أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمود شاهين - أيوب التوراتي وفاوست جوته . بحث مقارن . النص الكامل .















المزيد.....



أيوب التوراتي وفاوست جوته . بحث مقارن . النص الكامل .


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4681 - 2015 / 1 / 3 - 18:56
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أيوب التوراتي وفاوست جوته
( بحث مقارن )
محمود شاهين
(1)
مأساة أيوب
بعد طوفان نوح يراجع الرب ضميره ويقرر أن لا يعود إلى فعلته مرة أخرى :
21 فتنسم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان، لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته. ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت .
ولكن ما سيفعله بأيوب أكثر من لعنة وربما اسوأ من الموت .فمزاجية الرب ليس لها حدود ، فهو يغضب حين يريد ويرضى حين يريد !وسنغض الطرف عن الخلق الجديد الذي نشأ بهذه السرعة
بعد الطوفان المهول !!
رحلة مع سفر أيوب :
1 كان رجل في أرض عوص اسمه أيوب. وكان هذا الرجل كاملا ومستقيما، يتقي الله ويحيد عن الشر
2 وولد له سبعة بنين وثلاث بنات
3 وكانت مواشيه سبعة آلاف من الغنم، وثلاثة آلاف جمل، وخمس مئة فدان بقر، وخمس مئة أتان، وخدمه كثيرين جدا. فكان هذا الرجل أعظم كل بني المشرق !!
(التعجب من عندنا )
إذن كان أيوب رجلا تقيا ولديه ثروة غير معقولة في ذلك الزمن ، ولا نعرف ما حاجته إلى خمسمائة أتان ) حمارة) !( ربما كانوا يشربون حليب الأتن ) كما أن كاتب التوراة يعد البقر بالفدان . والفدان كما هو معروف مساحة من الأرض تقدر ب 4200م مربع . ويمكن أن يطلق على النير الذي يوضع على رقبة الثوريين للحرث ، ويمكن أن يكون المحراث نفسه ( حسب الوسيط ) فكيف يمكن أن يستخدم في تعداد البقر ؟! ربما خطأ ترجمة ) .
كانت حياة أيوب رغيدة وهنيئة قبل أن يقع تحت مكيدة الشيطان واختبار الرب ، فقد جاء يوم شاء فيه أبناء الرب أن يمثلوا أمامه وجاء الشيطان معهم :
1 :6 و كان ذات يوم انه جاء بنو الله ليمثلوا امام الرب و جاء الشيطان ايضا في وسطهم.
ويجري الحوار التالي بين الرب والشيطان :
1 :7 فقال الرب للشيطان من اين جئت فاجاب الشيطان الرب و قال من الجولان في الارض و من التمشي فيها
1 :8 فقال الرب للشيطان هل جعلت قلبك على عبدي ايوب لانه ليس مثله في الارض رجل كامل و مستقيم يتقي الله و يحيد عن الشر
1 :9 فاجاب الشيطان الرب و قال هل مجانا يتقي ايوب الله
1 :10 اليس انك سيجت حوله و حول بيته و حول كل ما له من كل ناحية باركت اعمال يديه فانتشرت مواشيه في الارض
1 :11 و لكن ابسط يدك الان و مس كل ما له فانه في وجهك يجدف عليك
1 :12 فقال الرب للشيطان هوذا كل ما له في يدك و انما اليه لا تمد يدك ثم خرج الشيطان من امام وجه الرب
يظهر الله في النص باسمه الإلهي ( الله ) (والرب ) وبأسماء أخرى في اللاحق من النص ،ويفترض أن الله هنا هو الإله اليهودي التوراتي يهوه ، الذي يطلق عليه في التوراة أسماء مختلفة .
لا نعرف من النص من هم أبناء الله هل هم من البشر أم من الملائكة . تفاسير الكنيسة تقول أنهم من الملائكة ،ومن المعروف أن الشيطان ملاك جميل كان مكرما عند الله . وكذلك لا نعرف الحال التي ظهر فيها الله ، لكن مثول بنيه أمامه يوحي أنه جالس على العرش !
يتضح من النص العلاقة الحميمة بين الشيطان والله ، فهو ( الله ) يعتبره من بنيه ، ولم يتحدث إلا معه دون الآخرين ، وهذه مكرمة من الله أن لا يتحدث إلا معه، ولو لم يكن كذلك لطرده من بين الملائكة الآخرين ،ولما تحدث إليه بهذه الحميمية ، سائلا إياه من أين جاء ( أي عن أخباره مما يوحي بالإطمئنان عليه ) وإجابة الشيطان بأنه كان يتجول ويتمشى في الأرض ، يوحي بالحرية المتاحة له في الأرض بأن يتجول ويذهب أينما شاء ، بل ويفعل ما يقدر عليه ، فها هو الله يسأله
ويطلب إليه بل ويوصيه بعبده أيوب بأن يجعل قلبه عليه .
نفهم من هذا الكلام أن الشيطان عطوف وصاحب قلب كبير يمكن أن يوظفه في محبة الآخرين ورعايتهم ، حتى أن الله يطلب منه ذلك . غير أن الشيطان يبدو
عارفا بأسرار القلوب حين يجيب بأن الأمر ليس مجانيا عند أيوب كما يعتقد الله ،
فالمسألة تتعلق برعاية الله له ومباركة أعماله ، وإذا ما توقف عن ذلك فإن أيوب سيشتمه علانية ( في وجهك يجدف عليك ) ! وبدلا من أن يجيب الله الشيطان بأنه أدرى بعبده منه ، نراه يتخلى عن أيوب ويطلق يدي الشيطان في ماله وعياله ، في محاولة منه لمعرفة مدى ايمان أيوب به . وهنا يتضح أن قدرة الله على المعرفة ليست مطلقة ، وإلا لعرف مدى إيمان أيوب دون تعريضه لهذا الإختبار الفظيع .
وحسب هذا الفهم الشيطاني فإن جميع الفقراء وخاصة الذين لا يملكون ولو بقرة من مثيلات أبقار أيوب يكفرون بالله ، طالما أن الإيمان مقترن بالثروة الممنوحة من الله !
والتدقيق في الجملة السالفة يشير إلى أن الشيطان غير قادرعلى أن يفعل ذلك وحده ، فهو يأمر الله أن يبسط يده ويمس كل ما لدى أيوب . وهنا يبدو التعاون ( التآمر) بين الله والشيطان لمعرفة مدى إيمان أيوب واضحا . ولا نعرف ما إذا كان الشيطان هو الذي يغوي الله ، أم أن الله ضالع في المؤامرة ، لأنه غير قادر على معرفة مدى إيمان أيوب دون إنزال المصائب به .
يستجيب الله ويلبي الطلب الشيطاني على الفور ، فيرفع بركته عن أيوب ويسلمه إلى الشيطان مشترطا شرطا واهيا أن لا يمد يده إليه ، وهذا الشرط يتخلى عنه الله فيما بعد :
12 فقال الرب للشيطان: هوذا كل ما له في يدك، وإنما إليه لا تمد يدك. ثم خرج الشيطان من أمام وجه الرب .
أول ما فعله الشيطان هو أنه قام بتسخير ( السبئيين ) فنهبوا الأبقار والحمير وقتلوا الغلمان :

13 وكان ذات يوم وأبناؤه وبناته يأكلون ويشربون خمرا في بيت أخيهم الأكبر
14 أن رسولا جاء إلى أيوب وقال: البقر كانت تحرث، والأتن ترعى بجانبها
15 فسقط عليها السبئيون وأخذوها، وضربوا الغلمان بحد السيف، ونجوت أنا وحدي لأخبرك .

سنضطر إلى وقفة هنا يفترض أن تكون في الهامش :

يلاحظ هنا أن الشيطان سخر السبئيين (نسبة إلى سبأ ) وسبأ كانت مدينة في اليمن القديم ، وهذا يعني أن نوحا يمني والأحداث تجري في اليمن كما أشار العديد من الباحثين أن أحداث التوراة تجري في اليمن، وأن التوراة يمنية ، وأحداثها تجري في جنوب شبه الجزيرة العربية . وبعد عودتي إلى المعجم الوسيط ،وجدت أن كلمة سبأ تعني :" اسم رجل يجمع عامة قبائل اليمن . وفي المثل : تفرقوا أيدي سبأ . وأيادي سبأ ضرب بهم المثل في التفرق ، لأنه عندما غرق مكانهم وذهبت جناتهم ( يقصد بعد انهيار سد مأرب ) تبددوا في البلاد ، فأخذت كل طائفة منهم طريقا . "
(الوسيط ص 413)

ويبدو أن جنة عدن وطوفان نوح كانا في اليمن أيضا أو في المنطقة حسب ما يوحي به النص . وليس غريبا أن نجد في اليمن اليوم مدينة تحمل اسم عدن ( بفتح الدال وليس تسكينها كما في عدن الجنة )
وطالما أننا خرجنا عن المنهج المألوف في البحث الأكاديمي بالخروج عن صلب الموضوع ، فلا بأس من أن نذهب إلى الموسوعة العربية الميسرة لنرى ماذا ورد عن سبأ :
سبأ :" دولة ظهرت في شرق اليمن في المنطقة المعروفة باسم صرواح ومأرب .فسميت البلاد باسمها ، وإليها تنسب الحضارة واللغة والديانة السبئية ، ورد ذكرها في التوراة في قصة زيارة بلقيس لسليمان في القرن العاشر ق.م. استمرت حضارة السبئيين فترة طويلة ، ورغم انتقال العاصمة إلى مناطق أخرى ، بقيت لبلاد سبأ أهميتها ، طالما كان سد مأرب يؤدي وظيفته .وظلت للعاصمة مأرب مكانتها كمركز ثقافي وتجاري هام في جنوب الجزيرة العربية . حتى قبيل ظهور الإسلام ، عندما تهدم السد ولم يهتم أحد بترميمه حتى الآن ."

(الموسوعة المذكورة ص 956)
تطرقنا في مقالة سابقة إلى اسطورة سليمان الذي لم يوجد في التاريخ حسب معظم المؤرخين والآثاريين حتى الإسرائليين منهم ، الذين اعتبروا وقائع التوراة متخيلة وليست تاريخية .

عودة إلى النص التوراتي :

وقبل أن يكمل الرسول كلامه دخل رسول آخر ليقول :

16 وبينما هو يتكلم إذ جاء آخر وقال: نار الله سقطت من السماء فأحرقت الغنم والغلمان وأكلتهم، ونجوت أنا وحدي لأخبرك .
( نار سقطت من السماء ) ؟ ! هل أسقطها الله أم الشيطان ؟ يفترض أنه الشيطان بعد أن أطلق الله يده .
ويتكررقدوم الرسل المخبرين عن المصائب :
17 وبينما هو يتكلم إذ جاء آخر وقال: الكلدانيون عينوا ثلاث فرق، فهجموا على الجمال وأخذوها، وضربوا الغلمان بحد السيف، ونجوت أنا وحدي لأخبرك
هل كان الشيطان في حاجة لأن يحضر فرقا كلدانية من العراق أيضا ؟
18 وبينما هو يتكلم إذ جاء آخر وقال: بنوك وبناتك كانوا يأكلون ويشربون خمرا في بيت أخيهم الأكبر
19 وإذا ريح شديدة جاءت من عبر القفر وصدمت زوايا البيت الأربع، فسقط على الغلمان فماتوا ، ونجوت أنا وحدي لأخبرك

وأمام هذه المصائب لم يجد أيوب إلا أن يمزق ثيابه ويقص شعره غضبا وحزنا وحدادا :
20 فقام أيوب ومزق جبته ، وجز شعر رأسه، وخر على الأرض وسجد .
ورغم أن فعل أيوب ينم عن غضب وحزن شديدين رغم سجوده ، إلا أن كتبة التوراة
يصرون على أنه تقبل أمر الرب :
21 وقال: عريانا خرجت من بطن أمي، وعريانا أعود إلى هناك. الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركا
وبدلا من أن يتقبل الرب هذا الكلام المعبرفعلا عن إيمان أيوب .. نراه يخضع للمشيئة الشيطانية
ثانية ويطلق يد الشيطان في جسد أيوب هذه المرة .

(2) الشيطان يضرب أيوب بفالج.

يتكرر مشهد المثول أمام الرب في الإصحاح الثاني ، ويتكرر مشهد حضور الشيطان ، وتتكرر الأسئلة نفسها والإجابات نفسها بين الله والشيطان .
وحين يرى الله أن أيوبا تمسك بإيمانه أبدى ما يشبه الندم أمام الشيطان :
3 فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب ؟ لأنه ليس مثله في الأرض. رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر. وإلى الآن هو متمسك بكماله، وقد هيجتني عليه لأبتلعه بلا سبب !
ألله يعترف أنه ابتلع أيوب بلا سبب ! وأظن أنه ابتلاه ولم يبتلعه ، وقد يكون هنا خطأ مطبعي ، إلا إذا كان تعبيرا مجازيا .
وحين يرى الشيطان أن الأمر ليس أكثر من جلد من أيوب يأمر الله بأن يمس هذه المرة عظم أيوب ولحمه وسيكفر به :
4 فأجاب الشيطان الرب وقال: جلد بجلد، وكل ما للإنسان يعطيه لأجل نفسه
5 ولكن ابسط الآن يدك ومس عظمه ولحمه، فإنه في وجهك يجدف عليك
الشيطان يأمر والله ينفذ ، حتى أنه يطلب إلى الله أن يصبركما صبر أيوب ليخوض الإمتحان إلى نهايته ليبدو التعاون بين الله والشيطان واضحا .
6 فقال الرب للشيطان: ها هو في يدك، ولكن احفظ نفسه!
إذن سيبقي الشيطان على النفس فقط من أيوب وسيسلخ جلده ويتلف عظمه وربما يجعل الديدان والحشرات تنهش لحمه .

نفذ الشيطان مشيئته على الفور وأنزل فالجا بأيوب :

7 فخرج الشيطان من حضرة الرب، وضرب أيوب بقرح رديء من باطن قدمه إلى هامته .
لم يكتف الشيطان بجلطة تشل يد أو رجل أيوب ، بل بجلطات كما يبدو تصيب جسده كله .
ومن الواضح أن الشيطان قادر على فعل الخير والشر كما الرب ، ولا نعرف ما هي غاية الرب حين يستعين به ، كان في مقدور الرب أن يتصرف وينزل مرضا ما أخف وطأة بأيوب ولا يتركه عرضة لأهواء الشيطان .
لا نلمس أي ذكر لحالة أيوب الجسدية بعد أن ضربه الشيطان بالقرح ، سوى أننا نقرأ أنه أخذ يحك جسده بقطعة من خزف وربما من حجر ، وكأنه أصيب بالجرب وليس بفالج :
8 فأخذ لنفسه شقفة ليحتك بها وهو جالس في وسط الرماد.
وحين تطلب امرأة أيوب إليه أن يموت أفضل له من هذه الحال يقول لها
أنه يجب تقبل مشيئة الله خيرا كانت أو شرا :
10 فقال لها: تتكلمين كلاما كإحدى الجاهلات أالخير نقبل من عند الله، والشر لا نقبل ؟1
أيوب يدرك أن الخير والشر من عند الله وأن تقبلهما واجب . والشيطان هنا لا يخطر ببال أيوب
فالفاعل هو الله حسب ما يرى . وهو محق في ذلك دون علمه بما يحاك ضده من قبل الله والشيطان . فلولا سماح الله للشيطان لما تم فعل شيء بأيوب .
ويعلق كتبة التوراة قائلين :
" في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه "
لكن ما سنجده بعد ذلك في أكثر من 35 إصحاحا ( من 42 إصحاحا تشكل سفر أيوب ، مسألة مختلفة تماما . تدفع أيوب إلى التساؤل بعمق حول خيرانية الله وشرانيته :
ندب . مناجاة . مواعظ . آثام . تأملات . محاورات . تجديف على الله من أيوب
مما دفع أحد مفسري الإصحاح من الآباء المسيحيين أن يدافع عن الله:
" يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن بقوله (الغلام الرسول ): "نار الله سقطت من السماء"، أراد العدو(الشيطان ) أن يوحي لأيوب أن ما يحل به ليس بضربات بشرية بل من قبل الله، وموجهة ضده وحده دون بقية المحيطين به. ولعله بهذا أراد تشويه صورة الله في عينيه. فمع عدم ارتكابه خطايا عظمى وعدم إهماله في العبادة لله، إلا أن الله حلّ بغضبه عليه دون غيره، مما يثير فيه الدافع نحو التجديف على الله كظالمٍ. إذ أحرق الله الغنم التي اختار أفضلها ليقدمها محرقات لله، فإن الله يبدو كمن لا يُسر بمحرقاته، ولا يقبل عبادته، أو كأن "عبادة الله باطلة" (مل 3: 14(."
نقلا عن النت . تفسير الكتاب المقدس . سفر أيوب .
لا يرى القديس ما يجري . ولا يرى أن الله هو من أطلق يد الشيطان . دفاع لا يستند إلى أي منطق .
لا علاقة لله بالأمر ! كله من فعل الشيطان والبشر بما في ذلك النار التي سقطت من السماء ؟!
حاولت أن أجد تفسيرا واحدا مقنعا للآباء القديسين ، لكني وللأسف لم أجد . مع أنهم جميعا متفقون على أن المسألة صراع بين الله والشيطان ، وأن الشيطان لا يقدر على فعل شيئ دون إرادة الله ! وهنا بالذات يكمن العجب ، وعجب العجب ، الذي يرى أو لا يرى ( الأمرين معا) علاقة لله بما جرى لأيوب !
يتداول الإصحاحات أيوب وثلاثة من أصحابة إضافة إلى أليهو بن برخئيل
البوزي ، كما يحضر الله نفسه في الإصحاح ال 38 .
تشمل هذه الإصحاحات حزن أيوب وندبه حاله ، وما كان يقوم به من أعمال خيرانية ، إضافة إلى غضبه من الله ولومه ومعاتبته إلى حد نقد عدالته والتجديف عليه ، كما تشمل الكثير من المواعظ في الخلق والخالق والأخلاق والقيم ، وتتطرق إلى أفعال غير محمودة قام بها أيوب ، عكس ما يرى أيوب نفسه أنه انسان فاضل ، وعكس ما يقوله مطلع السفر بأن أيوب كان ( كاملا ومستقيما ويتقي الله ويحيد عن الشر )
يذكر النص أن أصحاب أيوب سمعوا بالشر الذي ألم به فأتوا ليعزوه :

11 فلما سمع أصحاب أيوب الثلاثة بكل الشر الذي أتى عليه، جاءوا كل واحد من مكانه: أليفاز التيماني وبلدد الشوحي وصوفر النعماتي، وتواعدوا أن يأتوا ليرثوا له ويعزوه

12 ورفعوا أعينهم من بعيد ولم يعرفوه، فرفعوا أصواتهم وبكوا، ومزق كل واحد جبته، وذروا ترابا فوق رؤوسهم نحو السماء
13 وقعدوا معه على الأرض سبعة أيام وسبع ليال، ولم يكلمه أحد بكلمة، لأنهم رأوا أن كآبته كانت عظيمة جدا .
سنتوقف مع بعض أهم ما جاء في هذه الإصحاحات .
في الإصحاح الثالث وبعد المأساة التي ألمت به راح أيوب يندب حظه واليوم الذي ولد فيه والبطن الذي حمله والثدي الذي أرضعة . إصحاح يعبر عن قلب مفجوع .، قلب إنسان غير صابر على بلواه بل ناقم وغاضب . ونظرا لأنني رأيت أن هذا الإصحاح هومن أجمل الإصحاحات ، فسأنشره كاملا ، لما تضمنه من بلاغة أدبية وإحساس مرهف :

الإصحاح الثالث :

