|
الغربان و الحمير
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 4023 - 2013 / 3 / 6 - 22:20
المحور:
الادب والفن
كان يا ما كان ، في قديم الزمان : سفينة يقودها أخطبوط نتن ، أزكمت جيفته سرباً من الغربان الغريبة الذي حطَّ – وسط عاصفة هوجاء – على أعمدة أشرعة السفينة بعد سفر بحري طويل ، فانقضّوا عليه بحجارة السجيل ، و قتلوه ، بعد أن دمَّروا بفضاعة و بشاعة غير معهودة أجزاء حيوية من السفينة ، و نصَّبوا قائدهم "سام" سيداً جديداً عليها . و بعد أن إستتب الأمر للغربان ، و تمكنوا من المكان و الحيوان ، راح الحاكم الجديد "سام" يتمشى متبختراً على متن مركبه المدمَّر ، و راح العديد من الدواب ينبطح أو يركع أو يسجد له ، إلّا حَمامة فاتنة صغيرة حطت على قمة الصارية ، فطار إليها "سام" ، يريد خطب ودِّها . - هاهاها ! هاي ، أيتها الجميلة ؛ أنا "سام" ملك الغربان ، و سلطان كل أرجاء هذا المكان . قولي لي ما أسمك ، يا حبيبتي الصغيرة ؟ - لا أهلاً ، و لا مرحباً بك ، يا غراب البين ! كيف تتجرأ على مناداتي بإسم "حبيبتي" ، و أنت غراب غريب ، و منقارك ملطخ بالدماء ؟ ألا تستحي على شيبتك ؟ - هاهاهاها ! هم ؟ ما ذا تقولين ؟ شيبتي ؟ و لكن ، يا جميلتي ، أنت و أنا و الرب يعلم أن الغراب لا يشيب ! - إلّا غراب البين الملطخ بالدماء . إذهب ، و أنظر إلى نفسك بالمرآة ! ولَي ! تفو ! ما أن أنهت الحمامة الفاتنة جملتها الأخيرة ، حتى سارعت بالتحليق بعيداً ، تتبعها أسراب من الغربان الغريبة التي تتوسل إليها – دون طائل - بالتريُّث ، و بتحكيم العقل ، و عدم تفويت الفرصة السانحة لنيل الحظوة الثروة و الجاه و السلطة .. أسرع "سام" بالطيران إلى قمرة القيادة - الذي أغتصبها من الأخطبوط المقتول - و توجه حالاً إلى المرآة . نظر مليّاً إلى نفسه ، و لشدة إستغرابه ، فقد شاهد أن الشيب قد إحتل جلَّ رأسه . إرتاع للأمر ، فاستدعى هيئة أركانه ، و عرض عليهم مشكلته ، و هو يرتجف فَرَقاً و هَلعاً . أجْرت هيئة الأركان إتصالاتها السريعة بمملكة جزيرة الديناصور المنقض ، البعيدة ، و استدعوا الحكماء و العلماء منها على وجه السرعة . حطَّ الحكماء و العلماء على متن السفينة ، و توجَّهوا حالاً نحو القائد في قمرته ، و تفحَّصوا شيب "سام" من الأمام و من الخلف ، و من اليمين و اليسار ، ومن فوق و من تحت . ثم نتفوا ريشةً رماديةً من رأسه ، و وضعوها تحت المجهر ، و فحصوها ، و سجّلوا المعلومات ، و "سام" يَفْرَق . ثم أحرقوها بمصباح بنزن ، و تفحَّصوا رواسبها ، و سجَّلوا المعلومات ، و "سام" يختض كالسعفة في مهب الريح . ثم تكلم رئيس الحكماء : - يجب أن ننسحب – نحن كلنا – من هذه السفينة حالاً ، يا سيِّدي الحاكم ! - هاهاها ! و لم ذلك ؟ - هذه المملكة موبوءة بإشعاعات قاتلة في كل مكان ! إنها لا تصلح للسكن البتة ، و هي خطر كبير على الحياة ! - هاهاها ! و من أين أتت هذه الإشعاعات اللعين ؟ - من حجارة السجِّيل التي قذفناها عليها قبل إحتلالنا لها ! - هاهاها ! هل تعني أن الإحياء في هذه السفينة معرضون للخطر ؟ - نعم ، سيِّدي ! - هاهاها ! كلهم ؟ - كلهم ، بلا إستثناء ، و لألف سنة قادمة . - هاهاها ! ألا يمكن عمل شيء بهذا الشأن ؟ - يمكن جمع أتربة حجارة السجّيل ، و رميها في البحر ! - هاهاها ! و لماذا لا نقوم بذلك ؟ - الأمر يقتضي صرف مبالغ طائلة ، في سيرورة خطرة و شاقة و طويلة الأمد ؛ و عندها ستتنبه الفضائيات إلى فداحة الكارثة حتماً ، و سنواجه مشكلة الدعاية السلبية ضدنا ، و التي ستسيء لسمعتنا الممتازة و لصفحتنا البيضاء عند أهل المعمورة . - هاهاها ! هذه المعلومات ، ألا تشكل خطراً على أمننا القومي ؟ - نعم ، يا سيِّدي ، أنها مصنفة كمعلومات غاية في السرية ، لا يطلع عليها غير المسؤولين الكبار ، وأنت واحد منهم ، سيِّدي ! - هاهاها ! طيب ، ما العمل ؟ - يجب الإنسحاب من هذا المكان حالاً . - هاهاها ! و لمن نسلم دفة القيادة ؟ - للحمير ! - هاهاها ! و لماذا ؟ - لسببين جوهريين ! - و ما هما ؟ - السبب الأول هو أن صوت الحمار عال ، و لا يعني أي شيء غير الرغبة في النكاح عندما يكون وحيداً و لا توجد حمارة في الجوار ! - هاهاها ! و ما الفائدة في ذلك ؟ - سيستطيع خداع السامعين بإعطائهم الإنطباع بكونه مثقَّفاً و قويّاً أميناً ! - هاهاها ! هم ! طيب ، و السبب الثاني ؟ - لكونه يَحْرُن على هواه بدون أي سبب واضح ، و يصبح غير قادر على السير على الدرب خطوة واحدة دون اللكز القوي المتكرر ، و التهديد الصارم المتجرجر ! - هاهاها ! و ما الفائدة في ذلك ؟ - سيقبل بتوجيهنا له بالتحكم عن بعد ! - هاهاها ! عظيم ، و أي الحمير نختار ؟ - نربط الحمار الأجرب على يمين الدفة ، و الحمار الأعرج على يسارها ، والحمارة الفتية البيضاء في الوسط . - هاهاها ! و لماذا نربط الحمارة في الوسط ؟ - لكي ينشغل كل من الحمارين بمغازلتها و نيل رضاها ، فيتركان مقادير السفينة تأخذ مجراها الطبيعي ! - هاهاها ! يبدو أنك اليوم يا رئيس الحكماء في لحظة تجلي ربانية ؛ ذكِّرني كي أرفع توصية لرئيسي بمنحك و"سام" شرف الحفاظ على بيضة الصحة و الأمن ! - جزيل الشكر ، يا سيِّدي القبطان . كما أن هناك حَسَنة أخرى في هذا التدبير ، يا سيِّدي ! - غَرِّدْ ! - بما أن كلاً من الحمار الأجرب و الأعرج سيسلمان خصيتيهما للحمارة البيضاء ، عندئذ سنستطيع توجيههما بواسطتها نحو الصراط المستقيم . - هاهاها ! تفكير سليم ! و لكن هل أنت متأكد أن هؤلاء الحمير لن يقودوا السفينة للغرق ، و ركّابها للهلاك ؟ - يا سيِّدي : فلتغرق ، و إلى جهنم ، ثم ماذا ؟ بما أن هذه السفينة ستبقى منطقة موت للأبد ، لذا يجب علينا أن ندع نار ركّابها تأكل حطبهم حسب مبادئ القانون و الشرعية الدولية . أما نحن ، فكفانا ما أصابنا من ضرر رهيب غير مسوّغ . فلننسحب منها الآن و بدون تأخير ، و ليكن ما يكون ؛ فلنا الصافي ! - هل تسمح لي بالتدخل ، سيِّدي القائد ؟ - تفضل ، يا مسؤول الإستخبارات . - أعتقد أن تسليم دفة السفينة للحمير بهذا الشكل سيكون خطأً فادحاً جداً على مصالحنا و مصالح هذا المكان و مصالح رعيتنا من الدواب ، يا سيِّدي ! - و كيف ؟ - أولاً ، لأن الحمير دواب شديدة الغباوة و يستحيل أن تكتسب أي خبرة بقيادة أي شيء ، لذا لا يجوز مطلقاً تسليمها دفّة القيادة لكونها دواب تُقاد و لا تقود . ثانياً ، لأن الحِمَارين الأجرب و الأعرج هما من أغبى بني جنسهما طُرّاً ؛ و لا همَّ لهما سوى إقتناء البراذع و الخلاخيل الغالية و التبختر بها ؛ و النكاح ليل نهار و فمهما مملوء بالحشيش . ثالثاً : هذان الحماران خصمان عتيدان عنيدان ، فإذا ما قال أحدهما في الليل : "القمر بدر هذا الليلة" ؛ ردَّ عليه الثاني : "ألا تستحي من الكذب ، أيها الدجَّال ؟ ألا ترى أن تلك هي الشمس ، و ليس القمر ! " و هذا يعني أنهما لن يتفقا على أي قرار البتّة ، و سيتسببان في شلل القيادة العليا على المركب كله . ثالثاً ، و أخيراً ، فإن الحمارة البيضاء معروفة بكونها دابّة قويَّة الإرادة و شَموس و مستقلة بنفسها ، و هي لا تسمح لأي حمار أن يمسسها أو يتدخّل في شؤونها ، رغم أنها تدس أنفها في أتفه الأمور ، كما أنها لا تشبع من أكل الحشيش و سرط رحيق أغلى الأثمار حتى أصبحت تشبه البغال ! - هاهاها ! مدهش ! أكمل ، أكمل ، أيها السيد المستشار ! - فإذا ما سلّمنا القيادة لهذه العصبة الغرَّة المتباغضة و المتغاضبة ، فسينشغل الحماران بجلب أكبر كمية من الحشيش و الأثمار لكسب ودِّها ، لتتضور بقية الدواب من الجوع ، و لن يحصلا منها على شيء بالمقابل . و عندئذ ، سينشب الصراع بين الحمير الثلاثة ، و قد تنشب الإشتباكات بينهم ، فينهش أو يركب أو يركل أحدهما الآخر من مكانه في القيادة ، فتنكسر الدفّة ، و تضيع السفينة متهادية في لجّة الأمواج المتلاطمة كريشة في مهب الريح . - أنا أؤيد كلام السيد مسؤول الإستخبارات ، فبصفتي عالم نفس متبحِّر و مجتهد ، فقد كرَّست كل وقتي منذ نزولنا هنا لدراسة نفسيات مخلوقات هذا المكان ح و تبين لي أن الدواب الثلاث موضوع حديثنا هذا كلها تعاني من أمراض نفسية خطيرة و نادرة ! - هاهاها ! صحيح ؟ و كيف يا مستشار ؟ - الحمار الأجرب يؤمن إيماناً مطلقاً بكون التراجع إلى الخلف بالإنحراف شرقاً هو بعينه التقدم إلى الأمام غرباً ! - هاهاها ! مدهش ! أكمل ، أكمل ، أيها السيد المستشار ! - في حين أن الحمار الأعرج يعتقد أن الإنحدار للأسفل بالإنحراف نحو الشمال هو بعينه الإرتقاء إلى العلا ! و هذا يعني أننا ، إذا ما ربطناهما سويّة ، فسيسيران بالسفينة إلى الخلف نحو قاع أعلى جبل من جبال الأمواج المهلكة ! - هاهاها ! مدهش ! أكمل ، أكمل ، أيها السيد المستشار ! - أما الحمارة البيضاء ، فتؤمن إيماناً قاطعاً بأن كل الحمير العظيمة في العالم شُهُب ، و أن من واجبها الحساب الدقيق لعدد شعرات ظهر و ذيل كل واحد منهم ! - هاهاها ! مدهش ! أكمل ، أكمل ، أيها السيد المستشار ! - و لكن الطامة الكبرى ، يا سيدي ، تكمن في عقولهم . - هاهاها ! و لكن ماذا تقصد ؟ - الحمار الأجرب نصف عقله كائن في معدته ، و نصفه الآخر مفقود ! - هاهاها ! عظيم ! مدهش ! - أما الحمار الأعرج ، فنصف عقله يقع في أسفل عموده الفقري ، و نصفه الآخر في خصيتيه ! - هاهاها ! عظيم ! مدهش ! - أما الحمارة الشهباء ، فعقلها منقسم بين طرفي أُذُنِها و ذنبها ! - هاهاها ! عظيم ! مدهش ! - هل تسمح لي بالتدخل ، سيدي القائد ؟ - تفضل ، يا رئيس الحكماء . - أتّفق مع الكثير من كلام السيد مسؤول الإستخبارات و السيد المستشار النفسي ، و لكن لا يجب أن ننسى كل واحدٍ من أولئك الحمير يتزعم قطيعاً من الدواب . فالحمار الأجرب يتزعم قطيع الخرفان ؛ و الحمار الأعرج يتزعم قطيع التيوس ؛ أما الحمارة الشهباء ، فتتزعم قطيع البغال . و هذا إن دل على شيء ، فإنما يدل على كونهم دواب محترمة و قائدة . - هاهاها ! أسمعوا يا سادتي : هل يمكننا أن نحكم مقدماً على فشل الحمير الثلاثة في القيادة دون أن نسلمها لهم فعلاً ؟ - كلا ، سيدي القائد ! - هاهاها ! إذن ، دعونا نضرب مثلاً يحتذى على مقدرتنا في التحرك بحزم و بسرعة : إذهبوا الآن بسرعة ، و أربطوا الحمير الثلاثة على دفة القيادة بسرعة ، و لننسحب من هنا حالاً و بسرعة .
بغداد ، 3 / 3 / 2013
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قطاع الخدمات في النظام الرأسمالي من وجهة نظر ماركس
-
القرد و الجنّية و الغول
-
رد على د. مجدي عز الدين حسن : الإعتباطية و القصدية في اللغة
...
-
أبا الصّفا / مرثاة للشهيد الشيوعي الدكتور صفاء هاشم شبر ، أس
...
-
الإمتحان
-
الفيل و الضبع و البغل
-
طرزان و ذريته
-
رد على د. مجدي عز الدين حسن : الإعتباطية و القصدية في اللغة
...
-
رد على د . مجدي عز الدين حسن : الإعتباطية و القصدية في اللغة
-
شيخ المتقين و الخنازير
-
شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 3-3
-
شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 2-3
-
شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 1-3
-
كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 12
-
كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 11
-
كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 10
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 9
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 8
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 7
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 6
المزيد.....
-
وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما
...
-
تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
-
انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
-
الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح
...
-
في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
-
وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز
...
-
موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
-
فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
-
بنتُ السراب
-
مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|