خليل كلفت - مفكر وسياسي ماركسي- في حوار مفتوح حول: طبيعة الثورات العربية الراهنة، الثورة المصرية وآفاق الديمقراطية الشعبية من أسفل


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 3636 - 2012 / 2 / 12 - 16:10
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا - 73 - سيكون مع الأستاذ خليل كلفت - مفكر وسياسي ماركسي- في حوار مفتوح حول: طبيعة الثورات العربية الراهنة، الثورة المصرية وآفاق الديمقراطية الشعبية من أسفل.

تمهيد:


1: أعتقد أن هذا الحوار المفتوح ينبغى أن يركز على الثورة العربية الحالية بمختلف أبعادها وآفاقها: طبيعتها وأسبابها وألغازها وأهدافها وفُرَصها وأوهامها وتحدياتها وأخطارها وسيناريوهات مساراتها واحتمالات امتداداتها إلى بلدان لم تلحق بالثورة بعد، والمحصلة النهائية فى بلدان الثورة من حيث طبيعة الأنظمة القادمة فيها، والأحوال المتوقعة فى هذا البلد العربى أو ذاك وفى العالم العربى بكامله وفى العالم الثالث بأكمله وفى العالم بأسره. ومن المفهوم تماما أن تحتاج تغطية كل هذه الأسئلة والمسائل والقضايا إلى جهود فكرية هائلة تبذلها أقلام كثيرة للكتاب والمفكرين والمحلِّلين السياسيِّين العرب؛ ورغم تقديرى لجهود كثيرة لكتاب عديدين فإننى أرى فى حدود اطلاعى المحدود عربيا والأوسع نسبيا مصريا أن هذه الجهود غير كافية لحمل الوعى الثورى بصورة كافية إلى هذه الثورات التلقائية العفوية بوعيها العفوى الجنينى، بحيث يكون هذا الوعى الثورى قادرا على إنضاج وعى الجماهير الشعبية وحتى قياداتها المباشرة وعلى تسييس هذه الجماهير بالقدر الكافى لتحديد الاتجاهات وتصحيح المسارات وإنجاح الثورات بفضل الفهم الصحيح لطبيعتها وآفاقها القريبة الأكثر ترجيحا وآفاقها البعيدة المحتملة التى يصعب التنبؤ بها وإنْ كان يمكن الحديث عن شروط ضرورية من جانب وبالغة الصعوبة من جانب آخر لتحقيق تطلعات وطموحات وأمانى المدى البعيد. ومن المؤسف أن يتقاعس كتاب سياسيون كثيرون عن الإسهام النشيط فى تطوير المناقشة حول الثورات للوصول إلى رؤية واضحة أو نظرية ناضجة تنطلق منها قيادة أكثر وعيا ونضجا للممارسة الجماهيرية الثورية. أما كاتب هذه السطور فإنه يدرك تماما أن جهده المتواضع لن يغطى فى المحل الأول سوى جانب محدود من أسئلة الثورة المصرية مع ملاحظات من بعيد جدا عن الثورات فى بقية البلدان العربية؛ وهذا قصور أعترف به مع ملاحظة أن الثورات التى تفجرت فى البلدان العربية الخمسة عزلت المراقب السياسى فى كل بلد منها داخل بلده بسبب التطورات الكثيرة المتلاحقة فى كل بلد بحيث تُغرق هذه التطورات بعواصفها وأعاصيرها وفيضاناتها وزلازلها ودمائها ومهامها طاقة كل كاتب على التفكير والإنتاج الفكرى. وتنطبق سمة المحدودية هذه ليس فقط على هذا الحوار المفتوح بل تشمل كل مقالاتى عن الثورة؛ وهى جميعا منشورة فى الحوار المتمدن منذ مقالى عن ثورة تونس وإلى يومنا هذا وستصدر خلال أيام عن دار نشر بالقاهرة فى كتاب يضم كل مقالاتى فى هذه الفترة باستثناء مقال نُشر فى مجلة السفير اللبنانية ومقال آخر نُشر فى الحوار المتمدن لأنهما مكتوبان ومنشوران بعد إرسال الكتاب إلى المطبعة. وبالتالى فإن الأفكار الصحيحة والخاطئة التى حملتها تلك المقالات يمكن أن تكون ضمن موضوعات هذا الحوار المفتوح.


ثورة أم انتفاضة أم هوجة؟:


2: من المنطقى أن تكون طبيعة الثورة مسألة قابلة للنقاش والخلاف، أما الأمر الغريب والمثير حقا فهو أن يحتدم النقاش والخلاف حول مسألة هل ما نشهد فى العالم العربى ثورات أصلا أم هى "مجرد" انتفاضات باعتبار الانتفاضة أقل منزلة ومكانة من الثورة على سُلَّم هيراركى مفترض للحركة الشعبية الجماهيرية من تمردات وهبات وعصيانات ومعارضات ومقاومات وانتفاضات وثورات! وصحيح أن الصلة بين التسميات والمسميات وثيقة غير أن أىّ حركة فى حجم الثورة بالذات تقدِّم نفسها بكل بساطة بوصفها ثورة. ويقاس الحجم هنا بالمكان والزمان وعمق التغيير المستهدف فإذا كانت ثورة بفضل شمولها لبلد بكامله أو لبلدان بكاملها من حيث المكان ولفترة طويلة لا تستغرق أياما أو أسابيع أو أشهر بل تمتد إلى أعوام من حيث الزمان وبفضل شمولها لنسبة هائلة من سكان بلد أو بلدان وللسواد الأكبر من الجماهير العاملة والشعبية والفقيرة وبفضل التغيير العميق الذى يمثل الهدف الموضوعى للحركة بحكم حجمها الهائل واستمرارها وتحوُّلها إلى النشاط العام الرئيسى لشعب أو شعوب يجمع بينها المكان والزمان وعمق المعاناة وبالتالى عمق التغيير المطلوب الذى لخصته الشعوب فى شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"؛ فإننا نكون بالتأكيد إزاء ثورة سياسية شعبية، إزاء شعب ثار على أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لإحداث تغيير تاريخى فى هذه الأوضاع بكل جوانبها الديمقراطية والسياسية والاجتماعية ومن حيث مستويات معيشة الجماهير الشعبية. وأعتقد أننا ينبغى أن ننصرف من المناقشات العقيمة حول المسألة المفتعلة المتحذلقة المتمثلة فى سؤال هل هى ثورات أصلا إلى التفكير العميق فى طبيعتها وأهدافها وآفاقها لتقوم ممارسة الشعوب العربية للثورة على رؤية أو نظرية واضحة للثورة الشعبية السياسية الجارية فى البلدان العربية الخمسة التى ثارت شعوبها دون شك وبدأت الدخول أو توشك على الدخول بقوة واندفاع وعناد وإصرار فى سنة ثانية لهذه الثورة أو الثورات، مع حالة من الترقب المبرَّر تماما للثورات "المحتملة" للشعوب فى بلدان عربية أخرى بحكم أوضاع الاستغلال والتبعية والفساد والاستبداد المتماثلة وبحكم البدايات والإرهاصات الثورية التى عرفتها هذه البلدان جميعا تقريبا خلال عام انطلاق الثورة العربية.


3: وهناك نوع من التفكير لا يستهان بمدى انتشاره حتى بين المثقفين مؤداه أن الثورة تكون ثورة فقط عندما تنجح فى تحقيق أهدافها. والحقيقة أن الثورة تكون أو لا تكون ثورة بوقوعها أو عدم وقوعها بالسمات السابقة الذكر. فإذا استنتجنا أننا إزاء ثورات سياسية شعبية كما سبق القول فإنه لا مناص من استنتاج أن الثورة يمكن أن تنجح كما يمكن أن تفشل وبالتالى فإن النجاح وإنْ كان الهدف الطبيعى لثورة ليس بحال من الأحوال معيار تصنيفها كثورة. وكانت الثورة الفرنسية الكبرى ثورة ليس لأنها نجحت فى تحقيق هدفها الموضوعى أىْ تحقيق النظام الرأسمالى بل بحكم معايير التصنيف التى سبقت الإشارة إليها، وكانت الثورة الصينية العظمى ثورة بنفس المعايير رغم أنها فشلت فى تحقيق هدف إقامة نظام اشتراكى كما أراد الحزب الشيوعى الذى قاد تلك الثورة دون أن يدرك هدفها الموضوعى الحقيقى الذى نجحت الثورة فى تحقيقه وهو النظام الرأسمالى الراهن. ومن ناحية أخرى فإن النجاح بدوره ينبغى أن يقاس بمعايير سليمة حيث يخطئ من يقيس نجاح ثورة سياسية من ثورات العالم الثالث كما هو الحال بالنسبة لثوراتنا الراهنة بمعايير الثورة الاشتراكية أو بمعايير الثورة الرأسمالية (البرچوازية)، فنحن إذْ نفترض أهدافا وهمية زائفة لثورة إنما نفقد كل أساس لمعرفة طبيعة نجاحاتها وإخفاقاتها. وبطبيعة الحال فإن التقدير السليم لأهداف ثورة ولمعايير النجاح والفشل فى تحقيقها أمر يرتبط بصورة كاملة بالفهم الصحيح لطبيعة الثورة وهذا بدوره يتوقف على الإدراك الواضح لكل سمات وخصائص وأبعاد السياق التاريخى للثورة المعنية.


4: وإذا كانت الثورة شعبية ولا جدال فى أنها شعبية بحكم النضال الثورى المتواصل للملايين وعشرات الملايين من الجماهير العاملة والشعبية فإن الحديث عن كونها ثورة سياسية يثير الجدال من جديد. فالثورة السياسية تنقل السلطة من طبقة إلى طبقة متناقضة جذريا معها على حين أن من المستبعد تماما أن تقوم ثوراتنا الراهنة بهذا. فلأسباب يطول شرحها ويمكن الإلمام بها بإيجاز فى نقطة تالية ستظل السلطة فى البلدان العربية المعنية فى أيدى الطبقة الرأسمالية التابعة حتى بعد النجاح الكامل لهذه الثورات فى إحداث تغيير تاريخى لمجتمعاتنا بتحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل. فكيف نكون إزاء ثورة سياسية مع أن مفهوم الثورة السياسية يتمثل فى نقل السلطة من طبقة إلى طبقة متناقضة جذريا معها: من طبقة إقطاعية إلى طبقة رأسمالية أو من طبقة رأسمالية إلى الطبقة العاملة؟ ولأن من العبث أن نسمى ثورتنا ثورة سياسية بهذا المعنى فسوف نرى فى نقطة تالية فى سياق هذا الحديث لماذا نسميها ثورة سياسية بمعنى متواضع نسبيا وإنْ كانت كفيلة بإحداث تغيير سياسى واجتماعى تاريخى فى بلدان الثورة كما سبق القول!

