أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهر العامري - المقهى والجدل *















المزيد.....



المقهى والجدل *


سهر العامري

الحوار المتمدن-العدد: 1105 - 2005 / 2 / 10 - 11:12
المحور: الادب والفن
    


جلس حياوي المفوض في المقعد الأمامي ، وفي المقعد الذي يليه جلس سالم ، وسيد حسين بائع الطحين ، في الوقت الذي جلس فيه شرطيان خلفهما ، كلّ واحد منهما كان ممسكاً ببندقية إنجليزية من طراز قديم ، حالها حال السيارة الأمريكية القديمة التي ركبوها ، والتي كانت بمقدمة حديدية زرقاء، وجسم خشبي يميل لونه الى الصفرة ، يلعب في باطنها تراب الطريق المتطاير بفعل حركة عجلاتها ، وبفعل العواصف الترابية التي تهب أحياناً ، حتى لو كانت موصدة الأبواب والشبابيك . ومع هذا فقد كان لها مثيلات كثر بمواصفاتها ، يتحركن جيئة وذهاباً على الطرق المؤدية الى المدينة القصية ، ركبهنّ سالم مرات عديدة ، وهو ذاهب الى مدينة الناصرية لمواصلة دراسته فيها .
ما كانت مريحة في ركوبها أبداً ! فكم من مرة قد أفرغ فيها سالم ما في معدته ، حين تتحد مزعجات ثلاث : قلقة الطريق الترابي ، والتراب المتطاير ، ورائحة البنزين الكريهة .
لقد كان الناس في المدينة القصية يخشون ركوبها،فالطريق ترابية وعرة، والحفر المتناثرة على طولها خطرة، والانحراف عنها كثير الحدوث حين تفرغ السحب حمولتها ، وحين تعاكس هي بسيارة أخرى وقت هبوب عاصفة ترابية شديدة ، أو عندما يفاجأ السائق بحيوان قد افترش تراب ذاك الطريق ونام في عزّ النهار . طيط ... طيط ...طيط .
:- ماذا يا حاج حسن ! ؟
:- أما ترى ؟ إنه حمار يرقد في وسط الطريق 0 طيط ... طيط ... طيط .
:- أبداً ، لا يريد النهوض .
ــ: إضغط على المنبه ثانية ! قال الراكب الجالس الى جوار حاج حسن، سائق السيارة .
طيط ... طيط ... طيييييييييييييط 0
:- هذا هو طبعه ، لو لم يكن هذا طبع فيه ، ما سموه حماراً !
ترجل الحاج حسن ، السائق الماهر من سيارة الأجرة ، والذي كسرت جمجمته ذات مرة في حادث انزلاق خطير على ذات الطريق . لقد شارف هو وبعض الركاب على الموت ساعتها ، ورغم ذلك كان ابن الخمسين سنة نشطاً ، متشبثاً بمهنته ، قوياً ، مربوع القامة ، مدور الوجه ، أصلع الهامة ، فرح ، فكه ، يلعن ويسب مثلما يحلو له ، وإذا أراد أن يضحك ضحك من أعماقه .
:- لماذا أنت نازل يا حاج ! ؟
:- أريد أن أجره من أذنيه ، وابعده عن الطريق كي أواصل السير . هل تريدون البقاء هنا في عرض الطريق ؟
كان الحمار أغبر ، أشعث، جاثياً على ركبتيه ، تاركاً وراءه ذيلاً قصيراً، وأمامه رأساً منتصباً، تتهدل على جانبيه أذنان طويلتان،يحدق بالسيارة كسلاً بعينين كحلهما غبار الطريق . وضع الحاج حسن يديه على أذني الحمار ، أمسك بهما بقوة ، جرّه إليه ، جرّه أخرى ، جرّه ثالثة ، استوى الحمار واقفاً ، سحبه هذه المرة من أذن واحدة،دائراً بظهره عنه ، منحنياً كأنه يريد أن يسقط على وجهه، عندها تحرك الحمار :- الذنب ليس ذنبه !
:- ذنب من يا حاج حسن ؟
:- ذنب نوح الذي أركبه معه في السفينة !
