من المرجان . جرزهم كالياقوت الأزرق
8 صارت صورتهم أشد ظلاما من السواد . لم يعرفوا في الشوارع . لصق جلدهم بعظمهم . صار يابسا كالخشب
9كانت قتلى السيف خيرا من قتلى الجوع . لأن هؤلاء يذوبون مطعونين لعدم أثمار الحقل
10 أيادي النساء الحنائن طبخت أولادهن . صاروا طعاما لهن في سحق بنت شعبي
12 لم تصدق ملوك الأرض وكل سكان المسكونة أن العدو والمبغض يدخلان أبواب أورشليم
13 من أجل خطايا أنبيائها، وآثام كهنتها السافكين في وسطها دم الصديقين *7
ويختتم أرميا مراثيه بالقول :
1اذكر يارب ماذا صار لنا . أشرف وانظر إلى عارنا
2 قد صار ميراثنا للغرباء . بيوتنا للأجانب
3 صرنا أيتاما بلا أب . أمهاتنا كأرامل *8
*وفي "ترانيم غوايتها" تغنت ابنة اورشليم بجمالها وسحرها وأسرار محبتها في نشيد الأنشاد:
2ليقبلني بقبلات فمه، لأن حبك أطيب من الخمر
5 أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار، كشقق سليمان
6 لا تنظرن إلي لكوني سوداء، لأن الشمس قد لوحتني. بنو أمي غضبوا علي. جعلوني ناطورة الكروم. أما كرمي فلم أنطره
7 أخبرني يا من تحبه نفسي، أين ترعى ، أين تربض عند الظهيرة. لماذا أنا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك
8 إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء، فاخرجي على آثار الغنم، وارعي جداءك عند مساكن الرعاة
10 ما أجمل خديك بسموط، وعنقك بقلائد
11 نصنع لك سلاسل من ذهب مع جمان من فضة
13 صرة المر حبيبي لي. بين ثديي يبيت *9
2 كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات*10
1 ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة عيناك حمامتان من تحت نقابك. شعرك كقطيع معز رابض على جبل جلعاد
2 أسنانك كقطيع الجزائز الصادرة من الغسل، اللواتي كل واحدة متئم، وليس فيهن عقيم
3 شفتاك كسلكة من القرمز، وفمك حلو. خدك كفلقة رمانة تحت نقابك
4 عنقك كبرج داود المبني للأسلحة. ألف مجن علق عليه، كلها أتراس الجبابرة
5 ثدياك كخشفتي ظبية، توأمين يرعيان بين السوسن
7 كلك جميل يا حبيبتي ليس فيك عيبة *11
4 أنت جميلة يا حبيبتي كترصة، حسنة كأورشليم، مرهبة كجيش بألوية
5 حولي عني عينيك فإنهما قد غلبتاني.
6 أسنانك كقطيع نعاج صادرة من الغسل، اللواتي كل واحدة متئم وليس فيها عقيم
7 كفلقة رمانة خدك تحت نقابك
8 هن ستون ملكة وثمانون سرية وعذارى بلا عدد
9 واحدة هي حمامتي كاملتي. الوحيدة لأمها هي. عقيلة والدتها هي. رأتها البنات فطوبنها. الملكات والسراري فمدحنها
10 من هي المشرفة مثل الصباح ، جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس، مرهبة كجيش بألوية *12
1 ما أجمل رجليك بالنعلين يا بنت الكريم دوائر فخذيك مثل الحلي، صنعة يدي صناع
2 سرتك كأس مدورة، لا يعوزها شراب ممزوج. بطنك صبرة حنطة مسيجة بالسوسن
4 عنقك كبرج من عاج. عيناك كالبرك في حشبون عند باب بث ربيم. أنفك كبرج لبنان الناظر تجاه دمشق
5 رأسك عليك مثل الكرمل، وشعر رأسك كأرجوان. ملك قد أسر بالخصل
6 ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات
7 قامتك هذه شبيهة بالنخلة، وثدياك بالعناقيد
8 قلت: إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها. وتكون ثدياك كعناقيد الكرم، ورائحة أنفك كالتفاح
9 وحنكك كأجود الخمر. لحبيبي السائغة المرقرقة السائحة على شفاه النائمين *13
مدينة الآلام :
في طريق جلجلتها سار يسوع المسيح مترنحا تحت وطأة صليبه ، حاملا آثام البشرية ، ليصلب على تلة من تلالها ، ولينهض في اليوم الثالث من لحده ويصعد إلى السماء .. ومن فوق صخرتها صعد محمد بدوره إلى السماء ليلتقي الله حسب الرواية الإسلامية .
تاريخ القدس تاريخ مخضب بالدماء والدموع وتحولات الشرائع. ولا غرابة إن قيل في الحروب الصليبية أن الخيول كانت تخوض في دماء القتلى العرب في ساحات الأقصى وحارات القدس .
هذه بعض الملامح التاريخية لمدينة الحب والآلام . المدينة التي تقبل كل الصفات والأسماء
بخيرها وشرها ، حسنها وقبحها ، وهذا ما سطرته ليلى الأطرش في روايتها .
عن مدينة الآلهة والأنبياء هذه، مدينة الآلأم والدموع ،كتب بعض الكتاب الفلسطينيين والعرب ،كان آخرهم محمود شقير في روايتيه المتميزتين ( فرس العائلة ) و(مديح لنساء العائلة ) وليلى الأطرش في روايتها ( ترانيم الغواية ) *14 تدخل ليلى خفايا الحارات المقدسية بما لم يفعله كاتب من قبل عبر ذاكرة امرأة ، لنشم بذلك عبق البخور المفوح من حول المحاريب والمذابح مضوعا فضاء المدينة .
سبق وأن كتبنا عن روايتي محمود شقيرفي شؤون فلسطينية عن (فرس العائلة) *15 وفي الإمارات الثقافية عن( مديح لنساء العائلة ) * 16وسنتناول في هذا البحث رواية ليلى الأطرش الممتعة والصعبة في الوقت نفسه .
وبما أننا أشرنا إلى صعوبة الرواية حتى على القارئ المثقف فما بالكم بالقارئ العادي ، سنقوم بلململة خيوط المحور الأساس الذي أقامت ليلى عليه خطابها الروائي في حوالي 300 صفحة ، لتسهيل وصول عالمه إلى القارئ، وهو سيرة حياة ميلادة أبو نجمة بطلة الرواية الرئيسة ، لتروي من خلالها سيرة العائلة ، بل وسيرة القدس لتشمل بذلك جانبا من سيرة فلسطين وبلاد الشام في ما يقرب من قرن من الزمان ، يبدأ من أواخر القرن التاسع عشر .. لنجد أنفسنا في النهاية أمام سيرة مدينة في حياة امرأة ،وإن شئتم تعبيرا أعمق وأشمل : المرأة المدينة ! وسنأتي فيما بعد إلى البناء الفني في الرواية الذي أقامت ليلى عليه صرحها الأدبي .
*ميلادة سالم أبو نجمة ، الملقبة ( ميلادة الحنش ) :
يوم أن كانت الحرب العالمية الأولى تقرع أبواب العالم " كانت ميلادة على صدر أمها يوم مات خالها *17، أعدمه الأتراك بالرصاص لهروبه من الجندية ، أي أنها ولدت مع الحرب الكونية الأولى ،وفي واحد من العامين 1915 أو 1916،وأنها تجاوزت العاشرة يوم الزلزال الكبير "
الذي ضرب البلاد عام 1927 . ( ص182)
ميلادة هي الإبنة الوحيدة لسالم أبو نجمة *18 بعد طفلين هما ابراهيم وحبيب . تزوج سالم المدمن على ركوب البحار والهجرات ، من مريم الضاوي بعد العودة من هجرته الثانية إلى التشيلي ، غير أنه ما لبث أن ترك زوجته وأولاده تحت وطأة العيش ، وخسارته الفادحة لمرج في بلدة عين كارم تمتلكه الأسرة مقابل صفقة حديد مستوردة لمد سكة حديد القدس - يافا ،غرقت في البحر.. فعاد إلى التشيلي ،ليحيا مع عشيقة تشيلية تزوج منها فيما بعد .
قسا الزمن بوطأته على مريم وأطفالها .. وساءت حال الأطفال بعد رحيل الأم بمرض الكوليرا .
جاء في رسالة شقيقها يوسف إلى سالم " رحمة الله عليها ،وصبرنا على فراقها ،وكان في عون أيتامها ،كانت الأب والأم لهم في غيابك ،راحت بالهواء الأصفر " ( ص 93)
عاش الأطفال بعد ذلك في كنف الخال يوسف ، الذي راح يستولي على المصروف الذي يرسله الأب لأطفاله .. ولم تكن زوجته ( أم عوض ) أقل ظلما منه ( تحملوا شتائم امرأة الخال وتبرمها ،وكفاف العيش ،والتعليم الهزيل في مدارس الروم ، وثيابا لا تتغير ) ( صراخ زوجة الخال تجاوز الجدران والأبواب ) ( ص 99)
أراح الخال زوجته من تربية الأطفال بأن أدخلهم مدرسة شنيللر الألمانية شريطة أن يتعهد بتعميدهم على المذهب البروتستانتي حسب طلب المدير الألماني . ظل الخال يماطل للحصول على موافقة الأب في التشيلي ، إلى أن وضعه المدير أمام خيارين : إما توقيع التعهد أو إخراج الأطفال من المدرسة . فاختار إخراج الأطفال .
جاء الفرج لأم عوض بالخلاص من الولدين حين أرسل سالم تذكرتي سفر بالباخرة إلى ولديه ، على أثر رسالة مؤثرة كتبها ابراهيم له :
" وإن لم تسحبنا خلال شهر ، فأقسم بروح أمي أن نمشي أنا وحبيب إلى يافا ،ثم نقطع البحر سباحة ، فإما أن نموت أو نصل إليك .. أما لو عشنا فسنسحب أختنا ميلادة ."( ص100)
وهكذا سافر الولدان ليجدا أن أباهما متزوج من شابة جميلة ولديه طفل وامرأته حامل ، ويعيش في بيت كالقصر ! لم يمكثا كثيرا في كنف أبيهما.. فتسللا إلى أميركا في هجرة غير شرعية في سفينة شحن صغيرة ،وعاشا بضعة أعوام ثم عادا إلى فلسطين . عمل ابراهيم مترجما في مقر المندوب السامي البريطاني .فيما عمل حبيب في محلات أي بي سي البريطانية .
أم عوض رأت في ميلادة كنزا بعد سفر الأخوين إلى التشيلي ، فقررت أن تزوجها إلى ابنها عوض ، قائلة ليوسف :" سيغتني ابنك من خير سالم وأخويها لو تم المراد ،واقرب الغني بتغنى ،وليس بعيدا أن يسحبونا إلى التشيلي .( ص100)
تحققت أحلام أم عوض ، وتزوج عوض من ميلادة .. ابتلع يوسف النقود التي أرسلها سالم من التشيلي لتجهيز ابنته وإقامة عرس لائق لها تفرح به . فتزوجت " في عرس بسيط ... وفي جهازها فساتين قليلة فصلتها خياطة في عين كارم " ( ص105 )
كانت ميلادة تبكي حالها بصمت ، وعرفت متأخرة أن أباها أرسل لها ما يكفي لنفقات عرس كبير .
في يوم الزفاف في الكنيسة أشرقت بوادرترانيم مستقبل مختلف يرسمه القدر لميلادة ..فالخوري الكاهن متري الحداد الذي يقوم بطقوس الزفاف ، والمولود يوم وفاة زعيم الطائفة البهائية ،ويوم تسيير أول قطار بين القدس ويافا في السابع عشر من تموز عام 1892 ، وقف مبهورا بجمال ميلادة وهو يمسك بيد زوجها ليدور بهما حول المحراب ويعلنهما زوجا وزوجة . يقول في أوراقه لابنه رفيق : ( وميلادة تشبهني . فرس شاردة مما يطاردها . جامحة أمام ما تخشى . تنفلت مما يقيدها إلى أكوان بعيدة . رأيت هذا في عينيها فسحبني إلى غربتها .. عيناها حمامتان تبحثان عن لا شيء. طرت وراءهما .. فتهت في عالم لم أعرف طريق عودتي منه ." والعين سراج الجسد ") ( ص 167- 168)
من هنا بدأت " ترانيم الغواية " وبانتهائها سيسدل الستار !
رحلت زوجة الحداد بحمى النفاس بعد أن وضعت ابنها رفيق .. الذي ما أن كبر حتى راح يكره أباه لهيامه بعشق ميلادة فيما بعد ،وعدم تحمله لمسؤولياته الكهنوتية .
تزوج ابراهيم وحبيب من معلمتين أصبحتا مفتشتين في عموم فلسطين. أنجب ابراهيم ابنا هاجر إلى أمريكا . وتبنى حبيب طفلة امرأة يهودية يشك في أنها عاهرة . لم تكن علاقة ميلادة مع أخويها وزوجتيهما على ما يرام ، بل كانت متوترة في معظم الأحيان وخاصة مع حبيب وزوجته .
رحل عوض بانفجارالزائدة الدودية ،فترملت ميلادة قبل أن تبلغ سن العشرين .
* قصة اللقب وفضيحة العشق الحرام !
سبق وأن أشرنا إلى أن ميلادة لقبت ب ( ميلادة الحنش ) ولذلك قصة تداولتها الألسن همسا
وعلانية بعض الشيء :
( خرجت " ميلادة " تتنزه في أحراش دير المسكوب .. داست على حنش تكوم في شمس الربيع ، فهاجمها . تسلق ساقها وطوق خصرها وبدأ ينقبض ويرتخي . قالت لم تره ! معقول؟! على طوله وضخامته؟ أكيد.. العشق بيعمي ! قالت لمزارعين هبوا لصراخها : قتلته وحدي، فلم يصدقها أحد ..ونبع الشك من سكوت الرجال . رفض أي منهم أن يحكي عما رأى . كل ما قالوه بعد إلحاح . الله يستر على ولايانا .. وصلنا ورأسه مسحوق ! لكن من يقتنع أن صبية تقتل حنشا وحدها ؟! يعجز عن هذا رجل بطول وعرض! وبعد الحادثة إذا تحدثت النساء عن ميلادة تغامزن وقلن " الحنش راح والحنش جاء "( ص11+12)
شاعت قصة الحب على الألسن إلى أن بلغت بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية اليوناني ذيميانوس . قرر الحداد أن يترك الكهنوت . غير أنه فوجئ بصد البطريرك قائلا : ( لن تحتمل كنيستنا فضيحة ثانية ، يتحلل كاهنان من الرهبنة من أجل النساء والشهوات ،ستنال الطوائف من سمعتنا ،وكنيستنا ما زالت تقاسي من فضيحة الراهب أشيل، بعد أن فشلنا في السيطرة على رعونته . لن نحتمل فضيحة أخرى " ( ص 152)
وأشيل هذا " أحد رهبان أخوية القبر المقدس ، شاب يوناني وسيم . أديب وشاعر . ترقى إلى أعلى مراتب الكهنوت .أحب صبية يونانية (صونيا) ابنة لأحد تجار المجوهرات . جمالها فريد . ترك عبادته وتبع الصبية في الدروب والأزقة . لم ينتظر قرار البطريرك . قص شعره وخلع ثوبه ،ولزم من يحب " ( ص 153بتصرف)
ومما زاد الطين بلة "أن أرشمندريت روسي في دير المسكوبية في عين كارم أصيب بفالج بسيط. أشرفت على علاجه لمدة طويلة ممرضة عزباء جميلة هي خالة صونيا . واللغط جاوز البلدة . تدارك المسكوبي خطأه بما انقلب فضيحة مدوية . فقد منح الممرضة بيتا موقوفا للكنيسة لتترك الدير . غير أنها حولت البيت إلى خمارة ،ومجلس انس لكبار القدس ، سهر وغناء وكاس وطاس لم تغب صونيا أو أشيل عن ليلة منها " ( 153-154بتصرف)
حاول متري الحداد مقاومة قدره . ترك ابنه في رعاية جدته لأمه "وأبحر يطلب الخلاص في دير بستان العذراء فوق قمة جبل آثوس اليوناني .. متوحد يراقب البحر . زاهد يتعبد لخالقة . يسبح بترانيم الإعجاز صبحا ومساء " ( ص155)
كاد أن يحدث مع الحداد ما حدث مع نيكوس كازنتزاكي خلال اعتكافه في الجبل نفسه وربما في الدير نفسه بحثا عن الله ، (وهذا ما سنأتي عليه فيما بعد ) فقد " سبقت صورة ميلادة رحيله ،وسكنت كهوف تبتله . تجلت في صلاته لوحة على جدران الدير . تعربشت أشجارا تحرس البحر . غطت صفحة الماء " ( ص 155 بتصرف )
" البقاء بين نساك عابدين أثقل صدر الحداد، زهدهم زاد من ذنوبه. عاد إلى القدس ليتحلل من قسم قطعه على نفسه ،فخذلته قدرته" ( ص 155 بتصرف )
أعلن للبطريرك صراحة " أيها المبجل .. نفسي تدفعني إليها وعاجز عن ردعها . سنوات وأنا أقاوم رغبة المعصية ،ولا مجال لاحتمال أكثر، يراودني الإغواء كل لحظة ،وستتحمل ذنبي يا عظيم الإحترام " ( ص 155 )
بعد مداولات" ومشاورات مع رهبان أخوية القبر المقدس ، هداهم الله إلى قرار أملوا أن يكون فيه الخير ، رغم تعارضه مع قوانين الكنيسة ونواميس الشريعة ، وهو السماح بزواج كاهن أرمل لحماية الكهنوت ولدرء خطيئة الزنى ، شريطة أن يقسم الحداد على الكتاب المقدس ، أن يظل الزواج سرا لا يعترف به لأحد ، حتى ابنه"( ص 156 بتصرف )
" ركع متري الحداد أمام ذيميانوس وقبل يده حين وجد نفسه عاجزا عن رفض القرار " ( ص 156 بتصرف )
وهكذا ترنح الكهنوت تحت وطأة الغواية ورضخ للأمرالواقع !
" في دار ذيميانوس تم عقد الزواج ،وكان الإشبينان ( الشاهدان ) عليه مدبرة المنزل وزوجها اليوناني " ( ص 156 بتصرف )
عاش الحداد تحت وطأة معاناة هائلة ، خاصة أمام ابنه " وسط همس الظنون والأقاويل وكتمان الحقيقة .. وكثيرا ما راودته نفسه أن يعترف له، بل وأن يخرج إلى الشوارع صارخا بأنه وميلادة زوج وزوجة ، غير أن قسمه كان يردعه " ( ص 156-157 بتصرف)
" لم يكن خالصا لها يوما .. لكنها تغض الطرف عن غيابه .. بلا عتاب أو لوم تحتضن عودته . تلم اغتراب روحه وتهدهد قلقه .لم تطالب بوقت لا يعطيه . تمسح لهفتها الحرج عن غيابه ..وهي الجميلة بين النساء .. المتفردة باللهفة إليه . تحملت شك العيون ،وحرقتها ألسنة السوء دون تذمر أو اعتراض" ( ص 159 بتصرف )
في إحدى رسائل الإعتراف لإبنه لم تصل إليه كونه مات قبله . يقول متري الحداد عن القدس المدينة " القدس أضاعتنا لأنها تشبهنا . مدينة مثلنا بوجهين . دروبها العتيقة تصل أبواب الخلاص . تنشد الغفران في كنائس وأديرة ومعابد وزوايا ومساجد وكنس وتكايا .. وتفتح أبواب سورها على ملذات تقود إلى ضلال.. " ( ص 157)
هذا عن حال متري مع ابنه وميلاده والقدس، فماذا عن حال ميلادة ومعاناتها في ظل هذا الزواج السري ، الذي لا أذكر أنني قرأت مثيلا له في الأدب رغم كثرة ما قرأت ، فجاء معبرا بمنتهى الصدق عن واقع مدينة ظاهرها ايمان وباطنها غواية وضلال ولو من منظور الشريعة الي تكللها برموزها !!
