ياسر اسكيف
الحوار المتمدن-العدد: 1199 - 2005 / 5 / 16 - 11:04
المحور:
الادب والفن
( تأبيد المراهقة )
لقد اختصر نزار قبّاني المرأة , في واحدة من الزوايا التي اختارها للتصوير , إلى نهد وشفاه , حلي وملابس . إنّه عنى وخاطب , بل صوّر جزءاً محدّداً من النساء , يتمتعن بميّزات جسدية , جسدية فحسب , تضعهن على رأس السلّم الجمالي , الذي أقرّته , بالتأكيد , الإرادة الذكورية . وعلى هذا الأساس تنتفي كلّ الميزات والصفات الأخرى التي تجعل من المرأة كائناً إنسانياً جميلاً , وأقصد تلك الميزات التي يشترك فيها كل من الرجل والمرأة , كالذكاء والمعرفة ولإحساس بالمسؤولية ورهافة الحس .... الخ , بمعنى آخر , كل ما اصطلح على التعبير عنه ب (الروح الجميلة ) أي الصفات التي تخص الجدارة وليس الممنوحة دون جهد .
( هذا الذي بالغت ِ في ضمّه ِ
أثمن ما أخرج َ للعالم . – الأعمال الكاملة ص68 )
لا يخفى على أحد بأن ما قصده الشاعر من المبالغة في الضمّ هو النهد . وحينما يكون النهد هو أثمن ما تخرجه المرأة للعالم , أو ما أخرجته قدرة أخرى , فلا بدّ حينها من التفكير بغثاثة الإبداع الأدبي والفتني والعلمي الذي أخرجته النساء للعالم حينما نوافق الشاعر على قوله السابق . ذلك القول الذي يوجّه للمرأة إهانة لا تخفى إذ يختصر بالنهد كلّ ثمين فيها , إنّه المنطق الذي يمارس قتلاً متعمّداً يطال شهرزاد , شهرزاد التي لم تقدّمها الحكاية كإمرأة جميلة ومثيرة وغانية , شهرزاد التي لا تنال علامة واحدة لو طبّق عليها قانون انتخاب ملكات الجمال , هذا القانون الذي صاغه الذكور , بكل ما يحمل من عنصرية وتحيّز لأنه لا يقيم اعتباراً للإمكانية , بل للعوامل الوراثية المحضة .
لكنّ شهرزاد تملك بالمقابل كمّاً هائلاً من المعرفة والحكمة فقد ( قرأت الكتب والمصنّفات والحكمة , وكتب الطبيّات , وحفظت الأشعار وطالعت الأخبار وعلمت أقوال الناس وكلام الحكماء والملوك , عارفة لبيبة حكيمة أديبة .... – ألف ليلة وليلة – المكتبة الشعبية – ص66 )
واستطاعت بذكائها وحسن استخدامها لمعرفتها أن تروّ ض الوحش الدموي الذي تعملق في ذات شهريار . إنها لم تستخدم عناصر الإثارة الجسدية أبداً , كتأكيد على أن هذه العناصر من السهل أن تكون مملوكة بامتلاك حامليها , وبالتالي يكون اعدامها ممكناً وسهلاً .
والغريب أن أغلب النساء العربيات القارئات والمستمعات احتفلن احتفالاً مجنوناً بصورتهن , التي صاغتها وأبرزتها أشعار نزار قباني , كنقيض لصورة شهرزاد , وإعادة إاتاج زوجة الملك شهريار , المرأة الجميلة المثيرة , ولكن المملوكة التي تتمرد ضد امتلاكها , وهنا لا بدّ أن تتجلى لنا وحدة الحال الوهمية التي تجمع المرأة العربية مع زوجة شهريار , والتي أرى في تجربة نزار قباني محاولة حثيثة لتبديد وهم هذه الوحدة ودفع المرأة العربية لتكون تلك المرأة بعينها , ذلك أن النص القباني في الكثير من أجزائه يعيد إنتاج تلك المرأة على أنها النموذج الأسمى والأروع للجمال .
( أجمل مافيك هو الجنون
أجمل ما فيك – إذا سمحت لي –
خروج نهديك على القانون . – أعمال كاملة ص769 )
مرّة أخرى , أجمل ما في المرأة هو خروج نهديها على القانون , وليس خروجها ككائن مستقلّ وذات فاعلة على قانون الحريم والجهالة والاستعباد , تلك التي لن تكون بالعري على أيّة حال , بل باكتساب وعي مختلف ومغاير عن النسق المعرفي الذي يكرّس العبودية والإلغاء .
