أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كريم عبدالله - اللغة التعبيرية في الشعر العراقي المعاصر















المزيد.....

اللغة التعبيرية في الشعر العراقي المعاصر


كريم عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4709 - 2015 / 2 / 3 - 14:37
المحور: الادب والفن
    


انور غني الموسوي

اللغة التعبيرية في الشعر العراقي المعاصر
د أنور غني الموسوي
(ثم يفتّش عمّن يحزنه تشوّش الرؤية - فيتحدَّث بألم عميق - عن العاصفة )
عبود الجابري
اللغة التعبيرية هي التحدّث بألم عميق ، عن العاصفة ، عن الواقع المرير ، أنّه الكفّ عن التغنّي بالخارج و وصفه و محاكاته ، أنّها الإبحار الى أعماق الشعور و إعلان الجوهر النقي للشعور و الرؤية الصادقة .
الميزة الأبرز للغة الشعرية هو الإبهار ، الناتج و بلا ريب من الشكل الفنّي الذي عليه تلك اللغة . و لقد بات ظاهراً أنّ ما يميّز الشعر عن النثر ليس موسيقى شكلية ولا ترتيب شكلي للألفاظ ، إنّما المميّز الحقيقي هو الشكل التعبيري . و لا ريب أنّ الثورة التي حصلت في بنية الكتابة الشعرية و تحرّرها من القوالب إنجاز إستثنائي ، إلا أنّ جوهر التحوّل لا يكمن هنا فقط ، إنّما يكون في تبدّل النظرة الى طريقة التعبير ، فنجد أنّ لغة الأدب إنتقلت من الحكائية الإنطباعية الى الرؤيوية التعبيرية التي تمثلا عمقا فكرياً و تمعّناً أسمى في أداة الكتابة و توظيفها و تجاوز الحكائية الإنطباعية بأشواط حتى إنّنا يمكن القول أنّنا و منذ نهايات القرن الماضي نعيش في الفترة التعبيرية للأدب العالمي عموماً و العربي خصوصاً .
إنّ قسوة الظروف و بشاعة الخارج ، لا يترك مجالاً لنظرة محايدة اليه تمجّده و تتغنّى به ، فتجلّى و بقوة صوت البوح الداخلي بمظاهر واضحة في لغة الشاعر العراقي الذي عاني ما عانى من الخارج البائس القاسي . و من هذه المظاهر على مستوى الكتابة الشعرية هي اللغة التعبيرية الموسّعة لطاقات اللغة و الرؤية الأدبية و إدراكات القراءة .
إذن يمكن إرجاع طغيان التعبيرية و الرؤيوية في الشعر العراقي المعاصر الى عاملين الأول عالمي عام مرتبط بالعلم و توسّع سلطة الإنسان و الثاني محلّي بسبب الدمار الرهيب الذي لحق بالعراق و العراقيين ، فما عاد للرومانسية و لا الإنطباعية مجالاً .
من هنا يكون ظاهراً أنّنا لا نتكلّم عن الحركة التعبيرية المعروفة كمذهب للفنّ و الأدب و إنّما نتحدّث عن أسلوب بوحي تعبيري توظّف فيه عناصر اللغة لبلوغ طاقات عالية من التعبير . إنّ اللغة التعبيرية لا تعني أبداً الغرق في الذاتيات والرمزيات ، قدر ما تعني الصدق الخالص الجوهري ، و تصوير بشاعة اللحظة التي يجب ألا تنساها البشريّة ، و كما أنّ ذلك يكون بقاموس معنوي و صوري مميّز فإنّه يتمثّل أيضا بصيغ تركيبية و لفظية واضحة ، و كلّ هذه الأشكال التعبيرية نجدها حاضرة في الشعر العراقي ، الذي سنورد نماذج منه تكون إنعكاساً و مرآة للكوكبة العامّة و العطاء الثرّ التي هي منه .
تبرز التعبيرية في اللغة على مستوى الموضوع و على مستوى الصورة و على مستوى التراكيب اللفظية . إنّ الحدّة و العصف العاطفي في التعبيرات النابعة من أعماق الداخل تجعل من اللغة كيانا رسّاماً و ليس طريقة توصيل فقط ، لذلك يمكننا وصف المقاطع التعبيرية بالمشاهد و اللوحات و المناظر ، أنّها رسومات بإمتياز و شواهد على العصر و الإنسان و مشاعره العميقة .