1 بعد هذا فتح أيوب فاه وسب يومه
2 وأخذ أيوب يتكلم فقال
3 ليته هلك اليوم الذي ولدت فيه، والليل الذي قال: قد حبل برجل
4 ليكن ذلك اليوم ظلاما. لا يعتن به الله من فوق، ولا يشرق عليه نهار
5 ليملكه الظلام وظل الموت. ليحل عليه سحاب. لترعبه كاسفات النهار
6 أما ذلك الليل فليمسكه الدجى، ولا يفرح بين أيام السنة، ولا يدخلن في عدد الشهور
7 هوذا ذلك الليل ليكن عاقرا، لا يسمع فيه هتاف
8 ليلعنه لاعنو اليوم المستعدون لإيقاظ التنين
9 لتظلم نجوم عشائه. لينتظر النور ولا يكن، ولا ير هدب الصبح
10 لأنه لم يغلق أبواب بطن أمي، ولم يستر الشقاوة عن عيني
11 لم لم أمت من الرحم ؟ عندما خرجت من البطن، لم لم أسلم الروح
12 لماذا أعانتني الركب ؟ ولم الثدي حتى أرضع
13 لأني قد كنت الآن مضطجعا ساكنا. حينئذ كنت نمت مستريحا
14 مع ملوك ومشيري الأرض، الذين بنوا أهراما لأنفسهم
15 أو مع رؤساء لهم ذهب ، المالئين بيوتهم فضة
16 أو كسقط مطمور فلم أكن، كأجنة لم يروا نورا
17 هناك يكف المنافقون عن الشغب، وهناك يستريح المتعبون
18 الأسرى يطمئنون جميعا، لا يسمعون صوت المسخر
19 الصغير كما الكبير هناك، والعبد حر من سيده
20 لم يعطى لشقي نور، وحياة لمري النفس
21 الذين ينتظرون الموت وليس هو، ويحفرون عليه أكثر من الكنوز
22 المسرورين إلى أن يبتهجوا، الفرحين عندما يجدون قبرا
23 لرجل قد خفي عليه طريقه، وقد سيج الله حوله
24 لأنه مثل خبزي يأتي أنيني، ومثل المياه تنسكب زفرتي
25 لأني ارتعابا ارتعبت فأتاني، والذي فزعت منه جاء علي
26 لم أطمئن ولم أسكن ولم أسترح، وقد جاء الرجز
*******
في الإصحاحين الرابع والخامس يلقي أليفاز التيماني موعظة على أيوب ، خلاصتها أن يحتمل ما ألم به .
يبدأ أليفاز موعظته بلوم أيوب على عدم الصبر :
2 إن امتحن أحد كلمة معك، فهل تستاء ؟ ولكن من يستطيع الامتناع عن الكلام ؟
3 ها أنت قد أرشدت كثيرين، وشددت أيادي مرتخية
4 قد أقام كلامك العاثر، وثبت الركب المرتعشة
5 والآن إذ جاء عليك ضجرت، إذ مسك ارتعت
6 أليست تقواك هي معتمدك، ورجاؤك كمال طرقك
7 اذكر: من هلك وهو بريء ؟ وأين أبيد المستقيمون
8 كما قد رأيت: أن الحارثين إثما، والزارعين شقاوة يحصدونها
9 بنسمة الله يبيدون، وبريح أنفه يفنون !
ويبدو وكأنه شامت بما جرى لأيوب حين يقول :
1 ادع الآن. فهل لك من مجيب ؟ وإلى أي القديسين تلتفت ؟!
وفي النهاية يخلص أليفاز إلى أن الأمر كله بيد الله :
17 هوذا طوبى لرجل يؤدبه الله. فلا ترفض تأديب القدير
18 لأنه هو يجرح ويعصب . يسحق ويداه تشفيان
19 في ست شدائد ينجيك، وفي سبع لا يمسك سوء
20 في الجوع يفديك من الموت، وفي الحرب من حد السيف
********
يجيب أيوب في الإصحاح السادس من قلب مثلوم متمنيا لو ان بلواه توزن بالموازين لكانت أثقل من رمل البحر ، وأن الله يقف ضده :
2 ليت كربي وزن، ومصيبتي رفعت في الموازين جميعها
3 لأنها الآن أثقل من رمل البحر. من أجل ذلك لغا كلامي
4 لأن سهام القدير في وحمتها شاربة روحي. أهوال الله مصطفة ضدي
يرد في الجملة الرابعة أن سهام الله في حالة وحم ( اشتهاء ) لنفس ايوب . وهو تعبير شائع حتى الآن وخاصة على المرأة الحبلى التي تتوحم على نوع معين من الطعام أو الشراب .
ويعاتب قومه الذين لم يقفوا معه :
22 هل قلت: أعطوني شيئا، أو من مالكم ارشوا من أجلي
23 أو نجوني من يد الخصم، أو من يد العتاة افدوني
24 علموني فأنا أسكت، وفهموني في أي شيء ضللت
25 ما أشد الكلام المستقيم، وأما التوبيخ منكم فعلى ماذا يبرهن
******
ويعود أيوب في الإصحاح السابع إلى يأسه ووصف حالته متطرقا إلى الدود الذي بدأ ينخر جسده :
5 لبس لحمي الدود مع مدر التراب. جلدي كرش وساخ
6 أيامي أسرع من الوشيعة، وتنتهي بغير رجاء .
ويطالب الله بأن يكف عنه بعد أن طلبت نفسه الموت على أن يبقى مجرد عظام :
15 فاختارت نفسي الخنق ، الموت على عظامي هذه
16 قد ذبت. لا إلى الأبد أحيا. كف عني لأن أيامي نفخة
17 ما هو الإنسان حتى تعتبره، وحتى تضع عليه قلبك
18 وتتعهده كل صباح، وكل لحظة تمتحنه
19 حتى متى لا تلتفت عني ولا ترخيني ريثما أبلع ريقي
واضح هنا أن أيوب بدأ يدرك أنه يخضع لامتحان إلهي يخضع الله البشر ( الإنسان ) إليه ، وهو يعترض بشدة وألم على هذا الإمتحان وتعريض الإنسان له .
ويلاحظ أيضا أن أيوب والمدافعين عن الله يرون أن كل ما يجري حسب المشيئة الإلهية ، عكس ما يرى القديس يوحنا الذهبي.
**********
(3) أيوب في ذروة غضبه على يهوه الشرير !
في الإصحاح الثامن يدخل واعظ جديد على الخط هو بلدد الشوحي ،
ويشرع في لوم أيوب متسائلا إلى متى سيستمر في كلامه العاصف :
2 إلى متى تقول هذا، وتكون أقوال فيك ريحا شديدة
3 هل الله يعوج القضاء ، أو القدير يعكس الحق
4 إذ أخطأ إليه بنوك، دفعهم إلى يد معصيتهم !!
وينهي موعظته بأن الله لن يأخذ بيد ( فاعلي الشر ) مما يشير إلى أن الله رأى أمرا
غير حسن في ما يفعله أيوب وإلا لما أنزل به هذه المصائب :
20 هوذا الله لا يرفض الكامل، ولا يأخذ بيد فاعلي الشر
يجيب أيوب في الإصحاح العاشر متسائلا كيف يمكن أن يكون الإنسان بارا عند الله
وإذا شاء (الإنسان) محاججة الله فإنه لن يجيبه عن واحد من ألف من حججه :
2 صحيح. قد علمت أنه كذا، فكيف يتبرر الإنسان عند الله
3 إن شاء أن يحاجه، لا يجيبه عن واحد من ألف !
ويبلغ أيوب ذروة تجديفه على الله حتى أنه لن يصدق أنه استجاب إلى دعائه فيما لو استجيب إليه :
16 لو دعوت فاستجاب لي ، لما آمنت بأنه سمع صوتي
17 ذاك الذي يسحقني بالعاصفة، ويكثر جروحي بلا سبب
18 لا يدعني آخذ نفسي، ولكن يشبعني مرائر
وهنا يمكن أن تطرح بعض التساؤلات :
- هل كان أيوب يشك في أن يكون الله حسب ما عرفه من المفهوم التوراتي ؟
- أو أنه كان يفكر في إله آخر .
الكلام السابق لأيوب على هذا الكلام يشير إلى إله يزلزل الأرض ويأمر الشمس فلا تشرق ويختم على النجوم ويبسط السموات ويمشي على أعالي البحار .
وإذا ما أخذنا ( تجديف ) أيوب ضمن هذا السياق ، فإنه يمكننا القول
إن أيوب ربما يشير إلى أن ما حدث له ليس بفعل هذا الإله !( لما آمنت بأنه سمع صوتي ) من الذي سيسمع صوت أيوب ويستجيب لدعائه إذن . هل هو إله آخر أم اللا إله ؟!
لا شك أن النص يطرح تساؤلات كثيرة عميقة .
لنتابع استقراءنا لهذا الإصحاح :
يضع أيوب الله في حال فوقية هي حال القوي الذي لا يحفل إلا بعدالته
التي يفرضها على الآخرين :
19 إن كان من جهة قوة القوي، يقول: هأنذا. وإن كان من جهة القضاء يقول: من يحاكمني ؟!
وفي هذه الحال فالله حر في ما يفعل ، خيرا كان أم شرا ، لأنه ليس في مقدور أحد أن يحاكمه :
20 إن تبررت يحكم علي فمي، وإن كنت كاملا يستذنبني !!
غير أن أيوب يعود ليصرخ معلنا كماله والحال التي آل إليها :
21 كامل أنا. لا أبالي بنفسي. رذلت حياتي !!
أيوب يعرف نفسه أنه إنسان كامل وإن ساءت حاله ورذلت حياته .
وإن هذا الإله في النهاية هو من يفني الخير والشر دون تمييز :
22 هي واحدة. لذلك قلت : إن الكامل والشرير هو يفنيهما !!
وهذا ما لا يتقبله أيوب :
.23 إذا قتل السوط بغتة ، يستهزئ بتجربة الأبرياء
السوط إذا فتل أو قتل ( حسب النص) لا يعنيه أمر الأبرياء ، فكل همه
هو الجلد والقتل ولا شك أن أيوبا يعني الجلاد وبالتالي يعني الله ، وهو ما يتوضح في الجمل اللاحقة وهذه صفات يهوه المنتقم :
24 الأرض مسلمة ليد الشرير. يغشي وجوه قضاتها. وإن لم يكن هو، فإذا من ؟
وإن لم يكن الشرير هو ( الله ) نفسه فمن يكون ؟!
(ية كنوز معرفية هذه التي كان سفر أيوب يخفيها ولم يكتشفها أحد حتى الآن رغم كثرة الذين كتبوا عن أيوب وعن مأساته ؟
هل أيوب هو البطل التراجيدي الأول في الأدب الإنساني ولم يكتشف أحد ذلك ؟ ربما !(
25 أيامي أسرع من عداء ، تفر ولا ترى خيرا
26 تمر مع سفن البردي. كنسر ينقض إلى قنصه
27 إن قلت: أنسى كربتي ، أطلق وجهي وأتبلج
28 أخاف من كل أوجاعي عالما أنك لا تبرئني
29 أنا مستذنب، فلماذا أتعب عبثا
30 ولو اغتسلت في الثلج ، ونظفت يدي بالإشنان
31 فإنك في النقع تغمسني حتى تكرهني ثيابي
لا جدوى من الدعاء والتضرع إلى هذا الإله ، فالمسألة غدت عبثية
فأيوب مذنب وغير بريء شاء أم أبى ، فلماذا التعب والعناء مع هذا الإله .
ويتمنى أيوب لو أن الله إنسان لكان في مقدوره أن يحتكم معه إلى محاكمة يكون فيها قاض ( مصالح ) يحكم بالعدل ليتكلم (أيوب ) دون خوف ودون تهديد بالعصا الإلهية :
32 لأنه ليس هو إنسانا مثلي فأجاوبه، فنأتي جميعا إلى المحاكمة
33 ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا
34 ليرفع عني عصاه ولا يبغتني رعبه
35 إذا أتكلم ولا أخافه ، لأني لست هكذا عند نفسي
أجل ، أيوب لا يرفع عصيا ، لأنه إنسان نبيل ، يريد الحق .
لا يصدق أيوب أن الله يمكن ان ينزل الشر كما ينزل الخير ، وهذه التساؤلات
ما تزال قائمة إلى يومنا هذا ، وإن كانت المسيحية قد حاولت عزل الشر عن الله ورده إلى الشيطان وحده ، سالكة نهج الزرادشتية ، التي وضعت الشر في شخص أهريمان والخير في شخص أهورامازدا .
في الإصحاح العاشر يخاطب أيوب الله متسائلا لماذا يخاصمه ، وهل يستحسن الظلم
ويرذل عمل يديه ويستجيب إلى مشورة الأشرار . ويبدو أيوب هنا ( في مشورة الأشرار، وكأنه مدرك للمؤامرة الشيطانية التي استجاب لها الله :
1 قد كرهت نفسي حياتي . أسيب شكواي. أتكلم في مرارة نفسي
2 قائلا لله: لا تستذنبني. فهمني لماذا تخاصمني ؟!
3 أحسن عندك أن تظلم، أن ترذل عمل يديك، وتشرق على مشورة الأشرار
ويتساءل أيوب ما إذا كان الله مثل البشر .. يبحث عن الخطايا :
4 ألك عينا بشر، أم كنظر الإنسان تنظر
5 أأيامك كأيام الإنسان، أم سنوك كأيام الرجل !!
6 حتى تبحث عن إثمي وتفتش على خطيتي
إنها الأسئلة التي ما تزال تطرح حتى اليوم عن رقابة الله لأفعال الإنسان .
ويحسم أيوب هذه المسألة بمعرفة الله أنه غير مذنب ومع ذلك
لا يدعه وشأنه :
7 في علمك أني لست مذنبا، ولا منقذ من يدك .
ويعود أيوب ليذكر الله كيف خلقه بيديه ، بما يشير إلى تعب الله في عملية
الخلق ، التي لا تتفق مع عملية (الإبتلاع )التي يريدها الله :
8 يداك كونتاني وصنعتاني كلي جميعا، أفتبتلعني ؟!
9 اذكر أنك جبلتني كالطين، أفتعيدني إلى التراب
10 ألم تصبني كاللبن، وخثرتني كالجبن
11 كسوتني جلدا ولحما، فنسجتني بعظام وعصب
12 منحتني حياة ورحمة، وحفظت عنايتك روحي
وهنا يمكن تذكر بعض الآيات القرآنية عن خلق الإنسان .
يعود أيوب إلى ندب نفسه ثم يطلب من الله أن يتركه ويكف عنه :
20 أليست أيامي قليلة ؟ اترك كف عني فأتبلج قليلا .
في الإصحاح الحادي عشر يدخل صوفر النعماني بموعظة جديدة تفوح منها رائحة الشماتة بما حل بأيوب ، متطرقا في الوقت نفسه إلى الحكمة الإلهية التي تجازي أيوب بما هو أقل من اثمه :
1 فأجاب صوفر النعماني وقال :
2 أكثرة الكلام لا يجاوب، أم رجل مهذار يتبرر
3 أصلفك يفحم الناس، أم تلخ وليس من يخزيك
4 إذ تقول: تعليمي زكي، وأنا بار في عينيك
5 ولكن يا ليت الله يتكلم ويفتح شفتيه معك
6 ويعلن لك خفيات الحكمة إنها مضاعفة الفهم، فتعلم أن الله يغرمك بأقل من إثمك
نفس الإجابات ( الحمة الإلهية ) التي يواجهنا بها المؤمنون اليوم حين يعجزون عن تفسير المصائب التي تلم بالإنسان .
ويتابع صوفر موعظته معلنا أن الله أعلى من السموات وأطول من الأرض وأعرض من البحر وأعمق من الهاوية وله الحق في أن يبطش كما يشاء ولا يمكن لأحد أن يرده :
8 هو أعلى من السماوات ، فماذا عساك أن تفعل ؟ أعمق من الهاوية، فماذا تدري
9 أطول من الأرض طوله ، وأعرض من البحر
10 إن بطش أو أغلق أو جمع، فمن يرده
وبناء عليه ليقتل ويفتك كما يشاء !!
أما الإنسان من وجهة نظرصوفر النعماني ( يبدو أنه من قبيلة النعمان بن المنذر(
فهو فارغ وعديم الفهم كالجحش :
12 أما الرجل ففارغ عديم الفهم، وكجحش الفرا يولد الإنسان
ويكمل صوفر موعظته بالعودة إلى الأخلاق الحميدة والإتكال على الله ليضطجع
أيوب آمنا بعد ذلك ، وكأنه كان من أحد العصاة عكس ما يشير إليه مطلع السفر بأن أيوب كان عبدا صالحا تقيا .
13 إن أعددت أنت قلبك، وبسطت إليه يديك
14 إن أبعدت الإثم الذي في يدك، ولا يسكن الظلم في خيمتك
15 حينئذ ترفع وجهك بلا عيب، وتكون ثابتا ولا تخاف
18 وتطمئن لأنه يوجد رجاء. تتجسس حولك وتضطجع آمنا
19 وتربض وليس من يزعج ، ويتضرع إلى وجهك كثيرون
ويجيب أيوب في الإصحاح 12 مشيرا إلى عدم الحكمة في أقوال الناس :
2 صحيح إنكم أنتم شعب ومعكم تموت الحكمة
ويستعيد أيوب فهم بني اسرائيل لله متطرقا إلى ما فعله بهم صابا جام غضبه عليه ، ويبدو
أن طوفان نوح وغيره مما فعله يهوه لم يكونا غائبين عن باله :
14 هوذا يهدم فلا يبنى . يغلق على إنسان فلا يفتح
15 يمنع المياه فتيبس. يطلقها فتقلب الأرض
16 عنده العز والفهم. له المضل والمضل
17 يذهب بالمشيرين أسرى ، ويحمق القضاة
وكأن أيوب يشير إلى السبي البابلي.
18 يحل مناطق الملوك، ويشد أحقاءهم بوثاق
19 يذهب بالكهنة أسرى، ويقلب الأقوياء
20 يقطع كلام الأمناء، وينزع ذوق الشيوخ
21 يلقي هوانا على الشرفاء، ويرخي منطقة الأشداء
22 يكشف العمائق من الظلام، ويخرج ظل الموت إلى النور
23 يكثر الأمم ثم يبيدها. يوسع للأمم ثم يجليها
24 ينزع عقول رؤساء شعب الأرض، ويضلهم في تيه بلا طريق
إشارة واضحة إلى تيه بني اسرائيل في الصحراء
25 يتلمسون في الظلام وليس نور، ويرنحهم مثل السكران
تكتمل الصورة هنا ، فأيوب يتطرق إلى أهم ما فعله يهوه بيهوذا بدئا من طوفان نوح
مرورا بالتيه في الصحراء ثم السبي الأشوري فالسبي البابلي وتشرد يهوذا وغير ذلك .
وفي الإصحاح 13 يعيد أيوب التأكيد إلى محدثيه قائلا أنه يعرف كل ما يعرفونه
لكنه يريد أن يكلم ( القدير) ويحاكم مع الله . ويبدو لي أن قصة أيوب الحقيقية
( وليست التي وصلتنا من التوراة ) تكمن خلف هذه الفكرة ( الإحتكام إلى القدير) الذي يبدو أنه إله فوق يهوه أو غيره ، فأيوب يريد محاكمة مع يهوه على ما ارتكبه من آثام ومعاص بحق اليهود وحقه بالتأكيد :