تقول ميلادة من قلب أثقله الحزن " الدنيا كانت قاسية . وأنا قبلت قسوتها علي وبخلها ..استكثرت سعادتي معه فأعطتها بشروط صعبة ، حرمتني حتى فرحة الأشياء البسيطة ، أن أستقبله وأودعه عند الباب .أحضر له ما يحب . أن تختلط روائح ثيابنا في خزانة واحدة . أن يرى الجيران ملابسه على حبل غسيلي. أعاتبه وأغضب إن تأخر . كان يغيب ولا أعرف متى يعود . يقولون الإنتظار يجدد اللهفة ، لكنه متعب .. تصوري ! أنا لم أدخل داره ،حتى يوم مات رفيق لم أذهب للعزاء .. خفت أن تطردني زوجته ،ومن نظرات الإتهام في عيون النساء . حتى وهو ميت وقف يمينه ( حال قسمه ) بأن يظل الزواج سرا بيني وبين تابوته ، حرمني أن أرتمي فوقه وأبكي وأنوح مثل أرملة " ( ص 286) ( لم أستطع كبح دموعي خلال قراءة وكتابة هذا المشهد )
تقص ميلادة لحظات من لقاء جمعها بالحداد :
" بعد انتهاء عزاء ابنه جاء . دموعه بللت حضني . وابنه مثله مات بلا إشارة أو مرض . نام وما قام . قال : يا ميلادة ، أنا والدنيا ظلمنا رفيق . عاش ومات غريبا ويتيما : قلت : أنا اليتيمة . رفيق عاش تحت جناحك ، لم تبخل عليه بشيء . فبكى واهتز مثل ريشة وقال : أبوك هاجر إلى بلاد بعيدة . بينك وبينه بحر ومراكب وسفر . وبيني وبين رفيق بحر من الجفاء والبعد ونحن تحت سقف واحد. ليست الغربة بعد البلاد . الغربة بعد الأرواح "( ص 287)
*كل من أحبتهم أو عايشتهم ميادة رحلوا .
رحل الأب سالم في الغربة . جاء نبأ رحيله في رسالة من زوجته التشيلية . تقول : إن الله أخذ وديعته . مات فجأة فدفنته في مقابر عائلتها. اطلبي له الرحمة يا ميلادة وسامحيه . كان يعرف أنه قصر في حقك ويتعذب " (ص 103)
ورحل الحداد فجأة .. عاش تائها بعد موت ابنه " كل من أحبتهم ميلادة رحلوا دون أن يفكروا بها ، حتى الحداد دمره موت رفيق فلحق بابنه وتركها .. لم يفكر بأنها ستعيش تائهة من بعده .. علمها الحياة ثم راح .. اختفى فجأة بلا إنذار ،اهتزت الدنيا وطوحت بها مثل زلزال لا يتوقف .. رأسها يلف ولا تدري ماذا تفعل بنفسها .. تركها فأحست أنها غريبة عن حالها . حياتها معه غيرتها فلم تعد هي .بعد موته لم تعرف على أية صورة ستكون ليقبلها من حولها ... في حياته لم تكن في حاجة لأحد ،وبعد موته صارت وحدها " ( بتصرف ص 288و 287)
" عارفه شو يعني وحدي ؟ كان لا يمل ولا يتوقف عن تعليمي وتدليلي ونحن نلف البلاد .. ثم فجأة اختفى .. مات " ( ص 288)
******
هذا بعض ما حصلت عليه المخرجة السينمائية الشابة راوية بنت عيسى من شتات ذاكرة قريبتها العجوز وهي تقاوم الزهايمر على أعتاب الثمانينات بإرادة لا تلين ، لتبدده على مدار ما يقرب من ثلاثمائة صفحة ، مختلطا بوقائع سياسية واجتماعية وإقتصادية وصراعات دينية بين طوائف وأمم وعائلات ..لأقوم بلملمة بعض ما يتعلق منه بحياة ميلادة أبو نجمة ، لأسهل فهم النص على القارئ .
سأنتقل الآن إلى المضمون الفكري في الرواية الذي بني على فهم فلسفي للروائية بنت عليه وقائع روايتها لتخرج برؤية تنسجم مع رؤيتها لكل ما يحيط بالواقع الإنساني . تاركا الحديث عن المعمار الفني في الرواية إلى الآخر إذا ما أتاح المجال لنا ذلك . دون أن نغفل ما علّقت به وأوردته حتى الآن عن هذه الخلفية الفلسفية القائمة على مكابدات الروح في مواجهة رغبات الجسد ، أو الكهنوت في مواجهة الطبيعة الإنسانية والصراع القائم بينهما .
* المضمون الفكري في الرواية .
لسنا في حاجة إلى الكثير من التفكير لنرى خيوط الصراع الأممي الدائر على الساحة المقدسية الفلسطينية ، فكل أمة تريد أن تثبت وجودها في مدينة الله لتكون على مقربة منه واتصال به . . يونانيون . مسكوب . فرنسيون . ألمان . انكليز . يهود . عرب . مسلمون ومسيحيون بطوائف متعددة . كنائس ،معابد ،كنس ، تكايا ، صوامع ، جماعات ، زوايا.. والسر في كل هذه الفانتازيا السريالية هو سر وجودي يتعلق بالخالق . فكل طائفة تريد أن تثبت ارتباطها به حسب مفاهيمها له التي لا يطالها الشك ، فهي حقائق مطلقة غير قابلة للشك على الإطلاق . . فالصراع صراع ديني يأخذ لبوسا سياسيا في بعض الأحيان ، يشمل كافة مناحي الحياة الإجتماعية . نشكر الله أن ديانات الهنود والصينيين ليست سماوية ، ولولا ذلك لكنا الآن واقعين تحت وطأة صراعات أعقد بكثير مما هو قائم حاليا في مدينة السماء وحولها .
يا لهذا الحظ الذي جعل من بلادنا مصدرا لعقائد أكثر من نصف البشرية . وبدلا من أن تحتفي البشرية بنا كوننا مصدرين لعقائد وغير مستوردين ، راحوا يزاحموننا على عقائدنا بذريعة حمايتها بدءا من الحروب الصليبية وانتهاء بالزمن الحاضر الذي تحاول اسرائيل فيه إحياء عقيدة مر عليها قرابة ثلاثة آلاف وخمسمائة عام وتستولي على وطن متذرعة بها .
هذا في الظاهر ، فماذا عن الباطن في واقع الحياة اليومي ، هل علاقة هؤلاء البشر وبكافة فئاتهم ، من مسلمين ومسيحيين ويهود ، تخضع لنواميس شرائعهم ؟! هذا ما لا نلمسه في الرواية وبشكل شبه مطلق . وإن حدثت هبات سياسية نتيحة لواقعة دينية قام بها طرف ما أو طائفة ما ، فهي لا تأتي في حقيقتها للدفاع عن دين بقدر ما تأتي للدفاع عن تراث لا غنى عنه لكل فئة. تراث يشكل مقومات شخصية رغم كل سلبياته ، دون أن يعني ذلك تقيدها بشرائع دينية . كعاهرة أو زانية مسلمة أو مسيحية أو يهودية تتمسك بحقها في ممارسة الدعارة والزنى في الوقت الذي تدافع فيه عن دينها كأحد أهم مقومات شخصيتها .
ثمة شخصيات كثيرة في الرواية ومن كافة الطوائف الرئيسة الثلاث تمارس ما يخالف نواميس الشريعة ..وتأتي قصة الأب متري الحداد وميلادة لتتوج مجموع هذه التناقضات الإجتماعيىة ، طارحة أعقد المشاكل الإنسانية مع الشريعة ، وهي العلاقة بين متطلبات الروح ورغبات الجسد ، أو الشرائع الدينية والحاجات الإنسانية الغريزية التي تظن بعض الشرائع أن هذه الأخيرة لا تحمل بعدا روحيا .. رغم أن الآداب البشرية طرحت هذه المسائل منذ القدم ،وبعد أن انتهى عصر الألوهة الأنثوية غير المنزلة من السماء ، الذي قدس الغريزة الجنسية وقدس حتى دم الطمث والولادة، ولم يعتبره دنسا ، في عقائد بابل وسومر وغيرها ( حيث لم تكن قوانين التحريم سائدة ، فكان الفراعنة يتزوجون حتى من اخواتهم ،كزواج ايزيس من اوزيريس ) ، ليحل محله عصر الألوهة الذكورية الذي توج بظهور الإله اليهودي وما بعده . فمعظم ملوك وأنبياء وأبناء بني اسرائيل مارسوا الزنى بكافة أشكاله ، حتى مع المحارم كمواقعة ابنتي لوط لأبيهما ومواقعة أمنون بن داود لأخته ثامار ، وغير ذلك كثير .. وهذا اوديب في الملحمة الإغريقية يحاول الهروب من قدره دون جدوى، ليتزوج من أمه لتنجب منه ، وهو الشخص الوحيد في تاريخ الأدب البشري الذي عانى من الإثم إلى حد قلع عينيه، فيما شنقت أمه نفسها ..
ولو عدنا إلى بداية صحوة الفكر الإنساني لوجدنا جوته في فاوست يطرح الجنس كحاجة غريزية روحية لا غنى للإنسان عنها . فيعشق جرتشن ويحضر له مفستوفليس( الشيطان ) هيلين الطروادية رمز الجمال الأوروبي ، ليتزوج منها وينجب ابنا ،وحين يموت فاوست نجد الملائكة تحف بروحه وتصعد بها إلى السماء لتستقبلها مريم العذراء بينما يذهب جسده مع التراب في المطلق الأزلي ! *19
لقد قدم جوته أول فهم إنساني رحماني لعلاقة الإنسان بالإله ، وحاجة الإنسان إلى تلبية غرائزه دون تشريع ينزل من السماء أو شأن للإله به ، أو حتى بالشرائع الدنيوية كلها ، ليقدم إلها محبا يسمو فوق الشر والعذاب . لا يمكن لعقل نابغ أن يتصور إلها يعذب . فالدول والحكومات ، أي الإنسان هو الموكل بهذه المهام، لوضع قوانين ودساتير وغيرها تسير حياة الإنسان بما يلبي احتياجاته كلها ، التي تظل العلاقة بالخالق دونها ناقصة . فلا يعقل أن يكون الخالق قد وضع غرائز في الإنسان ليقوم الإنسان بالحد منها أو قتلها ، بما يخالف نواميس الخالق نفسه .
وهذا دوستويفسكي في ( الجريمة والعقاب ) يجعل راسكولنيكوف يسجد أمام العاهرة سونيا معلنا لها أنه يسجد أمام عذابات البشرية . لم ير راسكولنيكوف عهرا في شخص سونيا بل عذابات وآلام .
وهذا نيكوس كازنتزاكي في مذكراته يعلن أنه أمضى عمره في البحث عن الله ، فذهب إلى فلسطين وإلى مصر . كان كلما التقى راهبا سأله عما إذا رأى الله ، فلم يجد أحدا رأى الله . غير أن راهبا في دير سان كاترينا أسر له بسر معلنا أن الشريعة لم توفق بين الروح والجسد ، فقتلت الجسد لصالح الروح ! وربما لهذا لم ير أحد الله !! وحين عاد كازنتزاكي إلى اليونان
اعتكف في دير في جبل آثوس ،وفيما كان نائما ذات ليل أيقظه راهب من رهبان الدير ليهمس له أنه رأى الله . هب كازنتزاكي بكل حواسه ليسمع القصة . قال الخوري ما معناه :
( أرسله القائم على الدير ليساعد الفلاحين في موسم الحصاد وليجمع حصة الدير من غلال الحنطة . حين وصل إلى حقل حصاد رأى امرأة ترضع طفلا .. لم يكن الخوري قد شاهد نهدا في حياته،ربما غير نهد أمه الذي أرضعه ومحته الذاكرة . صرخ بالمرأة أن تختشي من الله وأن ترضع ابنها بعيدا عن أعين الناس . امتثلت المرأة واتخذت مكانا جانبيا . في المساء افردت غرفة للراهب لينام فيها . .لم يفارق النهد مخيلته . رآه في ضوء اللمبة . وحين أطفأها راى النهد يضوي فيها ! جاءت له المرأة نفسها بطبق العشاء .. وحين عادت لتأخذ الطبق وجدت أنه لم يأكل .. هتفت له قائلة : إن لجسده عليه حق كما أن لله عليه حق . قاصدة أن يأكل .. تكرر الأمر في اليوم التالي .. وحين استدارت المرأة ببطء لتخرج من الغرفة . فوجئت بالراهب يثب عن سريره ويأخذها من كتفيها ويطرحها على السرير ويشرع في مواقعتها .. وينهي الراهب حديثه لكازنتزاكي قائلا : ( وفي ذلك الصباح شاهدت الله ،كان يقف فوق سريري ) *20 لم تتم رؤية الله إلا عبر ما تعتبره الشريعة خطيئة . وبهذا ربط كازنتزاكي بين التواصلين الروحي والجسدي ، السماوي والدنيوي، ليشكلا وحدة لا تنفصم للوصول إلى المحبة الإلهية المطلقة ،وربما الذوبان فيها عبر المواقعة بحد ذاتها كطقس يشكل تواصلا مقدسا مع السماء !
وإذا ما انتقلنا إلى الأدب الحديث جدا سنجد أن بطل اسم الوردة ( داسو) ل امبرتو إيكو، وبطل عزازيل (هيبا ) ليوسف زيدان،لم يستطيعا كبح رغباتهما الجنسية رغم أنهما راهبان، فالأول مارس الجنس مع فلاحة في الدير ليشعر بطمأنينة وراحة نفسية ،والثاني ما رسه مع وثنية( اوكتافيا ) في الإسكندرية ومن ثم مع (مارتا) في الدير الحلبي.
الراهبان مارسا خطيئة الزنى . والراهبان انتهيا إلى الحرية ،وإن كانت حرية آدسو ذهابا في المطلق " وستنسى ( روح آدسو ) كل الفوارق . سأكون في الآس المجرد وفي الصحراء الصامتة ، التي لم ير فيها أبدا اختلاف ، وفي الجوهر الذي لا يجد فيه أحد نفسه في مكانه ، سأسقط في الألوهية الصامتة واللامسكونة ،حيث لا عمل ولا صورة " ( ص 538 )
إنه الذهاب في المطلق الذي تحدث عنه جوته . و قد يقصد به الطاقة السارية في الخلق .أما هيبا فقد ترك الكهنوت إلى غير رجعة لعدم اقتناعه به :
" ولسوف أدفن معه ( المخطوط ) خوفي الموروث وأوهامي القديمة كلها ، ثم أرحل مع شروق الشمس حرا " ( ص 368)
هذا بعض أهم ما تجلى في " ترانيم الغواية " الصراع بين الروح والجسد . الروح كرابطة تصل الإنسان بالخالق ، والجسد كنظام غريزي يصل الإنسان بشقه الآخر( أنوثة وذكورة ) ، لخلق حالة توازن روحية بين الإنسان والخالق ، يظل الإتصال دونها ناقصا . لم نر في سلوك الأب الحداد ما يشيرإلى أن الله تخلى عنه بعد زواجه المخالف للتشريع الكهنوتي ،وخاصة بعد أن تخلص من الصراع الذي كان يمور في دخيلته قبل الزواج ، فنرى أن علاقته بالخالق قد توطدت أكثر حين أوكل أمره إلى مشيئته " الرب نوري وخلاصي ممن أخاف ؟ الرب حصن حياتي ممن أرتعب " حتى أنه حمل البطريرك اليوناني المسؤولية إذا لم يتم الإذعان له :"يراودني الإغواء كل لحظة وستتحمل ذنبي يا عظيم الإحترام " لقد أصبح الذنب عدم تلبية رغبات الحداد في حب ميلادة،وليس العكس !( وهنا يكمن فكر ليلى الفلسفي،لا سبيل للنجاة إلا بالحب ولو أدى الأمر إلى الإنعتاق من حضن الكهنوت ) لذلك جاء هذا الحل التوفيقي الذي اتخذه رهبان أخوية القبر المقدس للإحتفاظ بكهانة الحداد وعدم التفريط بعشقه .
قصص العشق المخالف للشريعة تحدث مع أكثر من شخصية من شخصيات الرواية ، فعدا ما أوردناه من قصة الراهب أشيل وقصة الأرشمندريت المسكوبي ، هناك سالم أب ميلادة الذي كان عاشقا لتشيلية رغم أنه متزوج ، وحبيب شقيقها ثمة شك في علاقة تربطه مع الجارة اليهودية التي ادعى أن ابنتها ندى هي ابنته من زوجته .. وأب الحداد نفسه هاجر إلى بلاد المسكوب سعيا وراء صبية روسية جميلة عشقها " فضاع في بلاد البلشفية " بعد الثورة . وعن المسلمين فحدث ولا حرج ، ففخري النشاشيبي أسكن عشيقته اليهودية في " البيت الأحمرالوقف التابع للجمعية الروسية ، بعد أن منحه إياه الأرشمندريت الروسي ، على أثر خلافه مع الكنيسة اليونانية بزعامة ذيميانوس .
هذه بعض الوقائع شبه الخفية في حياة سكان مدينة السماء .
يتجلى موقف ليلى النقدي لهذا الواقع في أكثر من قصة وواقعة في الرواية ، عدا عن إحاطتها بالتاريخ السياسي للمدينة .. في موقف آخر وخلال مشاهدة فيلم شمشون ودليلة على التلفاز تتحدث عن التحريف الذي أجراه منتجو الفيلم على قصة شمشون ودليلة ، ليظهروا الفلسطينيين قساة القلوب يقتلون ابنتهم لأنها تزوجت من يهودي ، مع أن حقيقة القصة غير ذلك . *21
* المعمارالفني في الرواية :
لا شك أن ليلى وظفت خبرات سردية اكتسبتها من قراءات مختلفة لنصوص أدبية عربية وعالمية لتقيم صرحها الروائي بخصوصية متميزة . فلجأت إلى مخرجة سينمائية (راوية ) ترغب في انتاج فيلم يحقق طموحا عالميا لها . فقررت الذهاب إلى القدس للقاء قريبة مسنة لها ( ميلادة ابو نجمة ) تحوي ذاكرتها الكثير من الأحداث التاريخية المقدسية لحياة أسرة "أبو نجمة " ونظرا لأن ميلادة مسنة وتجهد لمقاومة التخوف من إصابتها بالزهايمر أو استفحاله بها ، فقد تركت لها حرية إيقاظ ذاكرتها كما تشاء مستعينة ببعض الحبوب المنبهة والمنشطة . لذلك جاء الشكل الفني مستندا إلى تداعيات الذاكرة . فالعمة ميلادة ، تستيقظ ذاكرتها أحيانا على حدث موغل في القدم من أيام الطفولة ،وأحيانا على حدث أقرب منه زمنيا . وهذا ما قررت الكاتبة استغلاله لبناء خطابها الروائي،مما أتاح لها إدخال متحدثين وساردين آخرين تخللت رواياتهم ذكريات العمة ميلادة ، عدا أنه أتاح للمخرجة التحدث بدورها والدخول كساردة أيضا لبعض الوقائع ،مستعينة بوثائق تاريخية أدخلتها في متن النص المسرود ، ليشكلا وحدة سردية متماسكة تنهض بخطاب روائي رفيع ومتميز . ومن هنا جاءت صعوبة النص على القارئ العادي ( وخاصة في نصفه الأول ) الذي يبحث عن نص يسليه ولا يشغل عقله . فقد بدا النص كلوحة فسيفسائية ترصّع قطعة قطعة لا يمكن فهمها دون رصع جميع القطع . وحتى هذه العملية لن تكون سهلة على القارئ العادي ، كما لم يكن سهلا علي جمع مقتطفات من متفرقات حكائية متناثرة وردت على لسان العمة ميلادة . لأسرد قصتها بشكل شبه متسلسل . وقد ساعد هذا الأسلوب اللعب على تجاوز وطأة الزمن الواقعي ، لنجد أنفسنا امام زمن روائي يحتويه بفنية عالية . ولا شك أن تجاوز الزمن يشكل عبئا على الفنون الدرامية كلها وخاصة تلك التي تجري أحداثها عبر عقود أو قرون ..
لم تلجأ الكاتبة إلى إيراد الوثائق التاريخية ضمن حواش أسفل الصفحات كما فعل ابراهيم نصر الله في بعض الوثائق في "زمن الخيول البضاء" و" قناديل ملك الجليل "وحتى ايرادها ضمن النص لم يشعرنا أنها وردت كما هي بالضبط ،مما بدا واضحا أنها استلهمتها وأعادت صوغها روائيا لتنسجم مع المعمار الفني الذي اختطته .