التعبيرية الموضوعية
لا نريد بالموضوعية هنا أصناف الموضوعات المطروقة لأنّ هذا التناول قديم قدم الإنسان مهما كانت طبيعة الموضوع ، إذ لا ريب أنّ السعادة و الشقاء من المعارف البشرية الضاربة في القدم ، إنّما نريد هنا كشف اللغة عن الموضوع الذي تتحدث عنه بأبعاد معنوية متميّزة إمّا من حيث الإيغال في الإنفعال بإعطائه خصوصية مميزة او من حيث توسعة مفهومه والإدراك به . وأهم ما يميّز اللغة التعبيرية جنوحها الى مواضيع موغلة في العمق و متناهية في الصدق من حقول العاطفة الملتهبة يتربع ذلك الحزنُ و الألم و طلب الخلاص .
اللغة التعبيرية لا تتعمق فقط في إختيار موضوعاتها بل في رؤية موضوعاتها ، ففي مشهد للشاعر الأمهر عبود الجابر يقول ( وإذْ قلُتُ له / ما ذلك بمرآتك؟؟/ قال: هو عماي/ أتوكأ عليه / وأهشُّ به على ما أرى/ من الظلام... ) إنّها الرؤية المنبثقة من الظلام ، إنّها تقديم العالم برؤية عميقة . إنّها حكاية الرؤية و التعمّق فيها ودعوة صادقة اليها حيث يقول أنور غني ( أجل أنّك ترى ما أرى ، إنّه إحتفال ، إنّه التلقائية الكاملة . أجل إنّك ترى ما أرى )
في لغة الشاعر العراقي تتجلّى المعاني الكئيبة و القاتمة ، ، حيث تتجلى الحسرة و الفقدان في لوحة عبود الجابري إذ يقول (قضيت وقتا طويلاً - في البحثِ عن بغداد - ولم أرها - لأنَّ جاري لم يعرني سترته ) إنّها حكاية اللاجدوى . و يقول كريم عبد الله ( هتافٌ يتناهى عبرَ أخاديدِ فناراتٍ مهجورةٍ عشعشَتْ على عباءةِ الوهمِ نذور سنواتي المجدبة ) ، و في منظر له آخر له يتجلّى الحزن و الخراب و الوداع حيث يقول ( ثغوركِ ملطّخةٌ بخرابِ الأبواقِ المهشّمةِ تنطرحُ نواعيري تلهجُ بتوديعِ مفارقِ الكلمات ) لا شيء سوى الخواء ، و لا مكان لحلم الانسان كما في مشهد لأنور غني (قلب العالم يتقاعد كأرملة .-لا مكان لحلم الإنسان ، - لا دفء و لا نشيد .(
و يتعالى قاموس اللغة الكئيبة في لغة التعبيريين إنّه الخريف و اليأس و الغربان في مشهد ناظم ناصر (كمساء الخريف ...- تتهامس به الغربان- على غصن منحني على شجرة اليأس ) و هنا الدموع والمنفى و الجراحات في لوحة قاسم وداي (وددت أجمع دموع المنافي حين اجتمعت القرابين كي أزيل غبار جراحات البحر النازلة من مجراتها ) و في مشهد يائس لشلال عنوز يقول فيه (هذه الريح تُعلنُ - .................أن لا وصول الى (ليلى) - فقد سرقوها...! ) .
و النسيان يحضر في منظر ناظم ناصر (اليد التي تكتب الكلمات -على ذاكرة الزمن -غمرها النسيان ) و يخيم الضياع و الخسارة و الوهم في منظر آخر له حيث يقول (مثل صباح فاتر- كان حبي - كقصيدة بلا معنى -كورقة على وشك السقوط ) .
و في عالم من الرحيل و البعد تطلّ لغة قاسم وداي ( مكنها الرحيل والبعد عن حيّنا المشلول -كان رحيلها ثغرة واسعة بحجم النكبات ) و يتجلّى الحزن و الخواء والألم مرّة أخرى في مشهد لسلمى حربة ( أنا حزنُ الهواءِ -أمدُّ يديّ أحيكُ الصدى قصائدَ جلنارٍ -ويتيهُ الألم فوقَ ترهاتِ الوجعِ متلاشيا -وأملأ جيوبي الخاوية بهواءِ عطرِ يأخذني -حيثُ اريدُ !!! ) و في منظر لعلاء الاديب عن العالم السقيم يقول ( من أين تهرب والزمان غريمُ - ولمن ستلجأ والمكان سقيمٌ ) و في منظر لرياض الغريب (في سلة القمامة -نضع أسنانا غير صالحة للمضغ -نضع أوراقا تصف تاريخنا بالمنصف جدا -نضع قرونا من العتمة -نضع حروبا وجنرالات -نضع كلابا تنبح داخل النص ) إنّه إختصار للإخفاقات البشرية.
