الأصولية (فصل من كتاب) بقلم: الپروفيسور أندرو فينسينت ترجمة: خليل كلفت


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 5024 - 2015 / 12 / 25 - 15:25
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

الأصولية
(فصل من كتاب)
بقلم: الپروفيسور أندرو فينسينت
ترجمة: خليل كلفت
كلمتا fundamentalism ["أصولية"] و fundamentalist ["أصولىّ"] نتاجان لأواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ولم يكن أول استعمال راسخ موضوع خلاف. ويتفق كل معلِّق يكتب عن الأصولية على أنه جرى استعمال هاتين الكلمتين لأول مرة فى أمريكا الشمالية، فى الواقع فى كاليفورنيا، فى العقدين الأولين من القرن العشرين(1). وسوف أتناول التاريخ الأكثر تحديدا لاستعمال كلمة fundamentalism (الأصولية) فى القسم التالى، المتعلق بجذور الأصولية. وعلى مستوى من المستويات فإن كلمة fundamentalism"" نفسها إشكالية نسبيا. ومثل مفاهيم أيديولوچية أخرى يمكن أن تكون لها دلالة عادية (ازدرائية فى كثير من الأحيان) فى مقابل دلالة وصفية (أو أكثر تقنية). وعلى هذا النحو يمكن أن تنطوى الأصولية بصورة ضمنية عادةً على التعصب fanaticism، أو العقائدية dogmatism، أو عدم التسامح intolerance، أو معاداة العقلانية anti-intellectualism، أو الإرهاب terror، أو التطرف extremism. ويمكن أن ينطبق هذا المعنى - وينطبق بالفعل - على كثيرين يمكن وصفهم بأنهم دينيون، غير أنه يمكن أن يمتد تماما إلى ما وراء أىّ دلالة دينية صريحة. ويمكن أن يكون أىّ شخص ضيق الأفق وعقائديا إلى حد بعيد. ويمكن بالتالى أن يكون ماركسيا أصوليا أو ليبراليا أصوليا من أنصار السوق الحرة. وهذا التوسيع للاستعمال فيما وراء الدين جرى حقا منحه المصداقية فى كتابات بعينها. غير أن الدين، خاصةً فى العقد الأخير اتجه إلى أن يخطف الأضواء – مساهما فيما يسميه مارك يويرجينسميير Mark Juergensmeyer "أصوليفوبيا" fundaphobia أكثر عمومية (Juergensmeyer in Marty and Appleby eds 1995, 354).
والاستعمال الأكثر عادية – رغم أنه يبقى نصا ضمنيا subtext لا يمكن تفاديه فى كل المناقشات – ليس الاهتمام الرئيسى لهذا الفصل. كذلك فإن التفسير الوصفى الأعرض لا يجرى تناوله هنا. وينصبّ التركيز الأساسى على الدلالة الدينية للأصولية. ولا شك فى أنه منذ ثمانينيات القرن العشرين، جرى استكشاف هذا الاستعمال الأخير بصورة مهيمنة فى دراسات تاريخية، وسوسيولوچية، ودينية مقارنة، وبصورة رئيسية ضمن السوسيولوچيا والدين. وسيكون تشديدى الشخصى فى هذا الفصل على الاستعمال الأيديولوچى للكلمة.
وأصل المعنى الوصفى لكلمة fundamentalism [أصولية] لاتينىّ. وتعنى اللفظة اللاتينية fundus الأرضية أو الأساس؛ و fundamen أو fundamentum تعنى foundation القاعدة أو الأساس أو التأسيس؛ و fundator تعنى founder [المؤسِّس]. وبهذ المعنى تتضمن لفظة fundamentalism [أصولية] عودةً إلى، أو إحياءً ل، أو تأسيسا للنفس، على أرضية أو قاعدة مستقرة. وكما علَّق أحد الكتاب فإن الأصولية يمكن تشخيصها على أنها "إعادة تأكيد المبادئ والجهود التأسيسية لإعادة صياغة المجتمع على أساس تلك الأصول المعاد تأكيدها" (Voll in Marty and Appleby eds 1991, 347). وبصرف النظر عن هذا الفهم الوصفى لا يكاد يوجد إجماع شامل داخل الكتابات حول سماتها المميزة (Kuikman in Schick et al. eds 2004, 51).