1 هذا كله رأته عيني. سمعته أذني وفطنت به
2 ما تعرفونه عرفته أنا أيضا. لست دونكم
3 ولكني أريد أن أكلم القدير، وأن أحاكم إلى الله
تتضح الإشارة هنا إلى أن " القدير والله " ليسا يهوه ( إله اليهود ) بل الإله الذي ينشده أيوب كإله عادل ويريد أن يحتكم إليه مع يهوة بالتأكيد ، حتى وإن كان المقصود هو يهوة نفسه ، فإن مطلب العدالة يظل قائما بقوة .
) أيوب أيها المبصر في زمن العميان ! اسمح لي أن أخرج عن أصول البحث التقليدية ، وأبدي تعاطفي الشديد معك ، وحزني لما ألم بك من هذا الإله ، فدعنا أيها الغاضب الحزين نحتكم مع هذا الإله إلى إله آخر يعدل بيننا وبينه(
ويلقي أيوب موعظة على محدثيه فيها من الحكمة الكثيرمتهما إياهم بالكذب والنفاق والتملق، وما أكثر هؤلاء بيننا إلى اليوم :
4 أما أنتم فملفقو كذب . أطباء بطالون كلكم
5 ليتكم تصمتون صمتا. يكون ذلك لكم حكمة
6 اسمعوا الآن حجتي، واصغوا إلى دعاوي شفتي
7 أتقولون لأجل الله ظلما، وتتكلمون بغش لأجله
8 أتحابون وجهه، أم عن الله تخاصمون
9 أخير لكم أن يفحصكم ، أم تخاتلونه كما يخاتل الإنسان
10 توبيخا يوبخكم إن حابيتم الوجوه خفية
11 فهلا يرهبكم جلاله، ويسقط عليكم رعبه
12 خطبكم أمثال رماد، وحصونكم حصون من طين
13 اسكتوا عني فأتكلم أنا، وليصبني مهما أصاب
14 لماذا آخذ لحمي بأسناني، وأضع نفسي في كفي
15 هوذا يقتلني. لا أنتظر شيئا. فقط أزكي طريقي قدامه
16 فهذا يعود إلى خلاصي ، أن الفاجر لا يأتي قدامه
17 سمعا اسمعوا أقوالي وتصريحي بمسامعكم
18 هأنذا قد أحسنت الدعوى. أعلم أني أتبرر
ويتابع أيوب خطبته موجها كلامه إلى الله :
19 من هو الذي يخاصمني حتى أصمت الآن وأسلم الروح
20 إنما أمرين لا تفعل بي، فحينئذ لا أختفي من حضرتك
21 أبعد يديك عني، ولا تدع هيبتك ترعبني
22 ثم ادع فأنا أجيب، أو أتكلم فتجاوبني
23 كم لي من الآثام والخطايا ؟ أعلمني ذنبي وخطيتي
24 لماذا تحجب وجهك، وتحسبني عدوا لك
25 أترعب ورقة مندفعة، وتطارد قشا يابسا
26 لأنك كتبت علي أمورا مرة، وورثتني آثام صباي
27 فجعلت رجلي في المقطرة، ولاحظت جميع مسالكي، وعلى أصول رجلي نبشت
28 وأنا كمتسوس يبلى، كثوب أكله العث
ليس ثمة كلام أبلغ من هذا الكلام يمكن أن يوجه إلى الله .
(4) حكمة أيوب وبلاغة لسانه وعمق ألمه !
يتابع أيوب كلامه المؤثر مع الله (في الإصحاح 14) من قلب مفجع مثلوم ، وسأورده كاملا لما فيه من حكمة وبلاغة أدبية وحس إنساني نبيل مرهف ، وتساؤلات فلسفية عميقة ، وإيمان بالوجود أكثر مما هو إيمان بيهوه :
الأصحاح الرابع عشر
1 الإنسان مولود المرأة، قليل الأيام وشبعان تعبا
2 يخرج كالزهر ثم ينحسم ويبرح كالظل ولا يقف
3 فعلى مثل هذا حدقت عينيك، وإياي أحضرت إلى المحاكمة معك
4 من يخرج الطاهر من النجس ؟ لا أحد
5 إن كانت أيامه محدودة، وعدد أشهره عندك، وقد عينت أجله فلا يتجاوزه
6 فأقصر عنه ليسترح، إلى أن يسر كالأجير بانتهاء يومه
7 لأن للشجرة رجاء. إن قطعت تخلف أيضا ولا تعدم خراعيبها
8 ولو قدم في الأرض أصلها، ومات في التراب جذعها
9 فمن رائحة الماء تفرخ وتنبت فروعا كالغرس
10 أما الرجل فيموت ويبلى. الإنسان يسلم الروح، فأين هو
11 قد تنفد المياه من البحرة، والنهر ينشف ويجف
12 والإنسان يضطجع ولا يقوم. لا يستيقظون حتى لا تبقى السماوات، ولا ينتبهون من نومهم
13 ليتك تواريني في الهاوية، وتخفيني إلى أن ينصرف غضبك، وتعين لي أجلا فتذكرني
14 إن مات رجل أفيحيا ؟ كل أيام جهادي أصبر إلى أن يأتي بدلي
15 تدعو فأنا أجيبك. تشتاق إلى عمل يدك
16 أما الآن فتحصي خطواتي، ألا تحافظ على خطيتي
17 معصيتي مختوم عليها في صرة، وتلفق علي فوق إثمي
18 إن الجبل الساقط ينتثر، والصخر يزحزح من مكانه
19 الحجارة تبليها المياه وتجرف سيولها تراب الأرض، وكذلك أنت تبيد رجاء الإنسان
يصور أيوب الله هنا كخصم لدود للإنسان ( يبيد رجاء الإنسان ) ويتجبر عليه :
20 تتجبر عليه أبدا فيذهب. تغير وجهه وتطرده
21 يكرم بنوه ولا يعلم ، أو يصغرون ولا يفهم بهم
22 إنما على ذاته يتوجع لحمه وعلى ذاتها تنوح نفسه
ألله يلفق على أيوب فوق ما يراه اثمه " وتلفق علي فوق إثمي "
ويبيد رجاء الإنسان وأمله في الحياة ، ويتجبر عليه .
****
لقد آثرت الإختصار في الشرح والتعليق مقتبسا أكبر قدر من إصحاحات سفر أيوب لتتحدث عن نفسها ، وليستوعبها القارىء حسب فهمه وثقافته .. ولا شك أن هناك بعض العبارات والفقرات التي قد تحتمل الكثير من التأويل والشرح ، وتركت ذلك لفهم القارىء مركزا على الجوهر دون الغوص كثيرا في التفاصيل . فإصحاحات السفر 42 إصحاحا ، وإذا ما حاولنا إعطاء كل إصحاح حقه فقد نحتاج إلى فصول
بحجم الإصحاحات نفسها وأكثر.
في الإصحاح (15) يلقي أليفاز التيماني خطابا وعظيا جديدا على أيوب ، مدافعا فيه عن الله ومتهما أيوب بعدم التقوى ومخافة الله وسلك طرق المحتالين ، مشيرا إلى فم أيوب الذي لا ينطق إلا بالإثم وسيكون ( الفم ) والشفتان ( شفتا أيوب ) شهودا عليه أمام الله :
2 ألعل الحكيم يجيب عن معرفة باطلة، ويملأ بطنه من ريح شرقية
3 فيحتج بكلام لا يفيد ، وبأحاديث لا ينتفع بها
4 أما أنت فتنافي المخافة، وتناقض التقوى لدى الله
5 لأن فمك يذيع إثمك، وتختار لسان المحتالين
6 إن فمك يستذنبك، لا أنا، وشفتاك تشهدان عليك
ويعود لتذكير أيوب بأنه لا يعرف أكثر مما يعرف الناس ليتساءل كيف يتفوه
أيوب بهذه الأقوال على الله :
13 حتى ترد على الله وتخرج من فيك أقوالا
ويعرج على الإنسان المكروه الفاسد الذي لا يحق له التطاول على السماء :
14 من هو الإنسان حتى يزكو، أو مولود المرأة حتى يتبرر
15 هوذا قديسوه لا يأتمنهم، والسماوات غير طاهرة بعينيه
16 فبالحري مكروه وفاسد الإنسان الشارب الإثم كالماء !!
هكذا يرى أليفاز أن الإنسان لم يعد يأتمن قديسيه ويرى أن السماء ( الله ) ليست طاهرة ، وأنه يتشرب الإثم كالماء ، ويوغل في الوعظ مذكرا أيوب بما رآه وأخبر به من الحكماء الأجداد بأن
الأرض أعطيت لهم وحدهم ( من الله ) دون أن يعبر بينهم غريب . وهذا تذكير بالوعد الذي قطعه يهوه لإبراهيم بأن يمنح ذريته الأرض من النيل إلى الفرات :
17 أوحي إليك، اسمع لي فأحدث بما رأيته
18 ما أخبر به حكماء عن آبائهم فلم يكتموه
19 الذين لهم وحدهم أعطيت الأرض، ولم يعبر بينهم غريب
وعلى أيوب أن يقدر هذا الفضل الكبير لله الذي منح قومه الأرض دون سائر البشر
وعليه أن لا يسلك طريق الشر .
في الإصحاح السادس عشر يرد أيوب على أليفاز التيماني مطالبا بوضع حد لهذا (الكلام الفارغ) :
(2 قد سمعت كثيرا مثل هذا. معزون متعبون كلكم
3 هل من نهاية لكلام فارغ ؟ أو ماذا يهيجك حتى تجاوب
ويتابع أيوب غضبه صارخا من أعماق جراحه صابا غضبه على الله الذي أسلمه
للظالم والأشرار:
11 دفعني الله إلى الظالم، وفي أيدي الأشرار طرحني
12 كنت مستريحا فزعزعني ، وأمسك بقفاي فحطمني، ونصبني له غرضا
13 أحاطت بي رماته. شق كليتي ولم يشفق. سفك مرارتي على الأرض
14 يقتحمني اقتحاما على اقتحام. يعدو علي كجبار
15 خطت مسحا على جلدي، ودسست في التراب قرني
16 احمر وجهي من البكاء ، وعلى هدبي ظل الموت
17 مع أنه لا ظلم في يدي، وصلاتي خالصة
18 يا أرض لا تغطي دمي ، ولا يكن مكان لصراخي
19 أيضا الآن هوذا في السماوات شهيدي، وشاهدي في الأعالي
20 المستهزئون بي هم أصحابي. لله تقطر عيني
21 لكي يحاكم الإنسان عند الله كابن آدم لدى صاحبه
22 إذا مضت سنون قليلة أسلك في طريق لا أعود منها
جراح أيوب تصرخ مدوية ، مطالبة بأن يحاكم الإنسان عند الله كما يحاكم الإنسان
(لدى صاحبه ) . والتعبير هنا يحمل أكثر من تأويل ، فهل هي محاكمة مع أو عند ، وهل هي محاكمة العبد مع السيد أم عند السيد ، ومن هو الصاحب هل هو الخصم أم القاضي أم السيد أم ألله ؟! فمشكلة أيوب هي مع الله وبالتالي لا بد أن تكون المحاكمة معه وليس عنده !! وفي كل الأحوال يطالب أيوب بالعدل الإلهي على الأرض ، قبل أن تحل مصائب الله بالإنسان. وهذا مطلب إنساني يفترض أن يجيزه العدل الإلهي .
تعود جراح أيوب لتصرخ ( في الإصحاح 17) وكأنها صرخات الملك لير حين طلب من البشر أن يعيروه أصواتهم ليصرخ بها لمقتل ابنته والحال التي آل إليها ، لأن صوته لن يكفي للتعبير عما يكتنف دخيلته :
1 روحي تلفت. أيامي انطفأت. إنما القبور لي
أجل لقد تلفت روح أيوب وانطفأت أيامه ولم يبق له إلا القبور . فقبر واحد لن يكفيه
إنه في حاجة إلى أكثر من قبر لطمر كم الآلام التي تعتلج في نفسه :
11 أيامي قد عبرت. مقاصدي، إرث قلبي، قد انتزعت
12 يجعلون الليل نهارا ، نورا قريبا للظلمة
13 إذا رجوت الهاوية بيتا لي، وفي الظلام مهدت فراشي
14 وقلت للقبر: أنت أبي، وللدود: أنت أمي وأختي
15 فأين إذا آمالي ؟ آمالي، من يعاينها
( أظن أن الكلمة الثانية في السطر السابق آلامي وليست آمالي(
16 تهبط إلى مغاليق الهاوية إذ ترتاح معا في التراب .
في الإصحاح (18) يلقي بلدد الشوحي خطبة وعظية مرعبة يشمت فيها من أيوب مذكرا إياه بمصير كل شرير لا يعرف الله :
13 يأكل أعضاء جسده. يأكل أعضاءه بكر الموت
14 ينقطع عن خيمته، عن اعتماده، ويساق إلى ملك الأهوال
15 يسكن في خيمته من ليس له. يذر على مربضه كبريت
16 من تحت تيبس أصوله، ومن فوق يقطع فرعه
17 ذكره يبيد من الأرض ، ولا اسم له على وجه البر
18 يدفع من النور إلى الظلمة، ومن المسكونة يطرد
19 لا نسل ولا عقب له بين شعبه، ولا شارد في محاله
20 يتعجب من يومه المتأخرون، ويقشعر الأقدمون
21 إنما تلك مساكن فاعلي الشر، وهذا مقام من لا يعرف الله
(5) الجميع يخذلون أيوب ويشمتون به !
الإصحاح (19)
هذا الإصحاح محير ففيه نجد ما لم يتوقعه أحد . يبدا الإصحاح بلوم أيوب لقومه وشماتتهم به :
2 حتى متى تعذبون نفسي وتسحقونني بالكلام
3 هذه عشر مرات أخزيتموني. لم تخجلوا من أن تحكروني
4 وهبني ضللت حقا. علي تستقر ضلالتي
5 إن كنتم بالحق تستكبرون علي، فثبتوا علي عاري
6 فاعلموا إذا أن الله قد عوجني، ولف علي أحبولته
7 ها إني أصرخ ظلما فلا أستجاب. أدعو وليس حكم
8 قد حوط طريقي فلا أعبر، وعلى سبلي جعل ظلاما
9 أزال عني كرامتي ونزع تاج رأسي
10 هدمني من كل جهة فذهبت، وقلع مثل شجرة رجائي
11 وأضرم علي غضبه، وحسبني كأعدائه
12 معا جاءت غزاته، وأعدوا علي طريقهم، وحلوا حول خيمتي
13 قد أبعد عني إخوتي، ومعارفي زاغوا عني
14 أقاربي قد خذلوني، والذين عرفوني نسوني
15 نزلاء بيتي وإمائي يحسبونني أجنبيا. صرت في أعينهم غريبا
16 عبدي دعوت فلم يجب. بفمي تضرعت إليه
إلى هنا والأمر مقبول رغم التطرق إلى نزلاء البيت والإماء الذين يفترض أنهم قتلوا . فما يأتي بعد ذلك يشير إلى أن الأبناء لم يقتلوا أيضا وما زالوا أحياء وأنهم نبذوا أباهم ( أيوب ) :
17 نكهتي مكروهة عند امرأتي، وخممت عند أبناء أحشائي
18 الأولاد أيضا قد رذلوني. إذا قمت يتكلمون علي
19 كرهني كل رجالي، والذين أحببتهم انقلبوا علي
الكلام واضح ويذكر الأبناء مرة ك ( أبناء أحشائي ) ومرة أخرى ك ( الأولاد )
هل نسي كاتبوالنص أو ناقلوه أن الأولاد قتلوا ؟! يبدو لي أنهم لم يقتلوا حسب النص أعلاه . وأن المصيبة حلت فقط بمواشي أيوب وغلمانه وجسده فقط .
يتابع أيوب بعد ذلك رثاء حاله كما من قبل :
20 عظمي قد لصق بجلدي ولحمي، ونجوت بجلد أسناني
21 تراءفوا، تراءفوا أنتم علي يا أصحابي، لأن يد الله قد مستني
22 لماذا تطاردونني كما الله، ولا تشبعون من لحمي
23 ليت كلماتي الآن تكتب. يا ليتها رسمت في سفر
24 ونقرت إلى الأبد في الصخر بقلم حديد وبرصاص
( لا أظن أنه سبق أيوب أحد في الأدب البشري كله وعبر عن الألم الإنساني بهذا العمق وهذه الفجيعة ، ولا أظن أن أحدا من قبل سبق أيوب في الشكوى من ظلم الإله وطرح أسئلة الخير والشرفي شخص الإله )
في الإصحاح (20) يخرج علينا صوفر النعماني بخطبة وعظية جديدة لا جديد فيها
خلاصتها أن لا مفر للأشرار من عقاب الله ، فالنار ستأكلهم والسموات ستشهد باثمهم والأرض ستقف ضدهم :
26 كل ظلمة مختبأة لذخائره. تأكله نار لم تنفخ. ترعى البقية في خيمته
27 السماوات تعلن إثمه ، والأرض تنهض عليه
28 تزول غلة بيته. تهراق في يوم غضبه
29 هذا نصيب الإنسان الشرير من عند الله، وميراث أمره من القدير
في الإصحاح (21) يطالب أيوب محدثيه بأن يسمعوه و يحتملوه ، وبعد ذلك ليهزأوا منه :
2 اسمعوا قولي سمعا، وليكن هذا تعزيتكم
3 احتملوني وأنا أتكلم ، وبعد كلامي استهزئوا
ويعلن أن شكواه ليست من إنسان :
4 أما أنا فهل شكواي من إنسان، وإن كانت، فلماذا لا تضيق روحي
5 تفرسوا في وتعجبوا وضعوا اليد على الفم
ويأخذ في التساؤل عن السبب الذي يبقي على الأشرار متجبرين ، يتناسلون وبيوتهم آمنة من الخوف ، ولا ترفع في وجوههم عصا الله :
7 لماذا تحيا الأشرار ويشيخون، نعم ويتجبرون قوة
8 نسلهم قائم أمامهم معهم، وذريتهم في أعينهم
9 بيوتهم آمنة من الخوف، وليس عليهم عصا الله ؟!
حتى أبقارهم تتلاقح ، واطفالهم يرقصون :
10 ثورهم يلقح ولا يخطئ . بقرتهم تنتج ولا تسقط
11 يسرحون مثل الغنم رضعهم، وأطفالهم ترقص
12 يحملون الدف والعود ، ويطربون بصوت المزمار
ويتساءل أيوب عن القدير الذي ينبغي أن يعبد :
15 من هو القدير حتى نعبده ؟ وماذا ننتفع إن التمسناه ؟
ويرى أن عزاء محدثيه باطل وأجوبتهم خيانة :
34 فكيف تعزونني باطلا وأجوبتكم بقيت خيانة .
في الإصحاح (22) يأخذ أليفاز التيماني دور الواعظ لأيوب مدافعا عن الله
ومقزما أيوب الذي يريد أن يدخل مع الله في محاكمة رغم شره العظيم وآثامه التي لا نهاية لها :
4 هل على تقواك يوبخك ، أو يدخل معك في المحاكمة
5 أليس شرك عظيما، وآثامك لا نهاية لها
ويشرع في التطرق إلى بعض آثام أيوب التي تتناقض بشكل سافر مع شخص أيوب
) الكامل والمستقيم والتقي والصالح والذي يحيد عن الشر وليس مثله في الأرض ( كما رآه الله في الإصحاح الأول :
6 لأنك ارتهنت أخاك بلا سبب، وسلبت ثياب العراة
7 ماء لم تسق العطشان ، وعن الجوعان منعت خبزا
هذا الكلام يضعنا أمام أيوب آخر غير الذي نعرفه . إنه الباطل بعينه الذي تحدث عنه أيوب .
ويعود اليفاز ليذكر أيوب بعلو الله :
12 هوذا الله في علو السماوات. وانظر رأس الكواكب ما أعلاه
13 فقلت: كيف يعلم الله ؟ هل من وراء الضباب يقضي
14 السحاب ستر له فلا يرى، وعلى دائرة السماوات يتمشى
يبدو أن أليفاز تمشى مع الله على دائرة السماوات من خلف الضباب والسحاب حتى عرف هذا عنه .
ويطالب أليفاز أيوبا بأن يعترف بالله ويضع كلامه في قلبه ليسلم من أذاه ويمنحه الخير واللذة ويضيء طرقه بالنور :
21 تعرف به واسلم. بذلك يأتيك خير
22 اقبل الشريعة من فيه ، وضع كلامه في قلبك
23 إن رجعت إلى القدير تبنى. إن أبعدت ظلما من خيمتك
24 وألقيت التبر على التراب وذهب أوفير بين حصا الأودية
( اوفير ، بلاد مجهولة غزتها جيوش سليمان ونهبت ذهبها حسب التوراة )
25 يكون القدير تبرك وفضة أتعاب لك
26 لأنك حينئذ تتلذذ بالقدير وترفع إلى الله وجهك
27 تصلي له فيستمع لك، ونذورك توفيها
28 وتجزم أمرا فيثبت لك ، وعلى طرقك يضيء نور
من الواضح هنا أننا أمام أيوب آخر غير الذي عرفنا به النص. مما يشير إلى تدخلات كثيرة طرأت على النص الأصلي لقصة ايوب ، فهناك من يعتبر أيوب
نبيلا وهناك من يعتبره شريرا ، ويبدو لي أن عدم تبلوررؤية واضحة في الديانة اليهودية لمفهوم الخير والشر عند الإله ( الذي يغضب ويبطش لأتفه الأسباب ، ويرضى دون أسباب مقنعة ) هو ما أدى إلى هذا الإلتباس في قصة أيوب . فلم نعد نعرف هل كان أيوب ضالا أم صالحا . ونحن نرجح أن أيوب كان إنسانا نبيلا وربما بنى أخلاقه على الدين وربما بعيدا عنه في الوقت نفسه ، وراح يشكك في المفهوم التوراتي للخالق بعد أن ألم به ما ألم . وربما كانت قصة أيوب تعبر عن ظاهرة في المجتمع حينذاك استدعت حكيما ما أن يكتب عنها قصة .
سنعود إلى ذلك بعد نهاية استقرائنا للنصوص .
في الإصحاح ( 23) يطلب أيوب من يدله على الله هذا ليمتثل أمامه ويحسن الدعوى إليه ليفهم منه ما يقول. هنا يبدأ أيوب الشك في الوجود الإلهي :
2 اليوم أيضا شكواي تمرد. ضربتي أثقل من تنهدي
3 من يعطيني أن أجده، فآتي إلى كرسيه
4 أحسن الدعوى أمامه، وأملأ فمي حججا
5 فأعرف الأقوال التي بها يجيبني، وأفهم ما يقوله لي
يريد أيوب أن يفهم ما إذا كان الله يخاصمه بكثرة القوة . ثم يجيب عنه بالنفي :
6 أبكثرة قوة يخاصمني ؟ كلا ولكنه كان ينتبه إلي !
هنا يوجد التباس . يبدو أن أيوب راح يتحدث عما قبل بلواه حيث كان الله يحاجج بما هو مستقيم لينجو أيوب إلى الأبد من القضاء :
7 هنالك كان يحاجه المستقيم، وكنت أنجو إلى الأبد من قاضي !
أما الآن فيبحث أيوب عن الله في كل الجهات فلا يجده :
8 هأنذا أذهب شرقا فليس هو هناك، وغربا فلا أشعر به
9 شمالا حيث عمله فلا أنظره. يتعطف الجنوب فلا أراه
ويشير أيوب إلى أنه كان متمسكا بشرائع الله :
11 بخطواته استمسكت رجلي. حفظت طريقه ولم أحد
12 من وصية شفتيه لم أبرح. أكثر من فريضتي ذخرت كلام فيه
في الإصحاح (24) يعود ايوب إلى بلاغته المعهودة متحدثا عن الأزمنة التي لم تختبىء من الهة حتى أن عارفيه لا يرون يومه :
1 لماذا إذ لم تختبئ الأزمنة من القدير، لا يرى عارفوه يومه
يقصد أيوب هنا الذين يرتكبون آثامهم في وضح النهار رغم معرفتهم له ولشرائعه ، فهم :
2 ينقلون التخوم. يغتصبون قطيعا ويرعونه
3 يستاقون حمار اليتامى، ويرتهنون ثور الأرملة
4 يصدون الفقراء عن الطريق. مساكين الأرض يختبئون جميعا
والمساكين هؤلاء :
5 ها هم كالفراء في القفر يخرجون إلى عملهم يبكرون للطعام. البادية لهم خبز لأولادهم
6 في الحقل يحصدون علفهم، ويعللون كرم الشرير
7 يبيتون عراة بلا لبس ، وليس لهم كسوة في البرد
8 يبتلون من مطر الجبال، ولعدم الملجإ يعتنقون الصخر
9 يخطفون اليتيم عن الثدي، ومن المساكين يرتهنون
10 عراة يذهبون بلا لبس ، وجائعين يحملون حزما
11 يعصرون الزيت داخل أسوارهم. يدوسون المعاصر ويعطشون
والله لا ينتبه إلى ألم هؤلاء ولا يعير استغاثاتهم أي انتباه ولا يرى حجم الظلم الذي يرزحون فيه :
12 من الوجع أناس يئنون ، ونفس الجرحى تستغيث، والله لا ينتبه إلى الظلم .
والآثمون يتمردون على النور و يقترفون آثامهم : وقد يكون بينهم أحد هؤلاء المساكين الذين دفعهم فقرهم إلى التمرد ، فتمردوا على النور ، الطريق القويم ، والهدى والشرائع :
13 أولئك يكونون بين المتمردين على النور. لا يعرفون طرقه ولا يلبثون في سبله
14 مع النور يقوم القاتل، يقتل المسكين والفقير، وفي الليل يكون كاللص
15 وعين الزاني تلاحظ العشاء. يقول: لا تراقبني عين. فيجعل سترا على وجهه
16 ينقبون البيوت في الظلام. في النهار يغلقون على أنفسهم. لا يعرفون النور
17 لأنه سواء عليهم الصباح وظل الموت. لأنهم يعلمون أهوال ظل الموت
18 خفيف هو على وجه المياه. ملعون نصيبهم في الأرض. لا يتوجه إلى طريق الكروم
19 القحط والقيظ يذهبان بمياه الثلج، كذا الهاوية بالذين أخطأوا
20 تنساه الرحم، يستحليه الدود. لا يذكر بعد، وينكسر الأثيم كشجرة
21 يسيء إلى العاقر التي لم تلد، ولا يحسن إلى الأرملة
22 يمسك الأعزاء بقوته . يقوم فلا يأمن أحد بحياته
وإذا كان ايوب لا ينطق بالحقيقة فمن يستطيع أن يكذبه :
25 وإن لم يكن كذا، فمن يكذبني ويجعل كلامي لا شيئا
(6) الإنسان رمة ودود عند الله حسب بلدد الشوحي !!
في الإصحاح (25) يرافع بلدد الشوحي عن الله . فأيوب أمام ثلاثة مرافعين عن الله . وعليه أن يتصدى لمنطقهم المقرر سلفا والمبني على مفاهيم الخير والشر من الله
وهذا ما لا يريد أيوب أن يراه في الله .