 

طبيعة الثورات العربية الراهنة:


5: يمكن أن تحدث الثورة السياسية فى سياقات تاريخية مختلفة اختلافا جوهريا بحيث تكون لدينا أنواع من الثورة السياسية وبحيث تكون لكل نوع تنويعاته المتباينة أو المتقاربة. وإذا ركزنا الحديث عن ثورات العصر الحديث يمكن القول إن الثورة السياسية تأتى فى سياق ثورة اجتماعية كما حدث تاريخيا بالفعل (الثورات السياسية الرأسمالية أو البرچوازية فى سياق الثورة الاجتماعية الرأسمالية التى تنقل المجتمع من نمط الإنتاج الإقطاعى إلى نمط الإنتاج الرأسمالى) وقد تتخذ شكل الثورة السياسية الجماهيرية (ثورة 1789 الفرنسية على سبيل المثال) كما أنها قد تتخذ شكل الثورة السياسية الفوقية التى تُحْدِثها فى سياقها التاريخى ثورة اجتماعية رأسمالية فوقية فى شكلها اليونكرى الپروسى ونموذجها الأنقى ثورة أريستقراطية الميچى فى الياپان. وقد أدت هذه الثورات الاجتماعية التى هى ثورات التحول الرأسمالى وأدواتها السياسية المتمثلة فى الثورات السياسية عند مستويات بعينها من تطورها إلى نشأة وتطور ونضج رأسماليات البلدان التى صارت بلدانا رأسمالية صناعية متقدمة رغم تنوُّع مستويات تقدُّمها وخصوصية تركيبة كل بلد منها. وتنتمى إلى هذه الثورات تلك الثورات السياسية المسماة بالاشتراكية التى حدثت فى سياق التحول إلى الرأسمالية أىْ فى سياق الثورة الاجتماعية الرأسمالية فأدت رغم فكر وإخلاص قياداتها الماركسية إلى بلدان صناعية رأسمالية عبر رأسمالية الدولة والبيروقراطية ونموذجها الأمثل ثورة أكتوبر 1917 البلشڤية فى روسيا.


6: ونتيجة، من جهة، لتأخر باقى بلدان العالم عن اللحاق برأسمالية الغرب وبانتشارها ممتدة إلى مناطق أخرى فى العالم فى "الشمال"، ونتيجة، من جهة أخرى، لنشأة وتطور عالم البلدان التى صارت بلدانا صناعية رأسمالية متقدمة فى السياق التاريخى للثورة الاجتماعية الرأسمالية وأداتها المتمثلة فى الثورة السياسية أىْ نتيجة لسيطرة البلدان الصناعية التى صارت إمپريالية على باقى العالم، والسيطرة بالتالى على سيرورتها وصيرورتها، نشأ عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات الذى سُمِّىَ عند بلوغ العالم مرحلة بعينها انقسم فيها، أو بدا أنه انقسم فيها، إلى ثلاثة عوالم تحمل أرقام الأول والثانى والثالث، بتسمية العالم الثالث التى ما تزال تلتصق به رغم الأوضاع المتغيِّرة. وشهد هذا العالم الثالث بدوره ثورات يمكن وصفها بالثورات السياسية لأنها رغم عدم مساسها بصورة جوهرية بالتبعية الاستعمارية وعدم نقلها للسلطة من طبقة اجتماعية إلى طبقة اجتماعية أخرى كانت تدور مع هذا حول أهداف كبرى تتعلق بالاستقلال الوطنى والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وقد حالف النجاح الساحق بعض هذه الثورات فيما انكفأت أخرى فلم تحقق أهدافها إلا بصورة جزئية ومؤقتة فى أفضل الحالات. وعلى سبيل المثال نجحت الثورة السياسية الشعبية الكبرى فى الصين فى تحويل الصين الشعبية إلى بلد صناعى رأسمالى متقدم، فى ظل أوضاع محلية وعالمية خاصة، رغم مشكلات عميقة ما تزال قائمة، وحققت استقلالها الوطنى فى هذا السياق ولم يُقَدَّر لقضية الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية أن تنجح إلا بصورة جزئية ومؤقتة فى سياق الشعارات الاشتراكية والشيوعية على سطح عملية تحوُّل رأسمالى. وفى المقابل انكفأت الثورة السياسية الشعبية الإيرانية على نفسها وغرقت فى مستنقع الدولة الدينية الاستبدادية والتبعية الاستعمارية اقتصاديا والتضخم والبطالة والإفقار رغم ما سمحت به الثروة النفطية من تقدُّم فى بعض المجالات التى يأتى فى مقدمتها مجال السلاح، ورغم العداء المستحكم بينها وبين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروپى وإسرائيل وبلدان رأسمالية وإمپريالية أخرى سياسيا وبالأخص فيما يتعلق بمشروعها النووى. وهناك بالطبع انقلابات عسكرية تطلعت أحيانا إلى ما تطلعت إليه الثورات السياسية فصارت انقلابات عسكرية أيدها الشعب وصارت بنعمة الرب ثورات نموذجها الأكمل انقلاب يوليو 1952. وكما هو متوقع فى ثورات العالم الثالث كقاعدة تجيئ الثورات وتذهب وتبقى التبعية الاستعمارية والرأسمالية المحلية التابعة وديكتاتوريتها حيث تتواصل التبعية الاستعمارية فى مصر على سبيل المثال بعد ثورة 1919 و"ثورة" 1952 ومن المتوقع أن تستمر حتى بعد ثورة 25 يناير 2011. وقد جاءت ثورة 1919 بالديمقراطية الشعبية من أسفل، وعصف بها الانقلاب العسكرى فى يوليو 1952 لأنه انقلاب عسكرى ليس من المفترض أن يتهادن مع ديمقراطية شعبية قائمة وناهيك بأن يسمح بقيام ديمقراطية جديدة، ومن المأمول أن تنجح الثورات الراهنة فى أن تتمثل محصلتها فى الديمقراطية الشعبية من أسفل فهى الثمرة الناضجة الحلوة الوحيدة التى تخرج بها الشعوب من ثوراتها السياسية المماثلة وهى تمثل تغيُّرا تاريخيا فى حالة المجتمع ليس فقط من حيث الحريات والحقوق الديمقراطية بل من حيث تحوُّل شامل فى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للطبقات العاملة والشعبية والفقيرة.


7: وكما تأتى الثورات السياسية فى العالم الثالث فى سياق النظام المستقر للتبعية الاستعمارية بوصفها كذلك، تأتى الثورات السياسية كذلك فى سياق نظام رأسمالى مستقر فتنجح أو تفشل إستراتيچيًّا رغم نجاحات جزئية مهمة. وكانت ثورة الشباب فى 1968 فى أوروپا ثورة سياسية هزت فرنسا بالذات فى سياق نظام رأسمالى مستقر وكانت نجاحاتها جزئية فلم تحقق أهدافا لاسلطوية كبرى، على حين أن الثورات السياسية فى "الكتلة الشرقية" وبالأخص فى نموذجها الأكثر أهمية أىْ روسيا كانت ثورات سياسية ناجحة بامتياز فقد حققت فى سياق نظام رأسمالى قائم فى بلد صناعى كبير ودولة من الدول العظمى أهدافا كبرى تتمثل فى تحويل الاقتصاد الرأسمالى للبلاد من شكل رأسمالية الدولة إلى شكل الرأسمالية من الطراز الغربى النموذجى تحت لافتة اشتراكية السوق بالإضافة إلى نشأة ونموّ الديمقراطية الشعبية من أسفل. وبالطبع فإن ثورات أوروپا الشرقية والجنوبية تتنوع ومنها ثورات سياسية حدثت فى سياق رأسمالية صناعية متقدمة فى روسيا وبعض البلدان القليلة الأخرى فيما حدثت ثورات سياسية أخرى فى سياق أشبه بسياق الرأسمالية التابعة فى العالم الثالث فى بلدان أخرى فى أوروپا الشرقية والجنوبية وفى أغلب دول الكومنولث التى استقلت بمفهوم القانون الدولى فقط عن تبعيتها السابقة للاتحاد السوڤييتى السابق، وعن تبعيتها الراهنة لروسيا والرأسمالية العالمية.


8: ولأن السياقات التاريخية للثورات السياسة تختلف وتتنوع إلى هذا الحد، يغدو من الضرورى أن ندرك بوضوح السياق التاريخى لثوراتنا العربية وبالتالى طبيعة هذه الثورات والأهداف النابعة من هذه الطبيعة. وإذا كان العالم الحديث والمعاصر قد انقسم إلى عالمين العالم الصناعى الرأسمالى الإمپريالى وعالم الرأسمالية التابعة فيما يسمى بالعالم الثالث (وسبب الانقسام هو سيطرة العالم الأول على العالم الثالث أو الثانى بالأحرى) فقد صار للثورة السياسية سياقان تاريخيان: سياق الثورة الاجتماعية وسياق التبعية الاستعمارية. وقد شرحت هذين السياقين فى عدد من مقالاتى ويمكن العودة إليها فى سياق تقدُّم هذا الحوار. ويمكن أن أكرر هنا أننا لسنا إزاء السياق التاريخى لثورة اشتراكية ببداهة غياب شروط هذه الثورة فى الوقت الحالى ليس عندنا فقط بل فى العالم كله بلا استثناء، كما أننا لسنا إزاء السياق التاريخى لثورة رأسمالية بحكم واقع التبعية الاقتصادية والسيطرة الاستعمارية؛ هذا الواقع الذى قطع طريق تطور الرأسمالية الصناعية فى بلدان العالم الثالث كله ومنها بلدان عالمنا العربى. ومعنى هذا أنه ليس من المفترض أن تحقق هذه الثورات السياسية تحولا اجتماعيا تاريخيا إلى رأسمالية صناعية متطورة تضع حدا للتبعية الاستعمارية لأن مثل هذا التحول يفترض تطورا اجتماعيا اقتصاديا صناعيا طويل الأمد قبل الثورة يكون نموه التراكمى قد أحدث التحول الفعلى قبل انفجار الثورة السياسية التى تنقل إلى طبقته القيادية أىْ الطبقة الرأسمالية الصناعية سلطة الدولة. وعلى أساس إدراك واضح لطبيعة الثورة تتحدد الأهداف النابعة منها ويمكن تلخيصها جميعا كما سبق القول فى هدف واحد واضح هو الديمقراطية الشعبية من أسفل. ومن مثل هذا الهدف المحدد يمكن أن تنبع الإستراتيچيات والتاكتيكات الملائمة لتحقيقه بدلا من متاهات يلقى بنا إليها غياب رؤية واضحة.

