نحو نظرية علمية للثورات الشعبية


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 5910 - 2018 / 6 / 21 - 22:04
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

أعتقد أنه آن الأوان لتقييم ثورة يناير من حيث طبيعتها ونجاحاتها وإخفاقاتها، متحررين من التفاؤل العاطفى الساذج، ومتخلصين من التشنجات الثوروية التى تحول دون الوصول بحرية تامة إلى نتائج سليمة. ولا تقف أهمية هذا التقييم عند فَهْم هذه الثورة فهو يساعدنا أيضا فى التعامل فى المستقبل بكفاءة أكبر مع نضالات قادمة أو ثورات محتملة انطلاقا من نظرية علمية عن الثورات أىْ الثورات الشعبية.
ولا مناص من أن أشير إلى أن مفهومى عن الثورة يختلف عن المفهوم الماركسى عنها، وكان ماركس يتحدث عن الثورة الاجتماعية والثورة السياسية ووجدهما مندمجتين فى ثورة 1789 التى كانت على كل حال ثورة شعبية كبرى.
وقد نظر الماركسيون إلى الثورة على أنها محرك التحولات الاجتماعية-السياسية، وكأن سنوات قليلة من ثورة شعب تكفى لتغيير مجتمع قديم فتحقنه بعناصر نمط إنتاج جديد يحل محل نمط الإنتاج القديم. وقد يُقال إنها تفتح الباب أمام مثل هذا التغيير؛ ولكنْ ما هى حقا خصائص المجتمع الجديد التى يمكن أن تكون متحققة فى المجتمع القديم بحيث يبدأ بها مثل هذا التغيير؟
ويقدم ماركس الثورة باعتبارها جسرًا بين هذين المجتمعين ولكن تفسيره يقدم إشكاليات عديدة. والجسر هو تأكيده أن الثورة تمثل قابلة مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد. فقد بدا له أمام مشهد ثورة 1789 الفرنسية أنها تتويج للتطور الرأسمالى الذى سبقها، وأن المجتمع الرأسمالى، يبدأ بحدث الثورة متحررا من المجتمع الإقطاعى.
وكان المجتمع الرأسمالى قد تطور إلى مستوى ناضج بحيث صار المجتمع الإقطاعى حاملا به. ويعنى هذا أن ذلك المجتمع لم يكن إقطاعيا خالصا لأنه كان قد صار حاملا بالرأسمالية. وكان هذا يعنى أن الرأسمالية لم تكن نتيجةً للثورة، ولم تكن بحاجة إلى ثورة تقوم معها بدور القابلة، وإذا لم تكن الثورة نتيجةً للرأسمالية؛ فهل كانت سببها؟ ولكن كيف تكون سببها على حين أن تطور الرأسمالية كان سابقا عليها بالإضافة إلى حدوث تحولات دون ثورات فى بلدان أخرى؟
وجاء حلُّ هذه الإشكالية من الواقع الاجتماعى العينى ومن تنظيره. وكان ذلك الحل يتمثل فى حدوث التطور الپروسى اليونكرى دون ثورة، خاصةً وأن هذا التنظير كان نتيجة مباشرة لحدوث ذلك الواقع العينى. ثم تبيَّن أن التطور الرأسمالى من أعلى حدث فى الياپان بعد حركة الميچى دون ثورة.
ولهذا التنظير أبعاد كثيرة ولكننى أريد هنا تأكيد أن تطور المجتمعات يرتبط بظاهرة اجتماعية تختلف عن ظاهرة الثورة، فى نقاط قليلة.
1: ارتبطت التحولات الاجتماعية-السياسية طوال التاريخ وما قبل التاريخ بتطور إنتاجية العمل بفعل القوانين التقنية التصاعدية. وتوجد علاقة طردية بين أنماط الإنتاج وطبيعة المجتمعات المتعاقبة التى يكون التمييز بينها عن طريق بحث أنماط إنتاجها ومستوى إنتاجية العمل فيها. وكانت أنماط الإنتاج معدودة، فلا تكثر إلا بتكرارها فى مجتمعات تتنوع بتنوعاتها.
