أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم شلغين - إنه منا وفينا!















المزيد.....

إنه منا وفينا!


أكرم شلغين

الحوار المتمدن-العدد: 4568 - 2014 / 9 / 8 - 17:12
المحور: الادب والفن
    


لم يكن تامر بذاك المختلف جذرياً عن البقية ممن يؤدون الخدمة العسكرية (الدورة 135التي بدأت في الخامس عشر من آذار عام 1983) في كلية الشؤون الفنية، لم أره مرة يتذمر أو يحكي أو يروي شيئاً أو يمزح، وان تصادف ومزح أحدهم وقهقه الجميع كان تامر يبتسم بهدوء وبحذر، لم يحاول الاعتداء على أحد بل كان يعرف ماله وما عليه في علاقته بنا نحن السبعة عشر طالباً مجنداً حيث جمعتنا الخدمة الالزامية في مهجع واحد. وكانت أول مرة سمعت تامر فيها يحكي حين جاء ذلك تعليقاً على الأداء الرياضي لواحد من الطلاب حيث انضم للدورة العسكرية بعد بدايتها طالبين مهندسين أحدهما كان مدير الشركة المسماة حينها "رودكو" وأظنه كان يدعى نبيل قبيلي والآخر كان ابن أحد ضباط القصر الجمهوري، فقد كان من الصعب على الأخير أن يجري بالسرعة التي يجري بها بقية الطلاب أو أن يثابر ويتابع ولو دورة واحدة حول الساحة بل كان يتفصد عرقاً بعد المتر العاشر من الركض ثم تتلون سحنته باللون الزهري وتتباطا حركته وقبل أن يكمل الثلاثين متراً على الأكثر إما أن يقع أرضا أو أن يتوقف لاهثاً ويتطلع وكأنه يريد أن يستنجد بأحد أو يريد أن يقول لأحد أنا ابن ضابط الفلاني في القصر الجمهوري ولا أريد أن أركض! وقد تكرر هذا السيناريو يومياً أثناء الفترة المحدودة لوجود هذا الشاب القصير الأبيض الممتلئ ابن ضابط القصر قبل أن يختفي من بيننا لنعرف أن "والده تدخل...". في أداء غير مرض لهذا الطالب المجند توقف صباحاً عن الركض وجلس على أرض الساحة لاهثاً...عندها نظر تامر لي وقال "عايش بالنعم ما بيمشي ثلاث خطوات الا ما يقعد..." كانت تلك هي المرة الأولى التي سمعت بها تامر يتكلم.
في المهجع همس أحد الطلاب قائلا إن تامر من "عرب الهيب،" فكال البقية المديح على هذا "الانتماء" أو على الأقل كانت تعابير الوجه توحي بشي من الاهتمام، أما بالنسبة لي فقد جاملت بالقول و"النعم، تشرفنا.." ولكنني في داخلي لم أعرف ماذا يعني ذلك، وحاولت تقريب الأمور في رأسي فتذكرت ما كنت أسمعه في الطفولة من الكبار في السن عن تفضيل شراء الخراف من "العرب" على شرائها من "بازار الثلاثاء" لأنهم سيدفعون "جمبظية" (نوع من العمولة يتوجب دفعها عند الشراء من سوق البازار...).
بعد الدروس اليومية كان معظم طلاب الضباط المتطوعين يفرضون العقوبات بحقنا بدون سبب ويمارسون ما فيه الاهانة لنا وهذا ما كان يعرّفنا بتعقيداتهم وأمراضهم النفسية...فكانوا ببساطة يأتون الى المهاجع ويقولون بصوت عال هناك قصف... عندها علينا أن ندخل تحت الأسرة أو بين الأسرة وفرشها...أو أن يعطوا الأوامر: "مستضحكاً" وعلينا أن نضحك أو "مستبكياً" وعلينا وقتها أن نبكي...من كان له شاربين لا بد وأن سمع أحيانا ايعازاً بأن ينفذ "استرح" و"استعد" بشاربيه... ذات مرة كان تامر ماراً في الساحة العامة فلقيه طالب ضابط عامل فأعطاه الأمر: "منبطحاً"، ثم "واقفاً"، ثم "منبطحاً"، زاحفاً..واقفاً، منبطحاً..يداك وراء ظهرك، عللي صدرك أرفع رأسك..." ففعل تامر، ثم سأله الطالب ماذا درست وأين فأجاب تامر "درست الأدب العربي في جامعة حلب" فسأله الطالب العامل: "كم بنت ن...في الجامعة؟" عندها غضب تامر وأجاب بما لم يتوقعه ذلك الزنخ: "واللهِ اتنين وأمك ثلاثة وأختك أربعة.." ووقف تامر على أثرها وأراد الاشتباك مع الطالب العامل إلا أن الأخير قال له بكل برود: "روح من هون.. وخلاص ما صار شي... وما رح عاقبك مع أني قادر أبعتك على سجن تدمر...." لم نسمع هذا من تامر بل من طالب آخر وقف على مسافة ما يراقب ما يجري.
