المثقف والسلطة بين التناقض والتحالف


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 5420 - 2017 / 2 / 2 - 10:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لا يمثل المثقفون مجموعة اجتماعية متجانسة واحدة ترتبط بسلطة واحدة وتسعى إلى تحقيق نفس المصالح. ولسلطة الدولة مثقفوها الأكثر عددا والأقوى سيطرة على وسائل القمع والإعلام. وإلى جانب سلطة الدولة توجد قوى اجتماعية وسياسية لها مثقفوها فى جماعات أو أحزاب سياسية موالية أو معارضة. ولهذا فليس من شأن تناقض أو تضارب مواقف المثقفين أن يؤدى إلى أىّ دهشة أو صدمة أو مرارة.
والمقصود بتعبير المثقفين بمعنى ضيق هم تلك النخبة أو الجماعة الواسعة من المفكرين والكتاب والأدباء والفنانين والنقاد فى مجالات الفكر والسياسة والأدب والسينما والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية وغيرها. وتتعدد الانتماءات الطبقية والتوجهات الأيديولوچية لهؤلاء المثقفين، ويكون مستوى نشاطهم فى سبيل الحرية وثيق الارتباط بمستوى حركة قوى المجتمع ككل فى سبيل الحرية الاجتماعية والسياسية.
وينتمى المثقفون بالمعنى الواسع للكلمة، أىْ الإنتلچنسيا، إلى الدولة والطبقة الحاكمة ويرتبطون بهما بل يندمجون فيهما، بل هم الدولة. فهؤلاء الإنتلچنسيا الذين تخلقهم الطبقة فى مجرى نشأتها وتكوينها وصعودها وسيطرتها إنما تتكون منهم مختلف أجهزة ومؤسسات الطبقة الحاكمة ودولتها، وهم أدوات قمعها وسيطرتها، وهم الذين ينظمون وظيفتها الاقتصادية، ووظيفتها فى الهيمنة على المجتمع المدنى، ووظيفتها فى الإكراه بواسطة الدولة.
وهنا يمكن القول مع جرامشىGramsci إن كل البشر مثقفون intellectuals حيث لا يمكن استبعاد أىّ نشاط بشرى من مشاركة العقل (أو الذهن أو الفكر أو المعرفة التقنية أو الثقافة)، ولا يمكن فصل homo faber أىْ الإنسان صانع أو حامل الأدوات عن homo sapiens أىْ الإنسان العاقل (أو العارف أو المفكر أو المثقف)، غير أن البشر لا يمارسون جميعا وظيفة المثقفين فى المجتمع. فالمثقفون هم أولئك الذين يقومون بالأنشطة الفكرية أو الثقافية أو المهنية أو العلمية أو التقنية، إلخ.، فى مجموع نسق العلاقات التى توجد فى إطارها هذه الأنشطة (وبالتالى البشر الذين يجسدونها) ضمن الكل المعقد للعلاقات الاجتماعية.
وهنا يبرز مفهوم المثقفين العضويين الذين تخلقهم الطبقة الصاعدة أو السائدة فى مجرى نشأتها وتطورها وسيطرتها كطبقة فى مقابل مفهوم المثقفين التقليديين الذين كانوا من قبل مثقفين عضويين لطبقات دالت دولتها. وهكذا تكون لدينا (إلى جانب المثقفين التقليديين) مجموعات أو فئات أو قطاعات بالغة التنوع من المثقفين العضويين؛ أولئك الذين ينتمون، انطلاقا من أوضاع ومواقع ومنطلقات متنوعة، إلى الطبقة الحاكمة، وأولئك الذين ينتمون إلى طبقة اجتماعية تكونت كطبقة لذاتها واعية بمصالحها الكبرى، وأولئك الذين ينتمون إلى هذه أو تلك من الطبقات أو الفئات الاجتماعية الأخرى ذات المصالح المتميزة والأيديولوچيات المتنوعة.