الطرق الترابية في جنوب العراق مزعجة ، وسيارات الأجرة قديمة بالية من بنات أربعينيات القرن العشرين، وأحسنها ما كانت من أوائل سني الخمسينيات ، ولهذا كان الحاج حسن يوزع اللعنات ذات اليمين وذات الشمال ، تارة يلعن الإنجليز الذين سرقوا نفط العراق ، وتارة يسبّ الحكام في بغداد الذين عاشوا على فتاتهم، والذين أهدروا ما تبقى من ثروات الوطن على ملذاتهم . وطالما قارن بين العراق والدول المجاورة، وإذا ردّ عليه أحدهم بقوله إن الحالة في العراق لا تختلف عنها في دول الجوار ، ردّ هو بعنف :
إنظر يا معتوه إنظر . إنظر من شباك السيارة . هل بيوت القصب هذه، والتي يسكنها الناس منذ أن أفرغ نوح حمولة سفينته هنا ، هي بيوت بشر أم زرائب حيوانات ؟ ويضيف كي يقنع من يحدثه والركاب قائلاً : في السنة الماضية ذهبت الى مكة للحج،وقد مررت على الكويت في طريقي لها ، لم أشاهد لا في الكويت، ولا في السعودية مثل الزرائب التي تشاهد هنا ، رغم أننا نملك من الثروات ، والخيرات أكثر منهما مجتمعتين !
لم يكن الحاج حسن وحده الذي يعاني من منغصات الطريق، الكلّ كان يعاني ، الركاب، السواق، والسيارات حين تغوص عجلاتها في وحل ذلك الطريق وقتها تتحول سيارة الحاج حسن الى راكب، وركابها الى سيارة، إذ يتوجب عليهم النزول منها ودفعها لتخليص تلك العجلات من الحفر التي تغوص فيها . وبين سباب الحاج ولعناته ، وبين السير على الأقدام لمسافات طويلة يصلون مدينة الناصرية بشق النفس .
وحين يقسو الشتاء،ويشتد المطر ينقطع الطريق، فتصبح المدينة القصية في عالم آخر ، ويظل الطلاب والجنود ويظل الموظفون والباعة في حيرة لا حدود لها ، فهم يريدون المدن ، يريدون الذهاب الى أعمالهم فيها، من يعرف أن المدينة القصية عزلتها الأمطار ؟ من يصدق عذراً لابن مدينة تحاصر بالهور، وتغرق في المطر ؟ من يعطي السائق لقمة يوم مشؤوم ؟ وأجراً لموظف انقطع فيه عن عمله ؟
في انقطاع الطريق تعود المدينة القصية الى ماضيها المرير ، الى ساعات التخلف والحرمان، ” ليظل الجنوب متخلفاً “هكذا أرادت لندن العظمى! وهكذا أراد المماليك الأتراك في بغداد0
في هذا الانقطاع يكون الزورق هو السيارة ، ويكون سعف النخيل وكربه في بلد النفط هو النفط ، ويكون الفانوس هو المصباح الكهربائي ، ويكون التنور هو الفرن ، ويكون .... ويكون ....
ليكن الجنوب متخلفاً ! وليشبع أولئك الذين طافوا حول معسكرات الإنجليز ، أولئك الذين أكلوا فضلاتهم ، أولئك الذين حبسوا البسمة على شفاهك ، بسمة المصابيح حين علقت الجمهورية أسلاك الكهرباء في فضائك ، وحين مدت مواسير المياه في بطون دروبك ، وساعة أن سارت السيارة تحت ظلال نخيلك، ها هم أحفاد المماليك،حقد منبعث من أعماق التاريخ ، حقد يلطخ وجوه الحاضر بأوضار الماضي ، ها هم يعودون أخرى ، ينبشون قبور موتاك ، ويحفرون قبوراً للأحياء منك .
:- لماذا أتوا بك ؟
:- لم أدر ِ !
:- لقد أخذوا الكثيرين أمس مساء ، وها أنت وأنا اليوم .
:- سالم !
:- نعم .
:- يراد منك الحضور الآن في مركز الشرطة !
سار سالم وراء الشرطي علي الذي ستدعاه الى مركز الشرطة دون وجل وتردد، ودون أن يخبر أباه الذي كان يبيع قماشاً وسط زحام من شرّائه ، فقد وطن هو نفسه على استدعاآت الشرطة .
