سهر العامري
الحوار المتمدن-العدد: 1068 - 2005 / 1 / 4 - 10:38
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
سجل العراقيون في مدن سومر من جنوب العراق قديما أول علاقة تقوم على وجه البسيطة بين الحاكم ( الملك ) ، والمحكوم ( الناس ) من جهة ، وبين الآلهة أو الله من جهة أخرى ، وكان قيامها هذا يستند الى مفهوم مؤداه هو أن الناس قد خلقت بفعل تلك الآلهة ، ومن أجل خدمتها ، وكتعبير عن هذا المفهوم في الواقع وجب على الانسان عبادة خالقه ، وتقديم النذور له في أماكن معدة لهذا الغرض هي المعابد ، المخدومة من قبل الكهان الذين اصطفاهم الملك في الأساس من بين الناس ، وعلى اعتبار أن هذا الملك هو من يسوسهم بمشيئة من تلك الالهة المتعددة بادىء الأمر ، والخاضعة لإله واحد ( مردوخ ) فيما بعد 0
ومثلما نمت فكرة التعدد هذه في سومر القديمة ماتت فيها بعد سنوات من ولادتها كذلك ، وذلك بعد أن تجبر الملوك على الناس كثيرا ، وتصاعدت وتائر ظلمهم لهم ، فقد صار بعضهم نصف إله ، الملك ( جلجامش ) ، وبعضهم الآخر إله كامل ، الملك ( نمرود ) ، وبموازاة موت فكرة التعدد هذه برزت فكرة التوحيد الى الوجود ، ومن اعماق الفقراء الاكثر وعيا بحكم ما يزاولون من عمل ، فكان ابراهيم ابن أحد نجاري أور أول من يصرح بفكرة التوحيد تلك ، وبعد عملية جدل منطقية ، واضحة ، عاشها مع نفسه أولا ، ثم ثانية مع الملك نمرود الجبار الذي كان يصرخ في وجهه صائحا : إنني أنا الله وحدي ، ولا يوجد إله غيري 0
حين سفه أبراهيم ، ابن سومر ، آراء ملكها ، صب عليه نمرود ( صدام )! نيران ظلمه ، فولى هاربا صوب الشام ، فهو عصي على أن يسلم بافكار ملك معتوه ، يدعي الربوبية ، مثله في ذلك مثل الكثير من العراقيين المضحين الذي ساروا على طريقه ، هربا من ألسنة نيران الموت ، وا عتزازا بما يحملونه من افكار 0
لقد كان المكان المناسب ، الذي حرص عليه اطراف هذه العلاقة لاظهار كل ما يؤكد ديمومتها واحترامها ، هو المعبد المقدس المشيد من قبل الملك الذي يمثل سلطة الرب على الناس ، وعلى الكهنة الذين يخدمون ذلك الرب من خلال خدمتهم للملك نفسه ، هؤلاء الكهنة الذين يقدم لهم الناس الطاعة ، والنذور من الحيوان ، خوفا من الملك ، ومن عقاب الآلهة في وقت واحد ، رغم أن ملكية الارض في سومر كانت بيد الدولة ، وما هم إلا فلاحون معدمون لا يختلفون عن عمال نخيل البصرة ( الأكر ) زمن الخليفة العباسي ، المعتمد 0
لقد كانت تلك النذور اشبه بما يقدمه فقراء الناس في زمننا هذا ، طلبا للشفاعة من الله عند هذا الولي ، أو ذاك الامام ، ولكنها في حقيقة الأمر كانت ضريبة ينفق منها على خدمة المعبد الذي كان هو مقر رئاسة الدولة والحكومة ، وهو والحالة هذه يشبه في وظيفته هذه الى حد بعيد الوظيفة التي أداها المسجد ، أو الجامع في القرون الأولى من ظهور الأسلام ، حين كان المسجد خلال هذه الفترة مكان عبادة ، وفي الوقت النفس مكان تُقرر فيه شؤون الدولة المتسعة باطراد ، وباستثناء تلك السنوات التي أستخدم فيها مسجد الرسول الكريم في المدينة المنور، وبجزء محدود منه ، مكان نوم سُمي بـ ( الصفّة ) ، وكان هذا المكان قد خُصّ به فقراء المسلمين المهاجرين الذين لم يجدوا مكان نوم غيره ينامون فيه ، وقد سموا هؤلاء ، فيما بعد ، باصحاب الصفة ، وكان الصحابي الجليل ، المعدم ، أبو ذر الغفاري ، أبرز واحد من بينهم 0