وأعتقد بأن أي صوت تعنيه حريّة المرأة , ويهمّه رفع الحيف اللاحق بها وانخراطها في المجتمع كفاعليّة لا كحياد , أن يثمّن الجوهري فيها ويدعوها لامتلاك الأدوات التي لا يمكن تجريدها منها .لقد فعلت زوجة شهريار ما يطلبه نزار قباني من المرأة , فلم تؤكد الجمال بإخراج نهديها على القانون فحسب , بل أخرجت جسدها كلّه ومنحته لنقيض الملك . منحته للعبد في ممارسة تقصد نفي امتلاكها وعبوديتها . إن أمراً كهذا يمكن فهمه والتعاطف معه باعتباره انعتاقاً وخرقاً لقانون الحريم , لكنّه خرقاً شهوانياً وانعتاقاً آنيّاً اتّخذ بعداً إنتحارياً وانتهى دون أن يكرّس تجربة يمكن التوقف عندها . والسبب كم نرى يعود إلى أن الشهوانية الجسدية المعزولة عن ملكات الجسد الأخرى هي نحو غريزي محض , وبالتالي نكوص وارتداد فيما يؤمل من مقدرات الجسد .
إن نزار قباني في إحيائه المرأة المقتولة , التي لم تكن تتمتع بأيّة مؤهلات غير جسدية , قد جعله المنتصر الأول لنساء الحريم , والمراهقات منهن على وجه الخصوص . ذلك إن المراهقات يكنّ في طور التّشكل والبحث عن الانخراط في الفعالية الاجتماعية , كائنات لا تتمتع بعد بأية مؤهلات فاعلة , وتعيش في حالة انعدام للوزن باحثة عن كينونة وتحقّق . وعلى الرغم من ذلك يكنّ محطّ إعجاب واندهاش . وفي الأعمّ الغالب يكتفين بما يمتلكن من مكامن الإعجاب دون أن يدركن أن العبد واقف خلف الباب وسيف شهريار متعطّش للدم .
إن الارتسام و التموضع اللذين تنوجد المرأة حسبهما في النص القباني هو حالة من تأبيد المراهقة وتحصين المرأة ضد النضج والتطور . ذلك لأنها في حالة النضج ستصبح ذاتاً تتحرك دوماً باتجاه تحقيق الاستقلال , مستخدمة في حراكها وصراعها كلّ ما امتلكته من إمكانات وأدوات تقرّبها من ذلك الاستقلال الأمر الذي يجعلها تقترب من التعرّف والتعيّن بذاتها بعيداً عن مقاييس الرجل , الرجل الذي يتحاشى الارتباط بالمرأة الذكية الناضجة , المرأة التي تدرك وتعي أن عنصر قوّتها الحقيقي لا يكمن في مفاتنها الجسدية وحسب , بل في القدرة على إدارة واستثمار طاقات الجسد الذي تمثّل الطاقة الجنسية جزءاً محدّداً منها .
إن صورة المرأة السابقة , حفيدة شهرزاد , غائبة كلّ الغياب عن التجربة الشعرية لنزار قباني والحاضرة في تلك التجربة هي المرأة التي تحيي في كلّ لحظة طقوس المراهقة وهشاشتها , المرأة التي تبدّل أثواباً بعدد ألوان قوس قزح , المدركة أن لا ملكات لديها , وأن جسدها هو رأس مالها الوحيد . إنها امرأة لا يربطها بجدّتها شهرزاد أي خيط , فهي حتى في لحظات حريّتها الوهمية , التي يمكن أن تمارسها كتابة فوق صفحات كرّاستها , نجدها لا تفكّر إلا بحرية منقوصة , حريّة جسدها وليس غيره .