 

الصراع المفتوح بين الثورة والثورة المضادة:


9: وقبل أن ننتقل إلى مناقشة قضايا تتعلق بإستراتيچيات وتاكتيكات الديمقراطية الشعبية من أسفل، سيكون من المناسب أن نفكر جيدا فى المسار الفعلى المتوقع للصراع الحالى بين الثورة والثورة المضادة. وإذا كانت الديمقراطية الشعبية من أسفل هى الهدف الطبيعى لمثل هذه الثورة من وجهة نظر مصلحة حياة ونضال الطبقة العاملة والطبقات الشعبية جميعا فإن المسار المتوقع للثورة المضادة هو ذلك الذى يقود فى نهاية المطاف إلى استمرار نفس النظام بنفس الطبقة الرأسمالية التابعة الحاكمة الآن مع بقاء سلطة الدولة فى أيدى هذه الطبقة. وكما سبق القول فإن بقاء نظام الرأسمالى يمكن أن يتحقق من خلال طريقيْن محتمليْن نظريا وقائميْن فعليا للصراع من جانب الثورة المضادة فى بلدان الثورات العربية فى الوقت الحالى: هناك الطريق التونسى المصرى وهناك الطريق الليبى السورى اليمنى، والطريق الأول هو طريق أو إستراتيچية التصفية التدريجية للثورة، والطريق الثانى هو طريق أو إستراتيچية التصفية العنيفة أو الحربية للثورة.


10: ويبدو أن طريق التصفية التدريجية للثورة أكثر ملاءمة لمصالح كلٍّ من طرفىْ الصراع أىْ لكلٍّ من الثورة والثورة المضادة. والمسار الطبيعى لهذا الطريق ملائم للثورة لأنها يمكن فى سياقه أن تجد الوقت لتنمو وتتطور وتنضج من خلال صراعات ونضالات ومعارك متواصلة فتزداد الجماهير وقياداتها تسييسا ووعيا بالثورة وأهدافها وصولا إلى تأسيس الديمقراطية الشعبية من أسفل؛ مع تفادى المجازر والمذابح والإبادات الواسعة النطاق كما شهدنا فى ليبيا وكما نشهد الآن فى سوريا واليمن. وهذا الطريق ملائم تماما من الناحية الموضوعية للثورة المضادة فهو يساعدها على الاحتفاظ بالنظام الرأسمالى وبالطبقة الرأسمالية التابعة وبالتبعية الاستعمارية التى تمدها بشبكة أمان من التحالفات الدولية التى تحميها داخليا ودوليا ومن البديهى أنه سيكون على هذه الطبقة الرأسمالية التابعة الإقدام بالمقابل على تضحيات وتنازلات يمكن أن تضطر إليها، ويمكن تلخيصها فى التسليم فى المدى القصير والمتوسط بمقتضيات الديمقراطية الشعبية من أسفل من حريات وحقوق ومستويات معيشة أفضل على أساس أجور أفضل وشروط عمل أفضل وعلى أساس استقلال القضاء وحرية الصحافة وشمول الرعاية الصحية وغير ذلك مضحيةً بجانب من أرباحها ومداخيل فسادها وغير ذلك. وهنا تكون الديمقراطية من أسفل ضريبة بقاء الطبقة الحاكمة التى لا مناص من أن تدفعها تحت ضغط استمرار الثورة. والأساس المزدوج لنجاح هذا الطريق يتمثل، من جهة، فى استمرار الثورة بنضالاتها الثورية بالإضراب والتظاهر والاعتصام وكل الأشكال الفعالة للاحتجاج الثورى السلمى، ويتمثل، من جهة أخرى، فى استمرار الثورة المضادة فى طريق التصفية التدريجية للثورة الذى اختارته عندما قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية بالانقلاب العسكرى الذى أطاح بالرئيس السابق لحماية النظام ضد الثورة وليس لحماية الشعب وثورته كما يزعم المجلس العسكرى وحلفاؤه من الإخوان المسلمين والسلفيِّين والليبرالية اليمينية وقادة وأنصار الحزب الوطنى، بدلا من مواصلة مذابحه المتكررة ضد الشعب والتى يمكن أن تفتح الباب أمام الانزلاق فى طريق الحرب الأهلية.


11: والحقيقة أن مصير الطبقة الرأسمالية المالكة بصورة مباشرة والحاكمة بصورة غير مباشرة (وهى ذاتها الثورة المضادة بشحمها ولحمها عندما تندلع ثورة فعلية) يتوقف فى سياق الصراع بين الثورة والثورة المضادة على اختيار الثورة المضادة لأحد الطريقيْن المذكوريْن أعلاه فى تصفية الثورة: طريق التصفية العنيفة (الحربية) كخط أساسى رغم عدم غياب التعامل مع مبادرات سياسية سلمية أو طريق التصفية التدريجية (السلمية) كخط أساسى رغم عدم غياب استخدام مستويات من العنف وحتى المذابح والمجازر المنظمة كوسائل إضافية فى خدمة طريق التصفية التدريجية. وتختار الطبقة الحاكمة هذا الطريق أو ذاك وفقا لتقديراتها وحساباتها وكذلك وفقا لمستوى تماسكها الداخلى ومدى انسجام قواها ومؤسساتها وأجهزتها وقطاعاتها وأقسامها. ورغم أن طريق التصفية التدريجية للثورة هو الخيار الأفضل للطبقة الحاكمة إلا أن أوضاعها الفعلية وتقديراتها وحساباتها التى تحتمل الخطأ و الصواب، يمكن أن تورِّطها فى الانزلاق إلى طريق التصفية العنيفة الحربية للثورة!


12: وكما سبقت الإشارة فإن النظام الرأسمالى التابع باقٍ فى الحاليْن، فى طريق التصفية التدريجية للثورة كما فى طريق التصفية الحربية للثورة، ما دام البديل الاشتراكى للرأسمالية غير وارد فى برنامج مثل هذه الثورات التى لا تهدد بالتالى بقاء النظام الرأسمالى التابع. غير أن طريق التصفية التدريجية يمكن أن يؤدى، حتى فى حالة نجاح الثورة فى تحقيق هدفها الموضوعى أىْ الديمقراطية الشعبية من أسفل، إلى بقاء نفس الطبقة الرأسمالية التابعة مهما ضحَّت بكباش فداء من قادتها ورجال دولتها ورجال اقتصادها. أما طريق الثورة العنيفة/الحربية للثورة فإنه يهدد فى حالة نجاح الثورة، رغم بقاء الرأسمالية التابعة كنظام اجتماعى اقتصادى سياسى، بتدمير الطبقة الرأسمالية المالكة والحاكمة بأفرادها ورجال أعمالها وأصحاب شركاتها وكتلها ومختلف أقسامها لصالح إعادة تشكيل طبقة رأسمالية تابعة جديدة انطلاقا من نُخَب جديدة كان بمستطاعها قيادة الثورة لأنها تشكل جزءًا لا يتجزأ منها أو لأنها استطاعت سرقتها. فمن جهات عديدة تساهم قوى الثورة محليا وقوى متنوعة إقليميا ودوليا فى تدمير الطبقة الرأسمالية التى تحارب شعبها بكل قوة جيشها. وهنا تنتقل سلطة الدولة من طبقة رأسمالية تابعة مهزومة إلى طبقة رأسمالية تابعة تمر بعد ذلك بمختلف أطوار التكوين والنمو والتطور والنضج كطبقة. وقد حدثت إعادة تشكيل الطبقة الرأسمالية لصالح طبقة جديدة وانتقال السلطة إليها، رغم الاستبقاء المحتمل لبعض عناصر الطبقة الرأسمالية المهزومة، فى تجارب ثورية وغير ثورية عديدة منها البلدان الفاشية المهزومة فى الحرب العالمية الثانية، ومنها ثورات ثمانينات وتسعينات القرن العشرين فى البلدان الناشئة عن انهيار وتفكك الاتحاد السوڤييتى السابق وبلدان رأسمالية الدولة التى انتحلت الاشتراكية والشيوعية فى شرق وجنوب أوروپا، وهى تحدث حاليا من أعلى فى الصين الشعبية بقيادة الحزب الشيوعى الصينى، كما حدثت فى تجارب عديدة فى العالم الثالث مع التأميمات وصعود أشكال من رأسمالية الدولة التابعة كما حدث فى إيران فى سياق إحلال الجمهورية الإسلامية محل نظام الشاهنشاه. وفى مصر أعيد تشكيل الطبقة الرأسمالية التابعة المهزومة غير مرة كما حدث فى سياق انقلاب 1952 العسكرى بإصلاحه الزراعى وتمصيراته وتأميماته و"تنميته"، وكما حدث فى سياق الانفتاح والخصخصة وتصفية القطاع العام فى عهدىْ السادات و مبارك. ويعتقد كاتب هذه السطور أن تقديرات وحسابات المجلس العسكرى (بالطبع بالاستعانة بخبرائه ومستشاريه المصريِّين والأجانب "المحتملين") لاحتمالات هذا الخطر بالذات فى حالة انتهاج طريق التصفية الحربية للثورة هى التى دفعت المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية إلى خيارها الإستراتيچى المتمثل فى طريق التصفية التدريجية للثورة رغم كل أشكال القمع الأمنى العنيف التى ارتكبها بمذابحه واعتقالاته ومحاكماته العسكرية والإعلامى والأيديولوچى. ذلك أن الطريق الحربى سوف يعنى فى حالة نجاح الثورة، أو حتى فى حالة استمرارها بقوة لفترة طويلة، إلى انهيار الطبقة المالكة الحاكمة الحالية وإحلال طبقة رأسمالية تابعة جديدة محلها. وقد أمكن اختيار هذا الطريق التدريجى انطلاقا من غياب البديل الاشتراكى فهنا تدرك الطبقة الحاكمة أنها لا تحارب وظهرها إلى الحائط. ويتحدث كثيرون عن "خروج آمن" يسعى إليه المجلس العسكرى أو يُسْمَح له به انطلاقا من تصور خاطئ يفصله عن الطبقة الحاكمة التى ينتمى إليها والتى يدافع عن وجودها واقتصادها وسلطتها واستقرار نظامها ولا يبحث عن "مخرج آمن" لأفراده وثرواتهم ومصالحهم.