تطعيم المسرود الشعبي سواء على لسان العمة أو غيرها بمفردات شعبية أو مفردات أعجمية ( تركية ) ساعد على رسم صورة الشخصية والزمن المسرود عنه . وقد حافظت الكاتبة على لغة سهلة رفيعة خالطتها شاعرية شفافة في بعض أحاديث العمة عن آلامها ورسائل متري الحداد إلى ولده رفيق ، وخاصة حديثه عن ميلاده ولوعته وولهه بحبها .
وصف بيوت المدينة وأحواشها وحاراتها وأزقتها وما حوته من كنائس ومعابد ومساجد وأديرة ،وغير ذلك ، جعلنا نستشعر وجود القدس حقيقة لا وهما .
تطرقت الكاتبة إلى العديد من الوقائع التاريخية السياسية كاشفة الكثير مما كان مجهولا لدى الناس، وخاصة في ما يتعلق بغباء السياسة العربية.
أخيرا يمكن القول بثقة إن ليلى الأطرش قدمت صرحا أدبيا رفيعا ومميزا وفريدا ليس في تاريخ القدس فحسب ، بل في تاريخ الأدب الفلسطيني ـ الأردني ، لم يسبقها إليه أحد ، ولم يبلغ مستواه أحد أيضا ، متمنيا لها دوام الخلق والإبداع .
م.ش.
كاتب ومفكر فلسطيني أردني .
*********************
** شؤون فلسطينية العدد 260 حزيران 2015
* نورد هذه المعلومات دون اعتمادها كنص وثائقي تاريخي حقيقي .
*1تاريخ مدينة القدس . الموسوعة الحرة ومواقع أخرى على النت .
*2همسات فلسطينية . نت . ومواقع أخرى على النت.
*3 الإسم المميز للإله في المفهوم اليهودي .
*4 راجع الكتاب المقدس . سفر صموئيل الثاني . الإصحاح الثامن وما بعده .
** راجع همسات فلسطينية والموسوعة الحرة ومدينة القدس تاريخيا على النت .
*5 مراثي ارميا الإصحاح الأول .
*6 مراثي أرميا الإصحاح الثاني
*7 ( من 1 إلى 13 ) مراثي أرميا الإصحاح الرابع .
*8 (1-2-3-) مراثي أرميا الإصحاح الخامس.
*9 نشيد الأنشاد الذي لسليمان . الإصحاح الأول .(2-15)
*10 المصدر نفسه الإصحاح الثاني.
*11نفسه .. الإصحاح 3 ( من 3-7)
*12 نفسه الإصحاح 4 ( من 4 – 10 )
*13 نفسه الإصحاح 7( من 1- 9)
*14 ترانيم الغواية . ليلى الأطرش . منشورات ضفاف . 2014 . الطبعة الأولى . 294 صفحة.
*15 البطولة الجماعية في فرس العائلة . محمود شاهين . شؤون فلسطينية . عدد مزدوج 253+254
*16 الشكل والمضمون في مديح لنساء العائلة . محمود شاهين .مقال أرسل في آذار الماضي ل ( الإمارات الثقافية ) ولا أعرف إن نشر في عدد نيسان الحالي ،خلال كتابة هذا البحث .
*17 لا أعرف إن كان هذا سهوا من المؤلفة أو إشارة إلى خال آخر لميلاده لم يذكر اسمه. فالخال يوسف عاشت ميلاده في كنفه إلى أن أدخلها مع أخويها مدرسة الأيتام الألمانية (شنللر ) ومن ثم طردوا منها لعدم تعميدهم كبروتستانت حسب طلب المدير الألماني . واحتفظت زوجة المدير بميلادة لتساعدها في أعمال البيت ، ولتتعلم "الطهي والكعك والتطريز " ( ص100) ثم إن يوسف عاش إلى ما بعد زواج ميلادة من ابنه عوض.
*18 الأسماء أينما ترد لا يشملها النحو .
*19 لمن يرغب في الإستفاضة يمكنه مراجعة بحثنا على النت " أيوب التوراتي وفاوست جوته "
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=448863
كذلك يمكنه مراجعة بحثنا ( ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة )
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=462123
* 20 سقت القصة من الذاكرة وبإسلوبي لعدم توفر المصادر لدي . والأمر نفسه ينطبق على القصص التي لم أشر إلى مراجعها .
*21 يمكن مراجعة بحثنا على النت " دليلة الغزاوية تقص شعر شمشون "
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=456539

(9)
عزازيل : صراع الكنائس حول طبيعة المسيح وتمرد الجسد على قيود الشريعة !
* البطش والسحل لإعلاء مذهب على آخر .
* زيدان يعتمد بناء " اسم الوردة " لتأليف روايته
محمود شاهين
بين يدي الطبعة الثانية والعشرون من رواية عزازيل وهي صادرة عام 2011،ولا شك أنها قد تكون الرواية الوحيدة في الأدب العربي التي نالت هذا القدر من إعادة الطبع .
تدور أحداث الرواية في مصروسورية وفلسطين أوائل القرن الخامس الميلادي ، مع بداية تأجج الصراعات بين المذاهب المسيحية الناشئة حول طبيعة المسيح ، فهل هو الله أم ابن الله أم تجل لله في إنسان ، أو أحد أضلاع الأقنوم التي تشكل الألوهة : الآب والإبن والروح القدس . فثمة من كان يرى أن مريم العذراء هي أم للمسيح وليست أما لله ، فالله لا أم له ولا أب ولا ولد أيضا ، رافضا أن يكون الله أحد ثلاثة أو أنه يتشكل من أقنوم ثلاثي ! وقد ظل هذا الصراع محتدما لأكثر من ألف عام بعد ذلك إلى أن أودى بحياة الملايين من البشر ، ولم يتوقف إلا بعزل الدين عن الدولة في أوروبا .
كما تتناول الرواية صنوف الإضهاد والقتل الذي تعرض له أتباع العبادات الأخرى من وثنية ويهودية على أيدي المسيحيين الأوائل . ففي خمس صفحات يصف يوسف زيدان ببراعة مشهد سحل وحرق عالمة الرياضيات والفلسفة في الإسكندرية هيباتيا . ومما جاء فيه :
" .. وجروا هيباتيا بعدما صارت قطعة، بل قطعا ، من اللحم الأحمر المهترىء،عند بوابة المعبد المهجور الذي بطرف الحي الملكي البرخيون . ألقوها فوق كومة كبيرة من قطع الخشب ، وبعدما صارت جثة هامدة .. ثم .. أشعلوا النار .. علا اللهب وتطاير الشرر،وسكتت صرخات هيباتيا ، بعدما بلغ نحيبها من فرط الألم عنان السماء .. " (ص 159)
المحور الثالث الذي تتناوله الرواية هو مكابدات الجسد في مواجهة قيود الشريعة
التي تحد من الجنس بل وتصب جام غضبها على المرأة وتنشد الإبتعاد عنها والدخول " في الرهبنة حيث الطهر والصفاء وهجران للدنيا الفانية ، ومن أهم علاماتها العزوف عن النساء " جاء في الرواية عن يسوع المسيح :
" من استطاع أن يحتمل عدم الزواج فليحتمل !" وقول بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثه " حسن للرجل أن لا يمس امرأة " ( ص 221)
واضح أن زيدان يطرح أسئلة جوهرية حول هذه المفاهيم الدينية ،متسائلا عن مبررات كل هذا الكره للمرأة ، ومخالفة طبيعة الخلق في ممارسة الجنس
والتكاثر. خيار الكبت هذا لا يصمد أمامه بطل الرواية الراهب الشاب هيبا ، في أول فرصة في حياته لممارسة الحب مع اوكتافيا :
" كانت طريقتها أن أريح خدي الأيمن على نهدها الأيسر ، حتى يلتصق شق وجهي بنعومة صدرها الممتلىء..لم أشعر قربها بخطر الخطية ، وإنما شعرت بأنني أغوص فيها وأنسى ما عداها " ( ص 82)
ولم تكن الفرصة الثانية مع الشابة مرتا إلا امعانا في اقتراف متعة الخطيئة مع فتاة
كان هيبا يراها أجمل فتاة في الدنيا :
: " لمست صدرها بباطن كفي، عصرت بيديها يدي ، فعصرت ما تحتهما . لحظتها ،اندفقت أنهاري الكامنة كمثل شلال آت من أزمنة سحيقة ليروي أرضا تشققت جفافا عشرين عاما .. ارتجفت مرتا تلك الرجفة التي عاينتها قبل عشرين عاما في قبو النبيذ .. " ( ص 310)
ولم يتوقف الأمر على اقتراف هيبا للخطيئة .. فقد صادف في إحدى رحلاته شابا اعترف له بفظائع لا يمكن تصديقها . فقد مارس الشاب الجنس مع الماعز ومع أمه ومع أخته ، وقد حملت أخته منه .. هرب هيبا من الشاب الذي راح يلاحقه باعترافاته المخيفة ، ظانا أنه عزازيل ( الشيطان ) وقد حضر له في شخص الشاب .( 257- 258 )
يحضرني هنا كازنتزاكي في مذكراته ، حيث أمضى عمره في البحث عمن رأى الله ، إلى أن عثر في دير على راهب اعترف له أنه رأى الله يقف فوق سريره في صبيحة اليوم الذي مارس فيه الزنى مع امرأة فلاحة . فالتواصل مع الله يتم عبر ما يعتبر خطيئة في نظر الكنيسة !!
الشيطان ( عزازيل ) الذي حملت الرواية اسمه والذي يظهر كبطل في أعمال أدبية كثيرة كفاوست وغيرها وخاصة النصوص الدينية ، يقدمه زيدان في روايته كصنو لشخصية هيبا لا ينفصل عنها فهو جزء من دخيلته الباطنية . وكثيرا ما يتحاور معه أو يقطع تأملاته .
تطرح الرواية أسئلة فلسفية ووجودية عميقة عبر تأملات وحوارات مختلفة ، تستند إلى ثقافة زيدان الثرية .
تنتهي الرواية بأن يترك هيبا الرهبنة ويعود إلى حريته ليعيش الحياة بجمالها :
" ولسوف أدفن معه ( المخطوط ) خوفي الموروث وأوهامي القديمة كلها ، ثم أرحل مع شروق الشمس حرا " ( ص 368)
*البناء الفني في الرواية :
لا شك أن يوسف زيدان يحمل ثقافة تاريخية غنية كما أسلفنا فهو باحث بالدرجة الأولى في تاريخ الأديان والعقائد والأساطير وكان دخوله إلى عالم الرواية متأخرا نسبيا ، وربما شعر آنه في حاجة إلى ثقافة في فن الروي ، تمكنه من تأليف خطاب روائي متين ، وربما فكر في ما حوته ذاكرته من أساليب وفنون الروي ، وربما بحث ، إلى أن وجد أن أسلوب " أمبرتو ايكو " في "اسم الوردة " هو الأفضل لديه ، فاتبعه . اتبعه إلى حد تقصي خطواته في بعض الفصول . فقد اختار أن يستند إلى ترجمة مخطوط قديم كما عند إيكو..
تتبع الأسلوبين في الكتابين يحتاج إلى دراسة خاصة لمعرفة كيف أفاد زيدان من نص إيكو. لكن في الإمكان إيراد الملاحظات التالية .
البطلان في الروايتين راهبان شابان مع بعض الإختلافات في عملهما . ولكل منهما أستاذ أو عالم قدوة .
الراهبان دونا الوقائع التي عاشاها حول صراعات المذاهب الكنسية . الراهبان بدءا نصيهما بالتطرق إلى المخطوطين الأصل . الراهبان مارسا خطيئة الزنى . الراهبان انتهيا إلى الحرية ،وإن كانت حرية آدسو ذهاب في المطلق " وستنسى ( روح آدسو ) كل الفوارق . سأكون في الآس المجرد وفي الصحراء الصامتة ، التي لم ير فيها أبدا اختلاف وفي الجوهر الذي لا يجد فيه أحد نفسه في مكانه ، سأسقط في الألوهية الصامتة واللامسكونة ،حيث لا عمل ولا صورة " ( ص 538 )
المؤلفان قدما نفسيهما كمترجمين للنصين . المؤلفان يحملان فكرا فلسفيا وإن كان الفكرالذي يحمله آدسو أشمل وأعمق ولا يخلو من غموض أحيانا .. المؤلفان أرادا إدانة التاريخ الذي يكتبان عنه ، من أجل ما هو أفضل .
وسأتطرق إلى البداية عند الكاتبين :
يمهد إيكو للشروع في روايته بنص ديني :
" في البدء كان الكلمة ،والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله .. " (ص 29)
ويبدأ زيدان تدوينه بابتهال ديني :
" الرحمة يا إلهي الرحمة والعفو يا أبانا الذي في السموات .. " ( ص 13 )
يسعى إيكو للتقرب إلى الله من تدوينه :
" أنتظر أن أغيب في فضاء الألوهية اللامتناهي والصامت لأتحول إلى نور يستمد
نوره من الملائكة " ( 29 )
ويسعى زيدان للتقرب إلى الله كذلك :
" وكنت أنوي أن أدون فيها ابتهالاتي التي تقربني إليك " ( 13 )
وبتتبع النصين يمكن اكتشاف التشابه في التناول مع اختلاف اللغة والوقائع ، فلغة النص تبدو أحيانا عند زيدان أقوى وأقرب إلى النفس من لغة الترجمة إلى العربية في نص ايكو. الذي لا شك هو نص كبير ،ويحوي فصولا غاية في الدهشة والإمتاع ،وقد يكون لنا معه وقفه في مقالة لاحقة .
م. ش.
(10)
ماذا فعلت بعلاء الأسواني في " نادي السيارات " *
* تركته مع الخدم في النادي ورافقت صالحة وكمال!
حين أفرغ من رواية فارعة الطول كروايات ابراهيم نصر الله وخاصة " قناديل ملك الجليل "
و" زمن الخيول البيضاء " أو رواية رجاء عالم " طوق الحمام " أو رواية واسيني الأعرج
" أصابع لوليتا " أو رواية امبرتو ايكو " اسم الوردة " أهمّ في البحث عن رواية جديدة وأنا أتمنى ان لا تكون من المطولات .. لسوء حظي جاء اختياري على " نادي السيارات " لعلاء الأسواني وهي مطولة في حوالي (650) صفحة !
شحذت عزيمتي وشرعت في القراءة . كالعادة أقرأ في السرير قبل النوم ، وأحيانا تمتد القراءة
حتى التاسعة صباحا ، وخاصة إذا ما كان الروائي ممسكا بخناقي !
يطالعنا الأسواني في المقدمة بشخصيتين من شخصياته (كامل وأخته صالحة )، يظهران له ويخبرانه أنهما سيمنعان نشر روايته لأنها " تنقصها أحاسيسنا وأفكارنا " حسب تعبيرصالحة.( ص 11) وقبل أن يغادرا مكتبه مرغمين يتركان له قرصا مضغوطا يحوي الرواية وبعض ما أضافاه إليها .
في الفصول الثلاثة الأولى يقدم لنا الأسواني حكاية اختراع السيارة على يد الألماني " كارل بنز " ووقوف زوجته " بيرتا " معه ، لإنجاح الإختراع. وما رافق ذلك من مشاكل عاطفية وردات فعل اجتماعية .كما ويقدم لنا عائلة عبد العزيز همام التي هاجرت اثر فقر بعد ثراء ، إلى القاهرة ليعمل عبد العزيز في نادي السيارات الذي يشغل الملك الشاب ( فاروق ) شرف رئاسته ..
تجري الوقائع في هذه الفصول على لسان الراوي الشامل الذي يعرف كل شيء ، متحدثا بضمير الغائب. ثم وفي الصفحة (54 ) تدخل (صالحة ) لتروي فصلا على لسانها يحمل اسمها الكامل ولا يحمل رقما . يتبعها الراوي بالفصل رقم (4 ) ثم يدخل ( كامل ) ليروي فصلا على لسانه يحمل اسمه ولا يحمل رقما أيضا .
وهكذا تتوالى فصول الرواية . فصول مرقمة يكتبها الراوي وهي (44) فصلا . وفصول تحمل اسم صالحة أو اسم كامل ، وهي 24 فصلا تروى على لسانيهما . (12) فصلا لكل منهما . طبعت بحرف أسود كبير للتمييز عن فصول الراوي ، مع أن العنوان يكفي .
حين قاربت منتصف الرواية كنت قد أمسكت بخيوط الرواية وأسلوب الأسواني ، وحين تركني
بعد بضعة فصول أمام حدث درامي مثير يجري مع كامل ، وانتقل إلى فصل آخر ، هتفت لنفسي " لا يا علاء هوه انته جاي تبيع المية في حارة السقايين ؟ أو كما يقال عندنا " انته جاي تبيع السلك لأهل سلوان " لا يا عم ! " وهكذا تركت علاء مع الخدم في النادي يقص عنهم وإليهم ما يشاء و رحت أقلب الصفحات لأقرأ كل الفصول التي تروى على لسان كامل ،لأعرف معظم ما حدث معه . ثم شرعت في قراءة الفصول التي تروى على لسان صالحة . وأخيرا عدت لأتابع الفصول التي يرويها علاء عن باقي أحداث الرواية . بدا غاضبا مني لأنني لم ألتزم بأصول القراءة وتركته مع أبطاله الخدم في نادي السيارات ! قلت له : بس يا علاء أنا مش قارىء ،هو انته نسيت إني أنا روائي ولا أيه ؟"
تدور أحداث الرواية في أواخرأعوام حكم الملك فاروق وتتطرق إلى النشاط السياسي والنقابي داخل مصر ، وبشكل خاص نشاط حزب الوفد والشيوعيين .ولا تتطرق إلى أية أحداث خارج مصر . الأبطال مصريون في معظمهم إضافة إلى بعض الإنكليز .
إضافة إلى الظلم الفادح الذي يطال العمال والخدم والموظفين . يصور لنا علاء ببراعة نضال
الحزبيين ونضال العمال لرفع االظلم ،وإن كانت النهاية في غير صالحهم .
كما يصور علاء حياة الأسرة الرئيسة والأسر والشخصيات الأخرى ببراعة .
صالحة الفتاة البريئة الجميلة تنتهي إلى الطلاق بعد أن تزوجت من تاجر ابل مدمن مخدرات وضعيف جنسيا إلى حد يوحي بالعنّة .
كمال يغرق في حب فتاة انكليزية يدير أبوها نادي السيارات . يكتب كتابه عليها في السجن ، بعد أن كشف انتماؤه السياسي. مشهد مؤثر وجميل لكتب الكتاب.
محمود الأخ الأصغر يغرق مع صديق له في مضاجعة النساء العجائز لقاء مقابل مادي. مشاهد تثير الضحك في معظمها.
سعيد الأخ أكبر أناني مصلحي يتزوج عن حب من ابنة الجيران ويتسبب لأخته في زواج فاشل
من تاجر الإبل .
أم سعيد الأم : امرأة عظيمة تواجه قسوة الأيام بصلابة نادرة .
الأب عبد العزيز : يموت قهرا وكمدا بعد أن تعرض لعقوبة الضرب في عمله في النادي .
الأمير شامل ابن عم الملك : يسجن ثلاثة أيام ويفرج عنه لانتمائه السياسي.فنان مهذب وحضاري.
قرابة مائة شخصية يحركها علاء الأسواني بمهارة الروائي المتمكن ، وبتشويق درامي
ممتع. رغم أنني أعتقد أن بدء الرواية بظهور صالحة وكمال للراوي ، لم يكن هناك ضرورة له
، والأمر نفسه ينطبق على تاريخ صناعة السيارات ،وكان يمكن التطرق له باختصار عند الشروع في الحديث عن النادي .
يبقى أن نقول أننا أمام عمل روائي كبير لكاتب كبير ، يستحق أكثر من وقفة صحفية كهذه .
م. ش.
* نادي السيارات . دار الشروق . طبعة اولى 2013
(11)
مملكة الفراشة ومملكة مارك زوكر بيرغ !