( خلوت اليوم ساعات إلى حسدي
أفكّر في قضاياه
أليس له هو الثاني قضاياه . – الأعمال الكاملة ص 590 )
إن من يقرأ المقطع السابق يخال له وكأنما يسمع صوت امرأة طحنتها هموم الحياة واستغرقتها المسؤوليات والمشاكل , إنها امرأة أهملت جسدها ونسيته في خضمّ انشغالاتها المهنية والفكرية . ولكننا ونحن نعلم أن التي يقوّلها الشاعر هذا الكلام هي محض مراهقة تمارس الحرية في الحلم , فإننا ندرك أن هذا الكائن لا قضية لديه سوى جسده , ولنقل إشباع رغباته الجسدية . وهو حلم الشاعر وأمنيته التي يحاول دوماً أن يثبّت المرأة في إطارها المذهّب . وحينما نتعرّف على القضايا المهمّة والعالقة التي تخص جسد هذه المراهقة :
( لمن صدري أنا يكبر ؟
لمن كرزاته دارت ؟
لمن تفّاحه أزهر . ص589 )
نجد أن تلك القضايا المهمّة , أو التي تبدو مهمّة , هي أسئلة الشاعر وليس المرأة , لأن نزار قباني في صناعته للمرأة لم يجرؤ على صناعة المرأة المتمردة الساعية إلى خلاصها , ولم يلامس الهموم الحقيقية لدى المرأة , إنما سعى على الدوام لتكريس النموذج النسوي الذي يتطابق مع رغبته , وحمله ما يريد أن يراه فيه . لقد صنع بكلّ بساطة امرأة دمية وببغاء , امرأة تكفّ عن الكون امرأة ً بمجرّد أن يبتر نهداها . امرأة لا تفيدها شهاداتها العلمية , ولا حياتها المهنية , ولا انخراطها الفاعل في النشاط الاجتماعي , ما دامت لا تملك صدراً عارماً ومؤخرة مكتنزة .
هذا هو النموذج النسوي الذي أبدعه نزار قباني وجعل آلاف الفتيات يحلمن لو كنّه . وهذه هي الكيفية التي يدعو فيها النساء إلى التحرّر , لأنها الكيفية الوحيدة التي تجعل من حريّتهن كذبة وخدعة , وهذا ما ينسجم تماماً مع الرؤى المختلفة التي تشكّل المرأة في التجربة القبانية , المرأة التي تتمتع باجتماع الحجاب والعري في ثنائية فصامية شأن جميع الثنائيات الأخلاقية التي يتبادل قطباها المواقع في الضوء والعتمة . فالمراهقة الأبدية التي صاغتها وخلقتها وأبّدتها التجربة القبانية قد مسخت الفعالية الإنسانية إلى مجرد إغواء وفعل جنسي . وهذه أفعال لا تتطلب مهارات خاصّة , شأن الإيمان , ولا تتطلب كفاءات واختصاصات علمية أو أدبية , شأن أي فعل غريزي . وهنا يتجلى الحجاب المقصود , المتمثل بإلغاء العقل , أو الإقلال من شأنه عبر التأكيد المستمر والمتواصل عبر تأليه الحسد وتبجيل عريه . وفي العودة إلى المقطع السابق نلاحظ أن الفهم الذي يقدّمه نزار قباني عن إحساس المرأة بجسدها لا يأتي من اعتباره جسدها الذي يخصّها والذي ترتبط معه بحميمية , بل بكونه شيئاً معروضاً للاستخدام وقيمته تأتي من زيادة الطلب عليه كأي سلعة , وحينما لا يستحوذ عليه رجل أو يسعى إلى ذلك فوجوده لا يتأكد .
والأمر السابق يجد تفسيره وتأكيده في النموذج النسوي الفصامي الذي تكونه تلك المرأة , المرأة الباحثة عن أو الساعية إلى الحريّة , حسب الطريقة القبانية :
( أنا أنثى
نهار أتيت للدنيا
وجدت قرار إعدامي . – الأعمال ص579 )
ولأنها أتت إلى الدنيا في ( شرق المشانق والسكاكين ) كما يصوّرها الشاعر , فمن الطبيعي أن تفكّر بالفرار الذي يقودها إلى النجاة :
( أريد أفرّ من شرق الخرافة والثعابين
من الخلفاء .. والأمراء
من كلّ السلاطين . –الأعمال ص597 )
ولكن الذي يثير الاستغراب والعجب أن هذه المرأة تؤثر شرقها / مدينتها / أي تؤثر قاتلها ومشنقتها . فأيّة امرأة هذه , وهل هي أكثر من مشجب لتعليق أوهام الشاعر , أو مرآة تعكس تمزقه وفصامه بين عالمين أحدهما ينفي الآخر ويلغيه . الأول هو عالم الحرية الذي يحقق له الحصول على أكبر عدد من النساء دون الاصطدام بحاجز التعصب والتزمت والانغلاق , والثاني هو عالم التملك ولاستحواذ أي ديمومة حقيقة الحريم الذي قد تتيح الحرية جمعه . ولأن المرأة في شرط الحرية لا يمكن أن تكون مملوكة , فإن الشاعر يسعى لخلق وتكريس وتعميم نموذجه الحريمي الذي لا تعني له الحرية سوى حريّة الجسد , وبالتالي فهو أسير هذه الحرية المشروطة وعبد فضائها المتمثل بالجنس أي الرجل .
#ياسر_اسكيف (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