وينشأ تعقيد دلالىّ فيما يتعلق بالانتشار الأكثر عالمية لكلمة "fundamentalism". فهل تتطابق مع كل الأديان، وكل الثقافات، وبصورة أخصّ مع كل اللغات؟ وسيكون هذا مهمًّا بصفة رئيسية فى حالة الإسلاموية الراديكالية المعاصرة – التى يعتبرها معلقون كثيرون تقليديا مثال النموذج الأصلى للأصولية الحداثية. وبالتالى هل توجد كلمة أو عبارة تُعادل، لِنَقُلْ، فى العربية أو الفارسية كلمة "fundamental" أو "fundamentalism"؟ وفى العربية تغدو كلمة أصول أو أصولىّ – الدالة على الجذور – مرشَّحة ممكنة. كما أن الكلمة العربية أصولية يمكن أن تشير أيضا إلى الجوانب الأصلية فى الفقه الإسلامى. ويوجد هنا قليل من الاتفاق المتماسك. ولهذا تظل هيئة المحلَّفين على خلاف بشأن المسألة السيمانطيقية المقارنة. ويعتقد إكسپوزيتو Exposito، على سبيل المثال، "أنها تقول لنا كل شيء، وفى الوقت نفسه، لا تقول لنا أىّ شيء" (Exposito 1983, 7). وتنطبق نفس الفكرة الدلالية فيما يتعلق بكلٍّ من الفارسية والعبرية. وهناك كلمات عبرية يستعملها الإسرائيليون لوصف اليمين الدينى الأكثر تطرفا (yamina dati [يامينا داتى]): على سبيل المثال جماعات مثل "جوش أمونيم" (جماعة المؤمنين) و "حريديم" (المفرد: حريدى: طائفة دينية تراثية يهودية - المترجم). على أنه لا توجد كلمة عبرية أصلية كمقابل دقيق لكلمة fundamentalist. وينطبق نفس الشيء على اللغات التى تشمل، على سبيل المثال، الهندوسية، والسيخية، والبوذية. ورغم هذه النقطة الأخيرة، ما يزال يجرى تطبيق لفظة "fundamentalism" فى كثير من الأحيان فى كلٍّ من المعنييْن الازدرائى والوصفى على جوانب فى كل ديانات العالم. ويرجع هذا التطبيق العريض بجانب كبير منه إلى بعض السمات المفاهيمية المميزة لكلمة fundamentalism [الأصولية] التى تملك ما سمّاه معلِّق حديث ب "الشَّبه العائلى" (Ruthven 2004, 4). وعلاوة على هذا فإنه، فى نظر آخرين، ما من تعبير مُناظر آخر "وُجِدَ أنه واضح أو مفيد" للبحث العلمى الاجتماعى (Marty and Appleby eds 1991b, viii and ix).
وترتبط الحالة الدلالية للأصولية ارتباطا وثيقا بمسألة أخرى. هل الأصولية مؤهلة بالفعل كأيديولوچيا سياسية؟ وهذه قضية مربكة. ويتمثل واقع فعلىّ فى أن من الصعب تفادى واقع أن هذه اللفظة مستعملة حاليا على نطاق واسع للغاية كأنها أيديولوچيا سياسية. والواقع أن كثيرين نظروا إليها على أنها الأيديولوچيا السياسية الأشد مدعاة للقلق لأوائل القرن الحادى والعشرين. وينظر إليها البعض على أنها تَرِثُ معطف اليسار الأيديولوچىّ المتطرف (أو فى الحقيقة اليمين المتطرف)، حيث دخلتْ الفراغ السياسىّ فى أواخر تسعينيات القرن العشرين بجاذبية وحيوية بادئه طبعة جديدة من الحرب الباردة – التى تركزتْ فى هذه الحالة على الإرهاب. وإذا طرحنا هذه القضية الأكثر تأملية جانبا فإن النقطة الوحيدة التى نشير إليها هنا هى أنه إذا جرى اعتبارها أيديولوچيا فإنها تكون أيديولوچيا غير نموذجية untypical فى نظر بعض المعلقين، بالتأكيد بالمقارنة مع الأيديولوچيات الأخرى التى حللناها فى هذا الكتاب. وفى مجرى هذا الفصل، أقوم بالفعل بتقديم فرضية أن الأصولية يمكن التعامل معها على أنها أيديولوچيا؛ على أن من المهم مع هذا أنْ نسجل ونناقش بعض صعوبات هذه الدعوى.