كابوس من أكثر من أربعمائة وعشرين صفحة يضعنا فيه الروائي الجزائري الصديق واسيني الأعرج عبر روايته ( مملكة الفراشة ) ، كابوس من الألم والعشق والجنون، أبطاله طرفان : المجتمع الجزائري بعد الحرب الاهلية ،ومملكة مارك زوكر بيرغ أي : الفيس بوك ! قلق يعيشه معظم أبطال الرواية . قلق من الإعتقال ، قلق من القتل، قلق من التشرد ، وحتى قلق في الحب والعلاقات الإجتماعية . الحرب المدمرة انتهت لكن آثارها ما تزال خامدة تحت الرماد ، فالقتل سلك طرقا أخرى ، تتبعها ما فيات الدواء ومافيات تجارة الخيول ومافيات السلطة ،وغيرها من المافيات .. حرق صيدليات ، وحرق مصانع أدوية ، وحرق اصطبلات خيول لصالح المافيات . وقتل أطباء ومثقفين ..
( ياما ) شابة صيدلانية تهوى الموسيقى وتعزف على آلة الكلارينات في فرقة موسيقية ، تعيش حباً افتراضيا أقرب إلى الجنون ، مع مخرج وكاتب مسرحي مهاجر( هربا من الحرب ) إلى اسبانيا ( فادي ) تطلق عليه اسم فاوست . يعيش في أشبيليا وسيعود إلى الجزائر ليعرض مسرحيته الجديدة ( لعنة غرناطة ) وليوقع النص المسرحي لجمهور المعجبين .. تنتظره ياما على نارعشق يتأجج كلما خبا أو أوشك على الإنطفاء .
عدا المكالمات الغرامية ، خطت له 777 رسالة لتهديها له عند قدومه . وانتظرت عودته أكثر من ثلاث سنوات وعشرة أشهر ! كان شريك وحدتها والأمل الذي يدفعها لحب الحياة ، بعد أن قتل أبوها ( الكيميائي ) غدرا بطلق ناري لأنه رفض التعاون مع المافيا ، وبعد أن جن أخوها وسجن وأحرقت مزرعة خيوله ،وبعد أن أصيبت الأم بانفصام شخصية ووقعت في حب كاتب فرنسي راحت تعيش حياتها معه إلى أن ماتت ، وبعد أن هاجرت أختها إلى كندا ، وبعد أن قتل صديقها في الفرقة الموسيقية ..
كان فاوست بالنسبة إلى ياما حياتها كلها . كتبت له في البدايات :
" حبيبي فاوست . حبيبي لك كل شيء ، كل ما أملك بلا استثناء ، ولي فقط وردة من يديك وقبلة مسروقة ، في غفلة من القتلة ،والركض معك في مدن التيه قبل الموت ، بسكرة العاشقة بين ذراعيك " (ص20)
وكتب لها في النهايات، أي قبل قدومه :
".. نحن في عز الحب . في ألق الجنون الذي وصل بنا حد الإلتصاق جسديا . ألم نمارس الجنس في المرة الماضية باللغة فقط ؟ وبأكثر الأشكال جنونا وتفننا ؟ ألم تقولي لي إنك شعرت بلذة عالية وجميلة . كانت لحظة لذيذة ومليئة بالنعومة . بعدها نمنا كل واحد في زاويته قرير العين " ( ص 315)
وجاء اليوم الموعود . السلطة احتوت المخرج بأن هيأت له استقبالا حافلا وأجرت حوارات متلفزة معه ، وأحاطته بالعناية الفائقة ، ورحبت بعودته إلى الوطن . وهيأت له دار الأوبرا لعرض مسرحيته .
يوم العرض المنشود . حملت ياما كتاب الرسائل أل 777 بأن ضمته إلى صدرها ، لتهديه للحبيب فاوست عند اللقاء ، وهي مدركة تماما أنه سيعرفها بمجرد رؤيتها لكثرة ما رأى صورها على الفيس ، كما أنها أخبرته أنها ستضم كتاب الرسائل إلى صدرها .
بعد العرض شرع فاوست في توقيع مسرحيته محاطا بالمئات .. اقتحمت ياما الحشود بصعوبة ..
تقول " كان التدافع ورائي قد بلغ أشدة ..تمنيت لحظتها أن أهرب ، ولكني لم ولن أستطيع .. سحب بلطف مسرحية : لعنة غرناطة ،من يدي وهو يتأمل ملامحي التي لم تذكره بأي شيء .. ربما الإرهاق الشديد .. كنت متأكدة من أنه سيسألني السؤال الذي انتظرته طويلا : ياما ؟ فراشة مملكة مارك زوكير بيرغ الزرقاء . لكنه سألني سؤالا مسطحا كان يطرحه على الجميع :
-الإسم الكريم ؟
- ياما . ياما . ياااااااماااااا
ضحك .
- عذرا سمعتك من الوهلة الأولى ! "
غير أن ياما لم تقطع الشك حتى حينه . فراحت تعرفه بنفسها حين أخبرها أن اسمها جميل وسألها عن مصدره .. وأخيرا سألها عن رأيها في المسرحية . أخبرته أنه سيقرأ رأيها في الفيس بوك . وحين أجابها بأنه لا حساب له في الفيس بوك ، وأنه لا يحبه حتى ولا يعرفه ! أحست أن العالم كله قد دار في رأسها ، حسب تعبيرها كراوية للكتاب كله :
" دار العالم كله في ثانية في رأسي "
" أخذتني فجأة رجفة داخلية وأحسست بالدوار ، ولكني اتكأت على المقبض الذي كان يفصل الجمهور عن الكاتب ... "
لقد اكتشفت ياما الحقيقة . حقيقة الوهم الذي كانت تعيشه في حب افتراضي ليس له وجود . وما فاوست الحبيب إلا ابن عم للمخرج الكاتب كان ينتحل شخصيته !
إنها مملكة مارك زوكر بيرغ التي كما الضوء تحوم حولها الفراشات لتحترق في النهاية . فكان أن احترقت مايا وربما كثيرات وكثيرون غيرها بهذه النار الخادعة .
في الطريق ألقت كتاب الرسائل في برميل قمامة تشتعل فيه نار كان يتدفأ حوله بعض العمال .
للأسف لا يتسع المجال أكثر للكتابة عن الرواية الأخاذة ، التي حفلت بالعديد من المواقف المؤثرة. ولن يفوتني أن أنوه إلى اللغة الشاعرية الجميلة التي حفلت بها الرواية .
م. ش.

(12)
المحطات الضائعة من زمن جون بوسمان !!
محمود شاهين
يستجمع باتريك موديانو الحائز على نوبل 2014 في روايته ( الأفق ) الصادرة عن منشورات ضفاف 2014 بترجمة لتوفيق سخان ، المحطات الضائعة في حياة كاتب فرنسي من أصل ألماني هو جون بوسمان .
يشكل بوسمان وصديقته ذات الأصل الألماني أيضا مارغريت لوكوز المحور الأساس في الرواية الذي تنسج من حوله وقائع عابرة في حياتهما .. غير أن هذا النسيج لا يتم عبرشكل تقليدي في بناء الرواية ، فهو يراوح بين تقديم وتأخير وتعدد لشخصيات كثيرة تمر في حياتهما من أيام الطفولة إلى الشيخوخة ، بحيث لا يعود من السهل الإمساك بالخيوط المفصلية للرواية .. فبوسمان يلجأ إلى ذكريات هامشية دونت بشكل عشوائي في دفترين بجمل مقتضبة ، كان يلجأ إليها حين كان يدهمه شعور بالإختناق من الواقع المحيط به ، غير أن هذه الذكريات ( المظلمة حسب تعبيره ) تشكل في مجموعها الجزء الأكبر من حياة بوسمان غير المعروفة ( المظلمة ) ، فقد قال عنها " إن هذه المادة المظلمة كانت أكبر حجما قياسا بالجزء الظاهر من حياتك " ( ص6)
يلجأ الكاتب إلى اطلاق صفات وأفعال مميزة على أشخاص بعينهم ليظلوا عالقين في الذاكرة ، فحين يتطرق إلى رئيس مارغريت في العمل المكتبي يصفه ب ( الفتى الأسمر صاحب الوجه الذي يشبه وجوه الكلاب الشرسة ) ( ص 9)
يستأثر بعض هذه الشخصيات بالإهتمام الأكثر للكاتب لتغيب الشخصيات الأخرى من صفحات الرواية .. فعدا بوسمان ومارغريت هناك بويافال الذي يظهر دائما كالشبح أمام مارغريت أو خلفها ، مسمما حياتها ، مستشعرة أنه يريد قتلها ، مع أن الأمر ليس كذلك كما يتضح من النص ، فالمسألة تتعلق بحب دفين رفضته مارغريت ، متمنية لو أن في مقدورها أن تقتله ، على أثر هذه الملاحقة الدائمة لها .
ثمة شخصيات أخرى تظهر في حياة مارغريت خلال عملها في رعاية الأطفال ك باغريان السويسري المولع بالغرام والنساء وكان لديه صديقتان يطارحهما الغرام عدا مارغريت ، إحداهما نرويجية والأخرى سكرتيرة .
وهناك أم بوسمان ورفيقها (الذي يشبه رجل دين بلباسه الأسود) اللذان يظهران دائما لبوسمان ، لتنقض أمه عليه بعصاها طلبا للنقود أوبحثا عنها في جيوبه . وهذا ما دفعه إلى التساؤل حول مفاهيم الحياة مستنكرا ذلك . يستقرئ الكاتب أفكاره قائلا " لماذا فرضت عليه الحياة ،على وجه التحديد ، مثل هذه الدمى التي تتصور بأنها تمتلك حقوقا عليه " ؟ ( ص 69 )
لا يشير الكاتب إلى أي أب لبوسمان غير أنه يشير إلى أن مارغريت لم تعرف أبا يوما .. وأن أمها متزوجة من شخص يعمل في مرآب . ( ص 107) كما أننا لا نعرف شيئا عن طفولتهما المبكرة ، غير أننا نعرف في نهاية الرواية ،وبعد أن تركت مارغريت باريس عائدة إلى برلين ، أنهما ينتميان إلى جيل الحرب العالمية الثانية ، حين يشير الكاتب إلى برلين المدمرة في سنة ميلادهما " " حتى في سنة ميلادنا نحن الإثنين ، حينما كانت هذه المدينة وهي تشاهد من الأعلى مجرد ركام من الأنقاض ) ( ص 150 . الصفحة الأخيرة في الرواية )
امتهن بوسمان الكتابة ، وأصبح لديه أكثر من عشرين مؤلفا في زمن شيخوخته ، زمن الإنترنت ، الذي كان له الفضل في العثورعلى عنوان مارغريت في برلين ، حين ذهب يبحث عنها ليمضي باقي أيام حياته معها ، دون أن يكون متأكدا من أنها ستتعرف عليه ، فكل هذا الجيل ، من أبطال الراواية ( الأصدقاء ) الذين عاشوا طفولتهم خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها لم يتعرفوا على بعضهم حين يلتقون في شيخوختهم ،كدلالة على الضياع الذي خلفته الحرب . يقول الكاتب " وحينما يلتقون جميعا ، بعد مرور أربعين سنة ، لا يتعرفون تماما على بعضهم البعض " (ص 109) فكل واحد منهم " يوجد في دهليز زمني مختلف ، إذا مارغبوا في تبادل أطراف الحديث ، فلن يتمكنوا من سماع بعضهم البعض ،كما لو كانوا شخصين يعزلهم حوض سمك زجاجي "( 109)
لكل هذا الواقع .. لا نجد الكاتب يتطرق إلى لقاء بوسمان ب مارغريت في برلين ، مع أنه قادم من باريس ليكمل حياته معها كما هو واضح ،ويكتفي بالإشارة إلى أنه عرف عنوانها وأوقات عملها في مكتبة ،وأنه يسير بخطوات منهكة في شارع وسط مطر غزير، على بعد أمتار منها مستشعرا " السكينة واليقين بأنه عاد إلى المكان المحدد الذي انطلق منه يوما ما " ( ص 150 )
وبهذا يلعب المكان الأصل الدور الأهم في إعادة ترميم جراح بوسمان ، وإذا ما أضفنا إلى ذلك وجوده بالقرب من صديقة الشباب مارغريت واحتمال لقائه بها .. تكون العودة أكثر جمالا
*******
(13)
القصة الواقعية في أدب عادل بشتاوي
كانت مصادفة عابرة تلك التي أوقعت أحد أعمال الأديب عادل بشتاوي بين يدي، فقد كنت في رحلة استجمام إلى اللاذقية، ولم أصحب معي فيها سوى رواية الزميل غالب هلسا التي كانت قد صدرت حديثاً، أقصد “ثلاثة وجوه لبغداد”، وما أن فرغت من قراءتها حتى رحت أبحث عن شيء أقرأه، فأمواج البحر التي كانت ترتطم بقدمي وتتراجع لم تكن لتشغلني عن القراءة، لكن أين سأعثر على كتاب في هذا الشاطىء الذي لم أر أحداً يحمل كتاباً حوله؟
وكانت الفرصة حينما دعاني صديقي إلى العشاء فطلبت منه أن يعيرني شيئاً من مكتبته! اعتذر الصديق بأدب جم، فهو ارتحل حديثاً إلى اللاذقية وظلت مكتبته في دمشق، لكنه استدرك قائلاً: “لدي كتاب واحد فقط لشقيق زوجتي، وربما تجد فيه ما يسليك ولا سيما انه فسطيني!”. تساءلت في دهشة: “فلسطيني!”، قال: نعم! قلت: ماذا يكتب؟ قال: القصة القصيرة! “ما اسمه؟” “عادل بشتاوي” “ألم تسمع به؟!”
هززت رأسي بعد برهة صمت كنت أجمع فيها شتات مخيلتي “للأسف لم أسمع به!” أضفت “للأسف” هذه حتى لا أحرج صديقي الذي ربما يعتز بشقيق زوجته الأديب!
الحلقة الأولى
كان عنوان الكتاب “لا تقتلوا الكناري” والغلاف التجاري الرديء الذي طبع عليه لا يوحي إلا بالبذاءة! وجه جميل لأمرأة صابئة شارة التسديد لبندقية قناصة! صحيح أن الإنسان قد يشفق لهذا الوجه الجميل المهدد بالموت، لكننا لم نعتد على هذا النوع من الأغلفة حتى على الكتب التجارية ذاتها!
شرعت أقرأ القصص مبتدئاً بالقصة التي حملت عنوان الكتاب، ولا أعرف كيف أنغمس في صفحاته أضحك تاره وأحزن تارة وأغضب تارة أخرى.
وظل عادل ينقلني من قصة إلى قصة إلى أن أتيت على المجموعة كلها، التي ضمت ثلاث عشرة قصة!
أتيت بالمجموعة كي أكتب عنها، لكن صديقاً أخذها كي يقرأها ويكتب عنها، لكنه لم يكتب ولم يُعدها! ونسيت الأمر إلى أن التقيت صديقاً رحت أحدثه عن هذه المجموعة الجميلة، وإذا به يقدم لي ثلاث مجموعات قصصية أخرى لعادل بشتاوي إضافة إلى المجموعة الأولى!

مدخل إلى قصص عادل بشتاوي:
إذا كان الموت في حياتنا وافر فإنه وافر أيضاً في قصص عادل: الموت ظلماً والموت اضطهاداً، والموت يأساً، والانسحاق حتى العظم لدى غالبية الأبطال، والشعور بالحزن، بالقهر في مجتمعات لا ترحم الفقراء أبداً! مجتمعات يسيطر عليها ويسلبها قوتها ذوو الكروش الكبيرة المنتفخة!
وثمة نوع آخر من قصص عادل. نوع يمتزج فيه الواقع بالخيال الأسطوري المستوحى من التراث، كما في قصة >وسنصرخ حتى الفجرعزيززينب< تصر على أن تبحث عنه وتجده بسرعة، فالرجال بلا أمان وإن ادعوا في الليل انهم يحبون زوجاتهم.
خلاصة القول تركب فاطمة سيارة أجرة (تاكسي) وتذهب إلى المدينة للبحث عن عزيز. في الطريق يعرف السائق أن المرأة تجهل المدينة تماماً ولم تشاهدها في حياتها، وما أن ينزل الركاب الدين معه حتى يجنح بالسيارة إلى طريق فرعي. تنتابها المخاوف فهذا الطريق لا يبدو أنه يؤدي إلى المدينة! لكن السائق لم يفعل شيئاً حتى الآن وربما ظلمته!
توقفت السيارة فجأة وادعى اسائق أنها تعطلت، وطلب اليها أن تنزل لمساعدته: “شد ذراعها الأيسر وكتفها الأيمن وأجبرها على الجلوس. صرخت فاطمة حتى قامت الأحجار من قبورها الترابية، لكن السائق شد شعرها إلى الخلف وضعط على كتفها الأيسر حتى التصفت بالتراب، صرخت ثانية فهوى بقبضته على رقبتها فسكنت”.
استعطفته ببناته وأخواته وبالأولياء الصالحين، وهددته بأن زوجها شرطي! وهددته بالمختار وغيره، أعطته الصرة التي كانت تحت ثديها والتي وضعت فيها كل ما تملك لعله يسترها! لكن لم يسترها، فاغتصبها وسلب كل ما تحمله، وتركها ملقاة على جانب الطريق كجيفة: “وكانت تشعر أنها جيفة، وتشعر أن العالم ظالم لئيم، وتشعر بالخجل لأنها أمرأة؛ الخجل لأن السائق اغتصب أنوثتها بلا رحمة”.
لم تكن هذه نهاية أحزان فاطمة فقد تمالكت نفسها وراجت تبحث عن عزيز في المدينة التي وصلتها ليلاً. أخرجت رسالة من تحت ثديها وطلبت إلى امرأة أن ترشدها إلى العنوان المكتوب عليها. وهنا كانت الفاجعة فقد حل الحبر على العرق، وسالت الحروف واختفت الكلمات التي كانت مكتوبة على الظرف.
أطلقت صرخة مدويّة هائلة، وأغرقت الدموع عينيها، وظلت تصبح بالشارع الكبير: “عزيز … عزيز!”
هذا مجرد تلخيص سريع للقصة التي احتلت خمس عشرة صفحة في الكتاب لتصوّر لنا عالماً مغرقاً في قسوته، مغرقاً في ظلمه. عالم القوي فيه يأكل الضعفيف! وهذا ما نجده في القصة الثانية: لا تقتلوا الكناري!
عبيد الرحمن رجل مسحوق ينوء تحت وطأة مشاكل الحياة: حظه العاثر في العمل وحظه مع زوجته أيضاً، فلم يعمل في مكان إلا وطرد منه لأتفه الأسباب! وفي عمله الأخير، كان في المستطاع أن يصبح رئيساً لقسم جمع النفايات في البلدية لولا حظه التعيس الذي جعله السجين رقم 12734 في السجن المركزي!
فقد تغيب يومين عن العمل دون مبرر فطرد. سار في الشارع تحت شمس تكفي حرارتها لإذابة يافوخه العاري، ومخيلته تستحضر الأعمال السابقة التي طرد منها، في شريط حياته البائسة: لو دارت حياته دورة ثانية لرغب أن يكون شاعراً، كانت له في الماضي محاولات شعرية مشجعة.
وظلت الأفكار تنهش مخيلته إلى أن دخل البيت، لا يعرف ماذا يقول لزوجته. وفجأة وجد نفسه يقول لها حينما سألته: “وقع انقلاب عسكري اليوم وأغلق العسكر جميع المحلات والمكاتب!”
ونزلت الدبابات إلى الشوارع؟
دبابات كثيرة وجنود أكثر من التراب!
في هذا الحر القاتل؟
نعم! ويقولون إنهم استوردوا دبابات مكيفة الهواء!
أدركت زوجته أنه طرد من العمل، فنهضت إليه بكل الكتل التي تراكمت على جسمها نتيجة نهم غير عادي، وقبل أن يبعد وجهه شعر بلطمة على جبينه وخيل إليه أنه يرى شرراً أخضر اللون يحوم وسط الغرفة.. وراحت الزوجة تكيل له اللكمة تلو اللكمة حتى أن الابن شاركها الضرب، وكذلك العم الذي اقترب يريد المشاركة!
حاول عبيد الدفاع عن نفسه بعد أن استفز، فأسقط العم ولطم الزوجة وهرع نحو ابنه، لكن الشرطة هرعت وأخذت الجميع إلى القسم ما عدا العم الذي ذهب إلى المستشفى.
