|
اللغة الراسمة في ( شرفاتٌ شاحبةٌ منْ طين ) لكريم عبد الله د أنور غني الموسوي
كريم عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 4739 - 2015 / 3 / 5 - 00:05
المحور:
الادب والفن
اللغة الراسمة في ( شرفاتٌ شاحبةٌ منْ طين ) لكريم عبد الله د أنور غني الموسوي الرسم بالكلمات ، ليس فنا جديدا ، بل هو ضارب بالقدم ، الا انّه غاية للاديب ايضا ، و لطاما تباهى المبدعون بذلك ، حتى اشير اليه انّه ليس اسلوبا فقط بل هو فن قائم بذاته .و لحقيقة المركزية التي صارت تحتلها الصورة الشعرية في الادب الحديث ، صار من الجميل فعلا الارتقاء بهذا العطاء الانساني . ان المميّز الأهم للغة الراسمة انّها اكثر حيوية و اكثر اشراقا ، و اكثر وضوحا ، و تعتمد التعبير المنطلق من الصورة ، بحيث انّك ترى الكلمات كأشياء و التراكيب كلوحة ، ثم هي تنطلق بك بعد ذلك الى عالم المعنى . بل انّ الامر يكون احيانا اعمق من ذلك ، اذ تتشكل الصور في عالم الفكر ، فيكون امامك تلألأ فذ و جميل ملّون و برّاق . انّ اللغة الراسمة و ما ترسمه من تشكلات انّما هو باختصار عالم جميل ، عالم يعجّ بالجمال ، الجمال فحسب . و هذا التراكم الجمالي التصويري نجده جليّا في لغة الشاعر العراقي الفذّ كريم عبد الله في كتاباته ، و ربما المفتاح الأمهر لقراءة لوحات كريم عبد الله هو مدخل اللغة الراسمة ، الا انّه في نص ( شرفات شاحبة من طين ) يبلغ الغاية محقّقا انجازا ادبيا فذّا و متفردا سيكون له أثره في ساحات الأبداع . و نحن هنا في هذا المقال سنركز على الاسلوبية التي حقّق بها هذا النص القدرة الراسمة الكبيرة ، اما الجوانب الجمالية الاخرى للنصّ و التي هي كثيرة فنتركها لمحلّها و لأهلها . العنوان في ذاته لوحة ( شرفات شاحبة من طين ) و لا تحتاج الا لمخيّلة حتى تبحر في تلك الشرفات الطينية الشاحبة و تعيش أجواءها . في لوحة مرسومة من المعاني في فضاء من الدلالات يقول كريم عبد الله ( فراغٌ متجرّدٌ إلاّ منْ مخالب تعلو أفقاً متآكلاً .... ) . الاسناد الاسمي ( فراغ متجرد ) ثم يتبعه بالاستثناء ، فبعد ان تشكّلت الصورة للفراغ ، جاء صوت الاستثناء ، كضربة و رفع يد للأشارة الى جانب ، ( الا من مخالب ) انّه ابراز للمخالب . اللغة الراسمة تتميز بالأبراز و القدرة على تسليط الضوء . و هذا ايضا يجري على تصدير الكلام بكلمة ( فراغ ) انّه تسليط للضوء على هذه الكلمات . انه فراغ متجرد الا .... من مخالب . لا ينتهي الوصف هنا ، و بلغة نثرية فذة ، على مستوى عال من الشاعرية ، انّها مخالب تعلو افقا متآكلا . . و بعد هذا الرسم ، و ما للمفردات من مرجعيات و عوالم معنوية تنقل الذهن الى فضاءات الدلالة و ما يريد الشاعر ايصاله . ثم ببيان اعلى يقول ( كاتماً بأنفاسِ شرفاتٍ مستوحشةٍ في زمنِ الخراب .. ) في لوحة تصويرية تطورية تفترش المكان ، و تعلو و تكتم الانفاس ، انفاس شرفات مستوحشة ، في زمن الخراب . ( خاليةٌ الأشجارُ سوى القُبحَ يتوجّسُ ثمارِ الهزيمةِ ............... ) و في بيان مرآتي