كان أحد الزملاء في المهجع (جابر أحمد الجندي) يأتي متأخراً بعد أن يكون قد عاد من حمص التي لا بد وأن زيارتها اليومية بالنسبة له مثل الفرض...وفور دخوله المهجع يبدأ المزاح ثم توجيه كلمات فيها ما يتعدى الجرأة للجميع ويقلد الجميع فيرتفع صوته وهو يسأل: "حمود [العربيد] شفتلي البشكير؟" وبذلك كان يقلد بدر ابن الجولان، ثم يلتفت لزميل آخر ويصرخ: "وا ثابت [فارس زنبور] والله غنيتك [أغنيتك]"حنية أمها حمص بطيحنة، أي كويسة كتير...بس ليش بتنام ووشك كاشر [أي لماذا تنام ووجهك عابس؟]...أنا أول مرة بحياتي بشوف واحد بينام ووشو كيشِر"...إلخ وهكذا طال لسان جابر بشكل أو بآخر كل من في المهجع...وأما تامر فقد كان جابر يقترب منه ويقول له سمعتك تردد في نومك: "سيبيني أحلق يا..! دي قومي عني يا...! حاجتك عاد...!" ولكن تامر كان يكتفي بالابتسامة الخفيفة ولم يصرخ أو يبدي ردود أفعال غير تلك الابتسامة والصمت.
في بداية الدورة العسكرية كان معظمنا يقفز عن السور مساء الخميس ونجتمع ونستقل باصات لنذهب إلى أسرنا لقضاء بعض الوقت ثم نعود ليل الجمعة أو قبل فجر السبت إلى الكلية. بعد انتهاء ما يسمى "دورة الأغرار" صارت هذه عادة الجميع، اي الخروج من الكلية خلسة في تلك الساعات. ذات مرة تأخر تامر في العودة ولم نره فجر السبت في المهجع، انتبه لذلك جميعنا وانشغلنا بالأسئلة عما سنفعله من أجله...ولم نعرف كيف سنتصرف عندما سنسأل عن تامر...!! في الاجتماع الصباحي لم يكن تامر موجودا... أما قائد مجموعتنا في الساحة العامة عند التفقد فكان ممن ينامون في مهجع آخر... لم يعلمه أحد بأن تامر غائب وهكذا قدم التفقد للأعلى منه بأنه "كامل". وبعد الانتهاء من الرياضة والفطور وعودتنا الى المهجع وجدنا تامر قد عاد مرتدياً اللباس العسكري وهادئاً كالمعتاد...سارعه الجميع بالأسئلة" لماذا؟ أين؟ ماذا؟ ..؟ واكتفى تامر بالجواب: "والله تأخرت." وبدا أنه لا يريد مزيدا من الأسئلة أو التحقيقات عن سبب تأخره.
في الدرس العسكري الأول ذلك الصباح جلسنا جميعا في وسط ساحة الكلية على شكل دائرة وفي الوسط وقف ضابط برتبة ملازم مجند يشرح الدرس العسكري لنا...وتصادف أن كان تامر يجلس بالقرب مني..انتبهت أنه يكتب على الصفحة الأخيرة (ما قبل الغلاف) في دفتره "هذا النهار السبت الواقع في 28....[ويكمل التاريخ]" ثم يمحي ما كتبه، يعيد الكرة فيكتب اليوم السبت بتاريخ ثم يمحي ما كتبه..ثم هز رأسه للجانبين وقال لنفسه بصوت منخفض ـ لكنني سمعته: "لا حول ولا قوة إلا بالله..." كانت الشمس تشتد حرارتها ونحن نجلس في الساحة نستمع وتامر يعيد كتابة ومحي اليوم والتاريخ...بدا أنه يريد أن يؤرخ شيئاً...! لم أكن فضولياُ بما فيه الكفاية لأسأله ولكنه بدا أنه يريد أن يبوح لي طواعية بشيء ما فقد همس لي: تأخرت لأن هناك مشكلة عائلية....ولكنه توقف.
لم ينقض ساعة بعد ذلك حتى أتت الشرطة العسكرية إلى الكلية وأخذت تامر من بيننا...وتكاثرت الأسئلة التي لم نعرف لها جوابا الا بعد أسبوع حيث ذهبنا لقضاء يوم الجمعة كالمعتاد وعدنا فجر السبت...عندها جاء أبناء منطقة تامر بالخبر اليقين وعرف الجميع أن هناك حادثة قتل "أخذ بالثأر" نفذها تامر. فقد كانت العشيرة وفقاً لأعرافها وتقاليدها اختارت تامر تحديداً لينفذ ذلك القتل لاعتبارات عشائرية تتعلق بهوية المقتول ومقامه من العشيرة المقابلة وهوية مقتول أسبق من عشيرة تامر ومقامه...
لم توقف المعلومة تساؤلاتنا بل زادتها، وجميع الطلاب في المهجع أصبحوا شبه خدِرين لسماع ذلك، ومنهم من قال هل كنا طيلة هذه الأشهر نعيش مع قاتل؟ ماذا لو غضب منا مرة وقتل واحداً أو اثنان أو ثلاثة؟ الله ستر...! وهكذا أصبح تامر قاتل في نظر كل من في المهجع...ولكن شخصاً واحداً لم يوجه أي كلمة ضد العشيرة والعادات العشائرية التي جعلت من تامر قاتلاً.