ليس هناك ما هو جديد في مرافعة بلدد الشوحي ، فالله صانع السلام وله جنود أكثر من أن يحصوا والقمر لن ينير دونه وما الإنسان إلا رمة ودودا ، فكيف يكون بارا عند الله . وحسب منطق الرمة والدود ، فإذا كان الإنسان على هذه الشاكلة في نظر بلدد أو نظر الله ، فيمكن أن يباد دون أي اكتراث من الله ، الذي بالتأكيد ليس في حاجة إلى رمم ودود .
2 السلطان والهيبة عنده. هو صانع السلام في أعاليه
3 هل من عدد لجنوده ؟ وعلى من لا يشرق نوره
4 فكيف يتبرر الإنسان عند الله ؟ وكيف يزكو مولود المرأة
5 هوذا نفس القمر لا يضيء، والكواكب غير نقية في عينيه
6 فكم بالحري الإنسان الرمة، وابن آدم الدود !!
في الإصحاح (26) يرد أيوب برد ملتبس ، وهو ما نظن أنه من التدخلات التي طرأت على النص الأصلي ، فبينما يبدأ أيوب بالإشارة إلى أن بلددا يعين من لا قوة وحكمة لهم ويكثر الفهم :
2 كيف أعنت من لا قوة له، وخلصت ذراعا لا عز لها
3 كيف أشرت على من لا حكمة له، وأظهرت الفهم بكثرة
4 لمن أعلنت أقوالا، ونسمة من خرجت منك
يعود ليتحدث عن معجزات الله في الخلق ، وعن جبروته ونفخته الهائلة
القادرة على أن تجعل السماوات تظهر سافرة دون شيء فيها :
5 الأخيلة ترتعد من تحت المياه وسكانها
6 الهاوية عريانة قدامه، والهلاك ليس له غطاء
7 يمد الشمال على الخلاء، ويعلق الأرض على لا شيء
8 يصر المياه في سحبه فلا يتمزق الغيم تحتها
9 يحجب وجه كرسيه باسطا عليه سحابه
10 رسم حدا على وجه المياه عند اتصال النور بالظلمة
11 أعمدة السماوات ترتعد وترتاع من زجره
12 بقوته يزعج البحر، وبفهمه يسحق رهب
13 بنفخته السماوات مسفرة ويداه أبدأتا الحية الهاربة
14 ها هذه أطراف طرقه، وما أخفض الكلام الذي نسمعه منه، وأما رعد جبروته، فمن يفهم
ويمكن تقبل كلام أيوب هذا لو لم نجد ما يشبه التوبة عند أيوب حين راح في الإصحاح (27 ) يعلن أن شفتيه لن تتكلما بالإثم ولن يتلفظ لسانه بالغش . إذ يبدو أن عصا الله المرفوعة فوق رأس أيوب جعلته يشير إلى ما هو ليس فيه ،
وهو ما نظن أنه من النصوص الدخيلة على النص الأصلي :
3 إنه ما دامت نسمتي في، ونفخة الله في أنفي
4 لن تتكلم شفتاي إثما ، ولا يلفظ لساني بغش
وكلام أيوب اللاحق في هذا السفر يشير إلى أيوب الذي عرفنا ه :
7 ليكن عدوي كالشرير، ومعاندي كفاعل الشر!
من العدو في حال أيوب هذه ؟ ليس من أوقع المصائب به فحسب ، بل من يعانده
ويقف ضده . وفي هذه الحال سيكون حال هذا الأخير كحال الفاجر عندما يقطع الأمل بالله بعد أن سلبه الله نفسه :
8 لأنه ما هو رجاء الفاجر عندما يقطعه، عندما يسلب الله نفسه
9 أفيسمع الله صراخه إذا جاء عليه ضيق
10 أم يتلذذ بالقدير ؟ هل يدعو الله في كل حين
ويكمل مخاطبا محدثيه بالباطل مؤكدا على علمه :
11 إني أعلمكم بيد الله . لا أكتم ما هو عند القدير
12 ها أنتم كلكم قد رأيتم، فلماذا تتبطلون تبطلا ؟ قائلين
13 هذا نصيب الإنسان الشرير من عند الله، وميراث العتاة الذي ينالونه من القدير
14 إن كثر بنوه فللسيف ، وذريته لا تشبع خبزا
15 بقيته تدفن بالموتان ، وأرامله لا تبكي
20 الأهوال تدركه كالمياه. ليلا تختطفه الزوبعة
21 تحمله الشرقية فيذهب ، وتجرفه من مكانه
22 يلقي الله عليه ولا يشفق. من يده يهرب هربا
هذا ما يقوله المرافعون عن الله عن مصير الإنسان الشرير لكن أيوبا لم يكن شريرا باعتراف الله نفسه حسب كتبة النص .
في الإصحاح ( 28 ) ينطق ايوب بالحكمة متخليا عن الشكوى ، متطرقا إلى جوهر المعادن ، ومعلنا أن الإنسان لا يعرف قيمة الحكمة ولا يعرف من اين توجد :
12 أما الحكمة فمن أين توجد، وأين هو مكان الفهم
13 لا يعرف الإنسان قيمتها ولا توجد في أرض الأحياء
14 الغمر يقول: ليست هي في، والبحر يقول: ليست هي عندي
15 لا يعطى ذهب خالص بدلها، ولا توزن فضة ثمنا لها
16 لا توزن بذهب أوفير أو بالجزع الكريم أو الياقوت الأزرق
17 لا يعادلها الذهب ولا الزجاج، ولا تبدل بإناء ذهب إبريز
18 لا يذكر المرجان أو البلور، وتحصيل الحكمة خير من اللآلئ
19 لا يعادلها ياقوت كوش الأصفر، ولا توزن بالذهب الخالص
20 فمن أين تأتي الحكمة ، وأين هو مكان الفهم
21 إذ أخفيت عن عيون كل حي، وسترت عن طير السماء
في الإصحاح ( 29 ) يتذكر أيوب أيام عزه ، الأيام التي كان الله فيها راضيا عنه ، متمنيا أن تعود :
2 يا ليتني كما في الشهور السالفة وكالأيام التي حفظني الله فيها
3 حين أضاء سراجه على رأسي، وبنوره سلكت الظلمة
4 كما كنت في أيام خريفي، ورضا الله على خيمتي
5 والقدير بعد معي وحولي غلماني
6 إذ غسلت خطواتي باللبن، والصخر سكب لي جداول زيت
7 حين كنت أخرج إلى الباب في القرية، وأهيئ في الساحة مجلسي
8 رآني الغلمان فاختبأوا، والأشياخ قاموا ووقفوا
9 العظماء أمسكوا عن الكلام، ووضعوا أيديهم على أفواههم
10 صوت الشرفاء اختفى، ولصقت ألسنتهم بأحناكهم
11 لأن الأذن سمعت فطوبتني، والعين رأت فشهدت لي
12 لأني أنقذت المسكين المستغيث واليتيم ولا معين له
13 بركة الهالك حلت علي ، وجعلت قلب الأرملة يسر
يلاحظ أن أيوب يصف الله هنا بالهالك بعد أن كان يصفه بالقدير وهو ما يشير
إلى الفهم التوراتي الذي لا يتقبله أيوب بأن الخير والشر من عند الله . ويستخدم أيوب لفظة ( الهالك ) مع البركة .
ويكمل مستذكرا كرمه ونبله وأيام مجده :
14 لبست البر فكساني. كجبة وعمامة كان عدلي
15 كنت عيونا للعمي، وأرجلا للعرج
16 أب أنا للفقراء، ودعوى لم أعرفها فحصت عنها
17 هشمت أضراس الظالم، ومن بين أسنانه خطفت الفريسة
18 فقلت: إني في وكري أسلم الروح، ومثل السمندل أكثر أياما
19 أصلي كان منبسطا إلى المياه، والطل بات على أغصاني
20 كرامتي بقيت حديثة عندي، وقوسي تجددت في يدي
21 لي سمعوا وانتظروا، ونصتوا عند مشورتي
22 بعد كلامي لم يثنوا ، وقولي قطر عليهم
23 وانتظروني مثل المطر ، وفغروا أفواههم كما للمطر المتأخر
24 إن ضحكت عليهم لم يصدقوا، ونور وجهي لم يعبسوا
25 كنت أختار طريقهم وأجلس رأسا، وأسكن كملك في جيش، كمن يعزي النائحين .
******
في الإصحاح (30 ) يفجر أيوب حزنه ، مبديا غضبه ممن لم يكن يقبل أن يكون آباؤهم مع كلاب غنمه ، متطرقا إلى كل ما فعلوه به من إذلال ، حتى أنهم كانوا يبصقون أمام وجهه . ويعود إلى مناجاة الله الذي لا يستجيب لصراخه ، مذكرا إياه
بحزنه على المساكين وكآبته لحالهم ،وعدم استجابته لرجائه حين ترجى الخير
وانتظر النور ، فلم يأته إلا الشر والدجى . ونظرا لأهمية وجمالية هذا الإصحاح ، سنورده كاملا :
الأصحاح الثلاثون
1 وأما الآن فقد ضحك علي أصاغري أياما، الذين كنت أستنكف من أن أجعل آباءهم مع كلاب غنمي
2 قوة أيديهم أيضا ما هي لي. فيهم عجزت الشيخوخة
3 في العوز والمحل مهزولون، عارقون اليابسة التي هي منذ أمس خراب وخربة
4 الذين يقطفون الملاح عند الشيح، وأصول الرتم خبزهم
5 من الوسط يطردون. يصيحون عليهم كما على لص
6 للسكن في أودية مرعبة وثقب التراب والصخور
7 بين الشيح ينهقون. تحت العوسج ينكبون
8 أبناء الحماقة، بل أبناء أناس بلا اسم، سيطوا من الأرض
9 أما الآن فصرت أغنيتهم، وأصبحت لهم مثلا
10 يكرهونني. يبتعدون عني، وأمام وجهي لم يمسكوا عن البسق ) البصق )
11 لأنه أطلق العنان وقهرني، فنزعوا الزمام قدامي
12 عن اليمين الفروخ يقومون يزيحون رجلي، ويعدون علي طرقهم للبوار
13 أفسدوا سبلي. أعانوا على سقوطي. لا مساعد عليهم
14 يأتون كصدع عريض. تحت الهدة يتدحرجون
15 انقلبت علي أهوال. طردت كالريح نعمتي، فعبرت كالسحاب سعادتي
16 فالآن انهالت نفسي علي، وأخذتني أيام المذلة
17 الليل ينخر عظامي في ، وعارقي لا تهجع
18 بكثرة الشدة تنكر لبسي. مثل جيب قميصي حزمتني
19 قد طرحني في الوحل، فأشبهت التراب والرماد
20 إليك أصرخ فما تستجيب لي. أقوم فما تنتبه إلي
21 تحولت إلى جاف من نحوي. بقدرة يدك تضطهدني
22 حملتني، أركبتني الريح وذوبتني تشوها
23 لأني أعلم أنك إلى الموت تعيدني، وإلى بيت ميعاد كل حي
24 ولكن في الخراب ألا يمد يدا ؟ في البلية ألا يستغيث عليها
25 ألم أبك لمن عسر يومه ؟ ألم تكتئب نفسي على المسكين
26 حينما ترجيت الخير جاء الشر، وانتظرت النور فجاء الدجى
27 أمعائي تغلي ولا تكف . تقدمتني أيام المذلة
28 اسوددت لكن بلا شمس . قمت في الجماعة أصرخ
29 صرت أخا للذئاب، وصاحبا لرئال النعام
30 حرش جلدي علي وعظامي احترت من الحرارة في
31 صار عودي للنوح، ومزماري لصوت الباكين
********
(7) مرافع ومدافع جديد عن الله يتحدى أيوبا بحكمته !!
في الإصحاح (31 ) يسرد أيوب إلى محدثيه في (40) جملة مدى سمو أخلاقه ورفعة سلوكه في الحياة ، وتعامله بنبل مع الآخرين ، مما يذكرنا بالخطايا أل (42) التي لم يرتكبها الإنسان ويقوم بذكرها في محكمة العدل الأوزيريسية ، غير أن التأثر هنا يصاغ بلغة رفيعة وصور مختلفة ذات جمالية عالية . وسأورد النص كاملا لجماليته :
1 عهدا قطعت لعيني، فكيف أتطلع في عذراء
2 وما هي قسمة الله من فوق، ونصيب القدير من الأعالي
3 أليس البوار لعامل الشر، والنكر لفاعلي الإثم
4 أليس هو ينظر طرقي، ويحصي جميع خطواتي
5 إن كنت قد سلكت مع الكذب، أو أسرعت رجلي إلى الغش
6 ليزني في ميزان الحق ، فيعرف الله كمالي
7 إن حادت خطواتي عن الطريق، وذهب قلبي وراء عيني، أو لصق عيب بكفي
8 أزرع وغيري يأكل، وفروعي تستأصل
9 إن غوي قلبي على امرأة، أو كمنت على باب قريبي
10 فلتطحن امرأتي لآخر ، ولينحن عليها آخرون
11 لأن هذه رذيلة، وهي إثم يعرض للقضاة
12 لأنها نار تأكل حتى إلى الهلاك، وتستأصل كل محصولي
13 إن كنت رفضت حق عبدي وأمتي في دعواهما علي
14 فماذا كنت أصنع حين يقوم الله ؟ وإذا افتقد، فبماذا أجيبه
15 أوليس صانعي في البطن صانعه، وقد صورنا واحد في الرحم
16 إن كنت منعت المساكين عن مرادهم، أو أفنيت عيني الأرملة
17 أو أكلت لقمتي وحدي فما أكل منها اليتيم
18 بل منذ صباي كبر عندي كأب، ومن بطن أمي هديتها
19 إن كنت رأيت هالكا لعدم اللبس أو فقيرا بلا كسوة
20 إن لم تباركني حقواه وقد استدفأ بجزة غنمي
21 إن كنت قد هززت يدي على اليتيم لما رأيت عوني في الباب
22 فلتسقط عضدي من كتفي ، ولتنكسر ذراعي من قصبتها
23 لأن البوار من الله رعب علي، ومن جلاله لم أستطع
24 إن كنت قد جعلت الذهب عمدتي، أو قلت للإبريز: أنت متكلي
25 إن كنت قد فرحت إذ كثرت ثروتي ولأن يدي وجدت كثيرا
26 إن كنت قد نظرت إلى النور حين ضاء، أو إلى القمر يسير بالبهاء
27 وغوي قلبي سرا، ولثم يدي فمي
28 فهذا أيضا إثم يعرض للقضاة، لأني أكون قد جحدت الله من فوق
29 إن كنت قد فرحت ببلية مبغضي أو شمت حين أصابه سوء
30 بل لم أدع حنكي يخطئ في طلب نفسه بلعنة
31 إن كان أهل خيمتي لم يقولوا: من يأتي بأحد لم يشبع من طعامه
32 غريب لم يبت في الخارج. فتحت للمسافر أبوابي
33 إن كنت قد كتمت كالناس ذنبي لإخفاء إثمي في حضني
34 إذ رهبت جمهورا غفيرا، وروعتني إهانة العشائر، فكففت ولم أخرج من الباب
35 من لي بمن يسمعني ؟ هوذا إمضائي. ليجبني القدير. ومن لي بشكوى كتبها خصمي
36 فكنت أحملها على كتفي. كنت أعصبها تاجا لي
37 كنت أخبره بعدد خطواتي وأدنو منه كشريف
38 إن كانت أرضي قد صرخت علي وتباكت أتلامها جميعا
39 إن كنت قد أكلت غلتها بلا فضة، أو أطفأت أنفس أصحابها
40 فعوض الحنطة لينبت شوك، وبدل الشعير زوان
****** ****
في الإصحاح (32) يدخل مرافع جديد عن الله ليلقي على أيوب ومحدثيه مواعظه في ستة إصحاحات . هذا الواعظ الجديد يدعى أليهو بن برخئيل البوزي . يدخل الرجل غاضبا من كلام أيوب لأنه يجدف على الله ويرى نفسه بارا أكثر منه ، وغاضبا على محاوريه الثلاثة لأنهم لم يستطيعوا إقناعه بأنه خاطىء ، وأنهم فشلوا في الدفاع عن الله ، ويشير أليهوإلى أنه لم يصبر حتى حينه على محدثي أيوب إلا لأنهم أكبر منه سنا ، أما الآن فقد فاض به الكيل ولم يعد قادرا على السكوت :
1 فكف هؤلاء الرجال الثلاثة عن مجاوبة أيوب لكونه بارا في عيني نفسه
2 فحمي غضب أليهو بن برخئيل البوزي من عشيرة رام. على أيوب حمي غضبه لأنه حسب نفسه أبر من الله
3 وعلى أصحابه الثلاثة حمي غضبه، لأنهم لم يجدوا جوابا واستذنبوا أيوب
4 وكان أليهو قد صبر على أيوب بالكلام، لأنهم أكثر منه أياما
ويقدم أليهو نفسه على أنه الحكيم العالم بأمور الله رغم أنه أصغرهم سنا .
ليفتتح موعظته ( العظيمة ) عن الله بأنه لا يمكن للإنسان أن يغلب الله :
13 فلا تقولوا: قد وجدنا حكمة. الله يغلبه لا الإنسان
الشطر الثاني من الجملة مصاغ بلغة ركيكة وكان يجب أن يكون : الإنسان لا يغلب الله ، أو لا يغلب الإنسان الله ، أو الله لا يغلبه الإنسان .
في مطلع الإصحاح (33)يقدم أليهو نفسه عوضا عن الله ويطالب أيوب أن يستمع إليه وأن ينتصب لمواجهة حجته إن استطاع :
5 إن استطعت فأجبني. أحسن الدعوى أمامي. انتصب
6 هأنذا حسب قولك عوضا عن الله. أنا أيضا من الطين تقرصت
7 هوذا هيبتي لا ترهبك وجلالي لا يثقل عليك
8 إنك قد قلت في مسامعي، وصوت أقوالك سمعت
فماذا قال أيوب حسب أليهو :
9 قلت: أنا بريء بلا ذنب. زكي أنا ولا إثم لي
10 هوذا يطلب علي علل عداوة. يحسبني عدوا له
11 وضع رجلي في المقطرة . يراقب كل طرقي
وهنا يكمن خطأ أيوب حسب أليهو :
12 ها إنك في هذا لم تصب. أنا أجيبك، لأن الله أعظم من الإنسان
13 لماذا تخاصمه ؟ لأن كل أموره لا يجاوب عنها
إذن فالله أعظم من الإنسان !! ولأنه كذلك ليس مطالبا بالإجابة عما يفعله !
فلماذا يخاصمه أيوب ؟
الله لا يتكلم مرة واحدة ، وباثنتين لا يلاحظ الإنسان !!
14 لكن الله يتكلم مرة ، وباثنتين لا يلاحظ الإنسان
يبدو أن أليهو يقصد أن كثرة الكلام عند الله لا فائدة منها ، لأنه لو كرر كلامه
لما أبه به الإنسان !
والله يفعل بالإنسان ما يشاء ويأتيه من حيث لايدري ، وربما أكثر من مرة ، كأن يدنيه من الهاوية ( الحفرة ) ويبعده عن السلوك القويم لينزل به ما يشاء ، حتى أن يحيله إلى مجرد عظام ، ليتوب إلى الله ويصلي له ، وحينئذ يعيد الله إليه صحته
وشبابه وبره :
15 في حلم في رؤيا الليل، عند سقوط سبات على الناس، في النعاس على المضجع
16 حينئذ يكشف آذان الناس ويختم على تأديبهم
17 ليحول الإنسان عن عمله، ويكتم الكبرياء عن الرجل
18 ليمنع نفسه عن الحفرة وحياته من الزوال بحربة الموت
19 أيضا يؤدب بالوجع على مضجعه، ومخاصمة عظامه دائمة
20 فتكره حياته خبزا، ونفسه الطعام الشهي
21 فيبلى لحمه عن العيان، وتنبري عظامه فلا ترى
22 وتقرب نفسه إلى القبر، وحياته إلى المميتين
23 إن وجد عنده مرسل، وسيط واحد من ألف ليعلن للإنسان استقامته
24 يتراءف عليه ويقول: أطلقه عن الهبوط إلى الحفرة، قد وجدت فدية
25 يصير لحمه أغض من لحم الصبي، ويعود إلى أيام شبابه
26 يصلي إلى الله فيرضى عنه، ويعاين وجهه بهتاف فيرد على الإنسان بره .
المشكلة في حكمة أليهو أنها لا تتفق مع ما جرى لأيوب . فالله لم يضل أيوب عن الطريق القويم أولا ليجعله يرتكب المعاصي ليوقع به ما أوقعه من مصائب ، ليرغمه على الصلاة له وعبادته .. فأيوب كان صالحا تقيا مستقيما مؤديا للقرابين والصلوات ، وأنزل الله به مصائبه (بناء على وجهة نظر الشيطان ) لاختبار مدى إيمانه . فما علاقة أيوب بمواعظ أليهو . فهل كان يرى أن أيوبا صار خاطئا ، وفي هذه الحال ما هي براهينه على ذلك ؟! إن أيوب لم يجدف على الله إلا بعد أن حلت به مصائبه ، مشككا في أن يكون هو صانعا للخير والشر . ما يبدو أحيانا وكأنه دفاع عن الخير في شخص الإله ، وإبعاد مفهوم الشر عنه .
ينزل الله المصائب بالإنسان مرتين وثلاثا لينقذه من الهاوية ويسلكه الطريق القويم :
29 هوذا كل هذه يفعلها الله مرتين وثلاثا بالإنسان
30 ليرد نفسه من الحفرة ، ليستنير بنور الأحياء
(وهذا ما نجده في تأويل ابن عربي وأشرنا إليه في بحثنا حول فكر ابن عربي وإن بتعابير مختلفة بعض الشيء . )
وينبغي على أيوب أن يصمت ويستمع إلى أليهو لأنه ينطق بالحكمة :
31 فاصغ يا أيوب واستمع لي. انصت فأنا أتكلم
32 إن كان عندك كلام فأجبني. تكلم. فإني أريد تبريرك
33 وإلا فاستمع أنت لي . انصت فأعلمك الحكمة
*************
في الإصحاح (34 ) يطلب أليهو من الحكماء والعارفين أن يصغوا إليه ولما يقوله بحق أيوب :
2 اسمعوا أقوالي أيها الحكماء، واصغوا لي أيها العارفون
3 لأن الأذن تمتحن الأقوال، كما أن الحنك يذوق طعاما
4 لنمتحن لأنفسنا الحق ، ونعرف بين أنفسنا ما هو طيب
5 لأن أيوب قال: تبررت، والله نزع حقي
6 عند محاكمتي أكذب. جرحي عديم الشفاء من دون ذنب
7 فأي إنسان كأيوب يشرب الهزء كالماء
8 ويسير متحدا مع فاعلي الإثم، وذاهبا مع أهل الشر
9 لأنه قال: لا ينتفع الإنسان بكونه مرضيا عند الله
ويعلن أليهو مؤكدا براءة الله من الظلم والشر فكل ما يفعله خير :
10 لأجل ذلك اسمعوا لي يا ذوي الألباب. حاشا لله من الشر، وللقدير من الظلم
ويسهب أليهو في مرافعته عن الله إلى أن ينتهي بإدانة أيوب الذي يكثر الكلام على الله بلا معرفة :
34 ذوو الألباب يقولون لي، بل الرجل الحكيم الذي يسمعني يقول
35 إن أيوب يتكلم بلا معرفة، وكلامه ليس بتعقل
36 فليت أيوب كان يمتحن إلى الغاية من أجل أجوبته كأهل الإثم
37 لكنه أضاف إلى خطيته معصية. يصفق بيننا، ويكثر كلامه على الله
في الجملة (36) ثمة تمني لو أن أيوب كان يمتحن لغاية ، وهي أن تكون أجوبته
كأجوبة مرتكبي الآثام ، الذين لا شك سيعلنون توبتهم ويتوبون إلى الله ، وهذا ما لم يفعله أيوب الذي كان واقعا تحت امتحان يبدو أن أليهو على علم به .
في الإصحاحات (35 ) و(36 ) و(37 ) ليس هناك ما هو جديد في مواعظ أليهو وما لا يختلف عن مواعظ سابقية متطرقا إلى آثام أيوب تارة ، وإلى الحكمة الإلهية
وقدرة الله تارات أخرى . وسأورد بعض الفقرات من الإصحاحات الثلاثة :
مقتطفات من الإصحاح 35 :
2 أتحسب هذا حقا ؟ قلت : أنا أبر من الله
3 لأنك قلت: ماذا يفيدك ؟ بماذا أنتفع أكثر من خطيتي
4 أنا أرد عليك كلاما ، وعلى أصحابك معك
5 انظر إلى السماوات وأبصر، ولاحظ الغمام. إنها أعلى منك
6 إن أخطأت فماذا فعلت به ؟ وإن كثرت معاصيك فماذا عملت له
7 إن كنت بارا فماذا أعطيته ؟ أو ماذا يأخذه من يدك
8 لرجل مثلك شرك، ولابن آدم برك
*** ****
13 ولكن الله لا يسمع كذبا، والقدير لا ينظر إليه
14 فإذا قلت إنك لست تراه، فالدعوى قدامه، فاصبر له
15 وأما الآن فلأن غضبه لا يطالب، ولا يبالي بكثرة الزلات
16 فغر أيوب فاه بالباطل، وكبر الكلام بلا معرفة
من الإصحاح 36 :
17 حجة الشرير أكملت، فالحجة والقضاء يمسكانك
18 عند غضبه لعله يقودك بصفقة. فكثرة الفدية لا تفكك
19 هل يعتبر غناك ؟ لا التبر ولا جميع قوى الثروة
20 لا تشتاق إلى الليل الذي يرفع شعوبا من مواضعهم
21 احذر. لا تلتفت إلى الإثم لأنك اخترت هذا على الذل
22 هوذا الله يتعالى بقدرته. من مثله معلما
*** ****
26 هوذا الله عظيم ولا نعرفه وعدد سنيه لا يفحص
27 لأنه يجذب قطار الماء. تسح مطرا من ضبابها
28 الذي تهطله السحب وتقطره على أناس كثيرين
29 فهل يعلل أحد عن شق الغيم أو قصيف مظلته
30 هوذا بسط نوره على نفسه، ثم يتغطى بأصول اليم
31 لأنه بهذه يدين الشعوب، ويرزق القوت بكثرة
32 يغطي كفيه بالنور، ويأمره على العدو
33 يخبر به رعده، المواشي أيضا بصعوده
من الإصحاح 37:
2 اسمعوا سماعا رعد صوته والرمزمة الخارجة من فيه
3 تحت كل السماوات يطلقها، كذا نوره إلى أكناف الأرض
4 بعد يزمجر صوت، يرعد بصوت جلاله، ولا يؤخرها إذ سمع صوته
5 الله يرعد بصوته عجبا. يصنع عظائم لا ندركها
***** ****
الحكيم أليهو يرى أن الرعد رمزمة وزمجرة الله ، ولا شك حين يكون الله غاضبا !!

