حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 4277 - 2013 / 11 / 16 - 12:09
المحور:
الادب والفن
كان يا ما كان في قديم الزمان ، مملكة عامرة إسمها " قرعا " ، إشتد فيها الصراع على السلطة بين المتكالبين عليها ، فشاء القدر الأعمى أن يتسنَّم كرسي الحكم فيها شيخ الخنازير : الآغا " بصو باحا " : المشهور بفرط تبذيره لثروات البلاد ، و هيامه بقطع رقاب العباد المستضعفين ، و تقريبه للأثرياء المطبطبين المتزلفين ، و إنبطاحه للأقوياء الجبّارين .
عاش في تلك المملكة رجل أسمه : "ألحاج" . و كان شجاعاً عالي الهمة ، زاهداً بالحياة ، و يحب خير العمل للجميع ، و يعمل ليل نهار لتحسين أحوال المستضعفين ، و أصلاح سياسات الحاكمين المستبدين . و لوضع النقاط على الحروف ، فقد قرر "الحاج" الذهاب بنفسه مباشرة إلى قلعة الشيخ " بصوباحا " لنصحه ، و لإقناعه - بالتي هي أحسن - بمنح الناس حقوقهم ، و الكف عن إيذائهم بلا مسوغ ، و ذلك لوجه الله تعالى . و لكونه فقيراً و لا يملك شروى نقير ؛ لذا ، فقد إستعار حمار جاره لهذه السفرة الشاقة . كان ذلك الحمار شهيراً بمقدرته على حل المسائل الحسابية النظرية العويصة ، و ولوعاً بإجراء البحوث التجريبية بنفسه لفحص مصداقيتها تطبيقياً . و لقد خطرت على باله صباح ذلك اليوم فكرة المقايسة بين المدخلات و المخرجات في كرش الحمار . و لما كان من الصعب حساب كمية الشعير التي يأكلها ، لذا فقد إختار قياس كمية الماء التي يشرب ؛ حيث عبَّ مياه نافورة المياه الكبيرة الكائنة في فناء الدار كلها بالتمام و الكمال ، و أعتزم التبوّل فيها بالوقت المناسب ظهراً ببولة واحدة للتأكد من مطابقة كمية المياه التي شربها مع كمية إدراره .
ركب " الحاج " حماره المستعار لبلوغ قمة الجبل المهيمن على المدينة ، قاصداً قلعة شيخ الخنازير . طوال الطريق الطويلة الوعرة ، أمضى الحاج الوقت بتقليب و مراجعة فكره بشأن أصول الحكم القربوزية على الطريقة القسطلوزية التي سينوِّر ذهن الآغا بها وذلك عبر تلاوتها مراراً و تكراراً على أسماع الحمار عملاً بقاعدة : التكرار يعلم الحمار . كما لقّنه الحجج العقلية و النقلية التي سيسوقها الحاج لتفنيد الإعتراضات و الإستنكارات المحتملة للآغا و حاشيته ، و حيثيات أنجع الأجوبة الواجب تقديمها بصدد مختلف الأسئلة المحتملة عنها ، و هو يقول مشجعاً : هذا هو يومك يا حاج ، و يومك أنت يا حمار !
بلغ الحاج قمة الجبل بعد ثمان ساعات من المسيرة الحثيثة و المرهقة . عند الباب المفتوح لقلعة شيخ الخنازير ، أحس الحمار برغبة طاغية للتبول لكي لا تنفجر مثانته ، فتوقف عن مواصلة مسيرته عند باب القلعه ، و مارس حقه الطبيعي في التفريغ وسط مدخلها ، و هو آسف و منزعج لأن المقادير لم تسعده باكتشاف مدى صحة فرضيته بتساوي الكميتين في ذلك اليوم ، فقرر إحتساب الثواني التي يستغرقها التفريغ . شاهد الحراس الجريمة النكراء للحمار ، فزعقوا بالحاج ، و صوبوا بنادقهم نحوه ، آمرين إياه برفع يديه ، و إصداره أوامره لحماره بالتوقف عن التبول فوراً ، و الحمار يبول و يحسب . رفع الحاج يديه ، و لكز حماره بكعبيه عدة مرات ، و الحمار يبول و يحسب . عند سماعه زعيق الحراس ، خرج الشيخ مع المدعي العام الأمريكي و زميله البريطاني ، فشاهدوا إستمرار إقتراف الحمار للجريمة الشنعاء الماثلة للعيان أمامه ، فصرخ الشيخ راكضاً بعصاه من خلف الحراس نحو الحمار ليمنعه من إتمام فعلته الشنعاء حتى النهاية . و لكن الحمار العنيد أبى أن يتزحزح عن إتمام مهمته ؛ بل واصل تفريغ مثانته بكل عزيمة و إصرار ، و هو مصمم على عدم إقتراف أي خطأ في عدِّ الثواني التي يستفرقها التفريغ . هجم الحراس على الحاج ، و أنزلوه من على ظهر حماره ، و الحمار يبول و يحسب . في غضون ذلك ، أدرك الشيخ المهرول راس الحمار ، فرفع عصاه يريد ضربه ، و لكنه تزحلق بالبول ، فسقط على قفاه أرضاً . إنفجر الحاج بالضحك على منظره الشيخ بصوت عال ، و أضطر الحمار للمشاركة في الضحك بدافع المجاملة ، فتاه حسابه .