وبين المثقفين بالمعنى النوعى الضيق (المفكرون والأدباء والفنانون) ينتمى قسم إلى الطبقة وسلطة الدولة كمثقفين عضويين، وينتمى قسم آخر إلى الطبقة العاملة كمثقفين عضويين شيوعيين أو نقابيين، وتنتمى أقسام أخرى إلى المثقفين التقليديين أو إلى المثقفين العضويين لقوى ذات أيديولوچيات تقدمية تحاول السير بالعالم إلى الأمام، أو رجعية تجاهد فى سبيل العودة به إلى الوراء.
ولا ينبغى تصوُّر طاقة لا يملكها ولا يمكن أن يملكها المثقفون وحدهم، بنزعة إرادية، ثم رصد تخاذلهم واستكانتهم بالقياس إلى هذه الطاقة المتوهمة، بل ينبغى أن نلتفت إلى الرسالة التاريخية الكبرى التى حققها المثقفون بالمعنى الواسع المتمثل فى الإنتلچنسيا وبالمعنى الضيق المتمثل فى الكتاب والأدباء والفنانين، إذ إنهم هم الذين أعادوا خلق الأمة العربية التى كانت غارقة فى تأخر وظلام القرون الوسطى حتى خلال القرن التاسع عشر (وخلال عقود طويلة فى القرن العشرين فى مناطق من عالمنا العربى) فأخرجوا إلى الدنيا أمة جديدة كان المثقفون هم الذين منحوها وعيها بنفسها وبالعالم وبثقافتها الحديثة ودولتها الحديثة، فى سياق تفاعل عميق مع حركة الشعوب ومع التطور الاجتماعى الاقتصادى وفى اتصال بالعالم والعصر الحديث.
وقد تطلعت هذه الأمة ذات يوم إلى اللحاق بالغرب والعصر الحديث والحضارة الرأسمالية. غير أن هذه الأمة الجديدة تكونت فى إطار سيطرة تلك الحضارة التى لم تتمثل رسالتها مطلقا فى انتشارها كحضارة إلى مناطق جديدة من العالم بل تمثلت دوما فى إخضاعها لسيطرتها واستغلالها ونهبها، ولم يكن بمستطاعها اللحاق بالغرب والحضارة الرأسمالية كإطار للنضال فى سبيل حضارة مستقبلية يحلم بها البشر عبر تصورات بالغة التنوع منذ فجر تاريخ المجتمع الطبقى الاستعبادى. وهكذا انتهت عقود طويلة من محاولات اللحاق إلى إخفاق الاستقلالات والتنميات وكل محاولات الفكاك من إسار معادلة "ثورة سكانية بدون ثورة صناعية" التى فرضها الغرب الاستعمارى، والتى صارت تنذر الآن بكوارث لم يسبق لها مثيل فى التاريخ.
وفى عالمنا الثالث اتخذت السيطرة الطبقية (فى مناطق تشكل ساحات مفتوحة لسيطرة ونهب واستغلال ونفوذ الحضارة الغربية) أبعادا مخيفة من إنكار أبسط الحريات والحقوق على الشعوب، وينطبق هذا بطبيعة الحال على مصر وغيرها من البلدان العربية.
وإذا أخذنا الرقابة ليس بمعنى الرقابة المباشرة قبل أو بعد النشر أو العرض، بل كرقابات هى محصلة السيطرة الطبقية والأيديولوچيات والشوڤينيات الاستعمارية والرجعية والظلامية، فإنها موجودة فى كل مكان فى العالم، فى الشمال والجنوب، فى الغرب والشرق، وفى مختلف الثقافات والحضارات القائمة الآن، فنحن إزاء دول استبدادية جبارة ورأسماليات احتكارية جبارة تتصرف فى وسائل بالغة الضخامة للقمع تستخدمها فى إحكام الرقابة والرقابة الذاتية داخل بلدانها وخارجها.