 

تاكتيكات المجلس العسكرى فى الثورة المضادة:


13: وإذا وضعنا جانبا أسطورة أن المجلس الأعلى قد تدخَّل فى السياسة لحماية الثورة والشعب على أساس نظرى عسكرى عام يتمثل فى أن كل الثورات المكلَّلة بالنجاح قد انتصرت فى مواجهة جيوش قوية تضربها بكل قوتها فلا حاجة للشعوب إذن لحماية أحد، فقد كان الواقع الفعلى عندما تدخل المجلس العسكرى فى السياسة فى بداية الثورة هو أن الثورة كانت قد ألحقت هزيمة عسكرية ساحقة بجيوش وزارة الداخلية. والسؤال المنطقى هنا هو: مِمَّنْ كان المجلس العسكرى يحمى الشعب والثورة؟ من نفسه؟! والواقع أنه لم يحمهما حتى من نفسه هو! فعندما جرى فتح السجون واستخدام البلطجية على أوسع نطاق لترويع الثورة والشعب كان المجلس العسكرى حاضرا بجيشه فى الشوارع والميادين فى مختلف مدن مصر، ومنذ ذلك الحين لم يكف المجلس عن مطاردة الثوار بقنابل الغاز والرصاص الحى فى كل مكان وعن تنظيم المذابح فى ماسپيرو وشارع محمد محمود مع بداية موجة 19 نوڤمبر 2011 من موجات الثورة المصرية، وشوارع قصر العينى والشيخ ريحان ومجلس الشعب فى أواخر تلك الموجة فيما سُمِّىَ بأحداث مجلس الوزراء، وأخيرا هذه المذبحة المروِّعة فى بورسعيد. ولا مجال هنا لإحصاء ما لا يُحْصَى من كل أنواع الهجمات العنيفة والتهجمات المشينة على نضالات الثورة فضلا عن إثارة الفتن وسياسة "فَرِّقْ تَسُدْ" وحملات التشويه والافتراء مدعوما فى كل ذلك بمواقف وجهود حلفائه من الإخوان المسلمين والسلفيِّين والليبرالية اليمينية وأنصار وأتباع الحزب الوطنى المنحلّ وأحزابه "غير المنحلة".


14: ويمكن القول إن هذا السلوك السياسى للمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية ينطلق من إستراتيچية شاملة هدفها حماية النظام واستعادته حتى بالتضحية بعدد من رؤوسه، من جهة، وتصفية الثورة بطريقة تدريجية باحتوائها وتفريغها من معناها، من جهة أخرى. وعلى أساس هذه الإستراتيچية، جرى اعتماد التاكتيكات التى بدأت بالانقلاب العسكرى الذى أطاح بالرئيس مبارك (وهو انقلاب قصر بمعنى الانقلاب ضد القيادة السياسية للنظام من داخل النظام ولمصلحة إنقاذه وحمايته) بعد إجباره مع إعلان تنحيته على اتخاذ قرار بعنصر رئيسى من عناصر سياسة الفترة اللاحقة يتمثل فى تحديد مَنْ يحل محله وذلك بتكليف المجلس الأعلى بتولِّى سلطات رئيس الجمهورية، وكان قد أمر قبل ذلك بيوم واحد بإجراء تعديلات على الدستور لتكون نقطة انطلاق التاكتيكات التشريعية فى الفترة الانتقالية اللاحقة. ومع انهيار قوات وزارة الداخلية فى الأيام الأولى للثورة، ومع الاضطرار إلى حل مجلسىْ الشعب والشورى فى وقت لاحق، صار المجلس الأعلى يتولى السلطة التنفيذية الأساسية (سلطات رئيس الجمهورية وقيادة الجيش ووزارة الداخلية) والسلطة التشريعية والرقابية للپرلمان وصار "الكل فى الكل" كما يقال فى حكم البلاد، وكل هذا بالاستناد إلى شرعية الانقلاب العسكرى مع ورقة توت هشة ممزقة لا تستر عورات المجلس الأعلى تتمثل فى تكليف الرئيس له بصورة غير دستورية بتولِّى سلطة الدولة. وباعتماد هذه الإستراتيچية والبدء بتولِّى السلطة شرع المجلس الأعلى فى تطبيق تاكتيكاته الموضوعة سلفا والمستجدة وفقا لتطور الأحداث. وكانت الإطاحة بالرئيس مبارك ضربة معلم من جانب المجلس الأعلى باعتباره وفقا لرؤيته نقطة تجميع رفض قوى الثورة جميعا للنظام وموضع إجماعها وكان الإجماع ينعقد بصورة عامة على هذا بالفعل بين قوى الثورة، هذا التعبير الفضفاض الذى جمع بين قوى شاركت فى الثورة للحصول على غنائمها وجوائزها فى أسرع وقت وخانت الثورة فور تحقيقها لهدفها فلم تكن فى حقيقتها قوى ثورية بل كانت فى الواقع من قوى الثورة المضادة، وقوى ثورية حقيقية قامت بالإعداد للثورة وتفجيرها وقيادتها والسير بها إلى الأمام والاستمرار بها إلى يومنا هذا عبر مختلف موجات الثورة ونضالاتها ومعاركها وأنشطتها. وهكذا استطاع المجلس الأعلى تحقيق تهدئة وإنْ مؤقتة للثورة والحصول على ثقة وإنْ مؤقتة من أقسام كبيرة من قوى الثورة والشعب. وانطلاقا من هذه الضربة الناجحة التى لا يستهان بتأثيرها على تطور الثورة فى تلك الفترة المبكرة تتابعت التاكتيكات الخبيثة.


15: وبالطبع استغلَّ المجلس الأعلى، المسمَّى زورًا بالجيش، مع الاختلاف الجذرى بينهما، تلك "الثقة" المكتسبة وارتدى مظهر داعم الثورة وحاميها وراعيها ومنقذها وضمانة تحقيقها لأهدافها والمنظم الواعى المخلص لإيقاعها ووقع خطاها وخطواتها زاعما إدراكه للطابع التدريجى الاضطرارى لتحقيق المطالب خاصة فى غياب الأساس الدستورى للتغيير المنشود والموارد المالية اللازمة لتلبية مطالب العدالة الاجتماعية. ومستغلًّا أيضا ما اعتبره تسليما إنْ لم يكن ترحيبا من الشعب بحكمه فى الفترة الانتقالية، تلكأ أو تباطأ أو رفض الاستجابة لمطالب الثورة المتعلقة بالمجلس الرئاسى المدنى والحريات والحقوق والعدالة الاجتماعية، وراح يطبق بقية تاكتيكاته الخبيثة. ولأنه لا مجال هنا لتفصيل ما تم تفصيله من جانب كتاب كثيرين خلال عام كامل، يمكن الحديث هنا فى خطوط عريضة عن تاكتيكات أربعة مجالات أساسية: 1: التعامل مع الرئيس المخلوع ورجاله والعديد من رؤوس الفساد وكذلك مع عدد من مؤسسات نظامه، 2: التعامل مع إعادة بناء المؤسسات "الشرعية" للبلاد، 3: التعامل مع قضية التحالف مع بقية قوى الثورة المضادة، 4: التعامل مع النضالات الثورية. وسأتحدث عن هذه الأشياء بالإيجاز اللازم هنا.


16: وفيما يتعلق بالتعامل مع مبارك وأسرته ورجاله ومؤسساته، عمد المجلس الأعلى فى مرحلة أولى استغرقت أشهر عديدة بترك مبارك ورجاله وأجهزته يتفرغون لتهريب أموالهم وبعض أشخاصهم وترتيب أوضاعهم وأوراقهم وفَرْم وثائق إدانتهم قبل اتخاذ أىّ إجراءات قانونية ضدهم بحبسهم على ذمة قضايا أو التحقيق معهم، مع تقديمهم إلى المحاكمة عند الاضطرار تحت ضغط الثورة وكانت موجة 8 يوليو 2011 الثورية هى التى أدخلت مبارك فى قفص الاتهام بعد الثورة بقرابة نصف عام. واليوم بعد الثورة بعام كامل ما تزال المحاكمات تراوح مكانها محاطة بالشكوك حول جديتها من حيث إجراءات التقاضى ومن حيث الأحكام المتوقعة ومن حيث الابتعاد عن جوهر ما ينبغى أن يحاكم عليه رئيس جمهورية والحلقة الضيقة من رجاله المحبوسين ومطلقى السراح؛ وذلك بدلا من محكمة ثورة عادلة. ولم يتم حل الحزب الوطنى إلا بعد مماطلات طويلة دون حل محلياته ومع السماح بإنشاء أحزاب بقيادة كوادره وتضييق عدد كوادره الخاضعين للعزل إلى مجموعة ضيقة. وجرى اتباع أسلوب التغاضى والتجاهل والتهاون مع والتستر على مرتكبى أفظع الجرائم أثناء وبعد الثورة بما فى ذلك مرتكبى المذابح الشنيعة منذ المذابح الكبرى فى ميادين التحرير فى يناير 2011 إلى مذبحة بورسعيد البشعة الرهيبة فى فبراير 2012.


