ياسر اسكيف
الحوار المتمدن-العدد: 996 - 2004 / 10 / 24 - 12:11
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
من اللافت أن التشخيص الحداثي لمنعطفات الماضي يمر , لدى أدونيس , دون عثرات كبيرة , أو لنقل , بقليل من التناقضات , على عكس التشخيص الحداثي المعاصر . والسبب برأينا هو أن قراءة تلك الحداثة وتشخيصها قد جاءا بعدها , أي أنهما كشف للظاهرة وليس ادّعاء إحداث لها . وهنا يصحّ قول أدونيس في إعادته مبدأ الحداثة العربية إلى العصر العباسي حيث ( تولّدت الحداثة تاريخياً , من التفاعل والتصادم بين موقفين أو عقليتين , في مناخ من تغيّر الحياة ونشأة ظروف وأوضاع جديدة . –صدمة الحداثة ص11 ) وكذلك إقراره بأن ( الحداثة قد بدأت مع التصادم بين العقل العربي والعقل السرياني الآرامي البيزنطي الرومي . – المصر السابق ) .
إن الذي نلاحظه في قولي أدونيس السابقين هو إرجاع الحداثة , كظاهرة حاصلة ومنتهية , إلى مسبب رئيس يختصر بالتصادم العقلي , وكأنما الحداثة هي تكيّف مع معرفة جديدة عند التماس مع الآخر والتعرّف إليه . أو أنها محاولة جعل الثقافة الغريبة جزء من السياق الثقافي المعرفي للأقوى – المنتصر .
والآن , كيف سنفهم قول أدونيس عن الحداثة , حينما يصاغ على الشكل التالي : الحداثة هي لحظة التوتر , أي التناقض والتصادم بين البنى السائدة في المجتمع وما تتطلبه حركته العميقة التغييرية من البنى التي تستجيب لها وتتلاءم معها . – فاتحة لنهايات القرن العشرين . ص321 .
إن القول السابق ليس تشخيصاً لظاهرة قائمة , بل هو افتراض وتصور , وهو في الوقت ذاته صياغة مواربة للوعي والوعي الطبقي كما يراه ( جورج لوكاش ) . فالبنى صاحبة المصلحة بالثبات هي بالتأكيد البنى المسيطرة ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً . فيما تكون البنى المسودة هي صاحبة المصلحة في التغيير , أو المفترض بها أن تكون . ولأن تلك البنى ليست كذلك , أي أنها بعيدة كلّ البعد عن وعي مصلحتها في التغيير أو حتى الاستجابة له . هنا يأتي التحميل الأيديولوجي ألقسري والمرهق لهذه البنى , ومعه يأتي التناقض والخلط المدهشين بين الحداثة والتنظير للتغيير الثوري .
من المؤكد والواضح , حتى على لسان أدونيس ذاته , بأن البنى المسودة لا تعيش أي تناقض أو تصادم مع محمولات ثقافية أخرى , وإن عاشت , فمع محمولات الغرب المصدّرة إليها , والتي يرى الجميع أنها قيم الحداثة .إذاً التناقض يعيشه المثقفون الذين يرون في التغيير ضرورة تاريخية للكون في العالم , وهذا التناقض مركّب لأنه يقيم تعارضه مع ثقافة البنى المسودة , التي يرى أن التغيير من مصلحتها , ويقيم ذات التعارض مع ثقافة البنى السائدة . ولو تمعنّا في الأمر لوجدنا ثقافة البنيتين واحدة . هنا يبرز دور الوصاية , التي كانت وما تزال قاتلة التغيير والتجديد , فما بالنا بالحداثة والتحديث .
إن أدونيس يفترض مجتمعاً عربياً يتحرّك نحو الحداثة . ولكن كيف ؟ بقوة التناقض التي افترضها بين البنى , والتي أقام عليها فرضيته في نشوء الحداثة ؟ إن الجواب بالنفي يعني إدخال فاعل جديد إلى ساحة النشوء الحداثي . وهذا الفاعل هو الطليعة الطامحة إلى التغيير , وهو قول يجد ترجمته في الأدبيات السياسية باسم ( الطليعة الثورية ) .
يقول أدونيس – صدمة الحداثة ص 240 - إن المجتمع العربي ( ما يزال في بنيته الأيديولوجية الغالبة , مجتمعاً تقليدياً , غير أنّه مع ذلك , يتحرّك أيديولوجياً , بقيادة أقلية طليعية نحو الحداثة . )
يشير القول السابق إلى أن أدونيس يتحدث عن نمط آخر من الحداثة الذي عرفناه في طروحات ( شعر ) , بل ويمكن القول يتم عن شيء آخر غير الحداثة كليّاً , هو الثورة أو التقدم أو التحديث , ذلك أن الحداثة لا تحتمل مقولات كالطليعية والمستقبلية أو غيرها , فهي ببساطة متناهية ( الآن – هنا ) وهي العبارة التي احتلّت غلاف العدد ( 35 )من مجلة ( مواقف ) الصادر في ربيع العام 1979 والذي تمحور حول ( الحداثة في الفكر والأدب )
إن مقولة ( الآن – هنا ) أو تنويعاتها , تلخّص وتكثّف معنى الحداثة , وتنفي عنها أية صفة مستقبلية أو طليعية , وهذا ينسجم مع مع الخصائص التي استخلصت من الحداثة الأوربية , تلك الحداثة التي جاءت كفائض تحديث .