وهنا الصمت الذي يخشاه الشاعر التعبيري و يبوح به بكل نقاء و صدق رفيع ففي لوحة قاسم وداي ( أخشى أن يجهز عليّ الصمت حين تعلوني الشهقات ) ، و يتجلّى الصمت المتجمّد في مشهد لأنور غني حيث (أناشيد الشتاء تغرق في الضباب .-تترك في ذاكرة الشوارع نشوة لا تُنسى.- زواياه الباردة تحفل بالصمت ، - فأتجمّد في حلمي كشجرة غابٍ قديمة . )
و يطلّ علينا عالم المآسي و الصدأ و الجوع ففي مشهد لشلال عنوز ( كانت الريحُ مشغولةً - بعدِّ أسى المحطّات - تُهرولُ مُستاءةً - تلمُّ عباءة الوقت - تتسلّلُ عَبرَ..- ..........جوع النّوافذ - ..........صدأ ألأبواب ) انه الخواء الرهيب ، الذي يتجلّى أيضا في مقطع لعلاء الأديب (خطواتك الثكلى تجرّ على الأسى - وجع المسيح.. يهدّه التكليمُ ) ، إنّها شيخوخة الحضارة و الواقع ففي مشهد لرياض الغريب يقول (في البلاد التي تشيخ -نرمم وجهها - بأغاني فيروز - ونرمم وجوهنا -بالضحكات ) .
من ملامح التعبيرية طلب الخلاص و تقديم رؤية له ، و نرى ذلك في مشهد لكريم عبد الله حيث (كلّما يكفهرُ العالمُ أطوفُ أحملُ وجهكِ شمساً مشرقةً وبحجولكِ الفضيّة أطرقُ أبوابَ الصباح ) فيطرق أبواب الصباح كلما إكفهر العالم بالخلاص الفضي و بوجه الشمس الذهبي ، و نحو الشمس تكون سمرة الوجه طريق الخلاص عند قاسم وداي (سمرة الوجه خارطتي نحو الشمس -لا ترحلي كي لا يكون الثقب بحجم بغداد ) ، إن التعبيري يتشبث بكل أشكال الخلاص حتى لجام الهواء حتى أسراب المطر ففي مشهد لسلمى حربة ( أيتها الارضُ الغائرة ُبالحزنِ - إخلعي عنكِ أسمالَ غربتك وكوني سرب حمام -تيهي للفرح -أمسكي بلجامِ الهواءِ -وقولي للسحبِ أمطري على شفاهِ الحزنِ - أسرابَ مطر ) فان ألم هذه الارض شديد و حزنها قاتل . بل يطلب الخلاص من الظلام كما عن عبود الجابري حيث يقول ( وإذْ قلُتُ له / ما ذلك بمرآتك؟؟/ قال: هو عماي/ أتوكأ عليه / وأهشُّ به على ما أرى/ من الظلام... ) بل يكون الخلاص حتى في الموت كما عن أنور غني اذ يقول (أجل ، لا بدّ من الموت الجديد . - هكذا أخرج من خاتمي شبحاً للسلام .- أجلد ظهر المجرّة بالصوت العتيد . )
لا شيء يتجلّى في لغة التعبيريين أكثر من سقم العالم و مرارة الخارج و قسوته و هزالة وجوده ، و لا شيء يهمّ التعبيريين أكثر من بيان الوجه القبيح لهذا الواقع المرير ، ففي مشهد قاسم وداي (أرادوني طعما سهلا لهياكل الشقوق ) إنّه الخارج الشرّير الاستغلالي بلا ضمير . و في منظر اخر لعلاء الاديب حيث الجور و التمزيق اذ يقول ( أنا من مزّقت أحزانه قلبهْ ، وما قد ناح أو أذعن.. ) ، إنه الخارج المحزن الذي يقابله العمق النقي موطن الصفاء يقول رياض الغريب ( بم تفكر - بصديقي الشاعر -الذي جلس قبالة قاتله- لا شيء بينهما -سوى رصاصة واحدة - ومسافة - عدها القاتل - ألف مرة -بينما الشاعر - إعتقدها وردة ) إنه العالم السقيم في مشهد لأنور غني إذ يقول ( السيول ما عادت تكفي لتضع حدا لهذا العالم السقيم -جسده شاحب كعصا لا حراك فيها ) .