وفى نظر الناقد المتشكك، يمكن اعتبار الأصولية غير نموذجية، لعدد من الأسباب: أولا أنه يبدو، للوهلة الأولى، أنها لا تملك أىّ معتقدات مفاهيمية أساسية تكون علامة على موقف سياسىّ مميّز. وعلى العكس فهناك، فى نظر الناقد، مجموعة واسعة من المعتقدات الدينية المفتقرة إلى سمة مشتركة تسمح بالمقارنة. وبهذا المعنى فقد يكون من الخطأ ببساطة أنْ يشار إليها (الأصولية) بهذا المعنى الاستثنائىّ. ذلك أنها تعطى الانطباع اللفظىّ لوحدة زائفة إلى حد كبير؛ ليس بأن أىّ أيديولوچيات بحثناها فى هذا الكتاب تجسد بالضرورة إجماعا مفاهيميا حاسما. ولهذا فإنه فيما يتعلق بالأصولية، يمكن أنْ نقول على الأكثر إنه توجد معتقدات أساسية ممكنة – المسيحية، والإسلام، واليهودية، وهكذا وإلخ،. ثانيا، فى نظر الناقد يبدو أنه يوجد القليل الذى يمكن أنْ يشير إلى نظرة فريدة أو مميزة للبشر، أو الجماعة، أو الاقتصاد، أو الدولة – كما يمكن أنْ نجد، مثلا، فى الليبرالية أو المحافظة. والواقع، على العكس، أنه توجد اختلافات ملحوظة بشأن هذه القضايا التى يمكن أنْ تكون موجودة فى أبنية دينية مختلفة. وتوجد بالتالى معتقدات دينية متنوعة بشأن طبيعة الاقتصاد أو الدولة، ولكنْ يبدو أنه لا شيء يوحدها بالضرورة. ومرة أخرى فإن هذه النقطة ليست حاسمة بصورة كلية فيما يتعلق بأيديولوچيات علمانية أكثر تقليدية جرى بحثها فى هنا النص – كلها تجسِّد الاختلاف الداخلىّ. ثالثا، أين تبدأ أو أن تنتهى الأصولية؟ هناك استعمال غريب لكلمة "أصولىّ" فى الخطاب المعاصر – ومع هذا فسوف يُبَيِّن المزيد من التأمل أنه ليس غريبا إلى هذا الحد. وعلى هذا النحو، يمكن أنْ يكون المرء من الناحية النظرية ليبراليا أصوليا، أو لا-أدريًّا أصوليا، أو ملحدا أصوليا، أو علمانيا أصوليا ومن المؤكد أنْ يكون هذا هو الحال إذا أحسَّ المرء أنه كانت هناك حقائق أساسية جوهرية تشخص هذه المجالات، التى كان يجب الإيمان بها إيمانا عقائديا مهما كان الثمن. وبكلمات أخرى فإنه لم يمكن من الممكن أنْ يوجد أىّ حلٍّ وسط قابل للحياة بشأن هذه الحقائق الأساسية.