17: وفى مجال التعامل مع إعادة بناء المؤسسات "الشرعية" للبلاد، شهدنا الإصرار العنيد للمجلس العسكرى على الاحتفاظ بالحزب الوطنى ومجلس الشعب ومجلس الشورى وحكومة أحمد شفيق وقانون الطوارئ مع رفض أىَ اقتراب من إلغاء القوانين المقيدة للحريات. ولم يجر حل مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو الحزب الوطنى أو حتى حكومة أحمد شفيق إلا بصورة اضطرارية بعد التباطؤ المتواطئ الذى كان طويلا جدا فى حالة حل الحزب الوطنى وفشل كل محاولة عنيدة للاحتفاظ بالمؤسسة المعنية من هذه المؤسسات. ولم يَرْفَع المجلس الأعلى حالة الطوارئ إلا بعد الثورة بعام كامل مع استثناء لحالة البلطجة وهو استثناء يُلغى مغزى رفعها حيث يسهل إلصاق تهمة البلطجة على جميع المناضلين كما يفعل المجلس الأعلى بالفعل دون تطبيقها على البلطجية الذين يستخدمهم هذا المجلس نفسه ومختلف الأجهزة الأمنية فى البلاد، ومع الالتفاف حول مسألة أن الهدف الرئيسى فيما يتعلق بقانون الطوارئ ليس مجرد رفع حالة فرضه بل إلغاء هذا القانون الاستبدادى ذاته وإعداد قانون عادى للطوارئ. وانطلاقا من قرار أعلنه الرئيس المخلوع فى بيان له (مساء الخميس 10 فبراير 2011 أىْ فى اليوم السابق على إعلان استقالته أو إقالته) بتعديل خمس مواد دستورية وإلغاء مادة سادسة، قام المجلس بتشكيل لجنة مشبوهة للقيام بالتعديلات المطلوبة سرعان ما جرى سلقها والاستفتاء عليها فى 19 مارس 2011 أىْ بعد تنحية مبارك بشهر وأسبوع تقريبا لتتوالى فرمانات مراسيم المجلس بقوانين منها الإعلان الدستورى وقوانين مجلسىْ الشعب والشورى وقانون الأحزاب وهو أسوأ من قانون الأحزاب فى عهد الرئيس السابق وقانون تجريم التخريب ضد الإضرابات والاعتصامات العمالية المسماة بالاحتجاجات الفئوية فى المحل الأول وقوانين عديدة آخرها قانون الأزهر وقانون الانتخابات الرئاسية. وعلى أساس هذه التعديلات الدستورية والتشريعات المسلوقة على عجل تم تطبيق خطة جهنمية لصرف الثوار عن الثورة لفترة ممتدة من خلال استفتاءات وانتخابات پرلمانية ورئاسية متكررة تقترب الآن من نهاية مرحلة من مرحلتيها بانتهاء انتخابات مجلس الشعب وبدء انتخابات مجلس الشورى للبدء فى إعداد الدستور وانتخاب رئيس للجمهورية ربما لانتخابات لاحقة إذا تم احترام خارطة الطريق الموضوعة فى التعديلات الدستورية والإعلان الدستورى؛ تلك الخارطة التى تم خرقها غير مرة على كل حال. وهكذا يكون قد تم بناء المؤسسات "الديمقراطية" المطلوبة لتسليم السلطة للمدنيَّين وعودة الجيش إلى ثكناته وانتقال المجلس الأعلى إلى الحكم من وراء الكواليس. وكان الهدف المزدوج من وراء كل هذا يتمثل، من جانب، فى تأسيس شرعية جديدة تستند زورا إلى الثورة ليستظل بها النظام الجديد القديم و، من جانب آخر، لصرف طاقات الثورة إلى الاستفتاءات والانتخابات لفترة غير قصيرة بعيدا عن الثورة ونضالاتها. وفيما يتعلق بهذا الجانب الأخير، يبدو أن الثورة احتفظت بطاقاتها المتجددة على مواصلة نضالاتها التى لا تهدأ إلا لتتفجر من جديد وإنْ كان هذا الجانب قد أثر بصورة سلبية فى بعض توجهات وشعارات ونقاط تركيز القوى الحقيقية للثورة.


18: والمظهر الأكثر بروزا للتحالف الطبقى الذى عمل المجلس الأعلى على إنشائه يتمثل فى المحل الأول على التحالف مع قوى سياسية تعبِّر عن أقسام وقطاعات متعددة من نفس الطبقة: طبقة الرأسمالية الكبيرة التابعة. ورغم كل المحاولات الفاشلة بمعظمها لاستمالة تيارات أو قيادات من شباب الثورة، كان تركيز المجلس الأعلى منذ البداية على التفاوض مع ممثلى قوى الإسلام السياسى وبالأخص الإخوان المسلمين والليبرالية اليمينية. وكان التحالف ناجحا بكل معنى الكلمة لأن هذه القوى تنتمى جميعا إلى الطبقة الرأسمالية التابعة. فالمجلس الأعلى يمثل رأس الحربة فى الطبقة وسلطة دولتها ونظامها وفى الثورة المضادة، كما أنه فاعل اقتصادى رئيسى بحكم سيطرته على اقتصاد الجيش وامتيازاته، وبحكم كون أعضاء المجلس والكثيرين من كبار القادة العسكريِّين من ذوى الرُّتَب العليا فى الجيش جزءًا لا يتجزأ من الطبقة الرأسمالية التابعة. كما أن قادة الإخوان المسلمين والسلفيِّين والوفد والمصريِّين الأحرار والحزب الديمقراطى الاجتماعى المصرى والحزب الوطنى وأحزابه الجديدة وغيرهم ممثِّلون سياسيون لمصالح وقطاعات كبرى من الرأسمالية الكبيرة التابعة. وتمثل أحزاب وحركات وجماعات هذه القوى الطبقة المذكورة رغم أن غالبية عضويتها تنتمى إلى الطبقة العاملة والطبقات الشعبية والفقيرة وهذه طبيعة الأشياء فهذا شأن كل الأحزاب الرأسمالية الكبيرة فى كل مكان. وإذا كانت قيادات هذه الأحزاب والجماعات تتاجر بأيديولوچيات بعينها وتخفى مصالحها الحقيقية فإن قواعدها غالبا ما تكون بعيدة عن مثل هذا الاتجار بل تمثل ضحايا تلك الأيديولوچيات واليوتوپيات ووقود معاركها. وتؤلف هذه القوى معا أركان حرب الثورة المضادة التى هى الطبقة الحاكمة وسلطة دولتها ونظامها عندما تمتشق السلاح فى زمن الثورة الفعلية. على أن تباعُد الأيديولوچيات واختلاف التاريخ السياسى بما فى ذلك الخلافات المدمرة للثقة بينها والتنافس المحموم بين مختلف كتل وقطاعات نفس الطبقة الواحدة على الغنائم والجوائز السياسية والاقتصادية للثورة تبتعد بهذه القوى عن الانسجام الجرانيتى الفولاذى المفترض أو المتوهَّم لأقسام طبقة واحدة بحيث لا تعرف التعارض والتناقض بل تجعل العلاقات وحتى التحالفات بينها حافلة بالتناقضات؛ ويجدر بقوى الثورة أن تفهم طبيعة وأشكال ومستويات هذه التناقضات وأن تدرك أن استفادتها منها تمدُّها بقوة مضافة، بعيدا عن التصورات الشعبوية التى تتجاهل التناقضات فيما تركز على الوحدة بين قطاعات الطبقة الواحدة.


19: وتتعدد نقاط ونواحى ومناحى تعامل المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية مع الثورة والنضالات الثورية. وبالطبع وكما هو متوقع، صارت الثورة شعار المعادين لها قبل أن تكون شعار المؤمنين بها، فصار الجميع يشهدون للثورة، ويتغنون بالثورة، ويلهجون بالثناء على الثورة! وصارت عظمة الثورة العبارة الأولى الافتتاحية حتى لبدء الهجوم عليها والافتراء ضدها وكيْل الضربات إليها. وقد بدأ المجلس الأعلى عهده بمحاولات استثمار ما صوَّر المجلس وتصوَّر كثيرون أنه حماية للثورة من جانب الجيش الذى قال وقيل إنه لم يبادر إلى استخدام العنف. وسرعان ما اتضح أنه يستخدم مزيجا من العنف والاستمالة فى التعامل مع القوى الحقيقية للثورة. على أن محاولات استمالة شباب الثورة تراجعت بسرعة وتفاقم استعمال العنف وحتى العنف المفرط الذى وصل مرارا إلى حد تنظيم المذابح. وكانت الاستمالة الناجحة حقا هى تلك المفاوضات الأريحية مع قوى سياسية بعينها وخاصة مع جماعة الإخوان المسلمين فى سياق التحالف الذى سبقت الإشارة إليه فى فقرة سابقة مع الجماعة المذكورة بالذات. أما القوى الحقيقية للثورة فقد عوملت بتاكتيكات التصفية التدريجية التى مزجت بين حملات الافتراء والتشويه والهجوم الأيديولوچى والإعلامى العدوانى المتواصل ضد الثورة من جانب المجلس العسكرى وحلفائه، وصرف الثوار عنها بتكتيكات تكثيف الاستفتاءات والانتخابات ومختلف إجراءات إرساء قواعد تأسيس شرعية النظام الجديد القديم، وكذلك بالعنف المباشر بالاعتقالات الواسعة النطاق والمحاكم والأحكام العسكرية والتعذيب والمذابح المنظَّمة فى كثير من الأحيان. ويمكن القول باختصار أن المجلس العسكرى واصل قمعه المتعدد الأشكال للثورة متسلحا بالقوات المسلحة والشرطة وبقوى سياسية أبرزها الإخوان المسلمون والسلفيون. وكما سبق القول فإن المجلس الأعلى لم يحقق أىّ مطلب من مطالب الثورة إلا عند اشتداد ضغط الحشود المحتجة، وتمسك بعناد بقانون الطوارئ وفرض حالة الطوارئ عن طريق استثناء البلطجة، وعمل على توفير كل الضمانات اللازمة لجعل الدستور الجديد أشبه ما يكون بالدستور المعطل حاليا، وعمد إلى إصدار قوانين جديدة بمراسيم للتضييق الشديد على قيام الأحزاب وتجريم المظاهرات والاعتصامات والإضرابات، وتمادى فى استخدام العنف والتعذيب والمذابح، وهو يواصل العمل بلا هوادة على التصفية التدريجية للثورة مع إحاطتها بهواجس ومخاوف الانزلاق إلى الطريق الآخر: طريق الحرب الأهلية! ويصاب رجل الشارع والثوار والمحللون بالحيرة إزاء هذا السلوك الاستفزازى المتواصل للمجلس الأعلى بمذابحه وبالكثير من قراراته وإجراءاته، بوصف كل هذا متناقضا بحدة مع خيار التصفية التدريجية؛ حيث يغدو السؤال الملحّ: هل يريد هذا المجلس التخلِّى عن خيار التصفية التدريجية للثورة واللجوء بدلا من ذلك إلى خيار التصفية العسكرية العنيفة لهذه الثورة؟ أم هو الغباء السياسى؟ وقد اعترض رفيق عزيز من كُتاب الحوار المتمدن على حديثى فى مقال من مقالاتى فى الحوار المتمدن عن الغباء السياسى، غير أن من الضرورى أن ندرك أن الغباء السياسى ظل عاملا فاعلا أساسيا طوال التاريخ!