في الوقت الذي يفترض بالحداثة العربية ( المزعومة ) أن تخلق فائضاً من لاشيء ( سوى بعض الأفكار القابعة في أذهان المثقفين ) وتجعل هذا الفائض من اللاشيء يخلق التحديث الذي يفترض به أن يولّد الحداثة .
ليست حكاية إبريق الزيت بأي حال . بل هي بذرة الخراب التي ابتليت بها هواجس التحديث والرغبات الحداثية , والتي طالما دأب أدونيس على الدوران حولها , من أجل إزالة التناقض والعقم المحكومة بهما , واللذان يهددانها بالقتل .
لقد تمسّك أدونيس ( دون أن يقدّم برهانه على ذلك ) بمبدأ التطور اللامتساوي بين الوعيين الفني والاجتماعي , على اعتبار الأول نتاج فردي , فيما الثاني نتاج عام . وبالتالي يمكن لشعر حداثي أن يوجد في مجتمع متخلّف لأن من الممكن وجود أشخاص حداثيين في هذا المجتمع , وكأنما الحديث يتمّ عن ( موديلات ) وليس عن ظاهرة , أو كأنما الأمر مجرد رغبة شخصية وليس نتاجاً لبنية تداخلت في تكوينها مجموعة من العوامل التي لا حصر لها .
انها الطليعية , الطليعية الثورية التي ادّعت حمل مهمة تثوير المجتمع وتحريره من السلفية والتقليد على عاتقها .
عند هذه النقطة يلتقي أدونيس مع الماركسية , مستعيراً مفرداتها وأدواتها التحليلية , حتى لو لم يعترف بذلك , وبقي على ادعائه بأنه فوق الأيديولوجيات . وهكذا نرى حداثة أدونيس , التي آمن بها الآخرون على أنها الحداثة فعلاً , ونسبوا إليها من العظمة ما لم تنسبه إلى نفسها , متحولة إلى طليعية بائسة لا تفعل سوى تعزيز الهوّة بين الطليعة المثقفة , التي احتفل بها أدونيس وغيره , والسواد الأمّي المتخلف . ذلك أن هذه الحداثة الأيديولوجية الفاقعة , تتجاور في طابقها مع فاعلات أحرى أشد منها تأثيراً نتيجة انسجامها الأكبر مع السياق . وباتت هذه الحداثة أيديولوجيا مقابل أيديولوجيا , في الوقت الذي انطلقت فيه الدعوة إليها كفعالية أدبية تتموضع فوق الأيديولوجيات .
وبالتالي فلا عجب أن يعترف أدونيس في العام 1992 بأن التأثر العربي بالحداثة الأوربية كان ( تأثراً سطحياً وشكلياً ) ويقترح إعادة النظر بالمسار الذي اتخذه هذا التأثر , وبشكل خاص فهم الحداثة , الذي بات يستدعي
( تفكيك وتحطيم كلمة الحداثة التي صارت مبتذلة بلا معنى ) . فهل يعني أدونيس بكلامه ( المنشور في مجلة راية الاستقلال – عدد12 – 1992 ) أننا عشنا الحداثة بذات الشكل الذي تداولنا فيه المصطلح , والذي كان أدونيس شيخ المروجين له , وبذات الطريقة التي مورست بها كنص للحياة . أي بكل أسف , وهم وعطالة ! !
وهل يمكن اعتبارها دعوة إلى تحطيم المفهوم , الملتبس والدعي , الذي طغى بصفتيه السابقتين على الثقافة الطليعية العربية ؟ أم هي دعوة لإعادة القراءة , وبأكبر قدر ممكن من المسؤولية , للأشكال والمواقع التي تموضع حسبها وفيها ذلك المفهوم , كواحد من مكونات السياق الثقافي والمعرفي خلال نصف قرن أو يزيد , ودراسة أفعال التضليل التي أحدثها في مساحات اشتغاله ضمن الأنساق التي احتلّها ؟
أسئلة لا أعتقد بأن أدونيس قد يجيب عليها . غير أن ذلك لا يقلّل من إصرارنا على طرحها والبحث , قدر الممكن , عن إجابات , نطمح أن تكون حبلى بالأسئلة .
#ياسر_اسكيف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