:- سائق سيارة البيجو المرقمة ١٢٨٤ بنغازي ، توقف على الجهة اليمنى للطريق حالاً !
تكرر هذا النداء أكثر من مرة من سيارة عسكرية ، كانت تطارد سيارة البيجو التي لم تتوقف عند نقطة للتفتيش تقع على الطريق العام ما بين مدينتي بنغازي في الشرق وطرابلس في الغرب ، رغم صافرة العسكري التي سمعها سائق تلك السيارة لقد أثار عدم توقف السائق استغراب سالم وأسرته التي كانت معه، كما أثار ذلك استغراب زميله الفلسطيني واسرته كذلك، لكن السائق ودون وجه حق علل ذلك بعدم سماعه لصوت صافرة العسكري . ترجل الرجل العسكري من السيارة المطاردة،سأل السائق عن وجهته، وعن هوية الركاب الذين يصطحبهم ، بعدها سحب إجازة السوق منه ، وأمره بالعودة الى نقطة التفتيش 0
:- أما كان الأحسن لك أن تتوقف حين سمعت صافرة العسكري ؟ سأل سالم السائق الذي زاد تبرماً 0
:- قلت في نفسي أنهم نيام على عادتهم .
:- دع عنك هذا الكلام ! أنت سمعت معنا صوت الصافرة ولم تتوقف، مع أن البلاد في حالة إنذار ، وأن أجواءها مغلقة بوجه الطيران 0
:- ولماذا الإنذار ؟
:- أنا لا أدري 0 رد سالم وأضاف يبدو أنك لا تمتلك الخبرة اللازمة للتعامل مع العسكر . فالعسكر في الدول العربية ـ يا رجل ـ يريدون من الذي يتعامل معهم أن يضع أعصابه في ثلج القطب الشمالي . لو كنت فعلت فعلتك هذه في العراق ، وفي ذات الظرف لجاءك الرصاص من كلّ حدب وصوب ، فالعسكر هناك يحملون من السيد الرئيس أوامر الأعدام مثل علب السجاير ، فاحمد ربك أنك لم تكن في العراق ساعتك هذه . أتدري ؟ لقد عاد الملك والرئيس يتفاخران بقطع الرؤوس من الرجال والنساء على حدّ سواء ، وعلى سنة الأجداد . سأروي لك ـ يا رجل ـ شيئاً عن هذه السنة الحميدة ! فقد أخبرني صدر الحفاظ ، أبو العلاء الحسن بن أحمد الهمداني ، أخبرني محمود بن إسماعيل الصيرفي ، أخبرني أحمد بن محمد بن الحسين ، أخبرني أبو القاسم الطبراني ، حدثني محمد بن عبد اللّه الحضرمي ، حدثني عبيد اللّه بن إسماعيل الهباري ، حدثني سعيد بن سويد عن عبد الملك بن عمير قال : دخلت على عبىد اللّه بن زياد ابن أبيه فرأيت رأس الحسين بن علي عليه السلام قدّامه على ترس ، فما لبثت إلا قليلاً حتى دخلت على المختار ، فرأيت رأس عبيد اللّه بن زياد ابن أبيه قدّامه على ترس ، ثمّ لم ألبث إلا قليلاً حتى دخلت على مصعب بن الزبير فرأيت قدّامه رأس المختار على ترس ، ثمّ ما لبثت واللّه إلا قليلاً حتى دخلت على عبد الملك بن مروان فرأيت قدّامه رأس مصعب بن الزبير على ترس !!
:- أ صحيح ما تقول ؟ ردّ السائق وقد ملأ الخوف قلبه ، وطغى شحوب مفاجئ على خديه ، وقد أخذ العجب منه عقله .
:- لا تتعجب يا رجل ! هذا هو وطننا العربي ، مليئاً بالأعاجيب قديماً وحديثاً، فجزر الواق واق تطفو على سطح تاريخنا، والسندباد البحري يبحر فيه شرقاً وغرباً. في تاريخنا ـ يا رجل ـ العجائب ، والغرائب ، ففي مدينة طرابلس التي سنضع أقدامنا بها بعد ساعات بنى الرحالة ابن بطوطة بزوجته ، وطلقها غبّ أيام، وهو راحل ، في مدينة مصراته ، وقد امتلك ، وهو قاضي القضاة ، أكثر من أربعين زوجة من نساء العرب والترك ، وبقية العجم وفق قاعدة : وما ملكت أيمانكم .
