|
العبت
سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر
(Oujjani Said)
الحوار المتمدن-العدد: 4824 - 2015 / 6 / 1 - 20:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ان اي مجتمع في نظر و منظور البنيويين ، هو عبارة عن مجموعة بنيات . بنية اقتصادية ، وبنية سياسية ، و بنية اجتماعية ، وبنية ايدلوجية . وهو في نظر آخرين ( بورديو مثلا ) مجموعة مجالات او حقول . لكل مجال قوانينه ، ومعاييره ، وفاعلوه الأساسيون والثانويون ورهانه الاساسي ، اي وبلغة الاقتصاد السياسي ، القيمة او البضاعة التي يدور حولها الصراع بين مختلف الفاعلين في المجال ، بهدف تملكها ، واستثمارها ، وتوظيف نتائج حيازتها في اكتساب المزيد من الثروة والسلطة والحظوة . لكن ألا يمكن النظر الى المجتمع من خلال استعارة اقتصادية ، ترى فيه مجرد سوق كبير ، يتشكل من مجموعة من الاسواق الفرعية ؟ فبالإضافة الى السوق الاقتصادية ، هناك سوق ايديولوجية ، وسوق اجتماعية ( الم يتحدث الانثربولوجيون عن تبادل النساء كشكل من اشكال التبادل الاجتماعي ) ، ولم لا سوق سياسية ؟ البضاعة الاساسية في السوق السياسية في الانظمة الديمقراطية او الشبة ديمقراطية ، هي الخيرات المتمثلة في تدبير شؤون الجماعة ، وحيازة قسط من السلطة يُمكّن من الوصال الى ذلك . فما يروجه ويوزعه الفاعلون السياسيون ، هو حُزم من الخطب ، والبرامج ، والوعود ، والآمال ، والخدمات الادارية ، والتوسطات التي يبيعها مختلف الفاعلون السياسيون ، هيئات وأفراد لعموم الشعب الغبي . وهنا يمكن التمييز بين البضاعة الرمزية ( الافكار ، المبادئ ، الايديولوجيات ... ) ، والبضاعة العينية ( خدمات ، توسطات ، حماية ، وعود ... ) . وكثيرا ما تتخذ الهيئات السياسية من احزاب ونقابات وجمعيات ، صورة شركات سياسية ، تنتج ، وتوزع ، وتروج بضاعة ايديولوجية من لون معين : بضاعة ذات لون ليبرالي ، بضاعة ذات لون اسلامي ، بضاعة ايديولوجية ذات لون اشتراكي ، بضاعة ذات نغمة عرقية ... لخ . وغالبا ما يتم تكييف هذه البضاعة ، وفق مقتضيات ووضعية المشتري ، او المستهلك . فالبضاعة السياسية الموجهة الى الفئات الدنيا في السلم الاجتماعي ، هي بضاعة الاحتجاج والأمل . بينما البضاعة السياسية القابلة للرواج لدى الفئات الوسطى والعليا ، هي بضاعة الشكر ، والحمد ، والتبرير . هذا فيما يخص استقطاب واستجلاب الجمهور الغبي في الحالات العادية . اما فيما يخص الديمقراطية فيمكن ان نقول مع الباحث الفرنسي دنيال غاسي في كتابه " الديمقراطية التمثيلية " ، بان قانون السوق السياسية ، هو القانون الذي تخضع له العملية الديمقراطية . فهذه الاخيرة في نظره مُنافسة ( مناقصة او مزايدة )عامة بهدف ، الاستيلاء على مواقع سلطوية في الدولة ، حيث يتزاحم الرجال والنساء معا على الوصول الى مؤسسات مركزية ، تشريعية ، او تنفيذية ( برلمان – وزارة ) ، او جهوية ( مجالس بلدية ، حضرية ، او قروية ) ، ويتطلب الوصول الى هذه الغايات القصوى اولا ، العمل على الاستيلاء على السوق السياسية والتحكم فيها ، وذلك بكسب اكبر قدر من اصوات الناخبين الذين هم بمثابة زبائن او مستهلكين سياسيين . ان ما يزكي هذه الصورة الميركنتيلية للعملية الديمقراطية ، هو الاهمية