إن اللغة التعبير هي الحديث بصدق و بعمق و بنقاء ففي مشهد للشاعر الأمهر عبود الجابري يقول فيه ( لا أحد - يتحدث عن عاصفة - رجل المرور يكتفي بتحذير العربات - التي تعبر الطريق الصحراوي - البحارة ينامون ليلة أخرى في فندق المدينة -القتلة يغتنمون الفرصة - حيث يختلط دخان الرصاص بالغبار -العشاق يلعنون سوء الطالع -بينما رجل وحيد - يمضي بحرق أشياء قديمة - ماتت في ذاكرته - ويطلق غبارها في الفضاء -ثم يفتّش عمّن يحزنه تشوّش الرؤية - فيتحدَّث بألم عميق - عن العاصفة ) و يقول أنور غني (أجل انا الوحيد الذي يعرف معنى الحرب ، لأني أتحدّث عنها بصدق .)
التعبيرية التصويرية
تعظيم طاقة اللغة بالصورة غاية الأسلوب التعبيري ، وتكمن جمالية التصوير التعبيري في حالة إيجاد علاقة شفيفة بين الصورة و ما يراد البوح به أو التحدّث عنه ، و بقاء خيط الإيحاء بينهما . يتجسّد ذلك في لوحة كريم عبد الله إذ يقول (حينَ أتلذذُ برائحةِ صوتكِ .... لسانكِ يرسمُ وجهي ) إنّه تجاوز للمعهود من المعنى يعلّمنا رائحة الصوت ، و في منظر لعبود الجابري يكون للمصابيح أسنان تريد الإنتقام ( في الليل العجول - تبيضُّ أسنان المصابيح - كمن يريد الانتقام - من وجعٍ داكن )، إنّ اللغة التعبيرية تقدّم العالم بشكل أكثر صدقا و إن كانت مختلفة عمّا يراه الآخرون يقول أنور غني (ها أنا أتساقط بصمت و غربة كاملة . - كلماتي ترقد في أكفان من الرياح - ملامح وجهي مؤجلة .- لست مضطراً أن أرى القمر كالعاشقين )
الصور العنيفة الصادقة البعيدة عن كل تزويق و تحريف ، الشديدة الإنحدار الموغلة في عمق الألم من أهمّ ميزات اللغة التعبيرية ، ونجد لغة سلمى حربة في مشهد لها يتجلّى البوح العنيف ( ملامحي تنتمي لتلكَ التجاعيدِ القاحلةِ -وشقوقُ تلك الأرض خراجات ألمي ) إنّها خراجات ألم لا تجدها الا في أعماق العراقيين ، حيث الدماء تأسر المكان ففي مقطع لأنور غني (الدماء تملأ السواقي ،- تلتهم عروق الأشجار ،- فيتلاشى الحلم كبقرة هزيلة .) .
و يتوسع المعنى و بدل أن يحضر الرمز للدلالة على المراد كما عند الحكائيين و الإنطابعيين فإن الرمز يحضر هنا ليُعطى معنى آخر ففي لوحة قاسم وداي (سمرة الوجه خارطتي نحو الشمس- لا ترحلي كي لا يكون الثقب بحجم بغداد ) هنا لبغداد تأريخ نصيّ و رمزي مختلف عما نعرفه صنعه داخل الشاعرالعميق .
اللغة الصادمة كنز التعبيرية حيث تخبرنا سلمى حربة أنّها حزن الهواء و أنّها تملأ جيوبها الخاوية به ( أنا حزنُ الهواءِ -أمدُّ يديّ أحيكُ الصدى قصائدَ جلنارٍ - ويتيهُ الألم فوقَ ترهاتِ الوجعِ متلاشيا -وأملأ جيوبي الخاوية بهواءِ عطرِ يأخذني -حيثُ اريدُ !!!) ، و تتجلّى الصدمة المبهرة في منظر لعبود الجابري (قضيت وقتا طويلاً - في البحثِ عن بغداد - ولم أرها - لأنَّ جاري لم يعرني سترته ) لا يمكن أن تبصر هكذا شكل من الوجود الصوري الا في أعماق الشعور و دواخل النفس . و في مقطع وامض آخر يقول (لم تلق التحيَّة على جارك الأحمق - ربّما يفكّر إنّكَ تكره الحمقى - فيراودك ليلاً -عن الحكمة وضحاياها ) فلا سبيل الا أن تنبهر بهذا التركيب اللغوي الصادم .