:- أ صحيح ما تقول ؟ ردّ السائق وقد حلّ البشر تقاسيم وجهه ، وزالت عنها مسحة التنسك ، والتعبد ، وأخذ يحسن من وضع الطاقية على رأسه بيده السليمة ، بينما ترك يده المشلولة تتدلى على جانب المقعد الذي يجلس عليه ، وقد تمنى ساعتها من قرارة نفسه أن يدور الزمن القهقرى كي يصطحب ابن بطوطة في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، وكي يمتع نفسه بنساء الترك الحسان ، حين يعرضن خصائل شعر شقر، ويرمين نظرات من عيون خضر، وحين يبدين سيقاناً بضة كالثلج ، وهو 
ابن الصحراء الذي ابتلاه العقيد بمقولات الكتاب الأخضر .
:- أما تدري ـ يا رجل ـ أن السيد الرئيس قد أجبر موظفاً كبير الرتبة لا المقام على تطليق زوجته ليخلفه عليها . أما تدري ـ يا رجل ـ أن السيد الرئيس الذي لا يحتسي من أنواع الخمرة إلا الوسكي قد أمر ببناء اكبر جامع في الدنيا ، على القاعدة المصرية الشهيرة : ساعة لربك ، وساعة لزبك .
أمر العسكري بإشارة من سيارته سيارة البيجو بالتوقف قريباً من نقطة التفتيش الواقعة على مسافة ليست بعيدة من مدينة اجدابيا، وكان الليل قد نزل على ذلك الطريق الطويل ثقيلاً ، وقد أحسّ سالم أن سائق السيارة لن يستطيع أن يفض المشكلة على خير وسلام، فقال للسائق:
أريد منك أن تبقى في السيارة مثل الآخرين ، وأنا الذي سأتولى حلّ هذه المشكلة التي وضعتنا فيها .
لم يرد السائق بحرف ، لكنه التزم بما طلب منه سالم .
ترجل سالم من السيارة ، حيّا الحرس الواقف في باب نقطة التفتيش ، طالباً منه أذن الدخول على ضابط النقطة الذي إستقبل سالم بعد ذلك ببشر سائلاً
:- من أين قدمتم ؟
:- من مدينة بنغازي ، بعد أن توقفت حركة الطيران في مطارها بسبب من غلق أجواء الجماهيرية أمام حركة الطيران .
:- هذه حالة تحدث في جميع الدول .
:- نحن لم نعترض على غلق الأجواء أبداً ، لكننا سنواصل السفر من طرابلس غداً صباحاً على تمام الساعة العاشرة الى دمشق، ولم يتبقَ لدينا الكثير من الوقت كما ترى .
:- سائقكم معوق ، ونحن نخشى عليكم من سياقته .
:- نحن مضطرون ، ولا سبيل غير ذلك 0
:- من أين أنت ؟
:- من العراق 0
:- خذ ! هذه إجازة السائق ، وعليك أن تخبره أن أمامه الكثير من نقاط التفتيش ، وعليه أن يتوقف بمجرد رؤيتها حتى لو لم يسمع صافرة العسكري 0
تحركت السيارة بعد أن سلم سالم السائق إجازة سوقه ، وبدلاً من أن يسأل سالماً عن الكيفية التي استرد بها الإجازة ، ظل هو على سكونه وصمته ، يرمي بنظرات حزينة على تلك الطريق التي كلما التهمت منها السيارة أمتاراً استطالت أمتاراً أخر ، بينما ظل سالم يحادثه خشية أن تأخذه سورة نعاس ، لكنه خرج عن صمته وسكونه فجأة حين نزلا من السيارة في مدينة مصراته للاستراحة متسائلاً :
أصحيح أن ابن بطوطة تزوج بأكثر من أربعين مرأة كما تقول ؟

:- نعم . هو الذي كتب ذلك . أ تريد أن أزيدك من أخباره خبراً ؟
:- زدني يحفظك ربي !
:- لقد نزل ابن بطوطة جزر القمر ، وعين قاضياً فيها ، وتزوج من نسائها أربعاً ، كان يضاجعهن جميعاً في اليوم الواحد . يضاف هذا الى زيجاته التي ذكرت ، والتي لم تذكر .