14 انصت إلى هذا يا أيوب، وقف وتأمل بعجائب الله
15 أتدرك انتباه الله إليها، أو إضاءة نور سحابه
16 أتدرك موازنة السحاب ، معجزات الكامل المعارف
17 كيف تسخن ثيابك إذا سكنت الأرض من ريح الجنوب
*** ***
22 من الشمال يأتي ذهب . عند الله جلال مرهب
23 القدير لا ندركه. عظيم القوة والحق، وكثير البر. لا يجاوب
24 لذلك فلتخفه الناس. كل حكيم القلب لا يراعي
لا نعرف ما هو الجديد الذي أتى به أليهو والذي لم يعرفه أيوب ومحدثوه الثلاثة .
*********
(8) ألله متحديا أيوب ( المحتضر المحطم ( أن يشد حقويه وأن يكون رجلا لمواجهته !!!
لقداختفى الشيطان ولم يعد يظهر بعد أن ضرب أيوب بالقرح . يفترض أن الأمور قد توضحت (لله ) وللشيطان بعد أن قال أيوب بحق الله ما قاله من تجديف إلى حد الكفر .
والظاهر أن الشيطان قد انتصر وكسب الرهان ، ولم يجد الله ( أو كتبة النص ) سوى صب جام الغضب على أيوب .فالله لم يكتف بمرافعة المرافعين عنه واعتبر أنهم لم ينجحوا في الدفاع عنه
أمام أيوب ، الذي وكما يبدو بدا واثقا من نفسه ،مؤمنا بما يقوله ، منتصرا بمنطقه على المرافعين وعلى الله معا . ولا أعرف ما إذاكان الكاتب أو الكتبة التوراتيون يدركون أنهم قزموا الله إلى حد فظيع حين أنزلوه من علياء سمائه ليتحدى أيوب المحطم والدود ينخر جسده !!
فها هو يظهر فجأة ليخاطب أيوب من العاصفة ويبدو أنه لم يكتف بمرافعات أليهو وجليسي أيوب الثلاثة عنه ، فقرر أن يتصدى هو شخصيا لأيوب (الذي يظلم قضاءه ويتكلم دون معرفة ) ويتحداه أن يشد حقوية وأن يكون رجلا ليواجهة وليعلمه أين كان هو حين أسس الأرض وأرسى قواعدها ،وكأن أيوب لا يعرف ذلك :
1 فأجاب الرب أيوب من العاصفة وقال
2 من هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة
3 اشدد الآن حقويك كرجل، فإني أسألك فتعلمني
4 أين كنت حين أسست الأرض ؟ أخبر إن كان عندك فهم
5 من وضع قياسها ؟ لأنك تعلم أو من مد عليها مطمارا
6 على أي شيء قرت قواعدها ؟ أو من وضع حجر زاويتها
هل يعقل أن يكون هذا كلام إله ؟! الإله خالق السموات والأرض والخلق يتحدى انسانا محطما ! ولا يعرف مدى ثقافة ومعرفة هذا الإنسان المحطم الذي أثبت في مرافعاته وشكاوية أنه على درجة عالية من الثقافة والنبل والأخلاق ، عكس ما هو عليه هذا الإله الذي بدا وكأنه دون حد أدنى حتى من الأخلاق ! ولا يعقل أن يكون هذا الإله هو الإله المحب لأيوب والذي يرى فيه عبدا صالحا تقيا .
لهذا قلنا أن هذا النص هو دخيل على النص الأصلي لقصة أيوب ، وحتى مقدمة
السفر التي تشير إلى الله والشيطان دخيلة أيضا . فأساس القصة كما أعتقد هو انسان أصيب بمرض ، وربما فقد ثروته أيضا ، ونظرا لأن ثقافته تستند إلى ديانة ترد الخير والشر إلى الله ، راح يتساءل عن الله ويسائله عن عدالته . وهي الإسئلة التي ما تزال قائمة إلى يومنا في المفاهيم الدينية ، وإن باشكال متفاوتة ومختلفة . لكن كتبة التوراة وناقلي وقائعها عبر العصور ، كانوا يزيدون وينقصون حسب معرفتهم وثقافتهم في العصور تلك ، وربما كانوا يوظفون معرفتهم بشكل خاطىء .. كما هو واضح أعلاه !وتطرق السفر إلى سبي اليهود وأسرهم يشير إلى أن السفر مكتوب بعد السبي البابلي وربما قبل قرنين أوبضعة عقود من ظهور المسيح ، حيث بدأت العقيدة اليهودية تضمحل وكثر نقادها من اليهود أنفسهم ،وبدأ ظهور المسحاء الذين بشروا بإله رحماني مخلص يناقض طبيعة يهوه العدوانية .
وحتى لو كان الخير والشر من الله فإنه ليس في الإمكان تقبل ما يتفوه به يهوه أمام إنسان محطم ، إلا في حال واحدة فقط هي أن يظهر الله نفسه بصورة شرانية فظيعة ، أي أن يريد الشر لنفسه بتجسده في شخصية شرانية ، ولا أظن أن كتبة النص يريدون ذلك عن قصد !!
ومن الجدير بالذكر أن القصص القرآني تجاهلت قصة أيوب تماما ولم يرد ذكر أيوب إلا مرورا عبرآيات لا تتجاوز الأربع فقط في سور مختلفة تشير إلى رحمة الله واستجابته لتضرعات أيوب بعد أن مسه الضرر:
( وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الرحمين ) الأنبياء 83
( فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعبدين ) الأنبياء 84
والآيات الأخرى لا تدخل في تفاصيل معاناة أيوب . ، عكس القصص الأخرى كقصة يوسف التي أتى على كامل تفاصيلها وصاغها بلغة رفيعة غاية في البلاغة والإدهاش . كما أن القرآن لم يورد سورة تحمل اسم أيوب ، بينما نجد سورا تحمل أسماء : ابراهيم . يوسف . يونس .هود . لقمان . نوح . مريم. محمد.
ولكي أكون منصفا مع هذا الإله سأورد بعض الفقرات من هذا الإصحاح عن الأفعال التي يدعي أنه في مقدوره أن يفعلها ولا يقدر أيوب على فعلها حتى ولا يعلم بها :
8 ومن حجز البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرحم
9 إذ جعلت السحاب لباسه، والضباب قماطه
10 وجزمت عليه حدي، وأقمت له مغاليق ومصاريع
11 وقلت: إلى هنا تأتي ولا تتعدى، وهنا تتخم كبرياء لججك
12 هل في أيامك أمرت الصبح ؟ هل عرفت الفجر موضعه
13 ليمسك بأكناف الأرض ، فينفض الأشرار منها
في الجملة اللاحقة يشير الله إلى أنه يمنع نور الأشرار ويكسر الذراع المرتفعة
. بالتأكيد يقصد ذراع الشرير . وصراخه الوارد هنا في وجه انسان محطم ، ليس شرا !
15 ويمنع عن الأشرار نورهم، وتنكسر الذراع المرتفعة !!
16 هل انتهيت إلى ينابيع البحر، أو في مقصورة الغمر تمشيت
17 هل انكشفت لك أبواب الموت، أو عاينت أبواب ظل الموت
18 هل أدركت عرض الأرض ؟ أخبر إن عرفته كله
19 أين الطريق إلى حيث يسكن النور ؟ والظلمة أين مقامها
28 هل للمطر أب ؟ ومن ولد مآجل الطل
29 من بطن من خرج الجمد ؟ صقيع السماء، من ولده
30 كحجر صارت المياه. اختبأت. وتلكد وجه الغمر
31 هل تربط أنت عقد الثريا، أو تفك ربط الجبار
32 أتخرج المنازل في أوقاتها وتهدي النعش مع بناته
34 أترفع صوتك إلى السحب فيغطيك فيض المياه
35 أترسل البروق فتذهب وتقول لك: ها نحن
36 من وضع في الطخاء حكمة، أو من أظهر في الشهب فطنة
37 من يحصي الغيوم بالحكمة، ومن يسكب أزقاق السماوات
38 إذ ينسبك التراب سبكا ويتلاصق المدر
39 أتصطاد للبوة فريسة ، أم تشبع نفس الأشبال
40 حين تجرمز في عريسها وتجلس في عيصها للكمون
41 من يهيئ للغراب صيده ، إذ تنعب فراخه إلى الله، وتتردد لعدم القوت
********
في الإصحاح التاسع والثلاثين يتابع الله استعراض معرفته وعلمه وأفعاله بلغة وصور لا تخلو من طرافة ، صارخا في وجه أيوب المحطم المسكين :
1 أتعرف وقت ولادة وعول الصخور، أو تلاحظ مخاض الأيائل
2 أتحسب الشهور التي تكملها، أو تعلم ميقات ولادتهن
3 يبركن ويضعن أولادهن . يدفعن أوجاعهن
4 تبلغ أولادهن. تربو في البرية. تخرج ولا تعود إليهن
5 من سرح الفراء حرا، ومن فك ربط حمار الوحش
6 الذي جعلت البرية بيته والسباخ مسكنه
7 يضحك على جمهور القرية. لا يسمع زجر السائق
8 دائرة الجبال مرعاه ، وعلى كل خضرة يفتش
9 أيرضى الثور الوحشي أن يخدمك، أم يبيت عند معلفك
10 أتربط الثور الوحشي برباطه في التلم، أم يمهد الأودية وراءك
11 أتثق به لأن قوته عظيمة، أو تترك له تعبك
12 أتأتمنه أنه يأتي بزرعك ويجمع إلى بيدرك
13 جناح النعامة يرفرف . أفهو منكب رؤوف، أم ريش
14 لأنها تترك بيضها وتحميه في التراب
15 وتنسى أن الرجل تضغطه، أو حيوان البر يدوسه
19 هل أنت تعطي الفرس قوته وتكسو عنقه عرفا
20 أتوثبه كجرادة ؟ نفخ منخره مرعب
21 يبحث في الوادي وينفز ببأس. يخرج للقاء الأسلحة
22 يضحك على الخوف ولا يرتاع، ولا يرجع عن السيف
23 عليه تصل السهام وسنان الرمح والمزراق
24 في وثبه ورجزه يلتهم الأرض، ولا يؤمن أنه صوت البوق
25 عند نفخ البوق يقول : هه ومن بعيد يستروح القتال صياح القواد والهتاف
26 أمن فهمك يستقل العقاب وينشر جناحيه نحو الجنوب
27 أو بأمرك يحلق النسر ويعلي وكره
28 يسكن الصخر ويبيت على سن الصخر والمعقل
29 من هناك يتحسس قوته . تبصره عيناه من بعيد
30 فراخه تحسو الدم، وحيثما تكن القتلى فهناك هو
. نترك للقارىء التمعن في طرافة هذا الخطاب الإلهي والتفكر فيه . وما إذا كان أيوب لا يدرك ابعاده مهما كانت .
في الإصحاح (40) يتساءل يهوه أو الرب كما يرد في النص ، ما إذا كان القدير ( الرب ) يخاصم موبخه ( وهو هنا أيوب ) وكأن التلويح بالعصا والهتاف من العاصفة بصوت مرعب والتحدي بالرجولة والعنجهية التي أبداها يهوة ، وما إلى ذلك لا علاقة له بالخصومة .ويطالب أيوب بأن يجيب . وحينها لا يجد أيوب المسكين إلا أن يحقر نفسه أمام هذا الجبروت :
1 فأجاب الرب أيوب فقال
2 هل يخاصم القدير موبخه، أم المحاج الله يجاوبه
3 فأجاب أيوب الرب وقال
4 ها أنا حقير، فماذا أجاوبك ؟ وضعت يدي على فمي
وهكذا أخرس أيوب رغما عنه !
وعاد يهوه يتهدد من جديد ويدعو أيوب أن يكون رجلا ويجيب عن أسئلته ويعلمه
متسائلا باستنكار عما إذا كان أيوب يناقض أحكامه ويستذنب يهوه ليتبرر هو :
6 فأجاب الرب أيوب من العاصفة فقال
7 الآن شد حقويك كرجل . أسألك فتعلمني
8 لعلك تناقض حكمي، تستذنبني لكي تتبرر أنت
ويعود يهوة إلى عنجهيته :
9 هل لك ذراع كما لله ، وبصوت مثل صوته ترعد
ومن أين لأيوب المسكين هذه القدرات الرعدية والذراع الإلهية التي تطاول السماء .
ومن ثم يأمر يهوه أيوب بأن يتخلى عن غضبه وأن يعود إلى المجد والعز والبهاء وأن يصغر كل ما هو عظيم دون يهوه ، ويذله ويدوس على الأشرار ويطمرهم في التراب ، وبالتأكيد بما في ذلك أيوب نفسه ألذي سبق وأن حقر نفسه :
10 تزين الآن بالجلال والعز، والبس المجد والبهاء
11 فرق فيض غضبك، وانظر كل متعظم واخفضه
12 انظر إلى كل متعظم وذلله، ودس الأشرار في مكانهم
13 اطمرهم في التراب معا، واحبس وجوههم في الظلام
14 فأنا أيضا أحمدك لأن يمينك تخلصك
لقد كان الشيطان على حق في رهانه ، فها هو يهوه يقايض أيوب :
عز ومجد وبهاء وثروة مقابل الإعتراف بعظمة يهوة المطلقة ، التي لا يوجد دونها
عظمة ! ومن هو أيوب المسكين حتى لا يقبل ، فها هو يهوه يعود ليذكره بكائن اسطوري (بيهموث ) يأكل العشب مثل البقر :
15 هوذا بهيموث الذي صنعته معك يأكل العشب مثل البقر
16 ها هي قوته في متنيه ، وشدته في عضل بطنه
17 يخفض ذنبه كأرزة. عروق فخذيه مضفورة
18 عظامه أنابيب نحاس، جرمها حديد ممطول
19 هو أول أعمال الله. الذي صنعه أعطاه سيفه
كان يجب على يهوه أن يقول ( هو أول أعمالي ) فالإشارة إلى الله هنا تشير إلى أن الله ليس يهوه !
20 لأن الجبال تخرج له مرعى، وجميع وحوش البر تلعب هناك
21 تحت السدرات يضطجع في ستر القصب والغمقة
22 تظلله السدرات بظلها . يحيط به صفصاف السواقي
23 هوذا النهر يفيض فلا يفر هو. يطمئن ولو اندفق الأردن في فمه
24 هل يؤخذ من أمامه ؟ هل يثقب أنفه بخزامة
البيهموث كائن اسطوري ظهر في الأساطير البابلية والسومرية بأسماء أخرى .
وفي الإصحاح (41) يستكمل يهوة قدراته (الهائلة باصطياد اللوياثان ( التنين أو الأفعى الكبيرة ) حسب ما يذكر فراس سواح في كتابه مغامرة العقل الأولى ، ويشير فراس إلى نصوص كثيرة تتشابه مع نصوص توراتية ، ويورد نصين أوغاريتيين :هذا أحدهما :
النص الأوغاريتي :
في ذلك اليوم يعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم الشديد لوياثان ونضع نهاية للحية الملتوية الهاربة ، شالياط ذات الرؤووس السبعة .
نص أشعيا 27-1
في ذلك الوقت ستقتل لوتان الحية الهاربة ، لوياتان الحية الملتوية ويقتل التنين الذي في البحر .
) فراس السواح. مغامرة العقل الأولى ص 185(
ويشير فراس إلى المسيحية ألتي سخرت القديس جاورجيوس لقتل التنين حيث يظهر في الأيقونات المسيحية وهويعتلي جواده ويطعن التنين الرهيب برمحه .
المصدر نفسه ص 187 .
يبدأ يهوه متسائلا عما إذا كان في مقدور أيوب أن يصطاد اللوياثان بشص أو يضغط لسانه بحبل ، إلى غير ذلك من الأسئلة العجيبة التي لا تخطر ببال إله قادر بكلمة منه أن يفعل ما يشاء وليس أن يصطاد تنينا بشص وكأنه رجل يصطاد سمكه . وهذا ما يشير إليه فراس سواح أيضا:
1 أتصطاد لوياثان بشص ، أو تضغط لسانه بحبل
2 أتضع أسلة في خطمه، أم تثقب فكه بخزامة
ويتابع يهوة خطابه عن قوة التنين الهائلة وأنه صرعه ولذلك لن يقف بوجهه أحد، فما تحت كل السماوات هو له :
10 ليس من شجاع يوقظه، فمن يقف إذا بوجهي
11 من تقدمني فأوفيه ؟ ما تحت كل السماوات هو لي
12 لا أسكت عن أعضائه، وخبر قوته وبهجة عدته
13 من يكشف وجه لبسه، ومن يدنو من مثنى لجمته
14 من يفتح مصراعي فمه ؟ دائرة أسنانه مرعبة
****
18 عطاسه يبعث نورا، وعيناه كهدب الصبح
19 من فيه تخرج مصابيح . شرار نار تتطاير منه
20 من منخريه يخرج دخان كأنه من قدر منفوخ أو من مرجل
21 نفسه يشعل جمرا، ولهيب يخرج من فيه
22 في عنقه تبيت القوة ، وأمامه يدوس الهول
****
27 يحسب الحديد كالتبن ، والنحاس كالعود النخر
28 لا يستفزه نبل القوس . حجارة المقلاع ترجع عنه كالقش
29 يحسب المقمعة كقش، ويضحك على اهتزاز الرمح
****
كم هو فظيع هذا التنين . يقول يهوه مختتما خطابه :
33 ليس له في الأرض نظير. صنع لعدم الخوف
34 يشرف على كل متعال. هو ملك على كل بني الكبرياء
يكاد يهوه أن يعطي قيمة للتنين قد لا تقل عن قيمته هو ، ليخبر أيوب مدى
عظمته حين صرعة .
بهذا ينتهي يهوة من خطاباته التي لم يكن فيها ما يجهله أيوب على الإطلاق . ولم يكن أمامه إلا الإذعان والإستسلام والقبول بما عرضه يهوه ، المجد والعز والبهاء أو الإذلال والتحطيم والموت .
****
(9) خلاصة وشروحات كنسية !
يذهب فراس السواح إلى ما ذهبنا إليه دون الغوص في دهاليز أسفار أيوب :
يدرك أيوب أخيرا ( هو في الحقيقة أدرك من قبل ) أن يهوة لا ينطلق في تصرفاته من أية قاعدة منطقية أو أخلاقية ، بل من إحساسه بالتفوق والسلطة المطلقة ، وأنه لا يطلب من عباده محبة بل اعترافا تاما بالتفوق ، ناهيك عن تذكيره بالعدل والإنصاف . من هنا يصوغ أيوب إجابته الأخيرة لكي تأتي في اتفاق مع نظرة يهوة إلى نفسه ويفلح في كسب قضيته "
فراس السواح . الأسطورة والمعنى . ص 263.
ثمة ما نختلف فيه مع فراس . لكن لنذهب الآن إلى النص :
الإصحاح (42) والأخير :
1 فأجاب أيوب الرب فقال
2 قد علمت أنك تستطيع كل شيء، ولا يعسر عليك أمر
3 فمن ذا الذي يخفي القضاء بلا معرفة ؟ ولكني قد نطقت بما لم أفهم. بعجائب فوقي لم أعرفها
4 اسمع الآن وأنا أتكلم. أسألك فتعلمني
5 بسمع الأذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عيني
6 لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد
من الواضح أن ايوب يتنكر لمعرفته السابقة . يقول فراس السواح :
" لا يوجد في خطاب أيوب الأخير أي عرض لحق أو احتكام لعدل أو تذكير بالقواعد الأخلاقية في التعامل ، بل خضوع كامل وغير مشروط لجبروت إله كان يسمع بعجائبه"
المصدر نفسه 263
يهدأ غضب يهو ة ويعيد لأيوب ما كان يملكه مضاعفا ، لكنا لا نلمس كلمات واضحة وصريحة بأنه أشفاه من أمراضه وأعاد إليه صحته سوى بتعبير ( رفع وجهه ) ومن هذا التعبير وإعادة الأملاك مضاعفة نفهم أنه عاد لأيوب كل شيء .
كما أن يهوة يعاقب محدثي أيوب الثلاثة بتقديم القرابين له لأنهم لم ينطقوا بالصواب كعبده أيوب . والمقصود بالصواب هنا هو كلام ايوب الأخير وليس
التشكيكي والتجديفي والعاصفي السابق :
7 وكان بعدما تكلم الرب مع أيوب بهذا الكلام، أن الرب قال لأليفاز التيماني: قد احتمى غضبي عليك وعلى كلا صاحبيك، لأنكم لم تقولوا في الصواب كعبدي أيوب
8 والآن فخذوا لأنفسكم سبعة ثيران وسبعة كباش واذهبوا إلى عبدي أيوب، وأصعدوا محرقة لأجل أنفسكم، وعبدي أيوب يصلي من أجلكم، لأني أرفع وجهه لئلا أصنع معكم حسب حماقتكم، لأنكم لم تقولوا في الصواب كعبدي أيوب
9 فذهب أليفاز التيماني وبلدد الشوحي وصوفر النعماتي، وفعلوا كما قال الرب لهم. ورفع الرب وجه أيوب
10 ورد الرب سبي أيوب لما صلى لأجل أصحابه، وزاد الرب على كل ما كان لأيوب ضعفا
11 فجاء إليه كل إخوته وكل أخواته وكل معارفه من قبل، وأكلوا معه خبزا في بيته، ورثوا له وعزوه عن كل الشر الذي جلبه الرب عليه، وأعطاه كل منهم قسيطة واحدة، وكل واحد قرطا من ذهب
12 وبارك الرب آخرة أيوب أكثر من أولاه. وكان له أربعة عشر ألفا من الغنم، وستة آلاف من الإبل، وألف فدان من البقر، وألف أتان
وردت كلمة أولاه وأظن أن المقصود أولاده .
13 وكان له سبعة بنين وثلاث بنات
لا يوضح النص هل عاد الأولاد أم أنهم لم يقتلوا أصلا كما اشار أيوب نفسه في الإصحاح التاسع عشر. والجملة الأخيرة في النص أعلاه تشير إلى الماضي وليس إلى الحاضر المحدث ، وإلا لأدمجهم مع ما أعاده يهوة إلى أيوب بل لقدمهم على السبي من المواشي والأغنام . وهذا بعض ما لم يتنبه له فراس السواح الذي يرى أن يهوة لم يعد أبناء أيوب إليه فراح بتساءل :
" ولكن من يعيد لأيوب أولاده وبناته الذين ماتوا دون سبب أو من يعيد له كرامته الإنسانية التي هدرت على يد إله يدعي أنه الذي أسس الأرض ورفع السماء "
المصدر نفسه الصفحة نفسها .
ومن الواضح أن فراس يستند إلى بداية ما حل بأيوب ، من فقد كل شيء حتى أولاده . وهذا ما يؤكد وجهة نظرنا في نصوص دخيلة على سفر أيوب ، لم يكن فيها آلهة وشياطين !
ولا نعرف كيف أعاد يهوة السبي وضاعفه هل قام بشن هجوم على السبئيين والكلدانيين مسخرا قبائل أخرى ، وهل استعان بالشيطان( رابح الرهان) أم لم يستعن ؟! فالذي لا يقدر على قتل اللوثايان بكلمة من عنده لن يقدر على استعادة ثروة أيوب بكلمة أيضا ، ولا بد له من معين في هذه الحال ، كما سخر الشيطان السبئيين والكلدانيين .
ولا نعرف ما هي حاجة أيوب إلى كل هذا الثراء الفاحش ليظل كثيرون يرزحون تحت نير الفقر والعوز .
إن الأسفار الاولى من سفر أيوب والأسفار الأخيرة كما أسلفنا ، هي ملفقة ودخيلة
على ملحمة أيوب الفلسفية الوجودية ، التي تروي قصة انسان نبيل فقد ثروته جراء غزو قبلي وألمت به الأمراض ، فراح يتساءل من أعماق جراحه عن معنى الوجود ومن يكمن خلف الوجود . مستنكرا أن يكون الخير والشر من صنعه ، بل ومشككا في قدرته على الخلق .
إن ملحمة أيوب هي أول ملحمة فلسفية وجودية تطرق أسرار الخلق وتعبر عن عمق الألم الإنساني بلغة غاية في الرفعة والسمو والتأثير في قارئها . وإن أيوبا هو أول بطل تراجيدي وجودي ( مرتد عن اليهودية ) في تاريخ الأدب الإنساني . وآمل أن اتمكن يوما من إعادة إخراجها برؤية تنسجم مع مراميها ، حتى لو اضطررت إلى تأليف مقدمة طويلة ونهاية قد تكون بتشييع جثمان أيوب إلى مثواه الأخير ، لتدخل روحه في المطلق الأزلي !!
لا اعرف أو أسمع أن أحدا من االباحثين سبقنا إلى ذلك . وإذا كان ، فقد حاولنا قدر جهدنا أن نأتي بقراءة مختلفة لسفر أيوب .
على أية حال ما اعتبرناه دخيلا على النص وخاصة في نهاية الأسفار التي يتحدث فيها يهوة عن نفسه ويتحدى أيوب ، تشير إلى أن الكتبة فهموا مناجاة أيوب بشكل شبه جيد ، وأضافوا نهايات لا تخدم يهوة بقدر ما تخدم أيوب من حيث شرانيتها، . وهذا ما توصلنا إليه وأتينا عليه من قراءة النصوص .
لم ننته بعد ، فلا بد أن نعرج على رأي الكنيسة فربما نجد فيه ما يضيف إلى ثقافتنا ، وإن كنت أشك بالإضافة الإيجابية !!
لكن الأهم هو مقارنتنا القادمة بين أيوب وفاوست غوته ، وكذلك بين الإله اليهودي والإله الأزلي المطلق ( وليس المسيحي ) حسب جوته .
*******