العمق من ركائز اللغة التعبيرية ، تشعرك أنّ التركيب لم يأت من العقل و الا اللسان بل من شيء أعمق من ذلك ، إنّه من العاطفة العميقة و الإحساس العميق ، إنّها اللغة التي تثبت لنا و بكل وضوح أنّ الإحساس أصدق من العقل ففي مشهد لكريم عبد الله ( بحجولكِ الفضيّة أطرقُ أبوابَ الصباح ) إنه الخلاص المجاني المتجاوز للشخصنة و الكونية و للزمان و المكان فهي الحجول التي تصنع الصباح . و تحضر الاضاءات العميقة للفكر و حقول المعنى ريح مثابرة هي شاهد شلال عنوز على خواء الواقع المرير حيث ( كانت الريحُ مشغولةً - بعدِّ أسى المحطّات - تُهرولُ مُستاءةً - تلمُّ عباءة الوقت - تتسلّلُ عَبرَ..- ..........جوع النّوافذ - ..........صدأ ألأبواب ) . و بلغة متناهية في العمق و الايحاء نجد أنفسنا نبحر في عالم المعاني و الإدهاش في مشهد رائع للمبدع الفذّ عبود الجابري (كلما سقطت قشّةٌ - قفزتَ إلى الماء هاتفاً: -أدركوني أيها الغرقى ) انها تعبيرية ضاربة في العمق في الصدق . و في مقطع أخر يقول (ماهذا السواد على الجدار ياأبي؟ دعنا نهرب أوّلاً - ثمَّ أحدّثك عنه - في حياة لاحقة ) إنّه تجل لتجربة الانسان العميقة .
التعبيرية التركيبية
البوح الداخلي المحمّل بأعباء الخارج و إنفعالات الذات تنعكس بصورة مباشرة و كاملة على تراكيب اللغة ، فالسرعة الكلامية العالية من خصائص اللغة التعبيرية ففي منظر كريم عبد الله (حينَ أتلذذُ برائحةِ صوتكِ ) تحقق اللاألفة العالية بين الرائحة و الصوت سرعة كلامية متميزة و ملحوظة . و في منظر ناظم ناصر (مثل صباح فاتر-كان حبي ) إنّه ليس مجرد مجاز إنّه فضاء رحب . و في نظام فذ من سرع كلامية عالية تعلمنّا لغة قاسم وداي جراحات البحر النازلة من المجرات حيث يقول (وددت أجمع دموع المنافي حين اجتمعت القرابين
كي أزيل غبار جراحات البحر النازلة من مجراتها ) . و في منظر لأنور غني يقول فيه (قيل حتى مياه البحر ، بما فيها من أساور و تواريخ -قد إلتقمها الذباب في لحظة آسارة ، فصارت معدته ينابيع دافئة .) تحقق اللاأُلفة المفرداتية و الجملية إبحارا عميقا في زوايا الشعور و سرع كلامية عارمة ، و في مشهد اخر يقول (قلب العالم يتقاعد كأرملة (إنّها صور من قرارة العمق و زوايا الشعور .
ليست اللاألفة و السرع الكلامية العالية مجرد علاقة تجاورية ، بل هي إيغال في العمق ، و تلمس غريب في زوايا الشعور ، ففي مشهد لعبود الجابري (قضيت وقتا طويلاً - في البحثِ عن بغداد - ولم أرها - لأنَّ جاري لم يعرني سترته ) ان اللاألفة هنا ليست بين الكلمات فحسب و انما بين الوحدات الجملية وهي لغة عالية التقنية و عميقة التأثير . و أيضا في سرع تجاورية للجمل مقطع اخر لعبود الجابري يقول فيه (كلما سقطت قشّةٌ - قفزتَ إلى الماء هاتفاً:- أدركوني أيها الغرقى ) ان السرع هنا تصل حدّاً يولّد الإنبهار العميق .