وأخيرا، قضية لا يجرى فحصها بدقة فى كثير من الأحيان فى الكتابات المرتبطة بالأصولية: إذا قارنَّا الأصولية بأبنية الفكر الأيديولوچية الأخرى، هناك شيء ما مُرْبِك قليلا فى مصطلح fundamentalist [أصولىّ]. وبالفعل فإن كل الأيديولوچيِّين مطمئنون كليا (وكذلك كل الأيديولوچيات) إلى قبول اللقب الذى اختاروه لمذهبهم. وعلى هذا فإن الواعين ذاتيا من الليبراليِّين، والنسويِّين، أو حتى الفاشيِّين يكونون عادةً مطمئنين تماما إلى قبول اللقب الأيديولوچىّ إنْ لم يكونوا حريصين عليه. وقد يكون هناك خلاف حول الدقة المحدِّدة للقب، ويمكن، بالطبع استعمال معظم الألقاب الأيديولوچية استعمالا ازدرائيا. ويمكن للمرء أيضا أنْ يصقل اللقب، على سبيل المثال، وأنْ يصرَّ على أن لقبا ما يُعتبر ليبراليا كلاسيكيا وليس ليبراليا اجتماعيا. وكل هذا متوقع تماما. وعلى هذا النحو ينتج فى كثير من الأحيان أن ليبراليًّا يوصف بأنه فاشىّ أو أن فاشيًّا يوصف بأنه ليبرالىّ قد يكونان كلاهما استثناءً على الوصف(2). غير أن الاستجابة القياسية ستكون فى العادة تصحيح الوصف. ومع هذا فإن من الجلىّ أن هذا ليس هو الحال مع الغالبية الواسعة من الأصوليِّين وضمن الكتابات المختلفة فإن أقلية ضئيلة فقط من أولئك الذين يلقبون بأنهم أصوليون يقبلون اللقب، على حين أنه، فيما يتعلق بالاستعمال المعاصر، تميل الغالبية الواسعة من أولئك الذين يُعتبرون أصوليِّين إلى رفض اللقب باعتباره وصفا خاطئا. ورغم هذه النقاط النقدية فإن هذا الفصل سيأخذ مأخذ الجد افتراض أن الأصولية يمكن اعتبارها أيديولوچيا، وسيحاول أنْ يُبَيِّن بعض السمات المفاهيمية الأساسية التى تمكِّننا من تحديد هويتها.

جذور الأصولية
قبل أنْ يكون بوسعنا الانتقال إلى مدى أبعد فى هذه المناقشة من المهم أنْ نحصل على موطئ قدم تاريخى ما عن لفظة fundamentalism [أصولية]. من أين هى مستمدَّة؟ ولهذا فإن هذا القسم سوف يستعرض بعض التفسيرات الأساسية المتعلقة بالجذور التاريخية لهذا المفهوم. وكما سبق أنْ ذكرنا فإنه لا يوجد اطمئنان إلى الاستعمالات الأصلية لكلمة fundamentalism. غير أنه إذا كان علينا أنْ نحيط بالحركة الأصولية الأوسع، تصير الأمور عندئذ أكثر تشوُّشا. وكما يعلق مارتى و أپليبى فإن "المرء، يمكن أنْ يواصل بصورة لانهائية تقريبا إيراد أمثلة لحركات أصولية أو أشبه بالأصولية ببساطة عن طريق مَسْح مانشيتات أىّ يوم... [نظرا] لعشرات من... نقاط الاشتعال حول العالم التى يشكل فيها الدين أساسا أيديولوچيَّا على الأقل، ويشكل فى كثير من الأحيان السياقات الثقافية والاجتماعية، المركبة وبالغة التعقيد" (Marty and Appleby eds 1991, 814). غير أن التشبُّث بالجذر المحدَّد لمصطلح fundamentalism يكون أوَّلا أكثر مباشرة. وقد بدأ أخوان تقيَّان من رجال الأعمال يعملان فى مجال النفط فى الولايات المتحدة، ملتون و لايمان ستيورات Milton and Lyman Stewart، العمل فى برنامج لرعاية كراسات مسيحية پروتستانية مكرَّسة للقتال ضد أحابيل الهيومانية/الإنسانوية humanism، واللاهوت الليبرالىّ، والتقدمية الدينية. وقاما بتمويل التوزيع المجانىّ للكراسات على القساوسة عبر أمريكا. وكانت سلسلة الكراسات تتركز على ما أُطلق عليه Funamental of Faith [أساس/أصل