يخرج من القسم متعباً، يستنشق هواء مشبعاً بالرطوبة: “في الصباح كان موظفاً وزوجاً وأباً وصاحب بيت، وهو الآن دون شيء! ود لو أنه يبكي ولكنه لم يستطع”.
في الطريق رأى بعض الرجال منهمكين برفع قوس نصر على مدخل المدينة. حملق في الظلمة فرأى رافعة هائلة تئن تحت ثقل نصب فولاذي كبير. تسلل نحوها بحذر وأخذ يلاحق دوران محركها، ولما اطمأن إلى انشغال العمال، صعد إلى الرافعة وأمسك بمقبض أصفر اللون وحركه إلى الأمام، فاندفعت الرافعة نحو مدخل المدينة، خيل إليه أنه يسمع صياح بعض العمال، ضغط على المقبض فارتجت الآلة قليلاً ثم عادت إلى سرعتها الأولى! وانطلقت تأخذ السيارات في طريقها وتجرف أمامها كل شيء! فتحول سكون المدينة إلى صخب مرعب: أبواق الحافلات وأبواق سيارات الشرطة راحت تنطق منبهة! أما عبيد الرحمن فكان جالساً في مقعده (مقعد القيادة) يوجه الرافعة خلف من رأى فيهم مديره وزوجته وعمه والشرطي وكل الشخصيات المماثلة الأخرى التي عرفها في حياته.
إلى جانب هذا النفس المأساوي نلمس في معظم قصص عادل نفساً ساخراً، سخرية ترغمك على الضحك وسط الحزن والكآبة!
في قصة “وفاة زوجة مخلصة” يلجأ عادل إلى تصوير مشاعر أسرة في اللحظة التي تتمدد فيها جثة الزوجة داخل البيت ليكشف لنا مدى حقارة ووضاعة بعض الناس، وقد مثلهم هنا في شخصية أب الزوج الذي يفكر في مستقبل الأسرة أكثر مما يفكر في دفن الزوجة، حتى أنه أخذ يفكر كيف سيقتصد في مصاريف الدفن!
وفي قصة أبراج الصمت التي تدور أحداثها في بومباي يغرقنا عادل في الضحك فوراً! يقول الدليل الهندي الذي اعترض طريق السائح العربي:
“بونجورنو سنيور، إيتاليانو؟”
“لا.. عربيانو”.
وتتحدث القصة عن مشاكل الحياة الزوجية. هذه الحياة التي تصبح مملة وقاتلة بعد الأشهر الأولى، حتى في حالات الاستجمام والسياحة تبقى هذه المشاكل قائمة، لكن مشاهدات السائح العربي في بومباي بدءاً بحرق جثث الموتى مروراً بالطيور الجارحة التي تنهش جثث آخرين وانتهاء بقطعان المتسولين والأسر التي تنام وتأكل وتعيش على الأرصفة، تجعل مشاكل الحياة الزوجية ليست ذات شأن أمام هذه الحياة!
ويغرق عادل هنا في أفكار فلسفية عن الحياة، عن الفقر والغنى “منذ أن شاهد منظر النيام على الأرصفة لم يشعر بدهشة لوضع مثل هذا، ولكنه شعر بغضب لتقبل تلك الحقيقة. ولكنه يعرف الآن أنهم يقبلون واقعهم لا لأنه جزء من ضريبة الحياة، وإنما لأنه جزء مقبول من قدرهم. بين الغنى الفاحش والفقر الفاحش لم تكن هناك طبقات، لم تكن هناك ضغينة أو حقد وإنما قبول فقط ورضوخ لمسيرة قدر يعتقدون أن من غير الممكن تغيير اتجاهها! أما بالنسبة إليه كسائح فقد كان يرى أن نمط حياتهم شيء لا يمكن فهمه، ولكن يمكن فهم أسباب تقبلهم له”.
ولا أظن أنني قرأت قصة في حياتي فيها هذا التمايز المخيف بين الغنى والفقر، فالهند هذه بلد عجيب حقاً، فتصوروا الفارق الهائل بين من يحرق موتاه بخشب الابنوس الثمين جداً، وبكميات هائلة! وبين من يحرق موتاه ببضعة أرطال من خشب رديء مسوس!
لقد نجح عادل الى حد كبير هنا في توظيف مشاهداته السياحية لخدمة الموضوعة القصصية التي يطرقها، ولم تكن عبئاً عليها، بل كانت جزءاً منها:
“الهنود الذي عاشوا حضارتهم محاولين مصالحة المتضادات عرفوا أيضاً أن الحياة برمتها تكمن في وجود المتناقضين المتصالحين للكل الواحد”.
وهو، أي بطل القصة، سيغادر بومباي، وسيحاول أن يتقبل زوجته كما هي، ليس كما يريدها أن تكون، وإنما كما هي بكل متناقضاتها، >فالانسان وإن كان يمضي كل حياته وهو يحاول أن يجعل الآخرين يحبّون ما يحب ويكرهون ما يكره، إلا أنه أول من يرفض النسخ المشابهة له!
ربما لا نتفق مع عادل حول بعض الأفكار الفلسفية التي تطرحها هذه القصة، لكننا لا نستطيع إلا أن نقول إنها قصة جميلة.
في قصة طفلتان ورجل عودة الى الحياة الزوجية، والمرأة التي لم تعد تحتمل بؤس هذه الحياة ولا سيما في الخليج، فتقرر أخذ طفلتها والهرب من هذا الجحيم، وتركز القصة على معاناة الزوج الداخلية لحظة الوداع الفراق وما بعدها.
وفي قصة لحظة اليقين يدخل عادل إلى عالمه الأصلي، أقصد قلسطين، فالبطل هنا نازج أو لاجىء في دمشق منذ عام 1948، ويظل يحلم بالوطن والعودة إلى أن يتحطم هذا الحلم بعد حرب 1967، ومع ذلك تظل العينان محدقتين إلى سماء الوطن وسهوبه.
وفي قصة لم يبق إلا الوداع نقرأ أجمل نثر شعري حملته قصة عربية لشاب منتحر؛ شاب يئس من الحياة بعد أن فشل في الحب. ونظراً لأن المجال لا يتسع هنا لنشر معظم الفقرات الشاعرية هذه، سأكتفي بإيراد بعض ما هو هام منها:
“أحب وطني وفتاتي وأمي وأكره الغربة غير أنّي أتغير كما النهر. سيل من التجارب يشوّه وجه الصغير المختفي خلف وجه الرجل. وطني في الجانب الآخر من الحيقية وفتاتي تفتح ذراعيها فأضمّها غير أن قلبي لا يموء حبا ولا تغرد البلابل ولا يضيء وجه القمر ولا تموج الأشجار ولا تتدفق الأغادير الجافة. وأنا؟ أنا لا أريد أن امسك بالأشياء التي لا أستطيع تملّكها، ولا أريد تلك الأشياء التي تقترب مني من دون رغبتي. وأنا لا أعرف أشياء كثيرة لكنني أعرف أن وراء البدلة والياقة والنظارتين وعلبة التبغ بدوي يعتقد أن أوان الرحيل حان، وعليه الآن أن يطوي الخيمة قبل أن تتثاءب أشعة الشمس وتنتقل إلى مكان آخر”.
……….
“ألمح وجه الصبية هناك قرب الباب فلا تقوى القدمان على الانتقال خطوة واحدة فأقول: أيها الرفاق! هلا بكيتم معي؟ أنا مثلكم أفتقد الوطن وأمي ووجه من أحب. وأنا، مثلكم، أنظر الى المستقبل وملايين الخيوط الدقيقة تشدّني إلى الماضي. وأنا مثلكم أموت ألف مرة في اليوم فلا تخرج من الصدر أنّة أو بحّة أو حرّة. وأنا مثلكم أختنق من دون أن اسمح لهم أن يروا اختناقي. وأنا مثلكم أخاف أن أقول إنني أحبها فلا تفهم ما قصدت”.
………..
“أغنّي لك أيها البحر. أغنّي لكل ما هو نضر وجديد وآسر فيك. أغرق مع إغراقتك الأزلية، وأرقص على أمواجك التائهة إلى الأبد لأطفو معك على سطح هذا العالم المضني. أردّد معك همسك العميق، وأحلم بالندى يسقط عطراً صباحياً يجعل الارض ركناً يستأهل العيش”.
… قرابة ثلاث عشرة صفحة من هذا الشعر الحار المتدفق المشحون بالآلام والمعاناة، ويا ليت في مقدوري أن أورد أكثر مما أوردته، ولا يظنن أحد أن كل هذا الشعر قد جاء على حساب فنية القصة، بل كان من صلبها. إننا نقرأ أوراق شاب انتحر للتو حتى أن صديقه يشرع في قراءتها قبل أن يسمع بنبأ الانتحار، وأرجو أن تتاح لنا الفرصة في >فتح< لنشر هذه القصة كاملة.
وفي قصة العجوز والليل يحدثنا عادل عن هموم صاحب المقهى >المسالم< الذي يعمل في الخليج، لكنه لا يظل مسالماً عندما يتسلط عليه أحد مراقبي البلدية ويبدأ في ابتزاز تعبه وعرق جبينه، وليس هذا فحسب، بل إغلاق المقهى لمدة شهر أيضاً! وهنا يضطر الرجل المسالم الى التفكير في القتل.
وفي قصة بائع الشاورما نلمس هموم طالب فلسطيني يدرس في لندن، لكنه يخفق في دراسته فيتحوّل إلى بائع شاورما!
وفي قصة الخور نلتقي بمن هرب من جحيم بيروت الى العمل في الخليج، وقرر استدعاء زوجته وطفله، لكن الطائرة التي جاءا على متنها سقطت! وكأن عادل يريد أن يقول لنا إن الموت في كل مكان ولا مفر منه!
في قصة جدار الليل تختلط المعلومات التاريخية بالخواطر والذكريات عن الحكم العربي لاسبانيا، وتضيع (عبر مشاهدات سائح عربي لغرناطة) الفكرة التي أراد الكاتب ان ينقلها لنا، رغم أنه أورد وأوصل لنا الكثير من الأفكار.
في الحقيقة الثالثة نعيش حزن مواطن مالطي على ابنته المنتحرة، وفي الحصة الأخيرة نتعرف على وسط الجامعات في البلاد العربية، تلك الجامعات التي لا تخلق إلا علاقات مشوّهة وبشراً مشوهين لا يستطيعون البوح بما في دخائلهم لزملائهم ولا سيما إذا كانوا من الجنس الآخر! فنحن هنا أمام شابين لم يستطيعا مصارحة فتاتين عن شعورهما نحوهما رغم مرور أربع سنوات على الزمالة الجامعية، فتحل الخيبة في نهاية السنة ويتحطم الأمل.
اكتفيت بتلميح سريع للقصص الأخيرة لأن المجال لا يتسع. وخلاصة القول إن عادل بدا وكأنه يبحث في قصصه الواقعية عن الجانب الآخر من الشقاء الفلسطيني؛ الشقاء الذي يشمل البشر كافة بغض النظر عن هويتهم وانتمائهم، محتلة أوطانهم أو غير محتلة، وقد أوصل لنا ذلك عبر لغة تراجيدية-كوميدية في بعض الأحيان، لمست فيها نفس انطون تشيخوف، وعبر لغة شاعرية ساحرة مؤثرة أحياناً أخرى لمست فيها نفس طاغور وبدر شاكر السياب
******
(14)
رشاد أبو شاور
القامة الشامخة في الثقافة الفلسطينية
• أكثر من أربعة عقود من المعرفة والصداقة .
عرفت رشاد قبل أكثر من أربعة عقود . كان ذلك بعد أيلول 1970 في الإعلام الموحد الذي شكل حديثا بعد أيلول . كنت خارجا من سجن الجفر بعد اعتقال في أيلول دام قرابة شهر . ولم يكن قد مر على عودتي من الأرض المحتلة كمقاتل حينذاك سوى بضعة أشهر ، حيث خرجت في أواخر تموز 1970 .
حولت إلى الإعلام بناء على طلبي ، حيث كان ولعي بالكتابة والقراءة في بداياته ، ووجدت حين خيرت باختيار جهاز أعمل فيه أن الإعلام هو الأقرب إلي رغم أنني كنت مقاتلا ..
تعرفت إلى ماجد أبو شرار وحنا مقبل ورشاد ، الذي طلب إلي أن أعمل معه .. وأظن أن قسم الأخبار كان من ضمن مسؤولياته ، أرسلني رشاد في اليوم التالي إلى الأشرفية لألتقي مناضلا أبعدته سلطات الإحتلال بعد أن تنقل بين سجنين في غزة وعسقلان وليعتقل لبضعة أيام في سجن السلط قبل الإفراج عنه . عدت إلى الصحيفة بأول لقاء كتبته في حياتي ،ولا يمكن لأحد أن يتصور مدى فرحي حين رأيت اللقاء منشورا بمانشيت كبير ( من سجن غزة إلى سجن عسقلان إلى سجن السلط )!
مرت الأيام سريعة وبدأت أحداث جرش وعجلون في ال 71 , وحين جئت إلى مقر الصحيفة لم أجد أحدا. سألت فقيل لي أن الجميع غادروا إلى سوريا .
كانت سوريا قد أغلقت أجواءها وحدودها مع الأردن . فاضطررت إلى بيع حلي زوجتي بعد مضي شهرين على زواجنا لقطع تذكرة طائرة إلى بيروت .
في بيروت أخبروني أن أتوجه إلى دمشق ..حاولت أن أحصل على بعض النقود دون جدوى .
ذهبت إلى دمشق مع زوجتي .. اهتديت إلى مكتب الصحيفة . صرف لي خمسون ليرة سورية فقط !
وأظن أنها كانت بكتاب من أبي مازن إلى المالية . استأجرت غرفة مع عائلة في مخيم اليرموك ، وابتعت بابورا يعمل بالكاز، كنا نوقده في الغرفة التي لم يكن معها مطبخ !!
حولوني إلى المطبعة لأقوم بتصحيح الصحيفة بدلا من أحمد دحبور الذي كان يشرف على التصحيح كما يبدو .
حين دخلت إلى المطبعة وجدت أحمد دحبور منهمكا في استغراق شديد في كتابة قصيدة ولم يكن يصحح .ونظرا لأنني لم أكن قد تبينت هذا الإستغراق بعد فقد سلمت - دون مصافحة- وأردت أن أسأله عن طريقة العمل غير أنه فاجأني بالطلب بعدم التحدث إليه بإشارة من يده رافقها بضع كلمات .
لم أكن أرى رشاد كثيرا فهو حين يأتي يجلس في غرفة التحرير ، أما أنا ففي الإدارة في أحسن أحوالي .
وقليلا ما كنا نتبادل الحديث ، وحين كان يعرف أن لدي طموحا بأن أكون كاتبا ، كان يأخذ الأمر بسخرية لاذعة ! كما هي عادة رشاد في السخرية والمرح .
كنت ارافق الصحيفة أو المجلة من الكلمة إلى التغليف والتوزيع وأحيانا كنت أقوم بتغطية بعض الأخبار . وذات يوم حدث هجوم اسرائيلي على موقع في درعا وذهبت لتغطية الخبر ،( ما أذكره أن يحيى يخلف هو من أرسلني ) وفيما كنت قادما مع مصور على مسافة أمتار من الموقع انفجر صاروخ مؤقت ألقته طائرة الإحتلال .كانت المسافة بعيدة نسبيا ولم ينلنا أي ضرر. لم أكن أميز بين عمل وعمل فأنا اساعد العاملين في تغليف المجلة وكتابة العناوين على الأغلفة ، وحتى ارسالها إلى البريد وتوزيعها إن تطلب الأمر .
وأحيانا كنت أبقى في المطبعة إلى ساعة متأخرة من الليل لتصدر المجلة في وقتها ، تنبه إلى ذلك حنا مقبل حين فأجأني ذات يوم بقوله ( أنت مناضل حقيقي )!
شرعت في كتابة مسرحية قصيرة وما أذكره أن المجلة رفضت نشرها ولا أذكر إن كان رشاد هو المسؤول عن ذلك ، وإن كنت أتوقعه . فما كان مني إلا أن ارسلت المسرحية إلى روز اليوسف باسم مستعار . وتابعت المجلة لبضعة أسابيع ولم أعد أتابعها ، إلى أن فاجأني رشاد بعد بضعة أسابيع أنه رأى المسرحية منشورة في روز اليوسف . وعبثا رحت أبحث عن المجلة دون جدوى . حتى بعد أن ذهبت في دورة اعلامية إلى القاهرة .
مرت الأيام ونحن في عام 1972. حيث انتقلت المجلة بكوادرها إلى بيروت لتصدر باسم ( فلسطين الثورة ) بعد أن كانت تصدر باسم ( فتح ) إذا لم تخني الذاكرة . وانقطعت علاقتي بالمجلة إلى أن أصبحت مراسلها في دمشق بعد قرابة سبعة أعوام .تنقلت فيها بين مجلة أخرى كانت فتح تصدرها وبين مكتب الدراسات الذي كان يرأسه أبو مازن .
عام 72 اسس اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين وكنت ورشاد بالتأكيد من المشاركين فيه .
وراحت علاقتي برشاد تنمو بعض الشيء ونحن نلتقي في بيت الصديق مصطفى الحلاج أو في فرع الإتحاد الذي افتتح في دمشق أو في مكتب الإعلام .
عام خمسة وسبعين أخذت درسا قاسيا جدا من رشاد ، فقد فرغت من كتابة رواية ( حسب اعتقادي حين ذاك ) وأعطيتها لرشاد ليبدي رأيه فيها .. لا أعرف إن كان قد تصفحها أو قرأ بعض الصفحات فيها ، لكن ما أذكره جيدا أنه قال لي حرفيا حين سألته رأيه ( روح كبها في الزبالة ) !
كانت كلماته أصعب علي من طعن السكاكين لكنها دفعتني لأن أغرق في قراءة الأدب أكثر وأتوقف عن طموحي في كتابة الرواية ولو إلى حين، خاصة وأنني لم أجد من يشجعني على نشر الرواية .. وهكذا تحولت إلى كتابة القصة التي لم تكن بمستوى طموحي الروائي . ولم أنشر تلك الرواية ولم أعد إليها حتى اليوم وبعد صدور خمس روايات وثلاث مجموعات قصصية لي ، وكتابة أكثر من ستة مخطوطات لم أدفعها للنشر ، ما عدا مخطوط واحد رفضت الرقابة الموافقة على نشره ، وهو الجزء الثاني من رواية ( الأرض المغتصبة ) وهذا يعني أن الرواية ما تزال في القمامة التي أشار علي رشاد بوضعها فيها . ومنذ ذلك اليوم وأنا أهتم برأي من ينقدني أكثر مما أهتم برأي من يمدحني ، رغم أن الطرفين كثيرون !!
أخذت صداقتي برشاد تتعمق ونسهر في بيتي أحيانا وفي بيت الحلاج أحيانا أخرى... إلى أن انتقل الحلاج وكذلك رشاد إلى بيروت ..وكنت حين أذهب إلى بيروت أحرص على أن التقي رشاد أو الحلاج وأحيانا أصدقاء آخرين كعلي فوده ورسمي أبو علي وغيرهم.
التقينا بعد حرب 82 في دمشق وأجرى رشاد معي حوارا لمجلة كان تنظيمه يصدرها. وحين غادررشاد دمشق انقطعت لقاءاتنا إلا ما ندر في دمشق ، لنتحدث قليلا ونتناول الغداء معا . وغاب رشاد طويلا إلى أن فاجأته بوجودي في عمان اثر هروبي من دمشق في العام الماضي . اصطحبني رشاد إلى صديق لم أتعرف عليه من قبل ، رغم أنه من فتح وعمل في الصحافة ، إنه فتحي البس الذي أصبح صديقا لي أيضا . عزمنا فتحي على الغداء وتكررت لقاءاتنا وحواراتنا ، لأجد نفسي أمام انسان نبيل وكريم . أهداني كتابا له عن حياته وكان كتابا ممتعا قرأته بنهم .
رشاد أديبا
لقد تابعت رشاد في معظم أعماله ، من مجموعته القصصية الأولى ( ذكرى الأيام الماضية )إلى روايته الأخيرة ( سأرى بعينيك يا حبيبي ) التي سيكون لي معها وقفة مطولة بعد التطرق إلى أعماله السابقة .