التمرّد من ميزات اللغة التعبيرية فهي ليس فقط تتمرّد على الواقع و إنما تتمرّد على نفسها ، فتتمرد اللغة في سعادة و إشتهاء وقلب البارود الطيب و القذائف الخاسرة ، ففي منظر لعبود الجابري (هكذا يكون إشتهاء سعادتنا - بمواساة البارود - بقلبه الطيّب - ومعانقة القذائف الخاسرة ) ، وفي خضم قاموس الألم و الحزن و القسوة تبزع حقول البهجة و الإشراق ففي لوحة كريم عبد الله ( كلّما يكفهرُ العالمُ أطوفُ أحملُ وجهكِ شمساً مشرقةً وبحجولكِ الفضيّة أطرقُ أبوابَ الصباح ) و ايضا مشهد آخر من تمرّد اللغة بين الحب الجميل عندنا و اللامعنى و الأوراق الموشكة على السقوط عند ناظم ناصر حيث يقول (مثل صباح فاتر-كان حبي -كقصيدة بلا معنى -كورقة على وشك السقوط ) . و في مشهد آخر من التمرّد التركيبي تجمع الحقول الباسمة و الحبية مع حقول الألم و الخوف ففي مشهد قاسم وداي (سمرة الوجه خارطتي نحو الشمس - لا ترحلي كي لا يكون الثقب بحجم بغداد ) فالشمس و السمرة و بغداد ، وسط هذا العالم الحبيب و الجميل يطلّ الرحيل و الفقدان بوجهه الكئيب . و تتجلى اللغة في تمرّد واسع لها في مقطع لأنور غني يقول فيه (للشمس إشراقة تجعل الشجر قصائد ساكنة لا تعرف شيئا عن الخلود ) إنّها الإشراقة التي تجعل القصائد تجهل الخلود ، و في مشهد لشلال عنوز يحضر وجع الوطن وسط بهجة الصباح (هذا الصباحُ -.................الخَريفيُّ
حيثُ رَذاذُ -.............المَطَرِ - يغسِلُ بقايا - ..............روحِك - تَتَهَجّى وَجعَ -.............الوطن ) و تتمرد اللغة ولا تقنع بما يقال لها ، فسهيل لا يصغي الى نداء الريح الخبيرة و يتحداها و يعلن إنّه لا عودة من دون ليلاه في مشهد لشلال عنوز (وهذه الريح تُعلنُ - .................أن لا وصول الى (ليلى) - فقد سرقوها...! - ولم يطلع (سُهَيلٌ) بعدُ.!! - وهو مازال ممسكاً صولجانه - يتحدّى الريح ..- يُمنّي نفسه بقُبلةٍ..- ................مِن (ليلى) -ويُعلنُ أن لاعودة بدونها... )
نعم ان اللغة العراقية تتحدى الريح الصفراء و الواقع المرير ، و تعلن أنّه لا عودة من دون جوهر نقيّ عاصف يحيى الموات .



#كريم_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يا إلهي .... الصباحاتُ لا تشيخُ تحتَ شموسها
- للنساءِ ألوانٌ ذابلةٌ في الذاكرة
- حينَ أتلذذُ برائحةِ صوتكِ ...... لسانكِ يرسمُ وجهي
- بذوري نثرتها منتظراً أمطارَ شهوتكِ
- يغرّدُ الدوري ....... بأناملٍ كانتْ مخشوشنة
- في أنهاركِ .... يتلاطمُ الغيم
- الرملُ ...... يملأُ خزانةَ أمواج اللقاء
- خلفَ حاجزِ الخوف .... قبلةٌ تتمرّد
- لا مأوى إلاّ عينيكِ تشحذانِ عشباً شائخاً
- أصابعٌ عاقرةٌ ....... تسترسلُ عاريةً
- أجنحةٌ .... جفّتْ فيها المحابر
- رائحةُ النارنجَ تملأُ جيوبي
- أطهو الأنتظارَ .... في مفاصلِ النوم
- الغياباتُ المتكررة ... صدى الراحلين
- القشُّ يملأُ الفراغات الاتية
- تتأبطُ أرشيفَ الذاكرة
- مشّطتْ شيبهُ الكثَّ بأمشاطِ ال النعم
- ضحكتها ... تفتحُ للشروقِ نافذةً
- وحشةُ الدفاتر.. محطاتٌ بلا لافتة
- فناراتٌ ... تشقُّ عبابَ الغدرِ


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كريم عبدالله - اللغة التعبيرية في الشعر العراقي المعاصر