تستند شروح الكنيسة إلى الثقافة الدينية كمرجع لها أكثر مما تستند إلى استقراء النص من داخله . فعند تفسير كلمة "رجل " يصبغون عليها ما لا تحتمله من تأويل في النص :
"كَانَ رَجُلٌ فِي أَرْضِ عُوصَ اسْمُهُ أَيُّوبُ.
وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ كَامِلًا وَمُسْتَقِيمًا،

يرى كثير من الآباء أن السفر يُفتح بمديح عظيم له بقوله: "كان رجل". وكما يقول العلامة أوريجينوس إن كثيرين يُدعون بشرًا، لكنهم يسلكون كحيواناتٍ مفترسةٍ أو حيواناتٍ غبية أو زواحفٍ أو طيورٍ وليس كبشرٍ حسبما خلقهم الله محب البشر.
v هذا الاسم "رجل" لا نعًّرفه حسبما يعرفه الذين هم في الخارج، بل حسبما يعًّرفه الكتاب المقدس. فالإنسان ليس هو كل من له يدا إنسان وقدماه، ولا من كان عاقلًا فحسب، بل من يمارس التقوى والفضيلة بشجاعة[36].
تفسير الكتاب المقدس . سفر أيوب . موقع الكتاب المقدس .
لا حظت أن تفاسير الكنيسة تقر بمقتل الأولاد وتعزوها كما تعزو المصائب كلها إلى الشيطان
والإنسان ! أما أبناء الأحشاء الذين يتحدث عنهم أيوب في الإصحاح (17) فهم أبناء مجمع اليهود :
العلامة أوريجينوس
نَكْهَتِي مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ امْرَأَتِي،
وَمُنْتِنَةٌ عِنْدَ أَبْنَاءِ أَحْشَائِي [17].
أما عن زوجته فلم تعد تطيق الاقتراب إليه، أو تحتمل رائحة قروحه. مع معاملته لها بالحب الزوجي، استخفت به واحتقرته.
v "توسلت إلى أبناء سراري (17) بنفس الطريقة كما نفهم العبد هو مجمع اليهود، وهكذا أيضًا السراري. كما تحدثنا عن الزملاء (أي 19:15( بكونهم الكتبة والفريسيين من أجل الكتاب المقدس، هكذا أيضًا هنا "الأبناء". إنه عن هذا (المجمع المقام للمسيح) والشعب اليهودي يصرخ بالنبي إشعياء: "ربيت بنين ونشأتهم، أما هم فعصوا عليّ " (إش 1: 2). كثيرًا ما دعوتهم نائحًا، ومؤنبًا بغضبٍ، ومعزيًا، ومُصلحًا.
التعليق : ضاعت الطاسة!!
أصبح أبناء أيوب مجمع اليهود والمجمع المقام للمسيح وصراخ اليهود بأشعيا !!
لماذا لم يعمل الآباء قطعان أيوب رهطا من اليهود طالما أن الأبناء تحولوا إلى مجمعات ؟! ولماذا الأبناء الذين قتلوا في البداية كانوا أبناء بينما هنا تحولوا إلى رموز؟!
v "زوجتي ترتعب عند تنفسي" [17]. ما هذه الزوجة التي للرب سوى مجمع اليهود الخاضع له بعهد الناموس في مفهوم جسداني؟ الآن فإن التنفس يصدر عن الجسم، والناس غير المؤمنين يفهمون تجسد الرب بطريقة جسدانية، فيحسبونه إنسانًا مجردًا.
التعليق : ضاع طاستان !!

القديس يعقوب السروجي
اَلأَوْلاَدُ أَيْضًا قَدْ رَذَلُونِي.
إِذَا قُمْتُ، يَتَكَلَّمُونَ عَلَيَّ [18].
لعله يقصد هنا أبناء خدمه الذين وُلدوا في بيته وحسبهم كأولادٍ له هزأوا به، وتكلموا عليه شرًا. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). حين كان له سلطان عليهم قدم لهم كل الحبٍ، وحين فقد سلطانه أهانوه وسخروا به.

التعليق : على الأقل هذا الأب يستعين ب لعل !!!
*******
قبل أن نقفز إلى النهايات والحضور الإلهي وكيف يفهمه الكهنة سنأتي ببضع ما جاء عن غضب أيوب :
يرى بعض الآباء الكنسيون أن الرب اتاح لأيوب أن ينفس عن الألم الذي ينتابه :
4. فقدان من يحنو عليه
عَظْمِي قَدْ لَصِقَ بِجِلْدِي وَلَحْمِي،
وَنَجَوْتُ بِجِلْدِ أَسْنَانِي [20].
بعد أن شكا لما سمح به الله له حيث ضيَّق عليه الطريق وحاصره ليكون بلا منفذٍ، وأضرم نيران غضبه عليه. أثار الغرباء (الغزاة) عليه ووهبهم قوة ضده. وأخذ كل أقاربه وأصدقائه وأهل بيته وخدمه وعبيده موقف الكراهية، الآن يشكو من جسمه، فقد كاد أن ينحل. ذهبت عنه نضارته وجماله وقوته، ولم تعد فيه صحة، حتى لصق عظمه بجلده، فصار هيكلًا عظميًا. كاد أن ينحل حتى جلده، فلم يبقَ له سوى جلد أسنانه:
التعليق: هنا الله هو الذي يحاصر أيوب ويضيق عليه ويسمح له بالشكوى ، وليس الشيطان ! وهذا شأن أبوي إلهي !
v "جسدي فسد تحت جلدي، وأمسكت عظامي بالأسنان" [20]. يُفهم من هذه الكلمات أنه يتحدث عن سرّ الرب، فإن كل البشرية يليق دعوتهم "جلدًا"، خاصة الكنائس واجتماعاتها. ففيها ومن أجلها لم يفسد جسد الرب، لأن جسده لن يرى فسادًا (مز 16:
التعليق : حتى سر الرب تحت الجلد الفاسد ، ولماذا لم يكن الألم أيضا هو سر الرب ؟!
*******
هذا رأي اقتطعته من بداية التفسير العام للسفر وهو الأكثر منطقية و قبولا وللأسف لم أعرف كاتبه بالضبط لكن قد يكون الأب باسيليوس الكبير الذي يرد اسمه بعد النهاية :
أولًا: كإنسانٍ مهما بلغ برَّه كانت نظرته قاصرة، يعاني من الضعف بسبب شدة التجربة. كان ككثيرين في وسط بوتقة التجارب في صراعٍ يتساءل: هل تحول الله إلى عدوٍ حتى سمح للشيطان أن يجربه بما يبدو أنه فوق الطاقة. وإن كان كذلك، فكيف فقد أصدقاؤه إنسانيتهم، وتجاهلوا معاملاته معهم، ونسبوا إليه ما لم يروه فيه.
هذه مشاعر بشرية عاشها البار أيوب، كما يعيشها القديسون في وسط آلامهم، ولو إلى حين.
حقًا، لقد أحاطت به الضيقات من كل جانبٍ، وتحولت التعزية إلى تعذيب (1-7). يعبر أيوب في هذا الأصحاح عن عدم صبره على كلام بلدد، وأن الذين جاءوا ليعزوه أضافوا تعبًا على تعبه بسبب انتقاداتهم الشديدة له وقسوتهم عليه، فقد عذبوا نفسه، وسحقوه بالكلام، وأخزوه، وأطلقوا عليه صفات شريرة، ووجهوا إليه اتهامات لا يعرف عنها شيئا. تظاهروا كأنهم لا يعرفوه من قبل؛ لم يعاملوه بالدالة التي كانوا يعاملونه بها لما كان في رخائه.
تساءل أيوب إن كان الله اختاره لكي يظهره كخاطئ في أعين العالم. فقد سمح له إلهه بالنكبات (8-12). ليس فقط أصحابه، وإنما حتى زوجته وأقرباؤه يتعاملون معه كطريد جرده الله من مجده، وعامله كعدوٍ، بل وأبعد عنه أصدقاءه، وجعل أقرباءه وإماءه يحتقرونه، بل والصبيان رذلوه. لم يجد من يعطف عليه في نكبته [١-;-٣-;--١-;-٩-;-]. جسمه فني، لقد تدمر عمليًا [٢-;-٠-;-].
*******************
اكتفيت بهذا القدر من الشروحات الكنسية فالآباء يؤولون النصوص وفق (منهج ) شمولي يستند إلى فهم شمولي للألوهة بشقيها التوراتي والإنجيلي أو العهد القديم والعهد الجديد ، وليس هناك أي مرجع لهذا المنهج الشمولي سوى الفهم الديني الذي يكرس حتى الأخطاء النصية لخدمة الله ، فتارة يكون التأويل واقعيا ، وتارة رمزيا ، وتارة اسطوريا ، فالرجل يؤول أحيانا كإنسان كامل قديس مؤمن ليتحول الرجل العادي إلى مرتبة لا تليق بها الرجولة ، وأحيانا بطلا . والأبناء والبنات يفهمون تارة بشكل واقعي ويقال أنهم قتلوا في بيت أخيهم وهم يأكلون و يشربون الخمر ، ويفهمون بشكل رمزي حين نجد أيوب يشير إلى أنهم لم يقتلوا .. وصوت الله المرعد من العاصفة وتحدي أيوب يصبح محبة إلهية . والمقايضة بالمجد والعز تصبح حكمة ربانية ، وبلوى أيوب تصبح تجربة . فالله في حاجة إلى تجارب يجريها على البشر . ولن ننسى أن الله هو يهوه وإيل وألوهيم والله والرب والقدير ويسوع المسيح والأب والروح القدس في الوقت نفسه .
*****
(10) فاوست . جوته .