في معظم أعماله ينحو رشاد منحى نقديا للواقع ، وكان أول من انتقد واقع الثورة الفلسطينية في روايته (البكاء على صدر الحبيب ) وتكرر الأمر في كتابه ( الرب لم يسترح في اليوم السابع ) وكان للنكبة حضور في بعض أعماله كما في ( أيام الحب والموت ) وتناول الواقع الطبقي كما في ( العشاق ) ولا تكاد تخلو سلبية من سلبيات الواقع الفلسطيني إلا وتطرق رشاد إليها في رواياته وقصصه .وإذا كان معظم الكتاب
متأثرين بمدرسة الواقعية الإشتراكية في الأدب في العقود التي سبقت أواسط الثمانينات من القرن الماضي فإن رشاد لم يكن مهتما بها إلى ذلك الحد . وكانت هذه حالي أيضا ، غير أنني كنت أختلف مع رشاد في نقد واقع الثورة
لأن المرحلة كانت تتطلب أن تكون أولويات الصراع مع العدو ، وأعترف أنني كنت مخطئا ، فقد وجدت نفسي أنقد واقع الثورة بقسوة لم يسبقني إليها أحد من قبل ، حين أدنت سلوك الزعامات في رواية (الأرض المغتصبة ) التي قوبلت بهجمات شرسة علي ، ولو لم تمنع الرقابة الجزء الثاني منها ، لقامت قيامتي بالتأكيد. وهو ما يزال قيد الأدراج . وتحولت في الكتابة إلى قلقي الوجودي، وشرعت في كتابة ( الملك لقمان ) وكتبت على هامشها ( غوايات شيطانية )
وحين تعذر نشرهما أدركت أن طموحي الأدبي تحطم على صخرة الرقابات العربية ، فتحولت إلى الرسم الذي رحت أعتاش منه بكرامة بعد قرابة ثلاثة أعوام من المعاناة في تسويق اللوحات ، وها أنا اواجه مشكلة التسويق ثانية في عمان وأعتاش منذ قرابة عامين مما ادخرته في دمشق من الرسم . ولم تتعرف السلطة الفلسطينية علي حين طلبت مساعدتها بعد أن لجأت إلى عمان محطما تاركا تعب اثنين وأربعين عاما في دمشق عرضة للتدمير والنهب .(مئات اللوحات والمنحوتات والتحف والمؤلفات والمخطوطات والمكتبة والبيت وغير ذلك )
نشرت( الملك لقمان ) و(غوايات شيطانية) في دمشق، قبل أربعة أعوام ، أي بعد خمسة عشر عاما من كتابتهما .. ولا أظن أنني سأعود لكتابة الرواية ،وإن كتبت أبحاثا فكرية وأشعارا وبعض الخواطر نشرتها على النت .
( سأرى بعينيك يا حبيبي) والتحول من البداوة إلى المدنية !!
في أكثر من ثلاثمائة صفحة سرت مع رشاد بمتعة فريدة لأتابع حياة ثلاث أسر في تحولها من الريف البدوي إلى المدنية التي لم تكن مدنية كما يفترض أن تكون عليه حياة المدينة.
مدينة يختلط فيها الحابل بالنابل ، التخلف بالتقدم والتحرر بالتحفظ والتنوير بالعتم ! والإنفتاح على العصر بالإنغلاق على الماضي، وأي ماض ؟ ماض لم يوجد إلا في عقول من اتبعوه. ماض ابتدعته قوى ظلامية تفهم الدين على هواها ، وتفسره حسب منطقها الذي يتناقض مع الدين . لتغدو المدينة بلا مدنية ، وبلا هوية تنتمي إلى العصر الذي نعيش فيه ، في غياب منهج حضاري أو مشروع ثقافي ينهض بالمجتمع ولو بالحدود الدنيا من التطور الإجتماعي في كافة مناحي الحياة .
المدينة تزحف بأبنيتها إلى الريف والريف يزحف إلى المدينة لتختلط المدينة بالريف والريف بالمدينة ، لتغدو المدينة بلا مدنية والريف بلا ريفية لتتشكل هوية ضائعة ، لا يربطها بالمدنية إلا البناء الحديث والشوارع والجسور ومقتنيات الحضارة الحديثة . بينما تظل العقول في الغالب على حالها رغم التعامل مع كل ما هو حديث.
أهم شخصيات الرواية :
1- نجمة
نجمة ، فتاة تخطب إلى ابن عمها صخر منذ ولادتها حسب العادات البالية المتبعة ، ورغم عدم موافقة الأم على الخطوبة إلا أن الأب الطيب ( أبو حسن ) يرضخ لطلب أخيه (أبو صخر ) .
وهكذا ترغم نجمة على ترك المدرسة من الصف الثالث الإعدادي رغم تفوقها في المدرسة، لتتزوج من الخطيب الموعود الذي لم تكن تطيقه لجلافته وانغلاقه .والذي يتحول إلى التدين السلفي بعد أن اكتشف أنه عنين وغير قادر على الإنجاب ،في محاولة بائسة للتغلب على حالته، وليلصق تهمة العقم بزوجته لتنهال عليها تقولات الحماة والناس . ولتحيا نجمة في كابوس فظيع وهي مصدقة أنها عاقر.
يوغل صخر في ظلاميته ليتزيا بزي السلفيين ويطيل ذقنه ويغير سلوكه اليومي حتى علاقته بزوجته تغدو أقرب إلى الحيوانية حين يمارس معها الجنس. حتى سماع الأغاني وأصوات الرجال يغدوان كفرا ، ويشرع في الغياب الطويل عن البيت إلى أن يغدو أمير جماعة لاحقا، فيما نجمة تتألم وهي تستمع إلى كلمات الحماة الجارحة :
( معمول له عمل حتى لا يتركها ويتزوج غيرها .. أتريد أن تغشمني عنها وعن أمها رباب وألاعيبهما ) (ص106)
الدموع الغزيرة تسيل من عيني نجمة فتدخل إلى غرفتها وتنطرح على السرير وهي (تضرب بطنها وتنهشه بأظافرها كأنما ترغب في تمزيقة ، وهي تكتم صوتها مرددة : بطن مجدب ، بطن عاقر، بطن يذلني ويكسرني ) ص106)
تترك نجمة بيت الزوجية بعد غياب لصخردام ثلاثة أعوام.
في بيت أهلها تنعم نجمة بحريتها فتشاهد التلفاز وتستمع إلى الراديو وتتحدث إلى أخيها عصام الذي كان يتعاطف معها باستمرارإلى حد أنها بكت بين ذراعية حين استقبل عودتها.
بدافع من صديقتها سلمى تلجأ نجمة إلى فحص نفسها ليتبين لها أنها امرأة سليمة وطبيعية وليست عاقرا على الإطلاق .
بعد عناء طويل ورفع قضية في المحكمة تتمكن نجمة من تطليق نفسها من صخر لتتابع دراستها وتدخل الجامعة.ولتوافق لاحقا على الزواج من سامي شقيق صديقتها سلمى العائد من ألمانيا بعد أن ترك طليقته الألمانية مع ابنه وابنته .
2- وطفاء
وطفاء ، شقيقة صخر فتاة طموحة . شجعتها نجمة على متابعة الدراسة . تابعت دراستها إلى أن دخلت الجامعة ، وهجرت بيت أهلها لتسكن في سكن الجامعة . وأصبحت
صديقة لسلمى أيضا .تعرضت لأول هجوم من صخر ، أنقذها منه الناس بعد أن نالها بضربات وجراح بالغة .. الهجوم الثاني كان بحامض الكبريتيك ( ماء النار ) وهي تعد لتقديم اطروحة الدكتوراة في علم الإجتماع ، كان المعتدي أحد أتباع صخر الذي غدا أمير جماعة سلفية . أصيبت بحروق في وجهها وعنقها وسلمت عيناها .
في مشهد مؤثر يصف رشاد دخولها إلى الجامعة بعد خروجها من المستشفى ،مع الدكتور يونس الذي ستتزوج منه . سأورد مقتطفات منه :
( حشد من طلاب وطفاء وزملاء نجمة وطلاب يونس تجمع قريبا من البوابة ن وفي الممرات تحت اشجار السرو ، وأخذوا في التصفيق والتفوا حولهم ، ومضوا كأنما يزفون يونس ووطفاء ..
أطلقت احدى الفتيات زغرودة بينما ارتفع صوت أحد الطلاب هاتفا بمرح : يحيا الحب .. يحيا الحب ).( ص 299)
تشعر وطفاء أنها أمام زفاف لم تحلم به :
( مضى الحشد مصفقا باتجاه قاعة نقاش اطروحة الدكتوراة ، بينما راحت طالبات يرشقن وطفاء ويونس ونجمة بما أحضرن من باقات الورد ) ( ص 301)
يعبر الدكتور يونس لوطفاء عما كان يتخوف منه أن تفقد بصرها جراء الإعتداء ، فتضغط على يده وهي تقول :
( كنت سأرى بعينيك يا حبيبي ، كنت سأرى بعينيك ، أما كنت ستعوضني عن فقدان نظري فأرى بعينيك )؟!
وقد اتخذ رشاد من هذه العبارة عنوانا لروايته .
( تشابكت راحتا يديهما وهما يمضيان بخطى متناسقة معا بين الحشد باتجاه قاعة نقاش الأطروحة .) (ص301)
(إلى القاعة تتقدم وطفاء بخطى ثابتة وحولها الحشد بعد أن رفعت النظارة السوداء عن عينيها وردت شعرها إلى الخلف وهي تضغط أطروحتها على صدرها ..و ترفع رأسها وقد أظهرت صفحة عنقها التي تشوهها الحروق ، غير آبهة بنظرات الشفقة ، ولا باحثة عن التعاطف ،بثقة بأن المستقبل ينفتح أمامها ، هي التي قطعت مشوارها بعناد وجد )
(ص 302)
بهذه الكلمات المعبرة تختتم رواية رشاد . ستسير الحياة إلى الأمام بإصرار وعناد رغم أنف الظلاميين وخناجرهم المشرعة في وجه التحرر ومياه نارهم الحارقة .
3- سلمى
سلمى الصيدلانية صديقة الجميع : نجمة ووطفاء وعصام وغيرهم .تعيش حالة قلقة بعد
أن عادت بابنها (محسن) وابنتها ( زينب ) من ألمانيا للتعرف على وطنهما وإجادة لغته
التي شرعا في تعلمها في ألمانيا . لكنهما لم يعودا قادرين على احتمال الحياة بعد أن شاهدا مشهدا أثار فيهما الهلع اثر قيام أحدهم بذبح اخته بخنجر حين كانت تجالس صديقا لها في مطعم . مما أدى إلى هرب محسن إلى القنصلية الألمانية ليعود إلى وطنه الذي ولد فيه ( ألمانيا ) . ولترغم سلمى على تسفير ( زينب ) لتلحق بأخيها وأبيها في ألمانيا ، بعد أن ساءت نفسيتها في موطن أمها وأبيها .
تعبر عن قلقها لنجمة قائلة :
( كثيرا يا نجمة – تقصد متعبة – أنا تقريبا لا أنام . استيقظ وأنام وأنا أقلب الأفكار في رأسي . كل ما خططنا له ينهار ، ويضيع . أردنا إنقاذ محسن وزينب ، وها نحن نفقدهما )
( ص286)
4- صخر
صخر الذي غدا أميرا لجماعة من السلفيين كان فاشلا في دراسته . جلفا ، غليظا ، متخلفا إلى حد غير معقول . إضافة إلى أنه غبي ومنافق وكذاب ! كذب على زوجته (نجمة ) وألصق تهمة العقم بها . وراح يظهر أمام الناس بزي ديني أبيض ولحية طويلة جدا ليخفي زيفه وتخلفه ، غير أن معظم من عرفوه ابتعدوا عنه بعد أن اكتشفوا أمره .
تزوج صخر سرا من امرأة أنجبت سفاحا من رجل غيره بالتأكيد ، وحين غاب عنها كما غاب عن نجمة رفعت عليه دعوى نفقة لها وللطفل ابن الزنى ، وكسبتها !! جن جنون صخر حين علم ولم يكن أمامه إلا الإختفاء ليتذرع بالجهاد في سبيل الله ، وربما في أفغانستان !!
ضمت الرواية أكثر من عشرين شخصية، يأتي معظمها لضرورات الروي واستكمال رسم المناخ الذي تدور فيه الوقائع .كالآباء والأمهات والأخوة والمعلمين والمعلمات وغيرهم .
ومعظم هؤلاء الأشخاص طيبون . قد نستثني بعض الشخصيات النمطية كأبي صخر الرجل التقليدي النمطي ، وأم صخر النمامة القاسية والحاقدة إلى حد ما .
يأتي في مقدمة هذه الشخصيات عصام الذي كان يتعاطف مع شقيقته نجمة ،وقد تابع دراساته العليا حتى غدا محاميا ناجحا ، وتولى مكتبه دعوى طلاق نجمة من صخر .
إن معظم الشخصيات الشابة في الرواية تسعى إلى التحرر وفهم الدين بعقول منفتحة
وهي تسعى لحمل ثقافة تنويرية بعيدا عن التكفير والظلامية والتعصب الأعمى التي يمثلها في الرواية صخر وجماعته التي لا تظهر إلا للقتل أو للنصح بارتداء الحجاب وعدم سماع الموسيقى والذهاب إلى السينما وحتى عدم سماع صوت الرجال ! إن عالما يحكمه هؤلاء القوم ستكون جهنم أفضل منه !
معظم الفتيات في الرواية منفتحات يسعين إلى فهم منفتح للدين لا يضع أية قيود أمام الحياة . وبما أن رواية رشاد جاءت لتناقش مسألة حساسة جدا ما زلنا نعاني منها في كافة أنحاء المجتمعات الإسلامية التي تعيش صراعا مريرا بين من يفهم تراثها بعقل
تنويري منفتح وبين من يفهمه بعقل منغلق . فلا بأس من التطرق إلى الواقع والتراث
لنرى أين نحن من هذا الواقع وذاك التراث .
ذات يوم في دمشق دعاني صديق لحضور عرض راقص لفرقة أوروبية قي فندق الشام .
كان العرض يحمل عنوان ( أوروبا في الشام ) ولا يمكن لأحد أن يتصور مدى دهشتي حين وجدت أن الراقصات عاريات ومعظم الجمهور من النساء المحجبات !! ويمكن لكل
قارئ أن يفسر الأمر حسب فهمه ، لكنه في كل الأحوال يشير إلى عدم منع المرأة من مشاهدة ما تريد ، وإن كان يشير إلى ما قد تفكرفيه المرأة حين ترى رقصا عاريا بحجاب !!
وذات يوم أحببت فتاة كانت ترتدي الحجاب أحيانا وتأتي سافرة أحيانا أخرى ، إلى أن حسمت الصراع الذي تعيشه في داخلها بأن تحجبت !! وأعترف أنني فشلت في اقناعها بحقها في السفور .
وفي عمان كنت صاعدا درج اللويبدة ألهث ، وأنا ما زلت في الدرج الأول من أدراجه،
فأنا أحرص كلما نزلت إلى البلد أن أصعد الدرج في محاولة لتحدي شيخوختي وأنا في السابعة والستين . شاهدت شابتين تصعدان أمامي . التفتا ليراني أصعد لاهثا ، ابتسمت لهما ، فابتسمتا ، وانتظرتاني إلى أن بلغتهما . كانتا محجبتين وترتدي إحداهما قفازين في يديها . هتفت من لهاثي :
- مرحبا عمو .
- أهلا عمو أنت فنان ؟!
وهذا ما يوحي به شكليّ
- أجل عمو أنا فنان وأديب كمان !
- يا الله نحن محظوظتان فلم نلتق أديبا في حياتنا .
ورحنا نصعد الأدراج معا وحين أتوقف لألتقط أنفاسي تتوقفان معي .
الفتاتان جامعيتان سألتاني عما أكتبه ، وكانتا حريصتين على أن تعرفا فكري . وحين عرفتا أن لدي فهمي وفلسفتي ابدتا اهتمامهما لتعرفا شيئا عنهما . وكان علي أن أعرف مدى استعدادهما لسماع فكر ربما لم تسمعاه في حياتهما .سألتهما :
- هل تقرآن يا عمو ؟
أجابتا : أجل .
- لمن ؟
- لابراهيم نصر الله .
- أوه هذا جيد ! وإنه لأمر مؤسف أنكما لم تسمعا بي ّ!
- هل تعرفه عمو!
- أجل وهو صديقي !
وربما لم تصدق الفتاتان أ نني أعرف ابراهيم وإنه صديقي إلا بعد أن طلبا هاتفه
وأعطيته لهن .
وحين انتهينا من صعود الأدراج دعوتهما للجلوس في صالة تعرض بعض لوحاتي فلبتا
الدعوة . سالتاني كثيرا وأجبت وتحدثت كثيرا وهما تستمعان بكل خلجات نفسيهما ، لم تقاطعاني أو تعلقان بأي تعليق ، كانتا تسألان أحيانا فقط .
كان حديثي تنويري عن الإسلام المنفتح الذي لا يميز بين البشر مهما اعتنقوا ومهما كان الشكل الذي يتقربون به من الخالق وأنه لا يمكن لأحد أن يكون رقيبا على علاقة الإنسان بخالقه ويجعل من نفسه وصيا عليه ،فلا إكراه في الدين فمن شاء فليكفر و من شاء فليؤمن .ولا تهد من أحببت إن الله يهدي من يشاء .
(أسوق المعنى دون التقيد بحرفية النص لأنني أعتمد على الذاكرة فلا مراجع لدي حاليا )
طال الحديث والفتاتان تستمعان إلى أديب وفنان وليس إلى شيخ دين ، وكم كانت دهشتهما حين تطرقت إلى فهم ابن عربي والحلاج وغيرهما للدين .. غادرتا وهما في غاية السرور.وما لمسته أن الجيل الجديد بل والذي سبقه ، أي من هم دون سن الثلاثين أو الخامسة والثلاثين ، يطمحون إلى الإنفتاح ويريدون من يفهمهم أحد الدين المنفتح ، حتى من ينتمون إلى الطبقات الفقيرة التي يكثر التطرف فيها لوجود مناخ يساعده على ذلك.
لا أظن أنني خرجت عن مضمون فكر رواية رشاد . الفكر الذي يسعى إليه كل مثقف ، يسعى للرقي بثقافة أمته .فنحن لا نبحث عن فكر علماني صرف مع أن أكبر علماني وربما في تاريخ البشرية هو مفكر اسلامي عبقري عربي هو (أبو عبد الله محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن العربي الحاتمي ) المعروف بابن عربي !فهو آمن بكل فكرحتى الالحادي وبكل دين حتى بمن يعبد الأوثان ، فهو القائل :
( لقد صار قلبي قابلا كل صورة ... فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف .... وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ... ركائبه فالحب ديني وإيماني ) *
*( هكذا تكلم ابن عربي .. نصر حامد أبو زيد . ص 13 )
حتى الحيوانات ( الغزلان ) ابن عربي يمكن أن يقدسها لأنه يتقرب بها أو عبرها
إلى الله لتجليه فيها ، وهي النظرة نفسها التي ينظر بها إلى الراهب والواح التوراة
وعابد الأوثان . فدين ابن عربي الذي يخلص إليه هو دين الحب لأن الله لا يمكن إلا أن يكون محبا .
ابن عربي هو مؤسس مذهب ( وحدة الوجود ) الذي ينتشر حاليا في أوروبا بشكل لا يصدقه المسلمون ، وقد لمست ذلك حين دعتني جامعة ألمانية لإلقاء محاضرة عن الفكر الصوفي الإسلامي وتدريس طريقتي في الرسم ، لطلاب من الإتحاد الأوروبي. بعد أن أقمت أول معرض رسم لي تحت عنوان ( ألوان من السماء ، المعرض التجريبي الأول لمدرسة الصوفية الحديثة ) قبل قرابة عشرين عاما . وكتبت على ضوء هذا الفكر روايتي الأخيرتين ( الملك لقمان وغوايات شيطانية ) كما كتبت كتابا بعنوان ( الخالق . الخلق .الغاية )
إن ديانة الشنتو اليابانية هي أقرب الديانات إلى مذهب ابن عربي . ففي اليابان يقدسون كل شيء . وقد اقاموا ديانتهم في محاولة للحد من انتشار البوذية ، التي تلتقي مع ديانة الشنتو في الكثير من الأسس القائمة عليها .