و انعكاسي او محاكاتي ، و بتدوير للوحة من وجه اخر ، الاشجار خالية ، ليس هناك سوى قبح يتوجّس ثمار الهزيمة ) في اسلوب الابراز و التوضيح و الامانة الكاملة ببوح عال و مجازية و شعرية فذة تتكامل الصورة. و من ثم بوجه ثالث للوحة و ببوح عال يقول او يرسم ( يوشكُ هذا الليل يربطُ وجهَ الصبح بفوّهةٍ رعناء ...) ، حتى تصل اللغة الى مقطع مرسوم بدقة عالية (تمتمَ القطارُ نحوَ الغروب يحثّو عجلاتَ القلق ) ، في بيان حدثي ، فعلي يتمتم القطار ، نحو الغروب مجازية عالية الا انها بوحية ، يحثّ عجلات القلق . انك ترى بوضوح حضور الالفاظ الظرفية وهي مهمة كثيرا في الرسم ، انه ترتيب المكان ، و يمكننا القول و بسهولة ان هذه اللغة مقصودة و ليست انثيالات شعرية بل تقنية عالية يقول كريم عبد الله (للمحنةِ صرير أبوابٍ مغمضة وراءها تراثٌ معلول . أقامَ الزمنُ خيمةً ظلّلَ أوتادها الحداد ) نلاحظ كلمة صرير ، و ابواب ، و مغمضة ، و وراءها و معلوم . كلها مفردات حسية ، ظاهرة جدا لا لبس فيها ، و كلمة و راءها لها وصف مكاني ظرفي بحت . اذن تعلمنا لغة كريم عبد الله ان اللغة الراسمة لغة تعتمد الحسيات و تعتمد الظرفيات وانها لغة التقنيات العالية ، انها مدرسة تعلّمنا نموذجا لفن كلامي فذ .و في مقطع يشهد لما قلنا و يوضّحه اكثر يقول كريم عبد الله (أقامَ الزمنُ خيمةً ظلّلَ أوتادها الحداد ) و يستمر الرسم حيث يقول (الآتيَ أومأَ بالتسوّلِ يدقُّ مساميرَ النعشِ في الفتنةِ الهوجاءَ يتعنّكبُ رمادٌ أجهشهُ وطنٌ بلا غد . منْ هنـــــــــــــــــاكَ مرقَ طليقاً حجراً محتضناً هشيمهُ ... ) ، المقطع يعجّ بالافعال المضارعة و يعجّ بالترتيبات المكانية و الزمانية و يعجّ بالحسيّات ، انّه رسم مقصود و فذّ و تلوين للفكر . لغة راسمة تأسر الفكر و ترتّب المعاني كأنّها اشياء و ليست مقاصد معنوية . الى ان تأتي المقاطع الاخيرة و على نفس الوتيرة و الرسم و الترتيب (هذا الصدى للأنين صارَ وجهاً ملفوفاً بالدهشةِ مبلولاً بالأحقادِ صرخاتهُ أنجبتْ حلماً خديجاً . داهمَ نثيثُ الأوبئةِ أجساداً مغيّبةً تئزُّ بــ عورةِ الثورات رائحةُ الأرصفة المشويّةِ وصوتها المبحوحَ يشي بــ الرحيل . الحزنُ معتقلٌ في صدورٍ تاهتْ متبعثرةً بـــ أروقةِ الخذلان .. غبراءَ كعادتها إندلعت في أوراقنا ثقّبتْ مكروهةً ريح أشعةَ الحلم ........ ) و نلاحظ جيدا التجسيد الحسيّ القوي في عبارة (رائحةُ الأرصفة المشويّةِ وصوتها المبحوحَ يشي بــ الرحيل . الحزنُ معتقلٌ في صدورٍ تاهتْ متبعثرةً بـــ أروقةِ الخذلان .. ) ان كريم عبد الله بلغ هنا غايات مهمّة جدا في اللغة الراسمة و قدّم نموذجا فذا يفتخر به حقّا في هذه اللغة ـو كما قلنا هناك جوانب جمالية عالية و كبيرة في النصّ يطول الحديث عنها الا أنّا و كأسلوب نتبعه نركّز دوما على مظهر من مظاهر الابداع لأجل فهمه و فهم اللغة التي كٌتِب بها و لقد كان نصّ ( شرفات شاحبة من طين ) مناسبة جمالية متفرّدة للغة الراسمة ، و نموذجا خصبا لهذا المظهر الابداعي .