الخاصة للمال ، والإعلام في العمليات الانتخابية . فرواج المال في هذه العملية معناه ، ان البائع في امس الحاجة لهذه البضاعة ( صوت الناخب ) ، مما يدفع هذا الاخير الى المطالبة بالأداء العيني المباشر والمقدم ، بدل الاداء او التسديد بالتقسيط عبر تقديم خدمات طيلة المدة النيابية للمرشح . وهكذا يُطال قانون البضاعة ، كلا من الشّاري المرشح ، والبائع الناخب ، حيث لا يكتفي المرشح بان يبيع بضاعته الايديولوجية ، والسياسية ، والخدماتية لزبونه السياسي ، بل يجد نفسه مضطرا لان يقبل ان يقلب له المشتري ظهر المجن ، فيتحول بدوره الى بائع لصوته بتسديد فوري . وككل تاجر شاطر ، فان المرشح يميز بين القيمة التبادلية الآنية ، والقيمة الاستعمالية الطويلة المدى لصوت الناخبين . فإذا دفع الآن درهما واحدا ، فسيجني منه خلال مدة صلاحية البضاعة ( فترة الولاية الانتخابية ) اضعافا مضاعفة . فالتمثيلية السياسية في هذا الاطار ،هي عبارة عن استثمار اقتصادي مضمون ، وذي مردود مجز . وقد فهم القصر هذه اللعبة فرفع اجور النواب والمستشارين ، ومنحهم تقاعدا مريحا كما رفع امتيازات الهيئات التمثيلية ، تمييعا للعملية الديمقراطية ، وتشويها لها ، وتحويلها الى مهرجان اقتصادي لترويج البضاعة السياسية . اما عن الاعلام ، فقد اصبح هذا الاخير بمثابة عنصر ملازم للعملية السياسية عامة ، والديمقراطية خاصة . فاكتساب الانصار لا يتم إلاّ إذا كانت الخطة الاعلامية ناجحة وناجعة . ودورها هو تلميع البضاعة ، وتلميع صورة حامليها ، لضمان ممارسة الاغراء والجاذبية اللازمين لرواج اية بضاعة . بل ان المنطق الذي يسود الاعلام السياسي خلال الانتخابات ، هو المنطق نفسه الذي يتحكم في اشهار البضاعة : صابون الكف ، صابون أومو او صابون التّيد ينظف احسن ويزيل الطْبايع . فكل هيئة تدعي انها طائرة نقية ، وناصعة ، وقادرة على تحقيق الآمال ، والوعود اكثر من غيرها ... الخ فهل هذا التماثل الكبير بين المجال السياسي والمهرجان الشعبوي من حيث الشكل والآليات ، بل من حيث خضوع المجال السياسي لقوانين العرض والطلب ، هو مجرد تماثل شكلي وسطحي وعارض ، ام هو تماثل حقيقي ؟ هل يعود ذلك الى طبيعة المخزن كنظام يُبضع ويُضفي صبغة سلعية على كل شيء ، بما في ذلك مجال التسيير والتدبير ( السياسة ) ، ومجال القيم والمعايير المفقودة ؟ كان المفكر السوسيولوجي الالماني ماكس فيبر جريئا في تعميم آلية التحليل الاقتصادي في كافة الظواهر الاجتماعية ، وهي الفكرة الملهمة التي تجد صداها قويا عند السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو ، وهذا ما يضفي مشْرعة نظرية على مثل هذه الرؤية . فالمجتمع في هذا المنظور ، هو عبارة عن مهرجان وسوق كبير يضم مجموعة اسواق مثل مرجان : السوق الاقتصادية ومدارها تُداولُ الخيرات المادية ، وتبادلها بين الناس . والسوق الروحية واللاّهوتية ومدارها ، هو تداول الخيرات الاخروية ، او خيرات الخلاص من بني البشر . والسوق الايديولوجية ، فهذه تُروّجُ وتُتداول فيها خيرات المعنى ، والتأويل ، والرمز ، والأمل . والسوق السياسية ورهانها او بضاعتها ، هي مسألة السلطة التنفيذية ، والتشريعية ، والمالية ، والقضائية بمعنيْيها المركز والموسع ، المادي والرمزي . ولكل سوق او مهرجان قوانينها وأعرافها الخاصة ، وبيروقراطيتها وتراتباتها ومثلها وصراعاتها . وهكذا يجد الحديث عن سوق سياسية بعض اسس المشروعية النظرية في هذا الطرح ، بل يجد فيه اساس تميزه ، وذلك من حيث ان السوق السياسية هي السوق الموجهة لكل الاسواق الاخرى ، لأنها بتعبير هيغلي ، تعكس الارادة العامة الجماعية ، إمّا في صورتها الكلية الناتجة عن الاجماع ، او في صورتها الاختزالية الناتجة عن الصراع . وما دام ان العبت هو اصل العملية الديمقراطية الميركانتيلية المغشوشة من اجل التزييف ، والحفاظ على الوضع القائم ، فلا مناص من مقاطعة جميع الاستحقاقات ، ولا مناص من طرح الديمقراطية بمفهومها الثوري التحرري والتقدمي . ان اية ديمقراطية لا تستند الى الشعب عبر صناديق الاقتراع والاستفتاءات ، وبالطرق المعروفة كونيا لا خصوصيا ، هي ديمقراطية معطوبة تستعمل الادوات الديمقراطية ( الانتخابات ، صناديق الاقتراع ، الاحزاب ، النقابات ، جمعيات المجتمع المدني ... الخ ) لتكريس وضع عقيم مضاد للديمقراطية ، ولا علاقة له بها .
#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)
Oujjani_Said#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طبخة طنجرة وزارة الداخلية والمسخ السياسوي الانتخابوي
-
هل لا يزال هناك امل بالوحدة العربية ؟
-
الثورة
-
شروط التغيير
-
على هامش - الاستحقاقات الجماعية - القادمة : المجالس - المنتخ
...
-
السيد محمد عبدالعزيز رئيس - الجمهورية العربية الصحراوية الدي
...
-
قراءة لقرار مجلس الامن 2218 حول نزاع الصحراء
-
- ملف حقوق المرأة في العالم العربي -
-
انصار واعداء الرسل : المجتمع الاشتراكي مجتمع الكفاية والعدل
-
رد على مقال الاستاذ سعيد الفطواكي . ملكية برلمانية ام جمهوري
...
-
هل تنفع المخزن سياسة الهروب الى الامام للإلتفاف على ازمته ال
...
-
قوى المعارضة السرية في الاسلام
-
السلف الصالح
-
بحلول 23 مارس 2015 تكون قد مرت خمسة واربعين سنة على تأسيس او
...
-
من افشل حركة 20 فبراير ؟
-
بيان الى الرأي العام الحقوقي
-
المكيافيلية والسكيزوفرانية الفرنسية : هل فرنسا مع الحكم الذا
...
-
بلاد دنيال كالفان . بلاد الظلم والذل والعهر والعار . بلاد هك
...
-
انزلاق المغرب من دولة علم ثالثية متخلفة الى دول ربع العالم ا
...
-
حين تصبح الدواعيش التكفيرية اوصياء على الاسلام
المزيد.....
-
عمدة موسكو: الدفاعات الجوية الروسية أسقطت 19 مسيرة أوكرانية
...
-
باكستان ترفض اتهامات الهند لها بشأن صلتها بهجوم كشمير
-
إدارة ترامب: هارفارد لن تتلقى أي منح حتى تلبي مطالب البيت ال
...
-
ويتكوف: واشنطن تعمل على ترتيب جولة رابعة من المحادثات النووي
...
-
وزير الخارجية الإيراني وقائد الجيش الباكستاني يبحثان التحديا
...
-
شركات طيران دولية تمدد تعليق رحلاتها إلى إسرائيل بسبب الصارو
...
-
ترامب يتعهد بمساعدة سكان غزة في الحصول على -بعض الطعام-
-
ألمانيا ترفض خطط إسرائيل الرامية إلى احتلال غزة
-
تقنيات الإخصاب الحديثة تعيد الأمل لمن تأخر إنجابهم
-
ارتفاع قتلى قصف مصنع الحديدة.. وغارة أميركية على صنعاء
المزيد.....
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
المزيد.....
|