:- أ وطلق زوجته في هذه المدينة التي نجلس على ترابها الساعة ؟
:- نعم . بعد أن كان قد تزوجها في طرابلس كما قلت .
:- أ ومرّ من هذا الطريق الذي نمرّ عليه ؟
:- نعم . لقد مرّ من هنا .
:- واللّه ، يا رجل ! لقد أبلى ابن بطوطة بلاء حسناً ! لو أدركته لما فارقته أبداً ! أتعرف يارجل !؟ لقد قتلنا العطش الى النساء في هذه البيداء !
من وجوه الشرطة تصفح سالم الكثير، ومن تقاسيم تلك الوجوه عرف متى يغضب الواحد منهم ، ومتى يقرّ ، ويستكين ، وعلى الرغم من أن مهنتهم جاءت بعد مهنة البغاء في تسلسل المهن من شريعة حمورابي ، إلا إنّ الشرطي علي الذي استدعى سالماً هذا الصباح لم يكن من هؤلاء ، فقد كان حيياً خجولاً ، اضطره ضيق اليد ، وعوز اللقمة للباس البزة العسكرية الخضراء التي لمّها من خصريه حزام أسود عريض ، يليق بقامتة الممشوقة الفارعة التي تنتصب عليها رقبة طويلة ، يلقي برأسه منها الى الأرض دوماً ، حتى حين يكلم أحداً 0
في الطريق الى مركز الشرطة كان سالم يعتقد جازماً أن ما قام به هو، وأصدقاؤه الليلة الماضية ليس فيه ما يثير الشبهة ضده ، أو ضدهم ، فهم ما زالوا صغاراً في السن ، وكان هو أكبرهم سناً ، لم يتخطَ عمره خمس عشرة سنة ، لكنه وحال دخوله الى مركز الشرطة عرف سبب اعتقاله ، نفس الباحة الأمامية، نفس الممر المؤدي الى ذات الغرفة ، ونفس الوجهين : حياوي المفوض ، وسمساره محمد فنجان ، كانا يبحثان في الدفاتر القديمة ، يفتشون فيها عن أسماء مرّت خلال الرحلة الشرسة للسياسة من عهد نوري السعيد ، مروراً بعهد الزعيم ، ثم الى عهد أيتام شركات النفط 0
حين تنزل مصيبة على رأس حياوي ، كتلك التي أنزلها سالم ، ومجموعته ، يهب من ساعته الى سمساره محمد فنجان ، إبن المدينة ، والجاسوس المتبرع دائماً ، يستمع الى رأيه ، ويأخذ بنصيحته ، وكلّ ما يحصل عليه هذا الجاسوس سلاماً من حياوي عليه ، حين يكون معه سائراً في شارع ، أو جالسا جلسة قصيرة معه في مقهى ، وفي أحسن الأحوال أن يكون محتسيا كاساً من خمر العراق على مائدة منتصبة في حديقة دار المفوض المجاورة للمركز . إنّ في ذلك ، كما يعتقد محمد فنجان، رفعاً لمكانته بين أبناء المدينة القصية ، فهو في سباق على هذا الشرف الخسيس مع تجارها الذين يتسابقون على استضافة كلّ مامور مركز جديد يحلّ بها، حتى أن اسمه يطير لهم قبل أن يضع قدمه هو على أرض المدينة ، وكان في المقدمة من هؤلاء السيد حيدر تاجر الجملة ، والذي كان يمتلك قدرة عجيبة على حسن القول ، ومعسول الكلام ، فقد جعل من أكثر كلامه طرفاً عذبة يجبر محدثه على الضحك ، والانشراح ، ففي أحدى زياراته الكثيرة لبغداد مرّ على حانوتي في شارع الرشيد كان يبيع أدوات كهربائية ، وكان السيد حيدر بحاجة لمكواة ، فسأل الحانوتي عن ثمنها ، فقال : ديناران . عاد هو سائلاً من جديد : أصناعة بغداد هي ؟ ضحك الحانوتي من أعماقه، ثم قال :أمثل هذه المكواة يصنعون في بغداد؟ إذاً ماذا يصنعون في بغداد؟ ردّ السيد حيدر وأضاف متسائلاً كذلك : أيصنعون فيها المؤامرات فقط؟ غرق الحانوتي في ضحك من جديد ، حاملاً المكواة بيده ، دافعاً بها نحو السيد حيدر ، قائلا ، وهو مستغرق في ضحكه ، خذها بدينار ونصف !