كثيرون هم الأدباء الذين استلهموا أعمالا أدبية من نصوص دينية وأسطورية ، ومن أهمهم على الإطلاق دانتي في الكوميديا الإلهية . وقد تكون قصة أيوب إحدى أهم القصص التي أوحت لأدباء كثيرين بأعمال أدبية .كما أفرزت في الخيال الشعبي العالمي قصصا كثيرة ، عدا المقولات المأثورة عن صبر أيوب كما في الخيال الإسلامي الذي لا يجد من يصاب بمحنة
غير تمثل صبر أيوب ! اعتقادا منه أن أيوب كان صابرا على بلواه ، حتى أن صبره دخل الأغنية العربية حين راحت تردد : صبر أيوب صبرت عليك يا محبوب !!
انطلاقا من القصة إياها استلهم جوتة ملحمته المسرحية " فاوست " متخذا من رهان الله والشيطان أساسا ليبني عليه ملحمته ، ومتخذا من شخصية تاريخية ذات جذور شعبية اسطورية بطلا لها. غير أن جوته ، عكس الحال التي قامت عليها قصة أيوب ، فجعل من فاوست الأستاذ الجامعي والفيلسوف، غير راض عن حياته وغير مقتنع بها ، فهو لم يحظ بأية ثروة ، أو حتى مكانة اجتماعية مرموقة تخرجه من حياة " لا يرضاها حتى الكلب "وغير قادر على تحقيق ما يبهجه في الحياة ، ولم ير أي جدوى من العلوم التي درسها لإصلاح الناس عما هم عليه ، والرقي بمستوى حياته ، حتى أنه حاول الإنتحار بالسم ، وحين عدل عن الإنتحار فكر في الإتجاه إلى السحر والطلاسم وتحضير الأرواح وقراءة الكف والسيمياء واكتشاف حجر الفلاسفة الذي من شأنه أن يحول المعادن الخسيسة إلى ذهب وفضة .
( للإستفاضة يمكن العودة إلى : فاوست . ترجمة وتقديم عبد الرحمن بدوي .
منشورات وزارة الإعلام – الكويت . سلسلة المسرح العالمي . 1989
والرهان هنا بين الله والشيطان على إمكانية أن يتخلى فاوست عن الهدى ويتبع اللهو والمتعة والرفاهية إذا ما قاده الشيطان في طريقه .
وكما في أيوب تبدأ مسرحية فاوست من السماء والملائكة ( بنو الله ) ! وهم : رفائيل ، وجبريل ، وميكائيل بصحبة مفستوفيلس ( الشيطان ) في حضرة الله .
) في بحثنا عن أيوب لم نهتم لهذا التأويل الملائكي .)
الشيطان ) مفستوفيلس ) هو الذي يبدأ بالسخرية من الإنسان وينعته بأنه يشبه " الجدجد ذا الرجل الطويلة الذي يطير دائما متواثبا ، يحسب نفسه إلها صغيرا .. موظفا العقل الذي وهبه إياه الله ليصير أكثر حيوانية من الدواب "
يوبخ الله الشيطان لأنه لا هم له إلا تحقير الناس والإنتقاص من المخلوقات ولا يرى في العالم إلا ما هو قبيح . ويسأله عما إذا كان يعرف فاوست فيجيبه الشيطان " بأنه يعرفه ويعرف أنه يعبد الله على نحو شاذ وغريب ، وأن رأسه يختمر بالمطامع الشاردة ، وهو لا يكاد يعرف نه مجنون ، فهو يطلب من السماء أجمل النجوم ومن الأرض أعلى الملذات ، ولا شيء يرضي قلبه شديد الإضطراب "
المصدر السابق بتصرف .
"يجيب الله بأنه سيقود فاوست إلى نور الهداية حين يشاء ، فيرد الشيطان بأن الله سيضيع فاوست ويقترح عليه الرهان : بم تراهن ؟ لو أذنت لي باقتياده برفق في طريقي؟"
" ولا يمانع الله في أن يحاول الشيطان هذه المحاولة ، طالما كان فاوست على قيد الحياة ، ويعلن بأن الإنسان يخطىء طالما هو يسعى "
وهكذا يتيح الله للشيطان أن يقتاد فاوست إلى الهاوية ، لكن إن بقي فاوست على طريق الهدى رغم تقلبه في سبل الضلال فإن على الشيطان أن يعترف بالخسارة "
كل ما هو بين أقواس صغيرة من المصدر نفسه ، بتصرف . ويهمني أن أنوه أن " ابن حلال " استعار الجزء الأول من فاوست من مكتبتي منذ أكثر من عشرين عاما ، ولم يعده حتى الآن ولن يعيده ، لذلك أعتمد على تقديم عبد الرحمن بدوي وخاصة في الجزء الأول .
يلاحظ هنا الفرق الهائل بين فهم جوته لله وفهم كتبة التوراة ، فالله هنا يوبخ الشيطان لأنه ينتقص من المخلوقات ، ويرى أن " الإنسان يخطىء طالما هو يسعى " واختار جوته انسانا مثقفا وغير ثري ليقوده الشيطان في طريق الثراء والرفاهية لإمكانية أن يضله عن الهدى . بينما في أيوب اختار الكتبة انسانا ثريا ليبلوه بالفقر والأمراض . فكم هو شاسع الفرق بين التجربتين الإلهيتين ، هنا نعيم ولهو ، وهناك جحيم !
ويشير عبد الرحمن بدوي إلى معاصرة جوته لعمانوئيل كانت الذي كان قد كتب رسالة " عن الكفاح بين مبدأ الخير ومبدأ الشر من أجل السيطرة على الإنسان وفيها عرض للفكرة نفسها "
ومن الجدير بالذكر أن فكرة النور والظلمة والخير والشر في مبدأ الخلق لم تتوضح وتتبلور إلا في الديانة الزرادشتية حوالي 700 إلى 600 ق. م. حسب ما يذكر فراس السواح في أبحاثه . حيث جسدت في إلهين رئيسين أهورا مازدا ( الخير ) وأهريمان أو أهيرمان ( الشر ) ويتبع كل واحد منهما مجموعة آلهة . والصراع سيظل قائما بينهما على حقب مديدة إلى أن ينتصر الخير في النهاية ويذهب الشر إلى الجحيم ليبقى خالدا فيها أبدا !!!
كما أن حضور الشيطان في أيوب حضور باهت . ينزل ضرباته بأيوب ويختفي ولا يعود إلى الظهور ، بينما في فاوست يكون له حضور طاغ ودور فعال . يصف بدوي الشيطانين قائلا :
" إن الشيطان في سفر أيوب باهت جدا ، شرير جدا ، بينما مفستوفيلس لامع جدا ، قليل الشرور ، بارع الحيلة ، ذكي ، يجيد تحليل الأمور "
المصدر نفسه بتصرف .
في ملحمتينا " الملك لقمان " و"غوايات شيطانية " صورنا الشيطان ملاكا نبيلا في العملين . بل وجعلناه خالقا للإنسان في " الملك لقمان " في محاولة منه لمساعدة الله في عملية الخلق "
يتولى مفستوفيلس الظهور لفاوست. يظهر له في شكل كلب في البداية لا يلبث أن يتحول إلى شكل انساني متخذا هيئة طالب جوال ، فيسأله فاوست عن حقيقة أمره
فيجيب : " أنا الروح التي تنكر دائما ! وهذا عن حق ، لأن كل ما ينشأ يستحق الفناء ، ومن هنا كان من الأفضل ألا ينشأ شيء ، وهكذا فإن كل ما تسمونه " خطيئة " دمار ، وبالجملة شر ، هو العنصر الخاص بي "
إنها فلسفة الشيطان الذي من الواضح أنه غير راض عن عملية الخلق كلها .
يدرك فاوست أن مهمة الشيطان هي " تدمير ما يقدر عليه من الأمور الصغيرة بعد أن عجز عن تدمير الكون في جملته " فيطلب إليه أن لا يغامر معه وأن ينصرف ويتركه وشأنه . لكن الشيطان " لا يرضى من الغنيمة بالإياب " بل يؤجل المحاولة إلى فرصة قادمة ويلتمس الذهاب . يستغرب فاوست الإستئذان فيجيب الشيطان أن ثمة " عقبة صغيرة تمنعه من الخروج وهي علامة النجمة المخمسة على الباب " وبعد حوار حول النجمة السحرية يعجب فاوست بحديث الشيطان ويطلب إليه البقاء ، شريطة أن يشغل وقته بألاعيبه السحرية . يستحضر الشيطان جماعة من الأرواح تشرع في إلقاء الأناشيد " وعلى هدهدة النشيد يستولي النعاس على فاوست فينام . ينتهز الشيطان الفرصة فيأمر الفئران بالخروج من جحورها لقرض علامة النجمة المخمسة ليتمكن من الخروج . ويخرج وهو يتمنى لفاوست الإستمرار في أحلامه حتى يلتقيا مرة أخرى "
المصدر نفسه .118
يعود الشيطان لزيارة فاوست "مرتديا ثوبا أحمر مطرزا بالذهب ، وعليه معطف من الحرير المتجعد ويلبس على رأسه قبعة فيها ريشة ديك ومعه سيف طويل مدبب ، وينصح فاوست بأن يتخذ نفس الزي ، كيما يتعرف على الحياة وهو حر خال من كل وهم "
المصدر نفسه . 121
وحين يشرع فاوست في التذمر من الحياة الكريهة التي لم تأته إلا بالهموم ، ليصبح الوجود عبئا ثقيلا عليه ، وليتمنى الموت عليها ، يرد عليه الشيطان متهكما مذكرا إياه بمحاولة تناول السم والإنتحار " ما دام الأمر كذلك فلماذا لم يتجرع بعضهم الشراب الأسود تلك الليلة ؟!"
"يعتذر فاوست بأن ما بقي فيه من تقوى صبيانية هو الذي صرفه عن ذلك ، ويأخذ في صب اللعنات على حسن ظن العقل بنفسه وعلى الأوهام التي تفرض نفسها على حواسنا ،وعلى خداع المجد والشهرة ، وعلى الخيرات الدنيوية ، والزوجة والأولاد ، والأرض والبيت ، وعلى الثروة والأموال ... بل ويلعن الخمر ولذة الحب الكبرى ، والأمل والإيمان ، ويلعن الصبر على وجه التخصيص "
المصدر نفسه . 122.
" وهنا تسمع جوقة أرواح غير مرئية تدعو فاوست إلى بدء حياة جديدة . وينبهه الشيطان إلى قبول هذه الدعوة التي تتغنى بها الأرواح ، ويتعهد بأن يكون خادما له وتابعا "
يدرك فاوست أن ما في هذه الدعوة من خداع شيطانية ليست لوجه الهه ، فيسأل الشيطان عما يريده بوضوح ، فيجيب أنه يتعهد بخدمة فاوست في هذه الدنيا مقابل أن يخدمه فاوست في الاخرة .
لا يحفل فاوست بجواب الشيطان لأنه لا يحفل بالآخرة كلها ، بل في الدنيا التي تكمن فيها مسراته . فلتتحقق المسرات وليكن بعد ذلك ما يكون .
من الملاحظ أن فاوست في نظر الله والشيطان لم يخرج عن الهدى والإيمان رغم أنه لا يحفل بالآخرة ، فالدنيا هي غايته . وفي هذه الحال قد تكون نتيجة الرهان شبه مؤكدة لصالح فاوست ، فالله حسب فهم جوته لا يأبه بالأمور الدنيوية الصغيرة مهما كانت .المشكلة أن فاوست يرتكب ما قد يكون أكبر مما هو صغير .
يوافق الشيطان ، ويكتبان تعهدا ، يشترط الشيطان أن يوقعه فاوست بقطرة من دمه . وهذا ما تم . وتبدأ الرحلة مع الشيطان التي سنتوقف مع أهم محطاتها .
******


(11) فاوست في صحبة الشيطان !

قبل أن تبدأ الرحلة مع الشيطان ، يحضر طالب علم جوال ، جاء ليأخذ العلم من فاوست . لم يرغب فاوست في مقابلته فحل الشيطان محله بأن تقمص شكله واستقبل الطالب . أبرز ما دار في هذا اللقاء أنه حفل بالسخرية من العلوم كافة على لسان الشيطان – فاوست .
تبدأ الرحلة بالطيران على متن معطف الشيطان السحري ، حيث سيجوبان العالم الصغير أولا ، وهو عالم الناس العاديين ، ثم العالم الكبير ، وهو عالم الأباطرة وكبار الحكام ودوائر الدولة العليا .
المحطة الأولى كانت في "حانة مع طلاب جامعيين معربدين سكارى ، كانوا يضجون بأغان ماجنة ثقيلة ويضحكون لأتفه النكات . ويتطاولون على الزبائن " مما أثار غضب فاوست . فقام الشيطان بتحويل خمور المشاكسين إلى شعل نارية
أفزعت الطلاب . كما أوهمهم بأن أنوفهم عناقيد عنب وأنهم في بستان " كرمة يمسك كل واحد منهم بأنف الآخر بوصفه عنقود عنب يريد أن يقطف حباته "
أراد جوته من هذا الفصل "أن يسخر من حياة الطلاب وسخافة تصرفاتهم وتفاهة ملاهيهم " حسب عبد الرحمن بدوي .
" لم يسر فاوست لحياة الطلاب الصاخبة التافهة الفجة " " وأدرك مفستو فيلس
ضرورة تغيير مزاج فاوست حتى يفرح بالملذات والشهوانيات ، فأعاد الشباب إلى فاوست ، بأن أخذه إلى مطبخ ساحرة لديها الشراب الكفيل برجوع الشيخ إلى صباه . فحولته إلى شاب في العشرين من عمره "
ما أن عاد الشباب إلى فاوست حتى اوقعه الشيطان في الغرام ، والمحبوبة هي " جرتشن " التي حملت من فاوست سفاحا ، و قتلت المولود فيما بعد لتحكم بالإعدام . كما تسبب فاوست في موت أمها حين أعطاها دواء أسقته لأمها لكي تنام وكان ساما . كما أن فاوست قتل أخاها " فالنتين " الذي حاول الإنتقام لشرف العائلة .
بعد هذه الفظائع يضطر فاوست إلى الهرب بصحبة الشيطان تاركا جرتشن لمصيرها البائس .
سأتوقف للحظة مع فكر فاوست في هذا الفصل .
حين تسأله جرتشن : هل تؤمن بالله ؟
يجيب : يا عزيزتي ومن ذا الذي يستطيع أن يقول انا أومن بالله ؟ في وسعك أن تسألي القسيس أو الحكماء ، وسيبدو لك جوابهم مجرد استهزاء بالسائل .
وببساطة تفكيرها تستخرج النتيجة : " إذن أنت لا تؤمن "
فيجيب فاوست العالم المحنك المعقد التفكير ( حسب بدوي ) :
" لا تسيئي فهم كلامي ، أيها الوجه اللطيف فمن ذا الذي يحق له أن يسميه أو أن يقر قائلا : أنا أؤمن به ؟ ومن عنده شعور ثم يتجاسر أن يقول : أنا لا أؤمن به ؟ "
" ثم يمضي فاوست في ذكر صفات الله . المحيط بكل شيء الحافظ لكل شيء ! إنه يحيط بك وبي وبنفسه ويحفظك ويحفظني ويحفظ نفسه . ويوغل في وحدة الوجود فيربط كل أعضاء العالم حتى أصغر الكائنات بعضها ببعض في وحدة كلية "
"ويطلب منها أن تملأ قلبها بهذا الشعور بوحدة الكل ، ولها بعد ذلك أن تسميها : السعادة . القلب . الحب . الله . فكلها أسماء مترادفة تدل على معنى واحد أحد . ولهذا يصرح فاوست بأنه لا يسميه باسم ، لأن الشعور هو كل شيء ، أما الإسم " فليس إلا لفظا ودخانا يعكران لمعان السماء "
المصدر السابق نفسه ص 145.
من الواضح هنا أن فاوست يحمل فكر جوته نفسه . وأكاد أجزم أن جوته كان يتخيل نفسه في فاوست . كما كنت أتخيل نفسي في " الملك لقمان " وقد ذكرت ذلك في لقاءات صحفية وعلى النت .
يعلق عبد الرحمن بدوي مضيفا :
" وهذا المشهد من المواضيع الرئيسة التي يستند إليها في تحديد آراء جوته في الدين ، ويتضح منه أنه لا يؤمن بإله مشخص ، بل يرى أن الكون واحد أحد ، أن الكل هو الله ، الله هو الكل ، بل لا يريد أن يستعمل اسم " الله " لأنه يحد من نظرته الواحدية هذه "
" موقف فاوست هو بعينه موقف جوته من الدين . وهو موقف " الدين الطبيعي " الذي نجده عند هيوم وعند فولتير وبعض أقطاب نزعة التنوير "
المصدر نفسه 146.
ويورد عبد الرحمن بدوي مقتطفات من تصريحات لجوته تؤكد ذلك ، منها :
" الشيء المحبوب الذي يسمونه الله " " الشيء المحبوب الذي يقويني ويهديني " " الشيء المحبوب الذي رسم الخطة لرحلتي "
" وفي الثمانين من عمره قال جوته : ماذا نعرف اذن عن فكرة الإلهي ، وماذا تعني تصوراتنا المحدودة عن الماهية العليا ! لو أنني سميته كما يفعل التركي )المسلم ) فلن افيه حقه ، ولن أكون قد قلت شيئا بالمقارنة إلى صفاته اللامحدودة "
" إن جوته يرى في الطبيعة قدرة على الخلق لا متناهية ، وقوة للتحويل والتصوير غير محدودة ، وهي قوة واحدة تسري في جميع الكون ، وشعور ممتلىء بالإعجاب بهذه القوة وتلك القدرة ، فهما في نظره " الله " . ".
المصدر نفسه 147
المحطة التالية من فاوست مع الجن والشياطين والساحرات والأرواح فيما أطلق عليه جوته " ليلة فالبورج .عالم يعج بالخيال تطير فيه الساحرات في الهواء وهن يركبن عصي مكانس أو عربات موتى ، وعجوز تركب خنزيرة . وأعراس تقام لآلهة .. وغير ذلك .
المشهد الأخير من الجزء الأول نجد فاوست أمام باب السجن الذي تقبع خلفه جرتشن .
يقول بدوي عن هذا المشهد انه " اروع المشاهد وأعمقها تأثيرا في النفس "ويختتم ما كتبه عنه قائلا :
" في هذا المشهد الحافل بالمواجيد والمعاني ، تبرز شخصية مرجريت سامية نبيلة أسمى من فاوست بمراحل عديدة ، وهو مشهد يذكرنا تماما بمحاورة " أقريطون " لأفلاطون ، وما جرى بين سقراط وتلميذه أقريطون من حوار حول هذا الموضوع "
ويشير بدوي إلى ضمير فاوست الذي يعذبه أشد العذاب للمصير الذي آلت إليه جرتشن ، لكن العذاب لا يشفع له !
ويرى أن فاوست ظل حتى نهاية الجزء الأول عبدا للشيطان .
المصدر نفسه 176
****
(12) الجزء الثاني من فاوست ، وموت فاوست !
كان لا بد لفاوست الخروج من الكآبة وتأنيب الضمير اللذين خلفهما مصير جرتشن . فنجده في المشهد الأول من الجزء الثاني مضطجعا على مرج محفوف
بالورود تحلق في فضائه أرواح مرحة ، فيما الروح الهوائية المحبة ( آريل)
تغني لتقود جوقة العفاريت في فضاء الفرح والمحبة حيث تتساقط الأزهار وتهرع أرواح العفاريت الصغار لتشفق على الإنسان بارا كان أو شريرا :
حينما تتساقط الأزهار كمطر الربيع
وهي تحلق فوق جميع الأشياء
وحينما ترف البركة الخضراء للحقول
على كل أبناء الأرض
فإن جماعة الأرواح من العفاريت الصغار
تهرع إلى حيث تستطيع أن تساعد
وتشفق على الإنسان البائس
بارا كان أو شريرا .
(فاوست ج3 نص مسرحي 2 ص9)
يتبع هذا المشهد ظهور في قاعة العرش ضمن قصر امبراطور، حيث ينعقد مجلس الدولة برئاسة الامبراطور . ويتوالى حضور رجال الدولة . ويحضر الشيطان وفاوست .ويشرع رجال الدولة في الشكوى من أوضاع البلاد حيث تزداد الجرائم وينجو مرتكبوها من العقاب ، وقائد الجيش يشكو من مؤامرات الفرسان .
يجري حوار فلسفي طريف بين الشيطان والأمبراطور يتطرق إليه عبد
الرحمن بدوي شارحا :
" " إن مفستو فيلس قد وجد حل مشكلات العالم في الإعتقاد بالوحدة ، أو الهوية بين الطبيعة والعقل ، وهذا هو أساس فلسفة الهوية التي بدأ بها شلنج واستعان بها هيجل في وضع مذهبة . وكانت الفلسفتان ( فلسفة شلنج وفلسفة هيجل ) قد انتشرتا ولقيتا استقبالا حارا في ألمانيا في نفس الفترة التي كان فيها جوته يؤلف " فاوست " الثاني . أعني الفترة الممتدة من سنة 1824 حتى 1831 ، وكان جوته من المعجبين والمتأثرين بهما "
المصدر نفسه 180
" وحين يهاجم الشيطان آراء المستشار ، ينعته بأنه مادي واقعي لا يدرك إلا ما يلمسه بيديه ، فيقول : " ما لا تلمسه بيديك يبقى بعيدا عنك .. وما لا تمسكه فهو غير موجود أبدا .... "
م. نفسه . 181
يطول الحديث عن فساد الأمبراطورية وحاجتها إلى المال . يقول بدوي :
" إن جوته جعل فاوست والشيطان يمثلان أمام امبراطور شاب ضعيف الإرادة ناهب للذات ، ليست لديه رغبة ولا قدرة على إدارة الإمبراطورية وقد شاع فيها الفساد وساءت أحوالها المالية ، وكثر فيها تمرد الجماهير والولاة والنبلاء . وعم النقص في كل شيء "
م. نفسه . 181
وقد أتى مفستو فيلس بفاوست إلى هذا الأمبراطور كي يولد في نفسه الطمع في السلطان . والأبهة .. وحياة البذخ .
غير أن ما جرى هو العكس . فقد ازدرى فاوست الأمبراطورية والأمبراطور والحكم . و ربما كان على الشيطان أن يصحبه إلى امبراطور أقوى .
تحدث كرنفالات ومهرجانات ومواكب ويستحضر الشيطان الأساطير اليونانية
وأرواح الموتى .. ويشن حروبا من أجل الأمبراطور.. ومن أهم المستحضرين
هيلين الطروادية ( هيلانه ) رمز الجمال ومثل فاوست الأعلى للجمال ، حيث يقيم فاوست علاقة معها وينجب منها ابنا ، لكنه يهرب من فاوست إلى العالم الأسفل لتلحق به أمه مرغمة تاركة فاوست للشيطان ،وللهم الذي راح يتمثل له في روح شبحي يصب عليه بلواه ، فنفث في وجهه نفثة أفقدته البصر. وها هو يحاول أخيرا أن يتمسك بلحظة سعادة بعد ان دمر كل اللحظات الجميلة التي عاشها . فنراه أمام قصره على شاطىء بحري طويل يضج بالحياة ، حيث تمخره السفن وتكثر على شواطئه السدود والمتنزهات والمستجمون والعمال . وكل هذا الثراء له وحده . لكن فاوست قد شارف المائة من عمره ولم يعد يرى ببصره وإن راح يرى ببصيرته . ولا شك أن في العمى الذي ابتلي به فاوست حكمة ، المراد منها فقدان جمالية الحياة ومتعتها للتندر عليها والندم على الأيام الجميلة فيها التي لم تعش كما ينبغي أن تعاش . فقد كان فاوست لا يأبه بشيء ، إلى أن وجد نفسه وهو في سن المائة ، يحاول إيقاف عجلة الزمن والتمسك بلحظة السعادة وهو أعمى ، وهذا ما كان ، فقد خر ميتا في لحظة غير متوقعة كان فيها واقفا ويتلفظ بما صار كلماته الأخيرة ( حكمته ):
" لا يستحق الحرية والحياة إلا من يسعى كل يوم للظفر بهما ! وهكذا يمضي الطفل والرجل والشيخ العجوز هنا أعمارهم في بلاء حسن محاطين بالأخطار . بودي أن أشاهد مثل هذا الزحام في أرض حرة بين قوم أحرار ! في هذه اللحظة سيكون من حقي أن أقول : توقفي إذن فأنت في غاية الجمال " ! إن أثر أيامي على الأرض لا يمكن أن يغيب في الدهور . وفي استشعار سابق بمثل هذه السعادة فإني أستمتع الآن بأسمى اللحظات "
يتهاوى فاوست لتتلقفه أيدي أشباح الموتى ( الليمورات ) وترقده على الأرض. فيما مفستوفيلس ( الشيطان ) يهتف :
" لا تشبعه شهوة ، ولا يقنع بأية سعادة ، واستمر يشتاق إلى أشكال متعددة ، واللحظة الأخيرة الأليمة الفارغة ، يريد هذا المسكين أن يوقفها ، وهذا الذي قاومني بكل قوة ، ها هو ذا الزمان قد تغلب عليه . هذا الشيخ يرقد هنا الآن على الرمل . والساعة قد توقفت "
أخذ فاوست في أيامه الأخيرة يحب الحياة والعمل ويحلم بوطن حر وشعب حر دون تمييز طبقي وحاول قدر الإمكان أن يطبق هذا الفكر على شاطيء البحر ، وكان ضميره يؤنبه ، لأنه هدم كوخ لعجوزين على الشاطيء لأنه كان يشوه جماله حسب ما يريد أن يبنيه .
ثمة عبارة أخيرة لم يتوقف عندها الباحثون والنقاد وكذلك عبد الرحمن بدوي ، ترد على لسان الشيطان في مشهد موت فاوست ، فقد انصبت آراء الباحثين على معرفة من كسب الرهان فاوست أم الشيطان ، مع أن الرهان كان بين الله والشيطان في الأصل ، أما مع فاوست فكانت خدمة في الدنيا من الشيطان مقابل خدمة في الآخرة من فاوست .
هذه العبارة تلخص فكر جوته الوجودي المؤمن بوحدة الوجود ، وقدرة الطبيعة العظيمة على الخلق التي تتجلى في أكثر من مشهد في فاوست .
العبارة فلسفية غامضة وتحتمل أكثر من تأويل وربما احتار الباحثون فيها ولم يشرحوها لغموضها أو أن بدوي لم يورد شرحهم :
بعد أن تهتف الجوقة :
" صمتت ( الساعة ) مثل منتصف الليل ، والعقرب سقط " يهتف مفستو فيلس :
" إنه سقط وقضي الأمر " وتكرر الجوقة : " لقد مضى " ويعود مفستو فيلس ليهتف :
" مضى ؟ يا لها من كلمة حمقاء ؟ لماذا مضى ؟
"مضى " والعدم المحض ، هما شيء واحد !
أي معنى إذن في هذا الخلق الأبدي ؟! ما يخلق مآله إلى العدم !
إن الشيطان يتساءل باحثا عن معنى للخلق ، ولايقتنع بالعدم المحض ،
ويكرر تساؤله :
" ها هو ذا مضى "! ماذا ينبغي أن يقرأ في هذه العبارة ؟
وما يلبث أن يجيب بعبارته الفلسفية الصوفية :
" إنه كما لم يكن قد وجد " !!!!! " ومع ذلك فهو يدور دورته كما لو كان موجودا " !!!!!
ويكمل الشيطان خلاصة رؤيته الوجودية قائلا :
" من أجل هذا أحببت الخلاء الأبدي "
وينتهي مشهد الموت . ليليه مشهد الدفن .
ما الذي يريده جوته بهذه العبارات الفلسفية الغامضة على لسان الشيطان . وما الذي يقصده الشيطان بمحبته للخلاء الأبدي ؟!
حين نعلم أن جوته عاش 83 عاما منها 51 عاما في القرن الثامن عشر و32 في القرن التاسع عشر . في هذه الفترة كانت أوروبا تعج بالصراعات والتطلعات التحررية وكان صراع الفلسفات على أشده والتصوف الشرقي في أوجه وقد وصل إلى الغرب في أعمق تجلياته بمذهب وحدة الوجود عند ابن عربي . ولا شك أن جوته قد اطلع على هذا الفكر في سنيه الأخيرة ، ومن الجدير بالذكرأن جوته أعجب بشخصية محمد واهتم بالتصوف الإسلامي واعتبر فاطمة الزهراء من أهم نساء التاريخ ،إلى جانب مريم العذراء وهيلين الطروادية ، وكتب ديوانه الشرقي الذي حاكى فيه حكمة الشرق بشكل عام ..
وما العبارات التي يرددها الشيطان إلا خلاصة هذه الفلسفة :
أجل إن فاوست لم يكن موجودا قبل خلقه ، أي ظهوره المجسد في الوجود ، وإذا استعرنا شرح ابن عربي ، نقول : وجوده الصوري المتخيل في العماء االبدئي، لكننا لا نجزم بأن جوته يريد ذلك ، فقد يقصد وجوده المادي قبل أن يخلق " كما لم يكن " ولكن " قد وجد " خلق ..
وهو الآن يعود إلى وجوده الأول في المادة أو العماء البدئي ليدور دورته من جديد . وهذا العماء البدئي الأبدي ، أو المادة الأولى الأبدية ، هي في مفهوم الشيطان :" الخلاء الأبدي " الذي يحبه ، وهي في مفهومنا : المطلق الأزلي .
وإن شئتم المادة ، وإن شئتم الهيولى البدئية ، وإن شئتم الطبيعة ، وإن شئتم الأول والآخر، وإن شئتم مفهوما معاصرا : الطاقة ، وإن شئتم مفهوما دينيا : الخالق ، وإن شئتم الله!!!!!
ففاوست يذهب الآن إلى الخالق الأبدي - الذي يحبه الشيطان – ليعيد خلقه من جديد . وهو المصير نفسه الذي سيلاقيه الشيطان .