لقد أخضع ملوك العراق القدماء الدين ورجاله بجبروتهم ، وبما كانوا يمثلونه من سلطة تنوب عن الآلهة في فترة التعدد ، وعن الله في فترة التوحيد ، لحكمهم ومشيئتهم ، وصار هذا الحاكم ، فيما بعد ، زمن الدولة العباسية في العراق الأمير على المؤمنيين من عباد الله الذين توجب عليهم أن يدفعوا ضريبة الخراج مما يزرعون في أرضهم للملك الجديد ، هارون الرشيد ، بعد أن كان أجدادهم الأوائل قد دفعوها ، ومن ضرع ذات الارض للملك الجبار ، نمرود ، لكن بصورة أكثر فضاعة وشراسة هذه المرة، فالتاريخ لا يعيد نفسه كما يقال 0
إن نظام الحكم في العراق ، واساليب إدارته سرعان ما انتشر خارج العراق ، وصارت انماطه كثيرة منه ، تعيش في دول آسيوية بعيدة مثل الصين ، وفي دول افريقية قريبة مثل مصر ، خاصة فيما يتعلق بتقديس الملوك ، وانزال العرش ، والتاج عليهم من السماء ، أوفيما يتعلق بقوانين ذاك الحكم ، ونظامه الوراثي كذلك ، وقد عبرت انماطه هذه الى الضفة الأخرى من البحر المتوسط ، حيث بلاد اليونان والرومان ، مثلما عبرت الزمان ، وطوت الدهور حتى حلت بيننا في أيامنا هذه 0
ويبدو أن نظام ملكية الارض عند العراقيين القدامى هو الذي أوجد هذا الشكل من النظام السياسي فيه ، فالدولة الثيوقراطية ، وملكها الذي حلت السماء قدسيتها عليه ، ظلا هما صاحبا ملكية الأرض الحقيقة ، وعن طريقها امتلك هو والدولة تلك كل شيء تقريبا ، وصارت الملكية تلك ملكية مقدسة لا يمكن لاي أحد من رعايا تلك الدول أن يمسّها بضر ، والى الحد الذي يسجل فيه محاسب في سجل من سجلات ماليتها ضياع بقرة من البقر التابع في ملكيته لها ، ولهذا كان النظام الطبقي ، وعلى شاكلة ما كان قائما في أوربا ، معدوما تقريبا فيها ، ويؤكد هذه الحقيقة دراستان مستفيضتان كانت الاولى عن شكل الملكية في اليمن القديم قام بها فردريك انجلز ، وكانت الثانية عن شكل الملكية في الشرق ، قام بها كارل ماركس لسنتين من الجزائر العاصمة ، وقد خلصت هاتان الدراستان الى تسمية النظام الاقتصادي الشرقي بـ ( النمط الآسوي للانتاج ) ، رغم اختلاف الدول وتبدلها فيه ، ورغم مرور أزمنة طويلة عليها 0
بهذا الجبروة الاقتصادي ، حافظت الدول الشرقية على شكل نظامها السياسي ، ومن خلال مبدأ الوارثة في الحكم ، هذا المبدأ الذي حاول الرسول الكريم ، والخلفاء الراشديون من بعده ، النأي عنه ، رغم كل ما رافق الحكومة الاسلامية الاولى من ملابسات ، ومن ثم خلافات بين المسلمين أنفسهم في مسألة الحكم والحاكم ، تلك الخلافات التي نسمع لها صدى لليوم في العراق 0 وعلى الرغم من أن الامام علي عليه السلام قد حصل على تزكية في الولاية من النبي الكريم في غدير خم الذي يحتفل فيه الشيعة في العالم كعيد من بين أعيادهم ، لكن هذا لم يقنع عموم المسلمين بولايته ، ومع هذا لا يمكن اعتبار تزكية الرسول الكريم ، مثلما هي عند الشيعة ، للامام علي بالولاية من بعده ، توريثا أبدا ، يضاف الى ذلك أن الامام علي نفسه قد رفض الحكم الوراثي صراحة ، وذلك حين جاءه أهل الكوفة قبيل وفاته بساعات سائلين : أ نبايع للحسن ؟ قال : لا أأمركم ، ولا أنهاكم ، وأنتم أعرف !