ولا معنى لزعم أن مصر أو الأردن أو المغرب أو أىّ بلد عربى يمارس الرقابة والقمع بكل أنواعهما فى مقابل عالم حر تنعم شعوبه بالحريات والحقوق والازدهار. فلن يكون هذا سوى مشاكسة صبيانية لأنظمتنا الاستبدادية حقا. والحقيقة أن الحريات التى تحققت فى بلدان الشمال (وهى نسبية بدورها) إنما كانت محصلة نضالات وتضحيات، وهى تظل فى خطر، بل صارت الآن مهددة بأخطار كارثية، مالم تتواصل النضالات والتضحيات. وهنا ينبغى أن نعمل باستقامة فى الشمال والجنوب على إلغاء كل القوانين المقيدة للحريات والحقوق الديمقراطية، وليس فقط القوانين أو المواد القانونية المتصلة بالرقابة وحدها.
وليست الرقابة ضرورية للمجتمع الطبقى لتحقيق التوازن بين تجريديْن هما حرية الفرد وحرية المجتمع، وكأن المجتمع ليس هو المجتمع الطبقى الذى تسيطر الطبقة الحاكمة على مجموعاته الاجتماعية وأفراده، والحقيقة أنها ضرورية لتحقيق السيطرة الطبقية على المجتمع والفرد ولقمع كل محاولة لتحريرهما من خلال الرقابة على الإنتاج الفكرى والأدبى بمعايير سياسية ودينية وأخلاقية.
وفى مقال له بعنوان "زيارة جديدة إلى ’مزرعة الحيوانات‘" يشير چون مولينو إلى روايتىْ چورچ أورويل "1984" و "مزرعة الحيوانات" بشأن سلطة الحزب والدولة، ويقول: "تماما كما وجد أورويل فى رواية "1984" سلسلة من الصور عبّرتْ عن تجربة الشمولية (الأخ الكبير، الغرفة 101، الجريمة الفكرية، إلخ) وانتقلت بالتالى إلى الثقافة العامة، هناك فى رواية "مزرعة الحيوانات" لحظات ذات قوة هائلة مثل التعديل النهائى للوصايا السبع ونصه: "كافة الحيوانات متساوية لكن بعض الحيوانات متساوية أكثر من غيرها".

وبين مصادرات رقابية عديدة منها رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، رأينا منذ أعوام كيف تحالفت مختلف السلطات فى مصر: السلطة السياسية للدولة، والسلطة الدينية الأخطبوطية، والسلطة القضائية، والإعلام، والرأى العام، لتنقضَّ جميعا على كتاب لويس عوض "فقه اللغة العربية"، لأن كل هذه السلطات تمثل سلطة أصولية لغوية بقيادة مجمع اللغة العربية بالقاهرة تدمر تطور علومنا اللغوية بدعاوى الدفاع عنها.
وهناك الغزو الثقافى فى علاقته بالرقابة التى يجرى النظر إليها من المنظور المنغلق الذى يرى فى كل فكر أو أدب أو فن قادم من الخارج غزوا ثقافيا، كما أن هناك التدفق الفورى المتواصل للصور والمعلومات وثقافة اللاثقافة عبر وسائل الاتصال الحديثة (الإنترنت، التليڤزيون، إلخ.، ). غير أن الرقابة لا يمكن أن تكون الأداة المقبولة لمقاومة هذا الغزو الثقافى ليس فقط لأنها عاجزة وغير فعالة فى هذا المجال بل أيضا وقبل كل شيء لأنه لا يحق لأىّ رقابة أن تحدد للشعوب التى تهدد العولمة الأمريكية هويتها معايير التمييز بين الثقافة العالمية التى ينبغى أن نرحب بها وننفتح عليها ونتفاعل معها واللاثقافة المدمرة التى يحملها إلينا الغزو الثقافى من الخارج (ومن الداخل). ولا يمكن أن تزدهر ثقافتنا من خلال رؤية دفاعية تحاول حمايتها بمنع ما يسمَّى بالغزو الثقافى عن طريق الرقابة، بل إنه لا سبيل إلى ازدهارها إلا فى إطار من الحرية الحقيقية والتفاعل مع ثقافات العالم. ولن يتحقق النمو الحر والتفاعل الحر عن طريق إحلال مجلس من المثقفين محل أجهزة الرقابات القائمة، فلن يحقق هذا سوى إضافة شكل أو نوع أو جهاز جديد إلى الرقابات القائمة.