( 13) دفن فاوست ، والملائكة تشيعه في السماء !!

لم يكن في مقدور جوته الإيغال في الخيال المطلق المجهول ليذهب مع جثمان فاوست إلى القبر ثم إلى التحلل في التربة ومن ثم الذوبان والتفاعل مع المادة لإنتاج عناصر خلق ينجم عنها طاقة خالقة تعيد فاوست في خلق جديد متعدد أو خلق واحد بعينه . إن الولوج في حال كهذه مسألة لم يسبر العقل البشري كنه تفاصيلها وعوالمها حتى الآن ، ووقفت الفيزياء مكبلة عن استكشاف وكنه قوانينها ، لذلك كان لا بد من اللجوء إلى الموروث الديني ، والعودة إلى السماء ،
حيث لا سلطة للشيطان هناك ! فالسلطة لله وحده حسب التعبير الديني ! أو لنقل للمطلق الأزلي في صورته المنزهة عن المادة - وإن كنا بهذا التعبير ننحو منحى الدين أيضا - القادر على تمثل شخوص من الملائكة والشياطين والقديسين واشباح الموتى ، والقادر على خلق كائنات حية من المادة في الحياة الدنيوية .
غير أن جوته رغم ذلك ، لم يكن مقتنعا بالفكرة أولم يكن متحمسا لها كثيرا كما يبدو ، فنراه يقول على لسان الشيطان ما ينقضها ، أو ينقض ديمومتها . فحين كانت أشباح أرواح الموتى تحف بجثمان فاوست الملقى ، والشيطان يترقب خروج الروح من الجسد ليمسك بها ، نراه يهتف :
" ساءت أحوالنا في كل الأمور ، العرف والشريعة القديمة لم يعد أحد يستطيع أن يثق باي منهما "
إن المتحدث هنا هو جوته وليس الشيطان ، وإن كان الكلام على لسان الشيطان .
ويتابع :
" كان من المعتاد أن تخرج الروح مع آخر نفس ، ولهذا كنت أترصدها ، ومتى ما خرجت أسرعت وأمسكت بها . أما الآن فإنها تتردد وكأنها تكره أن تغادر مقامها الكريه في الجثة الرديئة "
المقصود بالمعتاد هو المعتقد الديني الذي يقول أن الروح تغادر الجسد فور الموت . أما الآن فالمسألة مختلفة . إنها لا تتفق والمعتقد الديني ، فالروح لم تخرج بعد !
ومن ثم يخاطب الشياطين ونافخي الصور باستحضار يوم القيامة وفتح أشداق الجحيم التي " تبتلع بحسب المرتبة والمقام ، ومع ذلك فإنه بالنسبة إلى هذه اللعبة لن يحفل الناس كثيرا في المستقبل "
فاوست ج 2 . 273- 274
إذن لن يحفل الناس في المستقبل بهذه اللعبة (الجحيم ) وربما لن يحفلوا بيوم القيامة ، وربما بالمفاهيم الدينية كلها . إنها تنبؤات جوته لمستقبل الدين على لسان الشيطان . ومع ذلك لا يجد مهربا من استعارة بعض مفاهيمها لتوظيفها في ملحمته .
) والحق إن هذا هو نفس ما فعلناه في ملحمتينا ، غوايات شيطانية والملك لقمان)
لقد أورد عبد الرحمن بدوي الكثير جدا مما قيل عن فاوست ، ولم أجد فيه ما يشير إلى ما أشرت إليه. ولا أعرف إن كان هذا تقصيرا من عبد الرحمن ، أم نه تقصير من النقاد والباحثين . لكن عبد الرحمن معذور بالتأكيد فترجمته ستنشر في بلد عربي متدين ، ولا يستطيع أن يذهب بعيدا في شروحاته .
وتفتح الجحيم أشداقها : فم هائل بأسنان مرعبة يقذف حمما ملتهبة ، تحترق فيه
مدينة ، فيما معذبون يسبحون آملين النجاة .
لا بد من التذكير أننا لسنا بصدد دراسة عميقة لفاوست أو البحث في فكر جوته ، بقدر ما نحاول المقارنة بين أيوب التوراتي وفاوست جوته ، ولا شك أننا أعطينا سفر أيوب الجهد الأكبر حين تطرقنا لكل إصحاحاته . ورغم ذلك خرجنا بشبه قناعة أن كثيرا من الباحثين لم يفهموا سفر أيوب على حقيقته كما لم يفهموا فاوست جوته على حقيقته . ولا شك أن جوته كان عبقريا سابقا لعصره بقرون ، كما كان أيوب أو كاتب سفره الأصلي سابقا لعصره ، كما هي حال الحكماء والعباقرة في كل عصر . ودراسة فاوست لفهمها وتقديمها كما ينبغي تحتاج إلى زمن طويل لأنه ليس في الإمكان فهمها بالكامل دون فهم فكر جوته الذي لمسنا أسسه في هذه القراءة .
نعود إلى الفصل الأخير من فاوست .
يحث الشيطان العفاريت على ترصد صعود الروح من جسد فاوست لإمساك بها ، فيما يظهر الملائكة ويشرعون في نثر الورود على الجثمان المسجى . ويضطر العفاريت إلى الإنحناء للملائكة احتراما ، عكس ما تقتضيه شيم الجحيم ، مما يغضب الشيطان ، فيأمر شياطينه بالتصدي للملائكة وسط الورود المحلقة فوق الجثمان ، فتشرع في النفخ على الملائكة وإرسال شعلات سامة . ويظهر على المسرح أولاد ملائكيون جميلون يستهوون الشيطان الذي اعتبرهم من نسل لوسيفر ) الملاك ذو الجمال الخارق في الأساطير الدينية وخاصة الإغريقية الذي تمرد على الله بأن أعلن العصيان ) ويشرع في التغزل بجمالهم والطلب إليهم أن يمتعوه ولو بنظرة ، فيشرعون في التقدم نحوه ..تضعف قوى الشيطان أمام الملائكة ويرى نفسه مثل أيوب :
" إلى ماذا سيؤول إليه أمري ؟! إني مثل أيوب ، شخص كله قروح ، يفزع من رؤية نفسه "
ويلعن في النهاية الجميع كما فعل أيوب " وكما يقتضيه الأمر فإني ألعنكم جميعا "
الملائكة يحفون بالجثمان وينشدون :
" أيتها النيران المقدسة !
إن من تحيطين به
يشعر أنه في الحياة
سعيد مع الأخيار
أنتم مجتمعين
اسموا بأنفسكم واحمدوا !
الهواء تطهر
فلتتنفس الروح "
م . ن. 282
ويصعد الملائكة إلى أعلى حاملين معهم الخالد من فاوست ( الروح ) فيما الشيطان يندب حظه :
" الفريسة طارت مني إلى السماء ، لهذا السبب جاءوا يحومون حول هذا القبر ! أفلت مني كنز عظيم فريد . الروح السامية التي رهنت نفسها لي قد انتزعوها مني بمكر ودهاء ، إلى من اشكو الآن ، من يعيد إلي حقي المكتسب ؟! "
ص. 282
في مشهد أخير ينقلنا جوته إلى مكان يفترض أنه في الجنة وإن اختار مكانا مستوحى من الأرض فيه غابات وصخور وأخاديد وبحيرات تموج وأنهار وكهوف وأسود ودودة مستأنسة في " المكان المبارك مأوى الحب المقدس " حيث نجد الآباء : (الطيبون المختارون للمثول الدائم في الحضرة الإلهية دون مكابدة ) والآباء الرهبان العميقين : ( الذين لم تستضىء قلوبهم بالنور الإلهي بعد ! والسرافيين : (الذين منحوا اشراقا أكثر فانتموا إلى الملائكة ) والصبيان الملائكيين ، والسعداء ، والشباب ، والناضجين ، ورموز المعرفة الإشراقية والأم الماجدة ( مريم العذراء ) والأم الخاطئة ( مريم المجدلية ) والمرأة السامرية ( التي أسقت المسيح ماء ) وماريا المصرية (امرأة عاشت حياة فاجرة وحين حجت إلى قبر المسيح دفعت عنه بذراع خفية ، فكفرت عن خطاياها بالعيش في الصحراء أربعين عاما ، وقد كتبت في الرمل قبل موتها طالبة من يمر بالدعاء لنجاتها ) كما نجد جرتشن حبيبة فاوست ، وخاطئات ومتصوفة . وهؤلاء جميعا يحفون بروح فاوست ويتضرعون إلى العذراء من أجلها ، ويستحضرون فاوست نفسه ليرقوا به إلى مرتبة ملائكية ، بمباركة الرب وملكة السماء ( العذراء)
!!!
بدوي . هوامش . ج2 323-324
وهنا يمكن ملاحظة الفرق الهائل بين إله أيوب وإله فاوست ( فاوست الذي قتل شابا وامرأة وزنى وتسبب في عذابات جرتشن وهدم كوخ فقراء ولم يأبه بالله يوما ، يرقى إلى مصاف الملائكة )


(14) مقارنة بين سفر أيوب وفاوست جوته .

تطرقنا بإيجاز إلى بعض الفروق الهامة بين سفر أيوب التوراتي وبين فاوست جوته ، وسنعود الآن للمقارنة بينهما بقدر من التفصيل .وننظر في من ربح الرهان في العملين ألله أم الشيطان ؟
الإله التوراتي :
1- الموضوع : رهان بينه وبين الشيطان على أن أيوب سيتخلى عن الإيمان به إذا ما نزع عنه ثروته .
2- إطلاق يد الشيطان في أن يفعل بأيوب ما يشاء شريطة أن لا يميته .
3- بحث الله عن مدى إيمان أيوب بفعل شراني : الثروة المستلبة والأمراض التي حلت بأيوب وهدم بيوته ومقتل أولاده وبناته ( بغض النظر عما جاء في كلام أيوب أن أولاده لم يقتلوا . فنحن نتعامل مع النص كما ورد في بدايته وكما فهمته الديانات والناس والكهنة وليس كما فهمناه نحن (
4- ظهور الله شخصيا لأيوب وتحديه بالرجولة واستعراض قدراته بقتل اللوياثان وغير ذلك .
5- إيقاع الرعب في نفس أيوب بجسده المتهالك وجعله يعترف مرغما بخطئه .
( كما تفعل المخابرات العربية حين تجعل المعتقل يعترف بما لم يفعله تحت التعذيب )
6- عرض عودة الثراء لأيوب مقابل الإعتراف بالخطأ والإيمان بيهوة .
7-- إعادة الثروة لأيوب دون الأولاد ( وإن لم يتطرق الكهنة إلى ذلك(
8- عدم منح أيوب أي حياة أخروية ، سوى أن يهوة أعاشه إلى سن 140 بعد نكبته.
( معدل عمر الإنسان في ذلك الزمن لم يكن يتجاوز الخمسين عاما في أحسن أحواله )

الخلاصة : إله يمتزج فيه فعلا الخير والشر بحيث يصعب تصنيفه إلا بهما معا حتى أن الشر يطغى على الخير في شخصه الذي يتجسد في أشكال مختلفة كالعاصفة ويصارع كائنات أسطورية ،ويصطاد أخرى ، ويصرخ بصوت مرعد عدا فوقيته وساديته وعنجهيته.. وغير ذلك مما مارسه على أيوب. إضافة إلى أن الخير مرتبط عنده بثمن هو الولاء المطلق والعبادة وتقديم القرابين والأضاحي .

الإله المنزه حسب جوته :
1- الموضوع : رهان بينه وبين الشيطان بتخلي فاوست عن نور الهداية إذا ما أغرق بالثراء والنعم ومتع الدنيا .
2- إله مطلق منزه غير مجسد ولا مشبه بأي شكل ،لا يظهر في النص وعلى مسرح الأحداث إلا عبر حوار مع الشيطان في البداية .
محب للناس . لا يحاسبهم على أخطائهم بدليل أنه لم يحاسب فاوست على ما اقترفت يداه من قتل وسوء أعمال ، مما يشير إلى أنه لا يتدخل في شؤون الناس ولا يراقبهم .
مسامح جدا حين يجعل روح فاوست تصعد إلى السماء تحف بها الملائكة والقديسين وتستقبلها وتباركها مريم العذراء . لا وجود للشر في شخصه . ويمكن القول أنه خير مطلق ومحبة مطلقة .
3- أطلق يد الشيطان في منح فاوست ما يريد من متع الدنيا طالما هو على قيد الحياة .
4- لا يبدو على الله أنه راح يراقب فاوست ما إذا كان قد ضل عن الهدى ، رغم كل النعم والخيرات والثروات التي وفرها له الشيطان ورغم ما اقترفه فاوست من أفعال سيئة .
5- منح فاوست كل ما تمناه دون أي مقابل .
6- منح فاوست الحياة الآخرة بعد أن منحه الحياة الدنيا ، ورقى به إلى مرتبة الملائكة ، رغم أنه زنى و قتل رجلا وامرأة وتسبب في عذابات جرتشن وقتل طفلها والحكم عليها بالإعدام ، وهدم كوخ عجوزين وشردهما .
8- الخلاصة : إله خيراني لا مجال للشرانية والإنتقام والحساب والعقاب وما إلى ذلك في شخصه .

الشيطان التوراتي :
شيطان شراني بالمطلق سادي بالمطلق لا يعرف الرحمة والشفقة على الإطلاق .
لا يعود إلى الظهور بعد أن يضرب ضربته بأيوب .

الشيطان حسب جوته :
لم يبد منه ما هو شر .
شيطان مرح ، حضوره طاغ ، مشاكس ، ساخر ، فيلسوف ، معرفته وقدرته غير محدودتين . يستمر حضوره في النص حتى بعد موت فاوست .

أيوب التوراتي :
- انسان ثري تقي حكيم شاعر ، لا يسيئ إلى أحد ، يرأف بالفقراء والمساكين .
يتحول عن ايمانه وتقواه بعد أن تحل به المصائب ، ويأخذ في التجديف على الإله، محملا إياه مسؤولية ما حل به من شرور . بل ومشككا في خيرانيته ، ومتهما إياه بالظلم

تحت وطأة الإرهاب الإلهي يضطرمرغما إلى الإعتراف بأخطاء لم يرتكبها لينال
حقوقه ويربح قضيته .

فاوست حسب جوته :
انسان مثقف غير راض عن الحياة الدنيا لا يأبه بالتقوى والإيمان والآخرة ويمكن القول أنه انسان غير متدين وإن كان يعتقد بالدين أو لديه دين .
من حواراته نلمس أن مسألة الإيمان لديه منفتحة على الوجود بعينه دون تحديد لمعتقد معين . مما يشير إلى إيمانه بوحدة الوجود .
نفسه وكأي نفس انسانية تواقة دوما إلى الأفضل والأجمل والأرقى ،وكلما أمسكت بلحظة سعادة
دمرتها لتبحث عما هو أجمل منها . إلى ان وجدت نفسها تحاول الإمساك باللحظة الأخيرة لتقف عندها أو لتوقفها بالموت .

مستعد أن يقتل إذا ما دعت الضرورة إلى ذلك . فهو انسان يمكن أن يخطىء ويصيب .وهذه رؤية الله نفسه في حواره مع الشيطان عند الرهان "الإنسان يخطىء طالما هو يسعى " ( فاوست. ج1 ص: 102 )

في اللحظات الأخيرة من عمره يقتنع أنه لا حدود لتوق النفس ويقرر التمتع باللحظة المعاشة والتمسك بها . يموت لتصعد روحه إلى السماء وليمنحه الله مرتبة ملائكية .

الشخوص الأخرى في النصين :

هناك أربعة شخوص في سفر أيوب جل همهم أن يرافعوا عن الله أمام أيوب ويكيلوا إليه التهم الباطلة ويهدوه إلى الصواب .
في فاوست هناك مئات الشخوص الواقعية والأسطورية والمستحدثة تخوض في مناحي مختلفة من الحياة ، وليس بينها من يهدي إلى الله ، فهي تمارس وجودها
الإنساني إن كانت إنسانية ووجودها الملائكي إن كانت ملائكية ووجودها الشيطاني إن كانت شيطانية ووجودها الأسطوري الرمزي إن كانت اسطورية رمزية.
ويمكن القول أن سفر أيوب هو ملحمة الإنسان في مأساته مع الإله في مفهومه التوراتي . بينما فاوست هي ملحمة النفس الإنسانية في البحث عن مكانة لها في الوجود . وإن شئتم الوجودين : الوجود الدنيوي والوجود الأخروي . وإن شئتم ما هو أكثر شمولية : الوجود في المطلق الأزلي بدنيويته وآخرته . دنيويته الأزلية الأبدية ، وآخرته المتجددة التي لا نهاية لتجددها .
من كسب الرهان :
في أيوب : حسب ظاهر النص الواصل إلينا بالتدخلات التي طرأت عليه ، الإله التوراتي هو الذي كسب الرهان مع الشيطان . لكن القراءة المتفحصة للنص تكشف أن الإله هو الذي خسر الرهان ، بأن قدم كإله متبجح متحد ودون أخلاق إلهية .بينما قدم أيوب كإنسان نبيل مظلوم تمرد عليه وتصدى لمفاهيمه واتهمه بالظلم بل وشكك في قدرته وخيرانيته .أي أن الشيطان كسب الرهان وبامتياز .
في فاوست : الإله هو الذي كسب الرهان رغم أن بعض النقاد والباحثين رأوا العكس وبعضهم لم يصل إلى نتيجة .
*********
نهاية بحث أيوب التوراتي وفاوست جوته .



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شاهينيات (52) (934) يعقوب يصارع يهوه دون أن يعرف أحدهما الآخ ...
- عام 2015 مقلوبا رأسا على عقب !! * انتحار محمود شاهين ومقتل ع ...
- شاهينيات (51) (933) صراع راحيل وليئة على الإنجاب .
- شاهينيات (50) ( 932) خال يعقوب يخدعه ويزوجه ليئة بدلا من راح ...
- شاهينيات ( 49) (931) خديعة النبوة بين عيسو ويعقوب ! * التصال ...
- شاهينيات (48) (930) *موت سارة وزواج اسحق من رفقة وابراهيم من ...
- شاهينيات (47) (929) يهوه يختبر ابراهيم بأن يقدم اسحق أضحية ل ...
- شاهينيات (46) (928) ابراهيم يدع سارة تتزوج من الملك الفلسطين ...
- شاهينيت (45) (927) (يهوه ) يعد سارة بالإنجاب !ويحرق سدوم وعم ...
- شاهينيات (915) إعجازات الألوهة الذكورية في ولادة الأنبياء وا ...
- شاهينيات (43) في الخالق والخلق (916)
- صباح الخير يا لون !
- شاهينيات : (42)- 914- (12) ظهورات الآلهة ومعجزاتهم في العقائ ...
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة (41)- 913- (11) ظهورات ...
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة (40)- 912- (10) ظهورات ...
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة (39)- 911- (10) ظهورات ...
- غوايات شيطانية. سهرة مع ابليس. ملحمة نثرية شعرية غنائية . ال ...
- فرح الحزن في حزن الفرح ونعمة البكاء!
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة (38)- 910- (9) الخلق في ...
- شاهينيات : في الخلق والخالق والمعرفة (37)- 909- في العقل وال ...


المزيد.....




- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمود شاهين - أيوب التوراتي وفاوست جوته . بحث مقارن . النص الكامل .