الإيمان]. وكان عنوان السلسلة (1910-15) Fundamentals: A Testimony of Truth [الأسس/الأصول: شهادة على الحقيقة] (schick et al. eds 2004, 7)(3). وتبلغ المجموعة الأخيرة من كتابات الكراسات قرابة اثنى عشر مجلدا. وكانت لفظة fundamental [أساس/أصل] تدلّ على أن من الضرورىّ العودة إلى أساسيات ما كان يعنيه أن يكون المرء مسيحيا. وكانت هذه الأساسيات تتمثل إلى حد كبير فى إيمانٍ بأن الكتاب المقدس كان كلمة الله المعصومة من الخطأ، وأن العالم خلقه الله من العدم، وأن المعجزات كانت أعمالا حقيقية لله، وأن يسوع المسيح كان ثمرة ولادة عذراء، وأنه صُلِب وبُعِث. كما أن عقيدة الفداء substitutionary atonement (أىْ أن المسيح مات من أجل خطايانا وأنه سوف يعود فى سياق يوم الدينونة) كانت عقيدة رئيسية.
وكانت هناك معتقدات إضافية يمكن أن نشير إليها، وكذلك بعض التفريعات الداخلية. ولأن الأخوين ستيورات كلاهما كان يعتقدان فى – ما يشار إليه فى كثير من الأحيان على أنه – نبوءات "نهاية الزمان" فى قصص الكتاب المقدس عن حزقيال، و دانيال، وعلى وجه الخصوص رؤيا القديس يوحنا، فقد كانا يؤمنان بفكرة ما تزال تميز كثيرين من الأصوليِّين الأمريكيِّين إلى يومنا هذا – أىْ "الغبطة" Rapture. وتدل الغبطة على أنه فى يوم محدد (اليوم الذى حاول كثيرون بالفعل تحديده) سيحدث رَفْع المؤمنين أو الصالحين، فى لحظة، إلى الله فى السماء. بل تفكَّر بعضهم فى التأثير الديموجرافىّ لهذا(4). وعلاوة على هذا، فإن قسما كبيرا من الأصوليِّين الأمريكيِّين يؤمنون أيضا بالمجيئ الثانى the Second Coming أو النظام الدينى للمسيح dispensation، أىْ، عندما يأتى المسيح ليبدأ حُكْمه الذى سيدوم ألف عام. وكان تعبير Dispensationalism قد قام بنحته الكاتب الدينىّ فى القرن التاسع عشر چون نلسون داربى John Nelson Darby (1882-1800) لوصف المجيئ الثانى للمسيح. وفيما بعد كانت هناك جدالات كثيرة حول طبيعة وعدد مثل هذا النظم الدينية المسيحىية. والواقع أن عقيدة المجيئ الثانى تشكل جوهر ثلاث حركات دينية كبيرة أخرى فى الولايات المتحدة: المورمون Mormons، وأدڤ-;---;--ينتيست اليوم السابع Seventh Day Adventists، وشهود يهواه Jehovah’s Witnesses. وقد خلق الاهتمام بالمجيئ الثانى تأثيرا هائلا بين الجماعات الأصولية، وما يزال يفعل. وكان عدد من المؤلفين الذين يركزون على الغبطة وتأمل تجربة ما بعد الغبطة post-Rapture، مثل هال ليندساى Hal Lindsay، و سالم كيربان Salem Kirban، و تيم لاهاى Tim LaHaye، و چيرى ب. چيكينز Jerry B. Jenkins، كتّابا ناجحين نجاحا هائلا. وقد باعت أعمال ليندساى، على سبيل المثال، قرابة ثمانيةٍ وعشرين مليون نسخة. وهناك بعض الفروق الطفيفة، خاصة بين أنصار النظام الدينىّ قبل الألفىّ premillenial dispensationalists وأنصار النظام الدينى بعد الألفى postmillenial dispensationalists. ويعتقد أنصار النظام الدينى قبل الألفىّ أن مجيئ المسيح سوف يُطلق ألفية؛ وحتى تلك اللحظة يتوقعون أوضاعا تزداد سوءًا، خاصة تحت حكم المسيح الدجال Anti-Christ مع بداية الرؤيا Apocalypse. ويؤمن أنصار النظام الدينىّ بعد الألفىّ بدولة للكمال قبل مجيئ المسيح – وهم، مع هذا، الأقل شيوعا بكثير فى الصفوف الأصولية.