تاكتيكات وشعارات الثورة:

20: تركزت الأهداف الأساسية لهذه الثورة السياسية بامتياز، كما عبرت شعاراتها المعبِّرة عن مطالبها، على إسقاط النظام مطالبةً بالحرية والعدالة، وبرزت فى المقدمة الشعارات المطالبة بإسقاط الرئيس مبارك، والدستور، والپرلمان بمجلسيه، والحزب الوطنى الحاكم، وقانون الطوارئ، والفساد، وتحقيق الحريات والحقوق الديمقراطية، وعلى رأسها حقوق التظاهر والاعتصام والإضراب، والمساواة بين المصريِّين على أساس المواطنة دون تمييز على أساس العقيدة أو نوع الجنسين (المرأة والرجل) أو غير ذلك، واستقلال القضاء، وحرية الصحافة، والعدالة الاجتماعية بالمستويات المعيشية اللائقة بالأجور العادلة المرتبطة بالأسعار، والحياة الكريمة، والرعاية الصحية، والتعليم المجانى، والقضاء على البطالة الواسعة النطاق، والاستغلال الوحشى، والغلاء الفاحش، والتضخم الجامح، والأسعار المسعورة، وغير ذلك. وظل الشعار الأساسى للثورة هو: الشعب يريد إسقاط النظام. فماذا يعنى النظام؟ وماذا يعنى إسقاطه؟ ولعل من الملائم أن نقول إن النظام إنما يعنى فى هذا السياق عدة أمور أساسية منها شكل الحكم المتمثل حاليا فى نظام الحزب الواحد الذى ورث الاتحاد الاشتراكى القديم مهما سمح إلى جانبه بقيام أحزاب ديكورية هزيلة بحكم التضييق الپوليسى والإدارى والقانونى عليها مع ترسانة من القوانين والترتيبات التى تحظر التأسيس الحر للأحزاب وغيرها من أدوات النضال السياسى والاجتماعى والاقتصادى والنقابى والفكرى، مع ترسيخ هياكل وآليات شاملة لتزييف إرادة الشعب فى الانتخابات العامة والمحلية كل عدة أعوام عن طريق التزوير والبلطجة والترويع وشراء الذمم والقيود التشريعية والقانونية غير الدستورية، وفى ظل وكنف مثل هذا الشكل الديكتاتورى الپوليسى للحكم تنمو وتعشش كل أشكال وأنواع الفساد، هذا الفساد الذى أمسك بخناق المجتمع المصرى من رأسه إلى أصابع أقدامه، وهو فساد لا يقتصر على شكله الرئيسى المتمثل فى تكوين الثروات الطائلة التى تتكدس فى بنوك سويسرا وغيرها بفضل الاستغلال الفاحش واللصوصية والنهب على أوسع نطاق، وبالأخص من خلال الخصخصة التى تمت بأساليب لصوصية للقطاع العام وأملاك وأراضى الدولة، بل يمتد هذا الفساد إلى كل مناحى ومجالات الحياة العامة بصورة شاملة من خلال الرشاوى فى كل خطوة واستغلال النفوذ فى كل معاملة وعند كل منعطف. والحقيقة أننا، كما سبق القول، إزاء ثورة سياسية لن يتحقق نجاحها إلا بإسقاط هذا النظام بشكل حكمه الديكتاتورى وبكل آليات فساده وبكل رجاله وبكل تراكم ثرواته من خلال التأميم والمصادرة واسترداد أموال الدولة التى هى أموال الشعب. ورغم الأهمية الحاسمة لشكل الحكم فإن إسقاط النظام يعنى ضمن ما يعنى هدمه وبناء نظام جديد بالكامل ليس بشكل الحكم فحسب بل بكل نتائج عقود طويلة من تراكم الثمار المرة للفساد فى ظل كل الرئاسات السابقة والذى بلغ ذروته فى ظل رئاسات الرئيس مبارك.


21: وتعاقبت موجات الثورة بعد الانكشاف الواضح للخديعة الكبرى التى روَّجها المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية التى قامت بتسويق نفسها كحامية وضامنة للثورة. فقد تواصل الاستشهاد وآلاف الإصابات وجرائم التعذيب والإهانة وآلاف الاعتقالات والإحالة إلى المحاكم العسكرية وحملات الافتراء ومختلف ابتكارات صرف الناس بعيدا عن النضالات الثورية بالانتخابات وغيرها. وصارت الموجات الثورية هى التى ترسل الرئيس ورجاله إلى قفص الاتهام وتسقط الحكومات وتجبر المجلس رغم عناده على تنازلات وإجراءات. ورغم الرفض العنيد من جانب المجلس وحلفائه لسلطة مجلس رئاسى مدنى، ظل هذا المطلب مطروحا بقوة طوال العام، وكانت موجة 8 يوليو 2011 الثورية هى التى تبلورت فيها محصلة تراكمات فى مواجهة السلوك السياسى والأمنى للمجلس وتمثلت هذه المحصلة فى حفر هوة هائلة بين الثوار والمجلس ظلت تزداد حدة إلى أن تحولت مع مذبحة ماسپيرو ومذبحتىْ أوائل وأواخر موجة 19 نوڤمبر 2011 الثورية إلى قطيعة، وصارت شعارات إسقاط المجلس والمشير وتسليم السلطة إلى المدنيِّين هى موضع التركيز فى الاحتجاجات الثورية اللاحقة. وهنا جاءت انتخابات مجلس الشعب لتدفع إلى مقدمة التطورات پرلمانا يسيطر حزب الحرية والعدالة الإخوانى وحزب النور السلفى على واحد وسبعين فى المائة من مقاعده تضاف إليها مقاعد إسلامية أخرى ولم تَعُدْ الأحزاب الليبرالية اليمينية واليسارية والمستقلون تحوز حتى على الثلث المعطل وهكذا صارت الأحزاب التى تُعَدّ أدوات مباشرة للدولة الدينية تمثل سلطة التشريع والرقابة فى مصر. ووجد شعار تسليم السلطة للمدنيَّين تجسيده فى شعارات تفصيلية متقاربة من الناحية الجوهرية تتلخص فى تسليمها قبل الانتخابات الرئاسية لمجلس الشعب الإخوانى السلفى أو لرئيسه الإخوانى أو للجنة تحسم اختيار عضويتها الأغلبية الإخوانية السلفية، وصار الوضع يهدد حتى اختيار لجنة الدستور مهما أحاط نفسه بالقيود والقواعد، كما صار يهدد انتخاب رئيس الجمهورية بواقع أن أغلبية القاعدة الانتخابية فى مصر صارت للمنادين بالدولة الدينية، مهما علا صوت الحديث عن التوافقية التى تفرضها فى الواقع قوى الأغلبية على كل حال. وفى أعقاب الموجة الراهنة للثورة التى بدأت فى 25 يناير 2012 وارتفاع تيارات الموجة الثورية الجديدة بعد المذبحة المروِّعة التى استشهد فيها أربعة وسبعون من شباب الأولتراس مع نحو ألف مصاب فى بورسعيد وسقوط شهداء جدد فى القاهرة والسويس مع آلاف المصابين فيهما فى مجرى الاحتجاجات على مذبحة بورسعيد، هذه الاحتجاجات المتواصلة والمتصاعدة إلى الآن، بدأ الحديث الآن عن التعجيل بانتخابات رئاسية مسلوقة بدورها بحيث يكون لدينا رئيس للجمهورية فى أپريل القادم أىْ بعد قرابة شهريْن من الآن. وينطوى كل هذا على أرجحية وضع سلطة دولة نفس الطبقة الرأسمالية التابعة فى أيدى دعاة الدولة الدينية كنتيجة مباشرة لمطالب وشعارات الثورة التى نادت بالدولة المدنية الديمقراطية، مع عدم إغفال حقيقة أن ميزان القوة يفرض بوجه عام أن تبقى السلطة الفعلية فى أيدى المجلس الأعلى من وراء الكواليس على مدى فترة كافية لإعادة بناء نفس النظام بصورة مستقرة من جديد، وهى فترة قد تستغرق أعواما. ويدعو هذا التناقض الفظ بين الأهداف الحقيقية للثورة ونتائجها الوشيكة للبحث عن تفسير يبدو أنه يكمن فى غياب رؤية واضحة لدى الثورة، غير أن كثيرين لا يرون تناقضا بين الأهداف الأصلية المستمرة وهذه النتائج المباشرة على أساس دعوى أن الإسلام السياسى، الذى يعانى بدوره تناقضات فى صفوفه، لا يملك حلًّا سحريا للمشكلات والأوضاع الاجتماعية الاقتصادية بحيث يغدو محكوما عليه بالفشل وعلى حكمه بطابع مؤقت، وهذا أمر غير مضمون على الإطلاق ولنا عبرة فى حكم آيات الله فى الجمهورية الإسلامية الذى استطال لأكثر من ثلاثة عقود رغم العجز الطويل عن كبح جماح التضخم أو الحدّ من البطالة!


22: ويعتقد كاتب هذه السطور أنه كان من الملائم للثورة مقاطعة كل هذه الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية والتبنى الحازم لإستراتيچية "لا" للمجلس الأعلى المعادى للثورة و "لا" للإسلام السياسى الإخوانى السلفى المعادى للثورة وعدم الإقدام على اللعبة الخطرة المتمثلة فى الوقوف فى صف أحدهما ضد الآخر بدعوى أن الإسلام السياسى يتمثل فى مجلس نيابى منتخب بوصفه پرلمان الثورة مع أننا نعلم كيف جرت الانتخابات وكيف تحقق الانتصار فيها لقوى فى صفوف الثورة المضادة تماما مثل المجلس العسكرى الذى هو مركز قيادة الثورة المضادة. وكان الملائم لتطور الثورة مع منحها فترة ممتدة من الزمن أن تتواصل كثورة لا تلتفت إلى ألاعيب المجلس الأعلى على رأس الثورة المضادة، وأن تركز على معارك تحقيق مكوِّنات الديمقراطية الشعبية من أسفل. وعلى كل حال فإن انتهاء الانتخابات الپرلمانية والرئاسية لا يمكن أن يعنى انتهاء الثورة بل يعنى بداية مرحلة جديدة من الثورة: ضد النظام الجديد القديم مهما اختلف سطحه الأيديولوچى!