لقد تعلقت مصلحة تجار الجملة ، ومنهم السيد حيدر السيد طاهرفي الربح الوفير بمأمور مركزشرطة المدينة القصية ، كما تعلقت مصلحة مأمور المركز في دخل كبير إضافي بتجار الجملة كذلك ، ولهذا يكون مفوض الشرطة المنقول الى تلك المدينة محظوظاً ، تنهال عليه التهاني من هنا وهناك 0
:- مبروك !
:- اللّه يبارك لك ، ويعزك 0
:- أ صحيح ما سمعناه ؟
ــ: نعم . صحيح ، وهذا أمر نقلي !
:- أ والى المدينة القصية ؟
ــ: نعم . إليها !
:- إنك ستبني داراً خلال سنة من عملك هناك ، وستحصل على ثلاثة أو أربعة أمثال راتبك شهرياً ، وستشبع من ولائمها الكثيرة ، وسيأتيك ما لذ وماطاب من الأسماك الى باب دارك ، وستجد أنّ اسمك قد سبقك إليها . قال لصّ قديم من لصوص الشرطة :- متى يأتي المفوض التالي ؟
ــ: بعد يومين
:- ما اسمه ؟ ما كنيته ؟
:- يكنى بأبي محمود 0
:- سيكون أنا أول من يستضيفه ، ومن يتعرف عليه 0 قال تاجر من تجار الجملة0 هذا هو حال تجار الجملة في المدينة القصية ، وهذا هو حال كلّ مفوض شرطة قادم إليها، فقد شدت بين الطرفين علاقة متينة.الشرطة في خدمة التجار،والتجار في في خدمة الشرطة ، الشرطة تغض النظر عن صناديق الشاي المهربة الى إيران عبر الأهوار ، وعن الأسماك دون إنزال حصة المدينة القصية منها ، والتجار يدفعون للمفوض راتباً شهرياً ، يعادل أربعة أمثال راتبه الحكومي 0 ولهذا مكث المفوض حياوي فيها أطول مدة، رغم تعب الطريق ، وقساوة السفر ، وطرز السيارات المتهالكة 0 والتي لا تتحرك إلا بقضيب حديدي،” الهندر” يسميه السواق باسمه الإنجليزي ، يدخله السائق في قلب محرك السيارة ، ثم يديره مرات عدة بكلّ ما أتي من قوة ، وإن عجز هو قام واحد أو أكثر من الركاب بمساعدته ، وقتها تشرع السيارة بالتحرك 0 وإذا لم تفلح هذه الطريقة بتشغيل المحرك يطلب السائق من الركاب كلّهم النزول منها ، ودفعها بمثابرة لمسافة قد تقصر أو قد تطول حتى يتعالى هديرها ، ويتصاعد دخانها0 اهتزت وسكتت ، اهتزت وسكتت ، اهتزت ثم ارتعشت وسكتت ، أهتزت رابعة ثم ارتعشت جميع أوصالها وتحركت ببطء ، مترنحة مثل رجل سكران في مشيتها ، مثقلة تحمل آلام سالم ، وعذاب سيد حسين بائع الطحين ، ونفاق حياوي المفوض ، وجهل السائق المتعب .
على متداد الطريق تبعثرت قرى، انتصبت أكواخ على غير هدى ، تعلقت عيون سالم بكلّ كوخ منها، تذكر طفولته التي تناثرت أيامها بينها ، هذه هي قريته ، أزقة تعبث بسالكها ، بساتين نخيل مسطرة ، نهر صغير يغسل جبهتيا ، وأس حصن أشاده الإنجليز 0 إنه ذكرى مؤلمة تشير الى ماض ٍ كريه ، قريباً منه ولد سالم في كوخ لأبيه ، تقاسم بقعة أرض هو وأكواخ عدة لأعمامه ، وكوخ واحد لجده ، وفي مقدمة تلك البقعة انتصب كوخ عال ٍ وكبير هو المضيف ، دار الضيافة التي تنافس القرويون الميسورون على إشادتها ، والاهتمام بها ، والى جانبه قامت حجرة من طين ، غصت بالفرش المعدة للضيوف ، وبأنواع من البنادق والعتاد 0
لم يحرص الحاج علي ، جد سالم ، على شيء أكثر من حرصه على هذه الحجرة ، وكان الدافع وراء أن تكون حجرة من طين ، وليس كوخاً من القصب هو الخوف عليها من حريق 0
ما كان للضيوف وقت محدد ، كانوا يحلون ضحى مثلما يحلون ليلاً ، يأتون من أماكن قريبة معروفة ، ومن أماكن بعيدة مجهولة ، من وراء البحار ، من قلب لندن الى قرية جاثية على قطعة أرض يابسة صعدت من أعماق مياه الهور 0
ـ: قومي من نومك !