النص ( شرفاتٌ شاحبةٌ منْ طين ) كريم عبد الله فراغٌ متجرّدٌ إلاّ منْ مخالب تعلو أفقاً متآكلاً .. كاتماً بأنفاسِ شرفاتٍ مستوحشةٍ في زمنِ الخراب . خاليةٌ الأشجارُ سوى القُبحَ يتوجّسُ ثمارِ الهزيمةِ ............... يوشكُ هذا الليل يربطُ وجهَ الصبح بفوّهةٍ رعناء . تقزُّ الأجاجَ حولَ رقّاصٍ أعرج ... تمتمَ القطارُ نحوَ الغروب يحثّو عجلاتَ القلق ................ مسّحتْ غمامةٌ نبضَ الجوعِ تستسقي غاباتَ الظمأ . للمحنةِ صرير أبوابٍ مغمضة وراءها تراثٌ معلول . أقامَ الزمنُ خيمةً ظلّلَ أوتادها الحداد ..... .................... الآتيَ أومأَ بالتسوّلِ يدقُّ مساميرَ النعشِ في الفتنةِ الهوجاءَ يتعنّكبُ رمادٌ أجهشهُ وطنٌ بلا غد . منْ هنـــــــــــــــــاكَ مرقَ طليقاً حجراً محتضناً هشيمهُ ... هذا الصدى للأنين صارَ وجهاً ملفوفاً بالدهشةِ مبلولاً بالأحقادِ صرخاتهُ أنجبتْ حلماً خديجاً . داهمَ نثيثُ الأوبئةِ أجساداً مغيّبةً تئزُّ بــ عورةِ الثورات رائحةُ الأرصفة المشويّةِ وصوتها المبحوحَ يشي بــ الرحيل . الحزنُ معتقلٌ في صدورٍ تاهتْ متبعثرةً بـــ أروقةِ الخذلان .. غبراءَ كعادتها إندلعت في أوراقنا ثقّبتْ مكروهةً ريح أشعةَ الحلم ........
#كريم_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شرفاتٌ شاحبةٌ منْ طين
-
أدركني وحيكِ .... وخيوطُ شمسكِ تتنشّقُ
-
سأبدو متآخياً .... و أُسقطُ أعواميَ الخمسينَ
-
أيُّ الفناراتِ ستأوين إليها .... وعلى ظهري تنمو العروق
-
ويستدرجني العطرَ .... يضيءُ قساوة الغياب
-
على جرفِ مهدكَ ... رائحةُ الخراب
-
للباقي منْ سنينها .... تحنثُ الضفاف
-
طاقة التخيل واللغة المقاربة في تكوين الجملة الشعرية في لغة ا
...
-
تقتطفُ الحزنَ ....وضفيرتها سنبلة قمح
-
قلمٌ مغموسٌ في كحلِ ايامها
-
شريطُ الأحلام ........ يخمشُ أستاري
-
ملحمةُ الوجعِ المستديم
-
فراغٌ من الامنياتِ في منشور
-
على جسرِ ايامي .... شمسها مربوطةً تمسحُ الدموع
-
اللغة التعبيرية في الشعر العراقي المعاصر
-
يا إلهي .... الصباحاتُ لا تشيخُ تحتَ شموسها
-
للنساءِ ألوانٌ ذابلةٌ في الذاكرة
-
حينَ أتلذذُ برائحةِ صوتكِ ...... لسانكِ يرسمُ وجهي
-
بذوري نثرتها منتظراً أمطارَ شهوتكِ
-
يغرّدُ الدوري ....... بأناملٍ كانتْ مخشوشنة
المزيد.....
-
إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر
...
-
مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز
...
-
الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
-
اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
-
نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم
...
-
هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية
...
-
بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن
...
-
العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
-
-من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
-
فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|