23: والحقيقة أن مشكلة غياب الرؤية الثورية هو الذى يقف وراء مشكلة شعارات الثورة ونقاط تركيز مختلف الموجات الثورية. ولعل من البديهيات التى لا يختلف عليها اثنان أن أحد العوامل الأساسية لمصير ثورة أىّ ثورة تتمثل فى وعيها بنفسها وإدراكها الواضح لطبيعتها والنتائج المرجوة منها وبالتالى الأهداف التى يجرى النضال لتحقيقها وهو وعى يتولد وينمو وينضج عند طليعة ثورية كما يتولد وعى تلقائى عفوى بالوضع القائم والحلم بوضع مختلف بصورة بالغة التعقيد لدى جماهير الشعب. ولعل من الواضح أيضا أن كل ثورة تشتمل على عنصرىْ التلقائية التى لا ثورة بدونها والوعى الذى قد يكون ناضجا أو غير ناضج وأن التقاءهما وتفاعلهما أمران حافلان بالتعقيد. ومن الجلى كذلك أن دينامية التلقائية وحيويتها وقوة وعمق دوافعها أشياء ضرورية لصمودها فى مواجهة الثورة المضادة واستمرارها واستعدادها للتسييس وانفتاحها على المزيد والمزيد من الوعى الثورى فى سياق تعلُّمها فى مدرسة الممارسة العملية بكل تجاربها وخبراتها ونجاحاتها وإخفاقاتها. كما أن من الجلى أن حالة الوعى القائمة فى مجتمع ولدى شعب قبل الثورة وعند اندلاعها هى التى تشكل مستوى الوعى الثورى لفترة غير قصيرة؛ هذا الوعى الذى يتطور بفضل الممارسة وعِبَرِها ودروسها مع صلة وثيقة بالأساس المعرفى والنظرى والسياسى للطليعة التى تحمل هذا الوعى. وإذا كان التقاء التلقائية والوعى قائما فى مجرى نضال طويل استغرق عقودا طويلة قبل انفجار الثورة فإنه يكون من المتوقع أن تكون القيادة الناضجة للطليعة الثورية الواعية قد تحققت وارتفع مستوى دورها القيادى فى الثورة من حيث الرؤية الواضحة لطبيعتها وأهدافها الحقيقية بعيدا عن تهويل أوهام الرؤوس الساخنة وبعيدا كذلك عن التهوين الانتهازى الذى لا يُغتفر فى زمن الثورة. أما إذا كان هذا الالتقاء بين الوعى والتلقائية أحدث عهدا فإن النتيجة السلبية لذلك لا يمكن تفاديها. والحقيقة أن الحديث عن التلقائية والوعى كعنصرين متميزين وقابلين للتفاعل لا يعنى أن الحركة التلقائية تخلو من أىّ وعى. إننا نتحدث عن بشر يندمج وجودهم الاجتماعى ووعيهم الاجتماعى حيث يشكلان معا وفى كل لحظة كُلًّا واحدا مهما يكن بالغ التعقيد. ذلك أن الحركة التلقائية تنطوى على الوعى التلقائى أو العفوى أو الجنينى، ويتولد هذا الوعى من التجربة الفعلية لهؤلاء البشر المنخرطين فى الحركة التلقائية فى حياتهم العامة واليومية بكل جوانبها السياسية والاقتصادية كما يأتى من تأثير مختلف المذاهب والأيديولوچيات والأفكار المتصارعة التى يمور بها المجتمع الذى يعيشون فيه. وكما كانت نقطة انطلاق الثورة المصرية الراهنة وكذلك باقى الثورات العربية - فيما يسمى فى الغرب بالربيع العربى على منوال ربيع پراغ - هى تلك الشرارة الشبابية الأولى التى امتلكت قدرا أعلى من الوعى بالقياس إلى باقى الطبقات الشعبية بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التى تعانيها هذه الطبقات ذاتها وبالاستغلال والفساد والاستبداد، هذه الآفات التى وصلت إلى حدود قصوى نتج عنها تجريف كل أساس اقتصادى لحياة الجماهير العاملة مع قهرها بالاستبداد والقمع وفرض حياة لا تليق بالبشر على جماهير الشعب. واستطاعت هذه الشرارة أن تفجر ثورة فى مصر منذ 25 يناير 2011 وفى أوقات متقاربة قبل وبعد ذلك ثورات فى بلدان عربية أخرى. وكان لدى هذه الجماهير الثائرة ضد الحياة اللاإنسانية المفروضة عليها الوعى العفوى الكافى للانفجار فى ثورة وكان لدى جيل له خصائص جديدة تماما من الشباب وعى أعلى نسبيا وروح عنيدة من الصلابة والبسالة والتفانى والفداء والشهادة والاستماتة فى النضال حتى النهاية فى سبيل حياة كريمة تليق بالبشر. وعند هذا المستوى يمكن القول إن الشعار الأساسى للثورة كان صحيحا تماما وكذلك كانت الشعارات المتفرعة عنه والمتشعبة منه. وهكذا كان وعى الشعب الذى ثار وعيا تلقائيا عفويا بحقيقة الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية التى يعانيها، وكان وعى الطليعة التى فجرت الثورة وعيا أعلى وإن كان يموج بالتيارات الفكرية والسياسية التى لا تُعَدّ ولا تُحْصَى بالإضافة إلى كونها كقاعدة عامة تيارات ومجموعات غير منظمة فى أشكال حزبية أو تنظيمية أخرى؛ الأمر الذى ابتعد بالطليعة عن أن تشكل قيادة متبلورة مهما تتعدد التيارات، والذى يحمل فى طياته رغم كل أمجاد هذه الطليعة وأساليبها النضالية الحافلة بالفاعلية والتجديد والابتكار احتمالات تورطها فى مزالق من شأنها أن تفرز أثناء بعض الموجات الثورية ونضالاتها تصورات وشعارات خاطئة قد تنحرف بالثورة إلى مسار يلحق بها الضرر ويجعل مناضلاتها ومناضليها نهبا للتقلبات والإحباطات والشكوك بعد كل موجة للثورة لا تستطيع أن تحقق الأهداف التى أبرزتها شعاراتها.


24: ولا حاجة بى إلى التذكير بأن التصفية المنهجية للحياة السياسية طوال قرابة ستين عاما وليس فقط فى عهد الرئيس المخلوع على يد الانقلاب العسكرى تحت ضغط الثورة، بعد عقود طويلة سابقة من استبداد القصر الملكى والإدارة الاستعمارية البريطانية وفى عهود ملكية متعاقبة رغم الحريات النسبية التى عصف بها انقلاب 1952 العسكرى، كانت وراء هذا التصحُّر العام لوعى كل من الشعب وطليعته فى مجرى عودة متواصلة إلى الوراء اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا وفكريا مع تقدُّم متواصل للقوى السياسية الماضوية الرجعية إلى أن انفجر الشعب فى ثورة سياسية هائلة جعلتها تطورات عديدة فى العقد الأخير ممكنة. على أننا لا نستطيع أن نتوسع هنا فى مناقشة تلك التطورات الاجتماعية والسياسية التى ترتبط فى المحل الأول بوصول إفقار الشعب إلى حدود قصوى وما تولد عن ذلك من معارضة عنيدة سياسية وإضرابية أخذت تنمو فى السنوات السابقة للثورة مع النتائج المباشرة لاتساع نطاق تأثير ثورات تكنولوچيات المعلومات والمعرفة كالإنترنت والفضائيات والتليفون المحمول وغيرها؛ هذه الأشياء التى ساعدت على مزيد من وعى الناس بحقيقة حياتهم وبأسباب ونتائج شقائهم وبالكوارث التى تهدد مجرد بقائهم. غير أن كل هذه العوامل التى ساعدت على ارتفاع مستوى وعى الشعوب بشقائها كانت تساعد فى الوقت نفسه على تدهور هذا الوعى على مستوى التفسير والتغيير وكانت هذه فرصة ذهبية لتطور وصعود الإسلام السياسى. وتمثلت المحصلة النهائية فى أن تصفية الحياة السياسة لم تترك مكانها فى الحال لفكر تقدمى ناضج وكان هذا عاملا سلبيا لا مناص من أن تعانى الثورة وطليعاتها وقياداتها الكثيرة المتنوعة نتائجه كما تمثلت فى اتساع نطاق النفوذ الفكرى لتقديس أو تديين السياسة وتسييس الدين أو المقدَّس، وتغوُّل مختلف الأصوليات فى كل مكان فى العالم على اتساعه وخاصة فى العالم الثالث والعالم العربى.


قضايا متنوعة:

25: وهناك قضايا بالغة الأهمية لم يَعُدْ يتسع لها المجال هنا، بعد أن استطال هذا الحديث ربما أكثر مما ينبغى، منها الثورة النسائية الهائلة التى تبلورت فى خضم الثورات العربية الراهنة من خلال الدور الذى قامت به النساء كتفا لكتف مع الرجال. والواقع أن المرأة كانت بكل أجيالها فى أىّ بلد من بلدان الثورة العربية الخمسة تتقدم الصفوف على قدم المساواة مع الرجل ولا شك فى أن قضية تحرُّر المرأة ستعرف انطلاقة جديدة أثناء وبعد هذه الثورات وسيصبّ هذا التطور فى مجرى تحديث البلدان العربية وتطوير ديمقراطيتها الشعبية من أسفل وكافة قضايا هذه البلدان فى المستقبل صوب التصنيع والاستقلال وكل الآفاق التى يمكن أن تكون هذه الثورات مقدِّمة لها.
26: وينبغى أن أشير إلى الحروب الأهلية التى عرفتها الثورات العربية والتى نرجو أن تكون قد وضعت أوزارها فى ليبيا مع نهاية نظام معمر القذافى، والتى ما زالت تدور فى اليمن رغم رحيل على عبد الله صالح، والتى تدور رحاها حامية ومروِّعة فى سوريا رغم بدء تضييق الخناق عربيا ودوليا على بشار الأسد. وأعتقد أن استمرار الحرب الأهلية الراهنة فى هذه البلدان لفترة طويلة من شأنه تمزيق الطبقات الرأسمالية التابعة الحاكمة فيها لصالح إعادة إنتاج أنظمة رأسمالية تابعة جديدة على العكس من الطريق التونسى المصرى: طريق التصفية التدريجية للثورة. وهذه الرأسمالية التابعة لا يمكن تفاديها لأننا لسنا إزاء ثورات البديل الاشتراكى الغائب عربيا وعالميا فى هذه الحقبة التاريخية. وتجد هذه الثورات بدورها نفسها فى مواجهة مخاطر ركوبها وسرقتها من جانب قوى الإسلام السياسى ربما فى اندماج مع قوى قبلية فى اليمن بالذات. على أن الجذوة المتقدة الهائلة لهذه الثورات لن تنتهى بسيطرة هذه القوى على سلطة الدولة والتى ستجد نفسها مجبرة على انتهاج طريق التصفية التدريجية؛ هذا الطريق الذى يتلاءم مع استمرار الثورة لانتزاع الديمقراطية الشعبية من أسفل بالمفهوم الشامل الذى يجعل من تأسيسها ونموها وتطورها انقلابا تاريخيا فى شروط الطبقة العاملة والطبقات الشعبية فى هذه البلدان. ومن المحتمل أن يكون الثمن المرتفع المدفوع من جانب شعوب هذه البلدان الثلاثة فى الحروب الأهلية شرطا مواتيا لوصولها إلى ديمقراطية شعبية أعمق مما يمكن أن نتوقعه فى تونس بل حتى فى مصر. وهناك مخاطر كثيرة بالطبع. هناك احتمال تحوُّل اليمن السعيد إلى دولة فاشلة فى سياق نوع كارثى من الصوملة وإنْ كان من المتوقع أن ترمى المملكة العربية السعودية بكل ثقلها لدرء هذا الخطر فهو خطر داهم عليها بصورة مباشرة كبلد نفطى كبير ظالم مجاور. أما سوريا فإن السقوط القريب المرجح لنظام بشار الأسد سوف يوجه ضربة قاصمة إلى حزب الله وربما إلى حد ما إلى بعض فصائل المقاومة الفلسطينية وإلى النفوذ الإيرانى فى المنطقة العربية إذا وضعنا العراق جانبا، وعلى كل حال فإن من شأن ضربة عسكرية إسرائيلية أمريكية محتملة لإيران أن تكون بالغة التأثير على أوضاع سوريا وحزب الله فى مواجهة الداخل اللبنانى والخارج الإسرائيلى وكذلك على أوضاع العراق. وإذا كان واقع أن سوريا بلد تحتل إسرائيل أراضيه فى هضبة الجولان قد ظل رادعا ضد أىّ عمل عسكرى ضد جيشها تفاديا لشبهة ضربه لصالح إسرائيل فإن تمادى النظام السورى فى قمعه الوحشى حقا والموقف العربى الجديد يرفعان إلى حد كبير هذا الحرج عن أىّ عمل عسكرى تقوم به بلدان عربية أو تركيا أو حلف الأطلنطى تلمظا على مصالحها فى سوريا ما بعد بشار الأسد وربما لن تكون هناك حاجة إلى التدخل العسكرى إذا انهار النظام بسرعة، خاصةً نظرا لأن حقائق الجغرافيا تجعل التدخل العسكرى فى سوريا أصعب كثيرا منه فى ليبيا.