وبُعْد ist [ياء النسبة كنعت أو اسم للدلالة على الانتماء إلى عقيدة] فى fundamentalist [أصولىّ] استعمله معمدانىّ Baptist، كورتيس لى لوز Curtis Lee Laws، فى عشرينيات القرن العشرين، كجزء من وصف ذاتىّ إيجابىّ. وإذا عُدْنا إلى نقطة سبقت الإشارة إليها فإن من الجلىّ أنه عند هذه المرحلة كان هناك أولئك الذين كانوا أكثر من سعداء بأنْ يوصفوا بأنهم أصوليون، رغم أن من الجدير بالذكر أن برنامجهم السياسىّ كان غائبا تقريبا. وهذا هو الوقت الوحيد الذى جرى فيه تقبُّل الكلمة، من جانب تجمُّع مهمّ، كوصف ذاتى إيجابى. وينبغى أيضا أن نشير هنا (وهذا يقيِّد هذا الجدال بكامله) إلى أنهم كانوا على وجه الحصر مجموعة من الپروتستانت الأمريكيّين الشماليِّين. وكما لاحظ أ. ل. مينكين A. L. Mencken، ساخرا كان هذا وقتا إذا سافر فيه المرء عبْر أمريكا بالقطار وقذف ببيضة عبر النافذة فى أىّ مكان، كان أكثر من المحتمل أنْ يضرب بها أصوليا. وكانت نقطة التحول بالنسبة لهذا المصطلح، إلى يومنا هذا فى الولايات المتحدة الأمريكية، حتى بالنسبة لأولئك الذين سبق أن تقبَّلوه فى عشرينيات القرن العشرين، محاكمة "القرد" Monkey Trial الشهيرة أو المشينة فى دالتون، تينيسى 1925. وبدون الدخول فى تفاصيل المحاكمة (التى أقيمت ضد مدرس بيولوچيا، چون سكوپس John Scopes وتدريس البيولوچيا التطورية فى المدرسة)، فقد خلقتْ سعارا إعلاميا واستخدمتها رابطة الحريات المدنية الأمريكية كوسيلة للتشهير بقانون ولاية تينيسى بشأن مثل هذه القضايا المثيرة للجدل. والواقع أن الاستجوابات الدقيقة التى قامت بها كلارنس دو Clarence Dow لمختلف الشهود المدافعين عن رواية الكتاب المقدس للخلق ضد التطور، الذى كان واسع الشيوع عبْر الولايات المتحدة، كانت، إذا عبَّرنا باعتدال، مُذلة بصورة عميقة. ورغم أن سكوپس قد أُدين – إدانة تمّ إبطالها عند الاستئناف – كانت نتيجة المحاكمة إحساسا قويا بجهل، وضحالة، وغباء، الموقف الأصولىّ، كما جرى استخدامه ضد سكوپس. وكانت نتيجة هذا، كما يعترف معظم الدارسين، فقدانا واسع النطاق للثقة وانسحابا جزئيا من المجادلات العامة بين مثل هؤلاء المؤمنين وبصورة لها دلالتها تردُّد وعدم ارتياح عميق إزاء تطبيق مصطلح "أصولىّ" عليهم بوجه عام. وحتى فى فترة التعافى الأصولىّ من سبعينيات القرن العشرين إلى يومنا هذا (رغم أن العالم الاكاديمىّ استأنف هذا التصنيف)، ما تزال توجد مقاومة ملموسة لقبول الوصف الصريح "أصولىّ". ويمكن حقا أنْ يكون هذا لأنه ما يزال يدلّ فى سياقات كثيرة على التعصب العقائدىّ والجهل الساذج.