مذهب ابن عربي ينتشر في المغرب العربي أيضا بكل أقطاره وخاصة المغرب ، كذلك في عمان وبعض دول الخليج بين المثقفين .
نحن لسنا في مجال عرض فكر شيخ عظيم لا يمكن الإحاطة به وقد أذهل العالم كله بفكره ، واعتبر نفسه خاتم الولاية المحمدية وأحد حملة العرش الإلهي ولم يعتبر نفسه متوحدا مع الذات الإلهية ،المنزهة عن التوحد بها ، كالحلاج ( حسين بن منصور ) مثلا ،القائل :
(أنا من أهوى ومن أهوى أنا .. نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني ابصرته .. وإذا أبصرته أبصرتنا
أيها السائل عن قصتنا .. لو ترانا لن تفرق بيننا
نحن مذ كنا على عهد الهوى .. تضرب الأمثال للناس بنا
روحه روحي وروحي روحه .. من رأى روحين حلت بدنا ؟)*

*( من الذاكرة لأن مكتبتي وكل شيء أملكه ظل في دمشق ، فأنا الآن لا أملك إلا ذاكرتي
وبضعة كتب ابتعتها أو أهداني إياها الأصدقاء )
عذرا من أخي وصديقي رشاد إذا رأى أنني خرجت عن موضوع روايته التي لامست بعمق ألما أعاني منه وقلقا أعيشه ، وإذا كان قد تطرق إليه عبر أشخاص عاديين
في عمل روائي ، فقد طرقته في كتبي الثلاثة الأخيرة بشكل مباشر بالبحث عن ماهية الخالق ( الله ) وكيف يمكن التقرب إليه وعبادته ، إذا كان حقا في حاجة إلى عبادة تقليدية !!
ما الذي يعرفه هؤلاء التكفيريون الظلاميون الذين يستلون خناجرهم لقطع أعناق أخواتنا
وبناتنا أو أخواتهم وبناتهم ، عن الدين ؟! والنبي الأعظم الذي لم ولن تنجب أمتنا مثله قال (حبب إلي من دنياكم: النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة" . وفي حديث آخر أنه قال: "أرحنا يا بلال بالصلاة)
" .( رواه كثيرون .. ويلاحظ أن النبي وضع النساء أولا ) وروي كثير عن زانيات عفا عنهن النبي محمد ومنهن من كن حاملات من زنى فتركهن ليلدن ويربين ابناءهن . وروي عن أخريات عاقبهن بصفعة برزمة من القش على مؤخراتهن . ولم يعاقبهن لا بحجارة ولا بخناجر تقطع الرؤوس .
أصبح من يحب النساء في زمننا يخجل من قول ذلك أمام أقرب الناس إليه ، فما بالكم أمام الناس ؟ بالمناسبة ( يسلم لي ربهم ما أحلاهم ) !!!وأنا معك يا حبيبي يا رسول الله .
ما الذي يعرفه هؤلاء عن الدين ، هل قرأوا سيرة النبي محمد لابن هشام بأجزائها الأربعة ؟ أشك ! هل يعرفون أنه لا يوجد دين في العالم يبيح الجنس (وليس الحب فقط )أكثر من الإسلام ؟ ألا يعرفون كم امرأة تزوج النبي محمد ؟ وألا يعرفون كم امرأة وهبت نفسها له ، ألا يعرفون أنه كان هناك متعتان في الإسلام وهما متعة الحج وزواج المتعة ؟! متعة الحج كانت تمارس في موسم الحج وبوجود النبي . وهاتان المتعتان منعهما عمر بن الخطاب بعد أن أتاحهما النبي محمد . وما زال الشيعة يأخذون بزواج المتعة . وفي السعودية ابتدعوا زيجات كثيرة لا تقل عنه متعة ، كزواج المسيار!هل يعرف هؤلاء أن طواف الحج كان عريا أو شبه عري، قبل الإسلام واستمر في صدره إلى أن استبدله النبي محمد بملابس الإحرام ؟ّ هل يعرف هؤلاء التكفيريون لماذا جبل عرفة هو الجبل الوحيد في الدنيا الذي يجمع اسمه (عرفات ) أي جبل التعارف الجماعي ! (واللبيب بالإشارة يفهم )!!
لنترك كل هذا.. ما معني أن يبدأ القرآن الكريم بكلمة إقرأ ؟! وأمتنا تصر على عدم القراءة . لماذا طلب إلينا أن نطلب العلم ولو في الصين ومن المهد إلى اللحد ، وأنتم أدرى بشؤون دنياكم ؟! ما الذي يقصده النبي محمد بكل هذه الأحاديت وغيرها كثير جدا . ألم يكن يدرك أن العلم في الصين قد يقودنا إلى ما قد يخالف فهم زمن النبوة ؟ بالتأكيد وإلا لما قال ( أنتم أدرى بشؤون دنياكم )
إن رواية رشاد هي صفعة للتخلف الثقافي الذي نعيشه في غياب مشروع نهضوي ثقافي ينتقل بالمجتمع إلى العصر الذي نعيش فيه . وهي بالتأكيد نصرة وانتصار للمرأة وحقوقها المستلبة في مجتمع ذكوري متخلف يضهدها ويتنكر لحقوقها .وآمل من اتحاد المرأة الأردنية والفلسطينية بل والعربية أن يتبنى الرواية ويطبعها بطبعة رخيصة ويعممها على النساء بسعر بسيط .
* البناءالفني في الرواية .
آن الأوان لأن أتحدث عن الشكل الفني في الرواية بعد أن أتيت بما تيسر عن المضمون .
كما هي عادته في معظم كتاباته التي قرأتها لا يلجأ رشاد إلى أساليب معقدة ، فهو يكتب بأسلوب مبسط تمكن منه عبر تجربته الطويلة مع الكلمة . فالوقائع تسير بشكل تصاعدي والشخصيات تتكشف لنا عوالمها عبر تتابع الأحداث وتقليب الصفحات . غير أن رشاد زاد من التبسيط هذه المرة بأن اعتمد التقطيع المشهدي . فكلما تغير المكان والزمان انتقل رشاد إلى مشهد جديد . ويندر أن نجد تغيرا في الزمان والمكان والحدث بتغير المشهد ، ربما في فصول لا تتجاوز أصابع اليد .
هذا التقطيع المشهدي شبه السينمائي وإن لم يكتب بلغة السيناريو السينمائية سهل القراءة أمام القارئ بحيث جعله يتنقل بسهولة من مشهد إلى آخر دون أن يشعر بأية أعباء جراء القراءة . فبعض المشاهد لا يتجاوز الصفحة ونصف وأطولها لا يزيد عن سبع صفحات .
هذا التقطيع المشهدي أدى إلى أن تكون الرواية في سبعة وسبعين مشهدا ، بسبعة وسبعين عنوانا إذا استثنينا بعض المشاهد التي يمكن أن تعتبر فصولا لاحتوائها أكثر من مشهد ، وهو في الغالب يتعلق بشخصية واحدة تنتقل من مكان إلى مكان لتتابع شأنا من شؤونها .
لم يلجأ رشاد إلى ترقيم المشاهد ، فهذا التعداد الرقمي تم من قبلي . هناك مشهد واحد حمل رقما وهو المشهد الأول حيث حمل الرقم واحد ولم تتكرر الأرقام بعد ذلك . وإذا كان هذا الرقم يشير إلى فصل ‘ ففي الإمكان القول أن الرواية كلها كتبت بفصل واحد !! وربما
كان رشاد ينوي ترقيم المشاهد أو الفصول ثم تخلى عن ذلك في ما بعد وظل الرقم دون حذف .
عنونة المشاهد سهلت على القارىء تتبع أحداث الرواية ، فهي معظمها تشي أو تفصح عما يتضمنه المشهد من حدث ، كما في المشهد الأول ( ولادة نجمة ) والثاني ( دفن حبل
السرة والمشيمة ) . وثمة بعض المشاهد لا تشي عناوينها بشكل مباشر عما يتطرق إليه المشهد ك (غبار ) و(على ظهور العيس ) و( تقريبا ) وإن كان المشهد يتضمن شيئا مما يوحي به العنوان .
لغة رشاد مبسطة ، سهلة ، مكثفة ، ليس فيها أي تكلف على الإطلاق ، يقول ما يريده بأبسط الكلمات وأقلها ، مما يجعلق القارئ يتابعها بسهولة ودون أي عناء ، متتبعا الأحداث المشوقة والمؤثرة . من لحظات انسانية تحمل دفء الحب ولحظات غير انسانية
( عدوانية ) تقشعر لها الأبدان وتشمئز منها النفوس . ونظرا لأنني انسان عاطفي جدا
فقد كانت الدموع تترقرق في عيني وأحيانا تنزلق على وجنتي في بعض المشاهد الإنسانية المؤثرة كدخول وطفاء إلى الجامعة بعد حرق وجهها وعنقها بمياه النار .
لقد قرأت منذ قدومي إلى عمان قرابة عشر روايات من ضمن ما قرأت ، وتعتبر رواية رشاد واحدة من أهم الروايات التي قرأتها . والحق أنني فوجئت بما وصلت إليه الرواية الفلسطينية الأردنية . فوجئت بابراهيم نصر الله وجمال ناجي ومحمود شقير كما فوجئت برشاد ، القامة الشامخة في الثقافة الفلسطينية .
ويهمني أن أتطرق إلى حوار جرى معي في ( القدس العربي ) قبل قرابة عشرين عاما . حمل عنوانا أثار نقمة الكثيرين علي ، ومنهم رشاد بالتأكيد ، وقد جاء في العنوان ( لا يوجد في الساحة الفلسطينية روائي كبير واحد ) وهذا ما أثار نقمة كثيرين علي وراحوا يقولون ( محمود شاهين ألغى الجميع ليبقي نفسه كروائي كبير ) ّ!!
يهمني جدا أن أؤكد الآن أنني مجرد مشروع روائي تحطم طموحه في أن يكون روائيا كبيرا على صخرة الرقابات العربية والعوز وغير ذلك ، فتحول إلى الرسم في مغامرة جنونية ليتخلص من العوز ويحيا بكرامة ، وقد لا يعود إلى الرواية أبدا !! وها هو يعود إلى العوز ثانية رغم ممارسته للرسم بعد تشرده في عمان .
وحين تطرقت إلى عدم وجود روائي كبير كان يمثل في مخيلتي أسماء مثل : دوستويفسكي ، ثربانتس ، دانتي ، شكسبير ، هيجو ، بلزاك ، كازنتزاكي ، شولوخوف ،
بوشكين ، ديكنز، شارلوت برونتي ، جوته ، هوميروس . بغض النظر عن وجود شعراء ومسرحيين بين هؤلا.
من في الساحة الفلسطينية أو العربية وحتى العالمية يجرؤ على القول أنه بحجم دوستويفسكي مثلا ؟!
دوستويفسكي وبعض هؤلاء العمالقة لن يكرروا في تاريخ البشرية . أما من حيث المقارنة بأدباء عالميين معاصرين وغير معاصرين ، فلدينا من هم أهم من هؤلاء أو بمستواهم ، وهم كثر .
ختاما .. تحية حارة للصديق والزميل رشاد في يوم تكريمه ، وهذا أقل ما يمكن عمله
لرجل أمضى عمره مناضلا من أجل كلمة حرة ومن أجل فلسطين .
25-3-2013
(15)
سعود السنعوسي يحلق عاليا في " ساق البامبو"
+ مدخل :
في كانون الثاني من هذا العام كنت قد أنهيت قراءة ما لا يقل عن خمس عشرة رواية عربية ، أثر لجوئي إلى عمان بعد إقامة في دمشق دامت لأكثرمن أربعين عاما ، لم أجد ما أفعله غير القراءة ، وككاتب لم أجد صحيفة توافق على تشغيلي أو حتى على الكتابة فيها ، وكرسام لم أجد
صالة تقبل إقامة معرض لي ، عدا صالة رابطة التشكيليين الأردنيين التي وافقت على إقامة معرض لي ما أن طرحت الأمر على إدارتها.
نجحت فيما بعد في نشر بعض المقالات في شؤون فلسطينية وأفكار الأردنية ونزوى العمانية والعرب اللندنية والقدس، وظل هاجس الكتابة عن الروايات الكثيرة التي قرأتها يشغلني ، خاصة وأن لي تجربة مع الكتابة الأدبية والنقدية لقرابة أربعين عاما ، وإن كنت قد تحولت في قرابة عشرين منها إلى امتهان الرسم أيضا ، الذي كان هوايتي ، ثم إنني وجدت نفسي في حاجة إلى عمل ثابت يغطي تكاليف إقامتي في عمان قبل أن تنفد نقودي التي وفرتها من الرسم في دمشق .
ثمة روايات أثرت في أكثر من غيرها . كانت رواية " ساق البامبو" من أهمها . وحين لم أجد صحيفة أتفق معها بشكل دائم ، شرعت في كتابة مقال بعنوان ( أقل الكلام في خير ما سطرته الأقلام ) عن عشر روايات دفعة واحدة بكلمات مقتضبة أسجل فيها انطباعي عن كل رواية. أرسلت المقال لأكثر من عنوان صحفي في حاسوبي ، لأفاجأ بأن جميع من أرسلت لهم المقال نشروه . صحف : العرب والقدس والحياة وغيرها ، إضافة إلى صحف ومواقع ومنتديات كثيرة على النت نقلت المقال عن الصحف أو وصل إليها من قبلي ..
وكان مما قلته عن " ساق البامبو" :
"عشق. محبة. دفء. تتمنى لو أن للرواية حضنا لتغفو عليه. عمل آسر، ممتع، مضحك، مبك، محلق في رحاب النفس الإنسانية، عذاباتها، آلامها، طموحاتها وآمالها.. ابن من خادمة فلبينية يبحث عن أبيه الكويتي وهويته الكويتية "
هذه الأيام قررت أن أتناول هذه الروايات على حده ، بأن أكتب مقالا عن كل واحدة منها ، إضافة إلى روايات أخرى قرأتها . كانت رواية السنعوسي هي الأقرب إلى قلبي . قلت سأتصفحها من جديد لأتذكر بعض وقائعها بعد مضي قرابة عام على قراءتها .
أخذتها وشرعت في القراءة التي يفترض أنها تصفحية .. لكني لم أتنبه لنفسي إلا وأنا أغرق
في قراءة الرواية وكأنني لم أقرأها من قبل " غضبي عليك يا سنعوسي كم أنت جميل ، هل أنا أمام دوستويفسكي ؟ أي سحر هذا ؟ أي أديب أنجبته الكويت ؟ " وهكذا أرغمني السنعوسي على قراءة الرواية مرة ثانية ، وهي بالتأكيد الرواية الوحيدة في حياتي التي قرأتها مرتين ، حتى رواياتي الشخصية ،لا أذكر أنني قرأتها كاملة بعد نشرها ،كنت أقوم بالتصفح ومراجعة بعض الفصول فقط ، قد أستثني ملحمة "غوايات شيطانية ، سهرة مع ابليس ) التي منعت مع شقيقتها
" الملك لقمان " في معظم الدول العربية .
لا أذكر لمن قرأت لهم من قبل من الأدب الكويتي إلا ليلى العثمان وإسماعيل فهد اسماعيل وبعض القصص والأشعار لآخرين لا أذكر منهم إلا سعاد الصباح.. وللحق إن الشعور بأنني أمام أدب عظيم لم يراودني إلا مع سعود السنعوسي في روايته هذه . وهذا لا يعني أن أدب الآخرين ليس جيدا ، وخاصة الكبيرين اسماعيل فهد اسماعيل وليلى العثمان .. وأنني أنتهز المناسبة لأعتذر من الأديبة ليلى العثمان لأنني لم أف بوعدي بالكتابة عن أعمالها ، لأنني توقفت عن الكتابة في صحيفة الحياة اللندنية التي كنت أكتب فيها آنذاك ، ومررت بظروف قاسية مثل التي أتعرض لها الآن ، وتحولت إلى الرسم ..
أمضيت ثلاث ليال في إعادة قراءة " ساق البامبو " ، دون أن أشعر أنني أقرأ الرواية للمرة الثانية ، بل كنت متشوقا للغوص في التفاصيل وإعادة قراءة بعضها .
يتسلل سعود إلى نفوسنا بهدوء وترو وخفة دم وصدق قل نظيره في الأدب . لم أشعر ولو للحظة بالمبالغة أو التكلف والإفتعال في السرد ، بل شعرت أنني أمام حياة حقيقية لأشخاص
حقيقيين ، لا مكان للخيال فيها . شخصيات مرسومة بدقة متناهية . أحببت عيسى وراشد وغسان ووليد. أحببت جوزافين وآيدا وهند وميرلا وخولة .. وأحببت المجانين أصدقاء عيسى .
أحببت جميع أبطال الرواية .. وأحببت سعود السنعوسي والكويت ، رغم إدانة الرواية لواقع اجتماعي أفرزته مجموعة عوامل كان عيسى ضحيته . ففي الوقت الذي كان فيه قانون الدولة إلى جانب عيسى بمنحه الجنسية الكويتية كابن كويتي ، كان القانون الإجتماعي غير المدون يرفض هذا الشاب كونه ابن خادمة فلبينية . كم هو قاس هذا القانون ، حتى القانون الذي يصنف البعض (بدون) يسمح لهم بالإقامة في الكويت ، أما هذا (القانون ) الشفهي فهو يحاصر المرء حتى في سريره، وبينه وبين نفسه . وهذا ما دفعني إلى التساؤل هل هذا التمايز الطبقي كان سائدا أيام اللؤلؤ أم أن الواقع الحديث للكويت هو الذي أفرزه ؟ مع أن هذا التمايز لا يلمس في الرواية إلا ضمن الأجيال القديمة ، الأجداد والكبار نسبيا ،أما بين أجيال الشباب فلا وجود له ،فعلاقة عيسى بالمجانين الخمسة كانت علاقة حميمية ،وكما تكون عليه أي صداقة .
ثمة مواقف مؤثرة كثيرة في الرواية: تشييع جثمان الأمير . وقوف عيسى على قبر أبيه الشهيد راشد . وداع خولة لعيسى عند تركه منزل العائلة . وداع خولة وهند وغسان لعيسى في المطار عند مغادرته الكويت عائدا إلى الفلبين . إضافة إلى مشاهد كثيرة تحتاج إلى وقفة مطولة معها .
وثمة مشاهد كثيرة تثير الضحك أيضا وتحتاج إلى وقفة .
البناء الفني في الرواية :
إن أهم ما ميز اسلوب الرواية هو البساطة والصدق . لكن أية بساطة ، إنها بلاغة البساطة أو السهل الممتنع كما يقال .. حيث لا يشعر المرء أنه أمام كتاب يقرأه ، فيأتي الخطاب الروائي سلسا سهلا يتسلل إلى نفس القارئ قطرة قطرة إلى أن يجد نفسه أسير النص .
من الفصل الأول يضعنا السنعوسي في أجواء روايته ، فيقدم نفسه على أنه ابن رجل كويتي من خادمة فلبينية وأنه يبحث عن هويته ووطنه " لينعم برغد العيش ويحيا بسلام " كأبنائه . لقد فعل ما لم يفعله روائي من قبل حسب ما أعلم . وفي مقدور أي قارئ أن يقرر على ضوء هذه المقدمة ما إذا كان يستهويه هذا الأمر ليقرأ الكتاب أو لا يقرأه . غير أنني أكاد أجزم أن أي مهتم بالأدب لن يقرأ هاتين الصفحتين إلا ويشرع في قراءة الكتاب بشغف .
لجوء السنعوسي إلى لعبة الترجمة التي ليست غريبة علي ككاتب خاصة وأنني قرأت "عزازيل " و" اسم الوردة " في الفترة نفسها ، جعلني أشك في أن السنعوسي ابن فلبينية ويكتب بالفلبينية ،لكثرة ما أجاد في وصف الحياة الفلبينية ،ولعمق الصدق الذي قدم به عيسى ، خلال 79 فصلا وخاتمة في خمسة أجزاء .
بعد المقدمة ، يعود السنعوسي إلى الوقائع من بدايتها ،ويشرع بها صعودا إلى النهاية ..