27: أما البلدان العربية التى توقف فيها ما بدا أنه الثورة فى صلة وثيقة بتأثير الدومينو وفى سياق أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية متشابهة من حيث بؤس الشعوب وسيطرة الاستبداد وانتشار الفساد (رغم أن بعض هذه الشعوب لاتعانى جوع الخبز) عند البدايات والإرهاصات لأسباب متنوعة (الجزائر وعمان والسعودية والكويت والعراق وموريتانيا وچيبوتى)، أو استقرت عند مستويات أدنى نسبيا (الأردن والمغرب والبحرين فى سبيل الملكية الدستورية)، أو ما تزال مرشحة (السودان بالذات)، أو لم تمرّ عليها رياح الثورة أصلا (اتحاد الإمارات وقطر)، وهناك كلٌّ من لبنان (بوضعه الخاص) وفلسطين (بإرهاصات ثورة "الشعب يريد إسقاط الانقسام" دون أمل حقيقى)، وكنت قد كتبت مقالا مستقلا عن كلٍّ من تونس وليبيا كما تعددت فى بعض مقالاتى الإشارات إلى بعض البلدان العربية وحتى الوقفات الطويلة نسبيا عند سوريا والسعودية وفلسطين وليبيا من جديد؛ غير أنها جميعا تمثل آراء مراقب من بعيد، وهذا قصور اعترفتُ به فى فقرة سابقة. وعلى كل حال فإن رياح التغيير يمكن أن تصل إلى هذه الشعوب بصورة عامة وإلى بعضها بصورة خاصة فتلحق بقطار الثورة فى مواقيت لا يستطيع التكهن بها أحد.


28: وكانت هناك فى الأعوام الأخيرة فى سياق الأزمة المالية العالمية تقديرات باندلاع ثورات الجوع فى الكثير من مناطق العالم الثالث وبتداعيات مهمة وأحيانا كارثية فى بعض بلدان الشمال. ولا شك فى أن ثورات و/أو كوارث العالم الثالث محتملة إنْ لم تكن مرجَّحة، كما أن بلدانا غربية مثل اليونان وإيطاليا وإسپانيا والپرتغال صارت مهددة وكذلك منطقة اليورو بوجه عام بأخطار اقتصادية فادحة، وتُمْسِك الأزمة المالية/الاقتصادية بخناق الولايات المتحدة الأمريكية مركز الرأسمالية ومركز الأزمة وبالعديد من البلدان الصناعية وتُلقى بظلال كثيفة على اقتصاد الصين التى تعتمد صناعتها على التصدير الواسع النطاق، وتتطور حركات الاحتجاج تحت شعار "احتلُّوا" وول إستريت أو فرانكفورت أو لندن أو غيرها، غير أن هذه الحركة العالمية الضخمة الموارة ليست حركة اشتراكية بحال من الأحوال وإنْ كانت حركة معادية للرأسمالية. وينبغى أن نبنى تقديراتنا لصيرورة ثوراتنا على هذا الأساس.


آفاق قد تفتحها الديمقراطية الشعبية من أسفل:

29: والواقع أننا جزء من العالم الثالث، وإذا كان السياق التاريخى لثوراتنا العربية وهو سياق التبعية الاستعمارية هو العدوّ الأول لثوراتنا الذى يحصرها فى إطار طبيعة بعينها وأهداف تنبع منها، فإن مصير العالم الثالث هو الخطر الأكبر الذى يهدد مجرد بقائنا المادى ذاته، وفيما وراء الآفاق التى تغلقها أمامنا تبعيتنا الاستعمارية تنغلق آفاق قاتمة يرسمها مصير العالم الثالث الذى تقرره نتائج كئيبة لتراكمات طويلة العهد لنفس هذه التبعية الاستعمارية. وبطبيعة الحال فإنه لا يوجد أمامنا "خروج آمن منقذ" إلا بالتحول إلى بلدان صناعية هو شرط الاستقلال وهو أيضا شرط البقاء. ولن تنفتح هذه الآفاق أمامنا إلا فى شروط التطور والنضال التى يمكن أن تحققها ثوراتنا الراهنة فى إطار الديمقراطية الشعبية من أسفل. وسأنقل فى الفقرة التالية نص فقرة عن هذه الديمقراطية فى مقال سابق لى (معادلات سياسية تحكم الثورة المصرية الراهنة؛ 16 يناير 2012) بهدف إبراز عناصرها بدلا من إعادة تأليف تلك الفقرة.


30: والحقيقة أن الديمقراطية الشعبية من أسفل هى الثمرة النضالية الحلوة التى تخرج بها الشعوب من ثوراتها الناجحة فى كل مكان. وهى لا تعنى أن المجتمع أو البلد قد صار ديمقراطيا أو أن الدولة قد صارت ديمقراطية. فالمجتمع الطبقى لا يكون ديمقراطيا كما أن الدولة التى هى أداة فى أيدى الطبقة الاستغلالية الحاكمة لا يمكن أن تكون ديمقراطية، بل لا مناص من أن يكون هذا المجتمع ديكتاتوريا ولا مناص من أن تكون هذه الدولة ديكتاتورية. وتعنى الديمقراطية الشعبية من أسفل أو الديمقراطية من أسفل أو الديمقراطية ببساطة أن تمتلك الطبقات الشعبية أدوات النضال والحقوق والحريات التى انتزعتها وصارت تمارسها، والإطار العام الديمقراطى الذى صارت تفرضه على الطبقة الحاكمة ودولتها ونظامها وتنظيمها للمجتمع. وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية الشعبية من أسفل فى الأحزاب المتعددة المستقلة عن سلطة ونظام ودولة الطبقة الحاكمة، هذه الأحزاب التى تفرض التعددية الحقيقية على البلاد، وتتمثل فى النقابات العمالية والمهنية المستقلة التى تدافع بفعالية عن حقوق وحريات الطبقات الشعبية فلا تمثل نفوذ السلطة الحاكمة على هذه الطبقات كما يكون الحال فى الدولة الإدماجية (الكورپوراتية)، وتتمثل فى مختلف أشكال جمعيات المنتجين الصغار واتحادات المستهلكين، وتتمثل فى الصحافة الحرة التابعة للأحزاب والنقابات ومختلف الجماعات التى تنتمى إلى الطبقات الشعبية من العمال والفلاحين وفقراء الريف والمدينة، وتتمثل فى استقلال القضاء والتحقيق الفعلى لكل المطالب العادلة للقضاء الجالس والقضاء الواقف وتمتُّع المواطنين جميعا بالتقاضى أمام قاضيهم الطبيعى بعيدا عن القضاء الاستثنائى والعسكرى، وتتمثل فى انتزاع مكاسب عينية كبرى مثل التحقيق الفعلى للحد الأدنى العادل للأجور المربوطة بتطور الأسعار وتحسين شروط العمل وبدلات البطالة للعمال ولكل العاملين، ومثل التحقيق الفعلى لمطالب الفلاحين المتعلقة بالجوع إلى الأرض وبالأسعار المجزية وبمختلف صور تطوير نوعية حياة الفلاحين، ومثل التحقيق الفعلى للرعاية الصحية المتكاملة والشاملة والتأمين الشامل وتطوير المستشفيات والحل الجذرى لمشكلات الأطباء وباقى العاملين فى المجال الطبى والصحى من حيث الأجور وتحسين شروط وأوضاع العمل، وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية الشعبية من أسفل فى التطوير الجذرى للتعليم بكل مراحله وتحقيق مجانيته الكاملة وإنصاف المعلمين بمرتبات مجزية مربوطة مثل كل أجور العاملين فى البلاد بالأسعار، وتقتضى الديمقراطية من أسفل التحقيق الدستورى والفعلى للمساواة بين المواطنين دون تمييز بسبب الدين أو المعتقد أو اللون أو الإثنية، وكذلك التحقيق الفعلى لتضمين كل الحقوق والحريات المنتزعة فى الدستور بصياغات واضحة قاطعة حاسمة لا يجرى تقييدها بقوانين، مع إعادة صياغة القوانين كإطار عام يعكس قدرة الديمقراطية من أسفل، عن طريق نضالاتها المتواصلة، على فرض السيادة الفعلية للقانون. ومن البديهى أنه بقدر ما يتم النجاح فى إجبار السلطات المعنية الحالية والقادمة على التحقيق الفعلى لمطالب الثورة سيجرى تأمين أن تسير الحياة الطبيعية وكذلك الإنتاج وإعادة البناء بصورة طبيعية جنبا إلى جنب مع تطورات الثورة التى لا تريد الفوضى ولا تعمل على تعطيل الحياة بكل مقتضياتها وضروراتها بل تعمل على إنصاف الشعب من خلال انتزاع حقوقه وحرياته وأدوات نضاله فى سبيل التطلع ليس فقط إلى حياة كريمة بل كذلك إلى تصنيع البلاد وتحديثها على قدم وساق كشرط لإنقاذها من المصير البائس الذى ظلت تتجه إليه، مع العالم الثالث كله، بسرعة مخيفة وللتحقيق الفعلى للاستقلال، هذا الاستقلال الذى لا يتحقق إلا بالتحول إلى بلد صناعى كشرط لا غنى عنه للتخلص من التبعية الاستعمارية؛ وهذا أفق لا ينبغى إغلاقه أمام الثورة بشرط استمراها بعمق متزايد وعلى مدى طويل معتمدة فى كل ذلك على عمق ونضج وجذرية الديمقراطية الشعبية التى تنجح الثورة فى تحقيقها.
5 فبراير 2012