عندها ، أمر الشيخ الحراس بإعدام الحاج و الحمار فوراً على المشنقة المنصوبة في فناء القلعة بجريمة ضحكهما عليه أولاً ، و لتآمرهما على أمن المملكة و مواطنيها بارتكابهما فعلاً إرهابياً عندما سببا الطوفان الكبير في باب القلعة ، و هو الأمر الذي عرَّض حياة المواطنين الآمنين العزل للخطر المميت حسبما قال المدعي العام الأمريكي و أيده صاحبة البريطاني . دافع الحاج بقوة و حماسة عن سلامة موقفه بأبلغ العبارات و الحجج و الطعون ، و لكن دفاعه القوي و البليغ هذا لم يثن الشيخ عن إصراره على تنفيذ الإعدام به ، فتم شنقه حالاً ، و عرضوا جثته للفرجة في ساحة القلعة ليكون عبرة للمعتبرين ممن قد تسول لهم أنفسهم إقتراف جرائم الإرهابيين المماثلة مستقبلاً .
في غضون ذلك ، تجمهر عدد متزايد من الناس في ساحة القلعة ، و تحلّقوا حول جثة الحاج الزاهد الشجاع المشنوق ، و سألوا الحمار عن ماهية الموضوع ، فأسهب هذا في شرح تفاصيل القضية ، دون أن ينسى تجربة المقايسة بين المدخلات و المخرجات من المياه في كرشه . إندهش الجمهور أولاً ، ثم تحولت الدهشة إلى إستهجان ، و الإستهجان إلى هتافات عالية حالما تقدَّم الحراس لتنفيذ حكم الإعدام بالحمار . عندها ، منع الجمهور الحراس من الإقتراب من الحمار ، و أحاطوه بسد بشري أولاً ، ثم رفعوه على الإعناق ، و أخرجوه من القلعة . بعدها ، طافوا به أزقة الأسواق العامه ، هاتفين له و معددين بطولاته الخارقة ، بإعتباره الحمار المناضل نصير المظلومين ؛ و تركوا جثة المشنوق الشجاع . و لحماية الحمار المناضل من بطش الشيخ مستقبلاً ، فقد نقلوه إلى مضيف " ألحواتم ألماتِنْرَد " المنيع لكي يمرح و يلعب و يمارس هوايته في العد و الحساب هناك على هواه بلا حسيب و لا رقيب .
فرح الحمار بموقعه الجديد ، خصوصاً و أن ما من أحد هناك قد تجرأ على إمتطائه ، على العكس مما كان يحصل من قبل . و نسي الحاج المشنوق و تلقيناته ، و أنهمك بحل المسائل الحسابية المعقدة بكل جد و إخلاص .
كان مضيف " ألحواتم ألماتِنْرَد " يقع على قمة جبل أرتفاعه كيلومتراً واحداً عن الوادي الفسيح تحته . و بسبب تعقد تضاريسه الجبلية ، و وعورة المكان ؛ لذا ، فقد كانت الطريق المؤدية من قمة الجيل لقعر الوادي مليئة بالأنعطافات التي إعتاد العامّة من غير المتعلمين على تسميتها بـ "اللوفات" ، بدلاً من "الإلتفافات" .
من مكانه على القمة ، قرأ الحمار المناضل اللافتة التحذيرية المعلقة في أول الطريق النازلة للوادي :
خطر مميت !
طريق ترابية وعرة بطول (1) كم !
عطفة واحدة في كل (10) أمتار !
شمَّر الحمار المناضل عن ساعديه ، و قرر إحتساب تطابق العدد الفعلي للإنعطافات مع النص المثبت في اللافتة . أخذ الطريق النازلة و هو يحسب بدقة و نباهة كل الإنعطافات ، فكانت النتيجة : ( 99 ) أنعطافة فقط ! تصور أنه قد أخطأ في الحساب ، فعدَّ الإنعطافات صعوداً : ( 99 ) فقط ! واحدة مفقودة ! واصل الحمار المناضل ، كل يوم و شهر و سنة ، عمليات العد و المقارنة ، و الصعود و النزول ، و صار له جمهور يشجعه و يطبل له و يربت على قفاه ، و الحمار المناضل يصعد و ينزل و يحسب بلا طائل .
في آخر يوم ، سأله زائر جديد - قديم للمضيف :
- إيها الحمار المناضل ، هل تستطيع أن تقول لي : إلى متى تبقى نازلاً صاعداً كل يوم و أنت تتسلّك المنعطفات و تلف و تدور في هذه الطريق الوعرة ؟
رد عليه الحمار المناضل :
- نعم ، أستطيع ! إلى أن أعثر على الإنعطافة المفقودة ! و سأجدها حتماً !
النجف الأشرف ، 15 / 11 / 2013
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