لا شك أن الرواية تحتاج إلى أكثر من مقال ، والتوقف عند محطات كثيرة فيها ، لكن الصحف تشترط أن لا يزيد المقال عن كذا كلمة ،حسب خطها ، وآخر صحيفة أكتب فيها أحيانا ( العرب ) أعطتني حد أقصى 1100 كلمة للمقال ! وها أنا أنظر أسفل شاشة الحاسوب لأجد أن الرقم
1117 ، ولم أنته بعد وما يزال لدي الكثير لأقوله ، وكم كان بودي أن أشرك القراء في المشاهد التي أبكتني أو أضحكتني وغير ذلك ،وآمل أن يتاح لي في مقالة ثانية .
تهاني الحارة للأديب سعود السنعوسي وتهاني للكويت بالجائزة العربية التي نالتها الرواية والتي استحقتها بجدارة .
*******
(16)
ملحمتا محمود شقير بين خصوصية الخطاب السردي
والإستلهام المقصود !
( رد على د. غسان عبد الخالق )
صديقي العزيز الأستاذ محمود شاهين ... أشكرلك مبادرتك للتعليق على مقالتي حول رواية " مديح لنساء العائلة " ، واسمح لي بأن أؤكد كل الأطر المرجعية ... الرئيسة والثانوية ... التي نوهت بها في مقالتي ... علما بأن الرواية منقوعة بهذه الأطر وتفيض بها فيضا ... سواء على صعيد استلهام السيرة الهلالية أم على صعيد أدب الرسائل أم على صعيد أدب المنامات أم على صعيد أدب الرحلة أم على صعيد استحضار نموذج شهرزاد . وفضلا عن أن الاستلهام لا يعني بحال من الأحوال الترجمة الحرفية والميكانيكية للسيرة الهلالية وغيرها من النماذج التي تم استلهامها ... فإن أخشى ما أخشى قوله هنا هو أنك تحمست للتعليق على مقالتي حول الرواية قبل أن يتسع وقتك لقراءة الرواية !!! مع بالغ الاحترام والتقديروالحب لشخصكم الكريم .
تستلهم الرواية مأساة تغريبة بني هلال التي تحكي ما واجهوه من صعاب وما خاضوه من حروب في طريق عودتهم من المغرب الأقصى –وفي رواية أخرى من الأندلس- إلى مصر، حيث تعرّضوا لما يمكن تسميته (تصفيات حساب) مع كل خصومهم الذين سبق لهم أن تسببوا بتشريدهم وتدمير ديارهم. ومع أنّ السارد لا يأتي على ذكر هذه التغريبة صراحة، إلاّ من خلال بعض الإشارات الخاطفة لعازف الربابة المولع بالسيرة الهلالية طبعًا، إلاّ أنّ الإطار العام للحكاية، والذي يمكن تلخيصه في تزايد رغبة زعيم قبيلة العبد اللات في الارتحال بقومه من عمق الصحراء إلى تخوم القدس خلال أعوام الحرب العالمية الأولى، يعزّز لدينا هذا الاستلهام غير المباشر. ومن المؤسف أن تتجه أنظار بعض النقاد الذين قرأوا الرواية إلى المقارنة بينها وبين (مائة عام من العزلة) لجابرييل ماركيز، بدلاً من قراءتها في ضوء تغريبة بني هلال، وهي المرجعية الثقافية الأوثق الأعمق. والحق أن ما تعرّضت له قبيلة العبد اللات من صعوبات وما واجهته من عقبات في طريق ارتحالها لمتاخمة مدينة القدس يزيد من قناعتنا بوجود هذا الاستلهام لتغريبة بني هلال.
عزيزي الأستاذ غسان . اشكرك بدوري على الرد .الذي دفعني إلى التفكير في رد مطول .
كنت قد كتبت تعليقا قصيرا على صفحة الجسرة ،أشكرك فيه على المقال وأشير إلى اختلافي معك حول استلهام سيرة بني هلال .غير أن الجسرة لم تنشره .
في مقالك الحالي أشرت إلى أن محمود استلهم مرجعيات تراثية أخرى :
(والحق إن الجزء الثاني الذي تدثر بعنوان شعري لافت "مديح لنساء العائلة" لم يشتمل على ما يؤكد المرجعية الهلالية فقط، بل اشتمل أيضًاعلى مرجعية ثانوية كنت قد لمّحت لها في مقالي الأول، وأعني بها "شهرزاد" بكل ما يمكن أن تحيل إليه من سياقات تتصل بليالي السمر العربية، فضلاً عن أدب السيرة النبوية وأدب الرسائل وأدب المنامات وأدب الرحلات)
أظن لو أنك قلت أن محمود شقير استلهم عبر تجربته الأدبية المديدة الأساليب المختلفة لفنون السرد الأدبي بما فيها التي تذكرها أعلاه والتي لا تتفق مع من تطرقوا لها (مائة عام من العزلة ) ولكن حين كتب لم يكن إلا مع نفسه ليخرج بأسلوب محمود شقير وحده . لو أنك قلت ذلك ولم تتقيد بالتغريبة الهلالية لكنت قاربت الحقيقة . وهذا هو رأيي .
فثقافة البشرية وليس الأدب وحده تؤثر وتتأثر . وللكاتب الحق أن يستلهم اسلوبا محددا بعينه كما سبق لي وأن استلهمت اسلوب أميل حبيبي إلى حد التمثل في ( الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل ) في قصة لي كتبتها في سبعينيات القرن الماضي تحمل عنوان ( الأسباب العجيبة التي حدت بمواطن مجهول الى الوقوف ضد الزيارة وضد المختار) نشرت في مجموعتي القصصية الثانية ( الخطار ) عن دار القدس 79..وكما للكاتب الحق وبالتأكيد في أن يستلهم دون أن يتمثل أو يقلد أو يحاكي أسلوبا بعينه كما فعل محمود شقير .
وسامحك الله تفترض أنني لا أعرف ما هو الإستلهام وتفترض أنني لم أقرأ رواية محمود شقيروتسرعت في الرد عليك .. هل يعقل هذا يا عزيزي أن توجه لي هذين الإتهامين وأنت أديب وناقد ، دون أن تستند إلى مرجع !
لقد قرأت الرواية مخطوطة يا عزيزي وكانت بعنوان غير الذي تحمله حاليا .. وأعدت قراءتها بعد النشر . وأراجع حاليا بعض فصولها . وبالأمس بكيت على رحيل منان ، انزلقت دمعتان من عيني دون إرادتي . وقد سبق لي وأن كتبت عن الجزء الأول مقالا مطولا نشر في شؤون فلسطينية وفي العديد من المواقع منها الحوار المتمدن ، بعنوان " البطولة الجماعية في فرس العائلة "
محبتي واحترامي .
.
(17)
أقل الكلام في خير ما سطرته الأقلام !!
قرأت في الأشهر الأخيرة عشرات الكتب . بعضها كتبت عنه . ومعظمها لم أكتب عنه بعد لعدم عثوري على صحيفة أو مجلة تنشر لي بشكل دائم ، خاصة وأن العديد من المقالات المكتوبة عن بعض الكتب لم ينشر بعد . ساتناول في هذه العجالة
وبكلمات مختصرة جدا آخر أهم عشر روايات قرأتها ، وسأبدأ من آخر رواية وأعود إلى الوراء .
1- عمارة يعقوبيان : علاء الأسواني .
يمسك علاء بتلابيبنا ولا يكاد يترك لنا فرصة للتنفس وهو يحدثنا عن عالم القاهرة في العقود الأخيرة ، طارقا أبوابا جديدة لم يطرقها الأدب العربي إلا نادرا كاللواط والشذوذ الجنسي بين الرجال ، والجماعات السلفية . رواية مكتوبة بإتقان شديد ، ومهنية عالية .تؤهلها لأن تكون واحدة من أهم الروايات في الأدب العربي .
2- ترمي بشرر: عبده خال .
كابوس فظيع .زلزال . استهانة واستهتار وتجاهل لكل القيم الدينية والأخلاقية ، في بلد يفترض أنه بلد القيم والدين والأخلاق . المترفون يحيون في عالم الترف بقصوره ونسائه وغلمانه وخموره . حتى إن صلوا الفجر يوما يصلونه وهم سكارى ولا ينهضون من السجود ، أو بين أحضان العاهرات . لواط ، شذوذ ، اضطهاد ، قتل ،سحق للإنسان ، ولكل ما هو نبيل . رواية صادمة في عالمها ، ممتعة وشيقة في أسلوبها . أرشحها لأن تكون الرواية الأهم في الأدب العربي على الإطلاق ، لما حملته من جرأة شديدة في تعرية الواقع المزيف حتى العظم .
3- عزازيل : يوسف زيدان .
عالم المسيحية بصراعاته وتناقضاته . الرهبنة المضادة للغرائز الإنسانية . حتى الخوري الراهب لا يستطيع تطبيقها ، يعشق اول مرة ويغرق في حمى المتعة الجنسية . يحاول أن يستقيم لكن دون جدوى . يغرق في العشق مرة ثانية ويمارس الحب . ومن حوله أناس يضاجعون أمهاتهم وأخواتهم وحتى الأغنام ..صفعة لعالم
مزيف يرتدي قناع الدين .
4- ساق البامبو: سعود السنعوسي .
عشق . محبة . دفء. تتمنى لو أن للرواية حضنا لتغفو عليه . عمل آسر : ممتع ، مضحك ، مبكي ، محلق في رحاب النفس الإنسانية ، عذاباتها ،آلامها ، طموحاتها
وآمالها .. ابن من خادمة فلبينية يبحث عن أبيه الكويتي وهويته الكويتية دون جدوى . المجتمع الكويتي يرفض وبشدة أن يكون كويتي ابن خادمة !! إنها ضريبة الثراء التي تفقد الإنسان بعض انسانيته . لو كانت أحداث هذه الرواية تدور في زمن اللؤلؤ وما قبل النفط ، لكان ابن الخادمة كويتيا كامل الحقوق .
صفعة مؤلمة للمجتمع ، ومؤثرة في النفس الإنسانية . تستحق وبجدارة أن تكون واحدة من أهم الروايات في الادب العربي .
5- شرفة الهاوية : ابراهيم نصر الله .
بشر يتسلقون ويهوون . نساء مضطهدات . نفوس معذبة . جشع . استغلال . طمع . بحث عن الملذات .
اسلوب متقن وممتع . يتلاعب ابراهيم بالزمن تقديما وتأخيرا . يستولي على قارئه
وهو يقود أبطاله إلى الهاوية .. هاوية العواصم العربية التي لا تختلف إحداها عن الأخرى .
6- ماء السماء : يحيى يخلف :
( ماء السماء ) هي الجزء الثاني من ثلاثية ليحى يخلف ، سبقها الجزء الأول ( بحيرة وراء الريح ) الذي لم يسعفني الحظ حتى الآن في العثور عليه .
يحيى كمعظم الكتاب الفلسطينيين مسكون بمأساة شعبه ، وهاجسه الأول هو التأريخ للقضية الفلسطينية ، ففي هذا الجزء يتابع يحيى الصراع الذي بدأه في الجزء الأول ، فينقلنا إلى التشرد واللجوء والعوز والحياة في الدول المجاورة لفلسطين وانطلاقة الثورة الفلسطينية. نحيا مع ابطال يحيى آلامهم عبر اسلوب واقعي مؤثرومشوق يصور الحياة في قسوتها . وسيكون لي وقفة مطولة مع ثلاثية يحيى بعد حصولي على الجزء الأول .
7- يحيى يخلف : جنة ونار :
إنها الجزء الثالث من ثلاثية يحيى . هنا تتعمق شخصيات يحيى ، في ظل الثورة ، ويبدأ البحث عن الهوية والوطن والأهل ، وتتعزز الآمال بالعودة .. نعيش مع سماء
فرحها وحزنها وهي تبحث عن أمها التي تبين لها أنها فقدتها منذ عام 48 .تدخل مع دورية مقاتلة إلى الأرض المحتلة ، وبعد بحث مضن تعثر على أمها وتلتقي بها . يصور يحيى لنا اللقاء في مشهد مؤثر جدا .
حسب معرفتي أن ثلاثية يحيى هي الثلاثية الاولى والوحيدة التي تناولت القضية في ثلاث روايات تكمل واحدتها الأخرى ، وتتابع حياة شخوصها . عمل ممتع وشاق وهام بذل يحيى جهدا كبيرا لإنجازه . ويحتاج إلى دراسة ووقفة مطولة كما أسلفنا .
8- سجاد عجمي : شهلا العجيلي :
نقوش وزخارف وفسيفساء على صدر مدينة الرقة . مدينة الأديب الكبير عبد السلام العجيلي ، ومدينة شهلا. عودة إلى زمن ما عباسي وصراع بين شيعة وسنة في خلفية المشهد الروائي ، عنوانه مصحف عائشه !! نساء عاشقات مبدعات .. نحيا آمالهن وآلامهن ..
لوحة تراثية ترسمها لنا شهلا ، بدفء وحميمية ومحبة وتأن ، نسيج متقن بأرواح الرقاويات . نسمات منعشة تهب على ضفاف الفرات ، باعث الحياة ، المفرح أحيانا ، والمحزن أحيانا حين يغرق فيه طفل جميل وحيد أمه .
لا بد من وقفة مطولة مع الرواية في الأيام القادمة .
9- غريب النهر : جمال ناجي :
كتبت مقالا عن هذه الرواية . يتابع جمال فيها اسرة عائلة فلسطينية في تشردها ومقاومتها لمصاعب الحياة ، باسلوب ممتع شيق ، يمسك فيه جمال بالزمن لقرابة قرن ، متلاعبا به بين الماضي والحاضر ، مطلا على شرفات المستقبل ، وحلم الفلسطيني بفلسطين . يبدو جمال متمكنا من ناصية السرد ، يضحكك من أعماقك
أحيانا ، ويدفعك باتجاه التأمل والتفكر أحيانا أخرى ، وأنت تقوم بربط الوقائع بعضها بالآخر ، حتى لا تفلت خيوطها من بين يديك .
10- على جناح الطير : سميحة خريس :
أي عشق هذا ؟ أي حب ؟ أي وله بالمدن والعواصم ، تحيلك سميحة إلى ركن ما في مدينة أو إلى أحد أبنائها ، وهي تدفعك لأن تحب هذه المدينة بإرادتك .. هي ليست رواية . إنها سيرة مدن عاشت فيها سميحة بصحبة والدها الدبلوماسي الأردني .. مدن أصبحت جزءا من ذاكرتها ونسيج روحها ، فتحدثت عنها بمحبة وعشق حتى الوله .كتاب دفعني لأن أبحث عن كتب أخرى لسميحة لقراءتها وقد فعلت .
وسأستغل هذه المناسبة لأتسول من بعض اصدقائي الكتاب في الأردن بعض مؤلفاتهم .. فأنا مشرد من دمشق والنقود التي ادخرتها لشيخوختي (من الرسم وليس من الأدب ) تطير ، وأوشكت على النفاد ، ولا أمل في الأفق إلا مسدس الإنتحار .فآمل أن يزودوني ببعض هذه المؤلفات لتكون غذاء لروحي حتى يحين أجلي مع المسدس ! يمكن وضع الكتب في رابطة الكتاب .
مع جزيل شكري .
م.ش.
(18)
نخز وأدب ونقد وعرض عمل فوقي جدا !!
160 ناخزا وناخزة نخزوني وأنا ولا على بالي ! لأ ما إلي حق ورب الكعكة لأذهب وأنخزكم نخزا وأبوكونكم بوكوا لأنني في هذه الليلة قررت أن أريح وأستريح وأمتطي بساط الريح بعد أن سحبت من المكتبة خمس عشرة رواية قرأتها في الأشهر الأخيرة ولم أكتب عنها . وبعد أن كومتها أمامي لتشكل رجما قنطريا وجدت نفسي أصرخ متأوها " أوه هل سأكتب عن كل هذا الكم من الروايات " ولا أعرف كيف وجدت نفسي ألغي الفكرة وأشرع في إعادة الروايات إلى المكتبة . لكن وللحق والحقيقة والمرأة الطليقة أن ثمة روايات سحرتني بجمالها ولا بد من ذكر عناوينها وأسماء مؤلفيها لمن يحب أن يقرأ ما هو جميل وممتع ومفيد :
1- عندما تشيخ الذئاب : جمال ناجي ( فلسطيني أردني )
2- زمن الخيول البيضاء: ابراهيم نصر الله . ( فلسطيني أردني )
3- حارس المدينة الضائعة : ابراهيم نصر الله ( فلسطيني أردني )
4- السيدة من تل أبيب : ربعي المدهون . ( فلسطيني بريطاني ) !
5- محال . يوسف زيدان مصري )
6- النبطي . يوسف زيدان =
7- ظل الأفعى . = =
ملاحظة : أهمية الروايات حسب ترتيبها :
8- طوق الحمام : رجاء عالم : ( السعودية )
9- فرانكشتاين في بغداد : أحمد سعداوي ( العراق )
10 – الأسود يليق بك : أحلام مستغانمي ( الجزائر )
11- مملكة الفراشة : واسيني الأعرج . ( الجزائر )
الروايات الأخرى بعضها قديم وبعضها نسيت عنوانه ولا أريد أن أنهض لأبحث في المكتبة من جديد .
لن أكتب عن هذه الروايات وغيرها إلا لمن يدفع أفضل من الصحف والمجلات . واعتبارا من هذا اليوم لن أكتب نقدا عن روايات وكتب إلا بعقد عمل واضح وصريح ومقبول .ولتذهب الصحف والمجلات العربية والمواقع المأجورة إلى الجحيم !
ثمة كتب غير أدبية وهي كثيرة ،أهمها للراحل الكبير نصر حامد أبو زيد ويوسف زيدان .
الشعر الذي قرأته بعضه جيد لعبد الله رضوان . ومعظمه مقبول لنوري الجراح وغيره ،والقليل منه رديء .
الآن سأذهب لأصدقائي أبادلهم النخز بالنخز واللكز باللكز وسأبدأ بالجنس اللطيف لأن نخز الجنس الخشن خشونة مطلقة !
********
نهاية الجزء الأول



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحيل معلن إلى رحاب المطلق الأزلي ! رواية . الجزء الأول
- أسفار التوراة (6) قراءة نقد وتعليق . أمثال .الجامعة. نشيد ال ...
- * رجل مسيء خير من امرأة محسنة ارتكبت خطأ !
- * الرعب والهلاك ينبغي انزالهما بالأمم لتعرف أن لا إله إلا ال ...
- * عينا الرب أضوأ من الشمس عشرة آلاف ضعف ! وداعا أيتها الشمس ...
- سفر يشوع بن سيراخ 26/2/ فصل 151:يفترض أن الرب قاس الأرض بالم ...
- سفر يشوع بن سيراخ 26/1 فصل (150) شطارة الرب في إحصاء رمال ال ...
- تألق الخطاب الملحمي بين الشاعرية والتاريخ في - زمن الخيول ال ...
- أسفار التوراة (5) قراءة نقد وتعليق . يهوديت .أستير . مزامير
- أسفار التوراة (4) قراءة نقد وتعليق. ملوك ثاني. أخبار أيام أو ...
- سفر الحكمة 25/4/ فصل : 144: إله يتمتع برؤية الدم يملأ كل مكا ...
- - ترانيم الغواية - في مدينة السماء : موطن الآلهة ومقام الأمم ...
- سفر الحكمة 25/3/ فصل 143: اختلاط الحابل بالنابل ويهوة بالمسي ...
- سفر الحكمة 25/2/ فصل 142. أكبر خطأ ارتكبته الكنيسة هو دمجها ...
- سفر الحكمة 25 /1 / فصل / 141. الشيطان اللئيم لعنه الله هو من ...
- نشيد الأنشاد 24/2/ فصل 140. العروس تدخل جنة سليمان وتأكل شهد ...
- سفرنشيد الأنشاد /24 /1 / فصل 139. بنات صهيون ينظرن إلى سليما ...
- ترقبوا سفر نشيد الأنشاد الذي هام به الشعر والشعراء والأوغاد ...
- سفر الجامعة 23 /2 / فصل 138. لم يجد سليمان المرأة التي تطلبه ...
- سفر الجامعة 23 /1/ فصل 137. الكنيسة ترى أن سليمان تاب وعاد إ ...


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - مقالات في الرواية . الجزء الأول.