#أكرم_شلغين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما أجمله ذلك الصيف!
- باقة ورد مرفوضة
- قبر لمن لا قريب له
- ليتها بقيت اسما بدون صورة!
- رحلة في خيال وواقع الصديق المكبوت*
- جارة
- ما يتعمد إهماله أرباب نظام الأسد
- يا كاشف الأسرار!
- من ذكريات الخدمة العسكرية 1983
- حجر لايستجيب وكتاب يهدد!
- هل نميز أنفسنا بالكره في يوم الحب!؟
- الآه الفاشلة
- لقد تنافسوا مع الطاغية على القتل والدمار في سوريا
- استنساخ الوحش في مقارعته
- هموم أبو مصطفى
- كتاب جديد عن علاقة الدين بالدولة
- اغتيال البوطي وخلط الأوراق
- هل نحتاج لثورة على ((الثورة))؟
- العائلة تذهب إلى السينما
- كلبهم...ومخلوقنا


المزيد.....




- الإعلان الأول حصري.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 159 على قصة عش ...
- أكشاك بيع الصحف زيّنت الشوارع لعقود وقد تختفي أمام الصحافة ا ...
- الكويت.. تاريخ حضاري عريق كشفته حفريات علم الآثار في العقود ...
- “نزلها لعيالك هيزقططوا” .. تردد قناة وناسة 2024 لمتابعة الأغ ...
- تونس.. مهرجان الحصان البربري بتالة يعود بعد توقف دام 19 عاما ...
- مصر.. القضاء يحدد موعد الاستئناف في قضية فنانة سورية شهيرة ب ...
- المغربية اليافعة نوار أكنيس تصدر روايتها الاولى -أحاسيس ملتب ...
- هنيدي ومنى زكي وتامر حسني وأحمد عز.. نجوم أفلام صيف 2024
- “نزلها حالًا للأولاد وابسطهم” .. تردد قناة ميكي الجديد الناق ...
- مهرجان شيفيلد للأفلام الوثائقية بإنجلترا يطالب بوقف الحرب عل ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم شلغين - إنه منا وفينا!