2: وقد قدم كارل ماركس التفسير العلمى لقوانين هذه التحولات، واكتشف محرِّكها التقنى-الاجتماعى. ولا حاجة للتحولات إذن إلى "الثورة الاجتماعية" أو "الثورة السياسية"، لأن الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للتحول عمليات تراكمية مترابطة؛ ولا مكان هنا لتفسير هذه التحولات بالثورات ضد ظلمها دون أن تخلقها.
3: وشهدت المجتمعات البشرية آلافًا من الثورات ولكنها لم تؤدِّ إلى تحوُّلها. وإذا كانت هذه الثورات تحقق بعض النجاحات والمكاسب أحيانا فإنها تؤدى دائما إلى إغراق الشعوب فى الدم عبر القمع الدموى أو الحروب الأهلية الطاحنة، ولنا فى سوريا وليبيا واليمن درس بليغ، نتعلَّمه أيضا من الاستقراء العلمى لظاهرة الثورات، بعيدا عن أقنمة التصورات العاطفية والرومانسية للثورات وللشعوب ذاتها.
4: ولا يعنى هذا أن مفهومنا للثورات يستبعد الشعوب من عملية صُنْع التحول الاجتماعى-السياسى، ولا أساس لهذا التصوُّر فالجماهير قوة حاسمة من قوى الإنتاج التى أحدثت التحول. والحقيقة أن تصوُّر أن الثورات هى صانعة التحولات خاطئ تماما لانطلاقه من افتراض أن الفترة القصيرة لسنوات من الثورة هى وحدها فترة فاعلية الشعوب.
5: وإذا افترضنا أن التحولات تمثل أساس التغيير فإن هذا سيعنى أن تقتصر فاعلية الماركسيين طوال زمن قد يستغرق قرونًا على التصدى لقيادة النضالات الشعبية والثورات عند حدوثها، على أمل أن تحقق لنا هذه التحولات المجتمع اللاطبقى المنشود.
6: وتنطلق الشيوعية من رفض البعض للمجتمع الطبقى باعتباره مجتمعا لا إنسانيا تضطهد فيه طبقة باقى البشر فلا ينبغى أن يكون قدر الإنسان، ويؤيدها آخرون تقريرا لسبب علمى خالص هو أن المنطق الذى لا سبيل إلى تفاديه للتحولات الاجتماعية-السياسية تقود إلى المجتمع اللاطبقى. وكما أننا لم ندرك معنى الثورة رغم بديهيته فإننا لم ندرك بعدُ كيف سيتحقق الانتقال إلى الشيوعية ما دمنا قد استبعدنا الثورة كسبب، وسيظل هذا لغزا يحتاج حله إلى جهود جبارة.
7: وكان مؤسسو الماركسية يتحدثون عن الثورة الاشتراكية التى تقود إلى الشيوعية، وعن شروطها الذاتية والموضوعية وعن برنامجها ولهذا فإنهم لم يفكروا فى ديالكتيك الانتقال إلى الشيوعية باعتبار أن الاشتراكية ستقود إليها حتما؛ لأن الاشتراكية مرحلة أولى تسبق الشيوعية.
8: على أن كل النضال الفكرى للماركسيين سيركز على توعية الشعوب بالرؤية الشيوعية وسيرتبط بقيادتهم لنضالاتها الطبقية وثوراتها عندما تتفجر، حيث لا تكون الشيوعية الهمَّ الوحيد للماركسيين لأنهم مسئولون أيضا عن البشر الأحياء العينيِّين المعاصرين لهم.
9: ولا شك فى أن على الماركسيين واليسار أن يقوموا بإعادة نظر شاملة لإستراتيچياتهم وتاكتيكاتهم النضالية فى سبيل الديمقراطية والاشتراكية منذ قرابة قرنين من الزمان وحققت لهم وللبشرية منجزات كبرى وأصابتهم بإخفاقات كبرى، ذلك أن الممارسة النضالية ظلت تركز على ثورة اشتراكية قريبة للغاية.


2015 / 1 / 6