ـ: ماذا ياحاج ! ؟
: قلت لك قومي ، قد حلّ بنا ضيف !
:- ضيف في آخر الليل ! ؟
:- نعم . سأذبح أنا دجاجتين ، وأعدي الرز أنت 0
:- لا يا حاج ! إذبح ديكاً واحداً ، فالوقت متأخر كثيراً 0
: إنه رجل غريب !
:- من أيّة عشيرة هو ؟
:- لا أدري . ربما كان من أحدى العشائر الإنجليزية !
:- أ رجل إنجليزي هو ؟
:- نعم 0
:- ما الذي أتى به في هذا الليل الحندس ؟
:- أنا لا أعرف السبب الذي قاده إلينا ، كلّ الذي أعرفه أنه ضيف ويريد مأوى 0
:- أ نسيت ـ يا حاج ـ قنابلهم التي أسقطوها على أكواخنا ؟ أ نست كيف ضاقت الأرض بنا ؟ لم يبق َ وقتها أمامنا إلا الهور الذي فتح لنا ذراعين واسعتين ، لقد ضمّ بحنان الأطفال والنساء والرجال ، رغم بطش نيران الإنجليز التي أحالتها مياه الهور الى برد وسلام علينا 0
:- ذلك حديث ولى ، والرجل ضيف عندي الآن 0
:- أ كافر هو ؟
:- ما علاقة هذه بتلك ؟ قومي أعدي رزاً ! هيا إنهضي ! إطردي النوم من عينيك ! هذا هو حال جدة سالم، ساعات من نوم منغص ، دخان يأكل العيون ، فالطهي يجري ليس في أوقاته المعلومة، والحطب هو الوقود الذي يطيب عليه الطعام ، فهي شقية ، وهو كريم ، ماذا سيقول عنه ضيوفه لو أنه قصر بحقهم ؟
في الصباح اكتشف سالم أن جده لم يجد من الدجاج غير ديك واحد قام بذبحه وذبح معه برهانه الذي دجنه على مدى ثلاثة أشهر، وعلى طوال هذه المدة قامت علاقة حميمة بين سالم الطفل ، وبين ذلك الطير الذي تفرد عن سائر الطيور بخصائص عدة ، فهو طير جميل ، وديع ، ذو ريش أخضر يزهوهو باخضراره ، وجبهة حمراء يتباهى باحمرارها ، ومشية رزينة تضاهي مشية العقلاء من الرجال ، وذو عقل يرجح على عقول بعض القادة الذين ابتلت بهم معاشر الناس والطيور ، فحين ينشب نزاع بين ديكين من الديكة ، أو دجاجتين من الدجاج يهب هو مسرعاً ، حتى لو أنه كان في رفقة مع سالم ، نحو المتنازعين ليحجز بينهما بقامته الفارعة بهدوء ، فإن هما ثابا الى رشدهما تركهما وانصرف ، وإن هما أصرا على التناقر في جبن واضح استلّ لهما منقاره الأسود الحاد ، ونقر كلّ واحد منهما نقرة قوية صارمة على أم رأسه ، عندها يثوبا خائبين ، مندحرين .