بعدها خضع العراق والعراقيون لذات الدولة الثيوقراطية التي عرفها سكانه الاوائل في سومر أولا ، وذلك حين اصبح العراق جزء من الدولة الاموية التي صار فيها الدين ورجاله تبعا للحاكم ، وليس العكس ، واستمر هذا الوضع في الدولة العباسية ، ثم في الدولة العثمانية التي حكمت العرب ، أصحاب الدين ، بالنار والحديد ، وذلك حين انهار مبدأ مهم من مباديء الخلافة الاسلامية ، وهو حصر الخلافة في العرب المسلمين ، وفي قريش خاصة منهم ، ولكن الحكام العثمانيين مروا الى حكم المسلمين من خلال اعتناقهم للمذهب الحنفي الذي يبيح الحكم للمسلم من غير العرب ، وبهذا فقد اضفوا على حكمهم الصبغة الدينية انسجاما مع النظرية الشرقية ، القديمة في الحكم ، والمتمثلة باستخدام الدين كسلاح بيد الدولة مضافا لاسلحتها الاخرى ، والذي سيُشهر في وجه كل من يريد النيل منها ، أو يثور على ظلم حكامها وجورهم 0
لم يكن المذهب الحنفي هو أول من شرع اباحة الحكم للمسلم من غير العرب في الأسلام ، فقد سبقه الي ذلك الخوارج بسنين طويلة ، بينما اختلفت عليه مذاهب اسلامية أخر ، مثلما اختلفت على طاعة وجهاد الحاكم الجائر ، وقد يكون القول في أن الشعوب المتدنية الوعي تكون مسؤولة عن صناعة الحاكم المقدس ، فيه شيء من الصحة ، لكن الجدير بالملاحظة هو أن هناك شرائح اجتماعية من الناس في العراق ترتبط مصلحتها ارتباطا وثيقا بالحاكم المقدس هذا دائما ، فتنفخ في صورته ، وترفع من مكانته ، حتى يصير جزء من الله قد حلّ على هذه الأرض ، هاكم اقرؤوا ما يقوله عزة الدوري لصدام حسين في أحد اجتماعات مجلس قيادة الثورة ، قال مخاطبا صداما : ( سيدي صحيح ان النبوة انقطعت وخُتمت بخاتم الانبياء محمد ، ولكن الوحي لم ينقطع ، واني توسمتُ ذلك فيكم سيدي منذ ان تعرفت عليك ، وقلتُ إن هذا الرجل سيكون ذا شأن عظيم 0 )
وعلى هذا ، وفي حالة الانكسار الاجتماعي التي صار عليها العراق نتيجة ظلم صدام ، وحروبه الكثيرة ، فزعت الناس فيه الى الدين لوذا من جور الحكام ، وشرور الايام ، فما كان من صدام إلا ان يركب الموجة الدينية ، ويصير نبيا يوحى إليه بعرف عزة الدوري ، وشرائح اجتماعية معينة ، ربطت مصيرها بمصيره ، تماما مثلما كان بعض من العراقيين ، ومن مريدي عبد الكريم قاسم ، يرون صورته في القمر كلما طل عليهم ليلا ، وذلك بعد قتل الزعيم مباشرة ، والعجيب في الأمر أن حالة التقديس هذه لا تقتصر على اتباع الحكام وحسب ، وانما تعدتها الى الحركات السياسية التي تعلقت شرائح منها تقديسا بقيادتها ، فالكيسانية ترى أن امامها ، محمد بن علي بن أبي طالب ، المعروف بابن الحنفية لم يمت ، وأنه سيعود يوما ، ليملأ الارض عدلا ، بعد أن ملئت جورا وظلما ، وقد كان الحال هذا هو ذاته مع أتباع فرقة المسلمية نسبة الى أبي مسلم الخراساني الذي قتله الخليفة ، ابو جعفر المنصور ، بأحد أحسن سيفين ربحمها هو في المعركة التي دارت بينه ، وبين عبد الله بن علي ، عم المنصور ، وواليه على البصرة 0
والان ، وفي عهد حكومة الدكتور أياد علاوي ، وعهد الاحتلال الامريكي للعراق ، تشهد حالة التقديس هذه تناميا سريعا ، وخطيرا عند كل الاحزاب والقوى السياسية العراقية الحالية التي وصلت الى الحكم ، أو تلك التي لم تصل بعد ، ومرد الخطر هذا هو خوف الناس في العراق من خروج دكتاتور من بين تلك الأحزاب سيذبح الناس فيه باسم الله هذه المرة ، وذلك بعد أن حملت في العراق الآن احزاب اسم الله من مثل : حزب الله ، وثار الله ، وجند الله هذا بالاضافة الى جيوشه الدينية العديدة ، كجيش محمد ، والجيش الاسلامي ، وجيش انصار السنة ، تلك الجيوش التي باشرت بقطع رؤوس الناس وفقا لطريقة الدولة الاسلامية في الذبح ، مع أن تكوين هذه الأحزاب ، والجيوش لم يتم عن طريقها ، وإنما عن طريق المخابرات الايرانية ( اطلاعات ) ، أوبقايا مخابرات صدام ، ومخابرات بعض من الدول العربية، والى جانب ذلك فقد تكونت شلل انتهازية ، وبشكل متصاعد في الاحزاب الدينية ، والعلمانية على حد سواء ، مستعدة لاسباغ القدسية على الوزير وعلى قائد الحزب ، وذلك من أجل تحقيق نفع ومصلحة ، أو الوصول الى وظيفة صارت تمنح على اساس الانتماء الحزبي ، او القرابة العائلية ، وليس على اساس المقدرة الشخصية ، والكفاءة العلمية ، وهذا هو ذات المقياس الذي كانت تمنح به تلك الوظيفة زمن صدام ، ولكن بتوسع أكثر هذه المرة ، فقد أصبح كل حزب يتحكم بالوزارة ، أو الدائرة التي رست عليه في مناقصة الحكومة الموقتة الحالية ، بعدها صارت اسماء الشوارع في عراق اليوم ، ومن ثم اسماء المدارس فيه ، تفصح بوضوح عن هوس التقديس الذي يجتاحه اليوم 0
#سهر_العامري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