وكما سبقتْ الإشارة فى القسم السابق، تصير القضية من الناحية الدلالية والتاريخية غير ملائمة عندما ننتقل إلى منتديات دينية أخرى. ولم تكن لأىّ أديان أخرى – على سبيل المثال، الإسلام، أو اليهودية، أو البوذية، أو الهندوسية – فى أىّ وقت من الأوقات لحظة تاريخية أو "استخدام للكلمة" بصورة تتعادل بدقة مع أصل الأصولية الأمريكية، أىْ حيث جرى قبول لفظة Fundamentalism [أصولية] من جانب جماعة بكاملها كوصف ذاتىّ إيجابىّ. ويشير دارس الأصولية بروس لورانس Bruce Lawrence إلى أن الكلمة كان قد استخدمها ه. أ. ر. جيب H. A. R. Gibb فى كتابه (1953) Mohammedanism [المحمدية] (الذى عُنْوِنَ فيما بعد Islam [الإسلام]) بالإحالة إلى مصلح الجامعة الإسلامية جمال الدين الأفغانىّ (Lawrence 1989, 272n. 10) كوصف خارجىّ لحركات إسلامية. كما استعمله – من جديد كوصف خارجىّ الوزير البريطانىّ الرئيسىّ فى جدة فى ذلك الحين، سير ريدر بولارد Sir Reader Bullard – للمقاتل عبد العزيز ابن سعود فى ثلاثينيات القرن العشرين. وكان هؤلاء المقاتلون الإسلاميون يتقاسمون جميعا قلقا إزاء الحكم الاستعمارىّ وخطوات تقدُّم غير متوقعة سلفا للتحديث، ونفورا إزاء الثقافة الغربية، و – ومن المحتمل أنْ يكون هذا هو الأكثر أهمية – الاقتناع بأن المسلمين كانوا يحتاجون إلى العودة إلى معتقداتهم الأساسية. كما جرى لاحقا، بإدراك متأخر، تطبيقها بصورة فضفاضة على جماعات مثل جماعة الإخوان المسلمين (التى تأسست فى مصر فى 1928)، وجماعاتى-إسلامى Jamaati-islami فى پاكستان، وحزب الرفاه فى تركيا، بالإضافة إلى منظِّرين محددين، مثل حسن البنا، وسيد قطب، وأبو الأعلى المودودى، ويوسف م. شويرى. وفى حالة الإسلام كان هذا يقود فى كثير من الأحيان إلى تمييز بين الإسلام Islam، والإسلاموية Islamism، حيث تُمثل الإسلاموية (أو الإسلام الراديكالىّ المقابل للإسلام الأصولىّ(5). وقد أمضى هذا بدوره إلى مناقشات متواصلة بشأن فيم يكمن الإسلام الحقيقىّ. وتظهر مناقشة مماثلة فى معظم الأديان.