لقد كان في رفقة دائمة مع سالم ، لكنه كان يتركه عند الظهيرة ، حين يشتد الحر، وحين يخلد سالم الى الراحة وقت القيلولة ، عند ذاك يطلق لجناحيه العنان ، محلقاً في الجو ، طائراً بفرح غامر نحو موطن الآباء والأجداد الى أعماق الهور حيث القصب الذي يلقي بأعناقه نحو السماء، فهو طير لا يريد العيش قريباً من الإنسان، يريد أن يظل بعيداً عن أذاه ، يأكل من صغار سمك الهور وهوائمه ، ويبني عشه بين أحضان قصبه ، لكنه وجد نفسه يسبح في فيض من حنان مع سالم الطفل ، ولهذا فقد غيّر انطباعه الذي تعلمه من أجداده عن الإنسان موقتاً ، وعاش أياماً ترفل بالسعادة مع سالم0 لم يخذل هو سالماً أبداً ، كانت الأسرة كلها تظن أنه سيخذله، في كلّ طيران له ظهراً نحو الهور كانوا يقولون لسالم: إنه لن يعود هذه المرة ، سيجد له أنثى هناك بين القصب ويتزوجها ، وسيبني معها عشاً لتضع هي فيه أربع بيضات مستطيلة خضر، ويضيفون : لو أنك ذبحته وأكلته لكان في ذلك نفع كبير لك ، لكنّ سالماً كان لا يصغي أبداً لكلام أسرته ، فهو
 على ثقة كبيرة بعودته في كلّ مرة يغادره فيها ، ودائماً ما كانت تلك العودة حين تجنح الشمس نحو الغروب ، وقتها يشعر سالم بنشوة الإنتصار، لأن صديقه الوفي سيرقد قريباً منه هذه الليلة على عادته،لكنه في صباح ليلة مشؤومة أخبرته أمه أن طائر البرهان صار في ساعة متأخرة ليلاً في جوف رجل إنجليزي ، عندها تملك سالماً حزن عظيم ، وسالت دموع ساخنة، مدرارة على خديه، كيف لا ؟ وقد غيب الموت رفيقاً لا تملّ رفقته ، وصديقاً أعزّ الوفاء بوافر وفائه 0
ما انقطع سالم أبداً عن زيارة قريته بعد أن رحل عنها هو وأسرته الى المدينة القصية، فقد كان في زيارة دائمة لجده الذي عاش في كنفه سنوات طفولته الأولى ، وحين ارتحل جده رحلته الأبدية قطع سالم تلك الزيارة ، وستبدل دروبها وأزقتها بدروب وأزقة أخرى .
مرّت هذه الذكريات المحزنة سراعاً ، مرّت أسرع من سرعة السيارة المترنحة ، هناك على طريق ترابية تشق صدر الهور الى أعماقه الجنوبية ، الى مدينة الجبايش 0
:- الى أين تريد به يا حياوي ! ؟
:- الى الجبايش !
:- دعني أجلب له فراشاً ! ؟
:- لا . لا حاجة للفراش ، سيعود بعد ساعات !
هكذا تخلص المفوض حياوي من أسئلة والد سالم الذي اعترض طريقهم ، وهم متجهون الى كراج السيارات ، لكن حياوي لم يف ِ بوعده ، فقد أصبحت تلك الساعات شهوراً !
00000000000000000000
* مجتزأ آخر من رواية للكاتب بذات العنوان ، صدرت في السويد قبل شهور ، وبمساعدة من وزارة الثقافة السويدية 0



#سهر_العامري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جون نيغروبونتي ملك العراق الجديد !
- ظرف الشعراء ( 34 ) : بكر بن النطاح
- الجلبي يفتي بحمل السلاح !
- أوربا وقميص عثمان !
- الما يحب العراق ما عنده غيرة !
- من أسقط صداما ؟
- ما كان أهل جنوب العراق سذجا يوما !
- نيران الفتنة قادمة من أيران ! سهر العامري
- الجلبي دولة مرشدها آية الله الخامنئي !
- الانتخابات خيط من فجر الديمقراطية في العراق !
- ما بين الجبهة الوطنية وائتلاف المرجعية !
- ظرف الشعراء ( 31 ) : عُلية بنت المهدي
- نظرية المال عند صدام !
- الحاكم والناس والدين في العراق !
- الطائفية مرض الماضي يعيش في الحاضر !
- ظرف الشعراء (32 ) : ربيعة الرقي
- قيض من فيض التخريب الايراني في العراق !
- ظرف الشعراء ( 31 ) : أبو الشمقمق
- الحزب الشيوعي العراقي : العمل الجماهيري والانتخابات !
- إبن فضلان سفير العراق المقيم في أوربا


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهر العامري - المقهى والجدل *