ومع هذا فإن أصوليِّين إسلاميِّين محدثين كثيرين، مثل الأصوليِّين فى معظم الأديان، يرون بالفعل بعض الاستمرارية مع ماضيهم الدينىّ الخاص. وفى كثير من الأحيان يُنْظَر إلى الأصول التى ينبغى استعادتها أو إحياؤها على أنها موجودة فى فترة سابقة ما. وهناك بالتالى استشهاد متواصل بعصر ذهبىّ للإسلام (أو المسيحية أو اليهودية)، وكذلك إحساس بارتباط بتراث القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (Voll in Marty and Appleby eds 1991, 348). وهناك تفسيرات تتميز بفروق دقيقة للتاريخ الإسلامىّ بين مختلف عناصر الثقافة الإسلامية(6). وبهذا المعنى توجد فى كثير من الأحيان تصورات متباينة عن الماضى بين، على سبيل المثال، الأصوليِّين الإسلاميِّين والعناصر الأكثر تقليدية أو محافظة فى الثقافة الإسلامية. ويدَّعى الجميع بوجه عام تمثيل حقيقة الإسلام. ويعتمد الكثير على ما إذا كان الواحد منهم سُنِّيا أو شيعيا، وَهّابيا أو حتى صوفيا. وعلاوة على هذا فإنه، كما يؤكد عبد الله أ. النعيم، كل استجابة إسلامية من الضرورى وضعها فى سياق تاريخى فيما يتعلق بالظروف والأزمات (An-Na’im in Juergensmeyer ed. 2005, 29). غير أنه خارج هذه المجادلات الچينيولوچية الداخلية المعقدة، يرجع معظم الدارسين بالفعل بأصل الأصولية الإسلامية بصورة نوعية جدا إلى مصر فى فترة 1902 إلى 1928. ويجرى فى العادة الاستشهاد بتأسيس الإخوان المسلمين السنيِّين فى 1928 باعتباره الحدث الرئيسىّ (Voll in Marty and Appleby eds 1991, 354, 366). وتمثلت الرسالة الرئيسية لهذه الحركة الأخيرة فى تذكير الأصوليِّين الدينيِّين بالإيمان والالتزام بإعادة البناء الاجتماعية والأخلاقية للمجتمع على هذا الأساس المستعاد.
وكان الكثيرون يستجيبون لأحداث خاصة. وفى نظر بعض المثقفين المسلمين فى أوائل القرن العشرين أحدث مجيئ الحرب العالمية الأولى خرقا فى فكرة غربٍ مدفوع بدوافع عقلانية. وما يزال كثيرون يستمرون بقضايا القومية، والليبرالية، والديمقراطية. كما كان للماركسية تأثير إلى أواخر ستينيات القرن العشرين. غير أن كل هذه الأفكار بدأت تتغير ببطء داخل حركات الأصوليِّين منذ 1928. وكان هناك إحساس واعٍ بمقاومة المفاهيم القانونية، والسياسية، والأخلاقية الغربية. وكان يجرى ربط مثل هذه المفاهيم بالميراث الاستعمارىّ والإمپريالىّ الغربىّ. وقد أدَّى التأثير الاستعمارىّ الكولونيالىّ الفرنسىّ والبريطانىّ على مصر، وسوريا، وفلسطين، والعراق، وفى وقت لاحق، وبصورة أكثر أهمية، اعتراف الأمم المتحدة بدولة إسرائيل فى 1948، إلى قلق عميق فى العالم الإسلامىّ. وطرحت الإسلاموية الراديكالية، مثل معظم الأصوليات، بديلا للأيديولوچيات الغربية الكولونيالية السابقة المتمثلة فى الليبرالية، والقومية، والاشتراكية، والماركسية.
وفى كثير من الأحيان صنعتْ الأصولية طابعها العام عن طريق محاولة وضع الأچندة الاجتماعية والسياسية وعن طريق تعريف ما ينبغى أنْ يحمل وزنا فى الخطاب العام. وقد فعلتْ هذا عن طريق ادِّعاء أنها تمثل الإسلام الحقيقىّ (أو كبدائل اليهودية الحقيقية أو المسيحية الحقيقية). وهذا المفهوم عن الإسلام الحقيقىّ (أو اليهودية الحقيقة أو المسيحية "المولودة من جديد") يوضع فى بعض الأحيان ضد تصوُّرٍ للإسلام التقليدىّ (أو اليهودية التقليدية أو المسيحية التقليدية)، الذى إما صار متكيِّفا للغاية وقابلا لأيديولوچيات علمانية، أو فقد ببساطة أصول الإيمان. وتشهد الأسلمة التدريجية للمجادلات العامة فى بلدان مثل پاكستان، ومصر، وحتى تركيا على مدى الفترة ما بين منتصف وأواخر القرن العشرين، على النجاح الجزئىّ لهذه الإستراتيچية. كذلك فإن الأصوليِّين المسيحيِّين الأمريكيِّين كانوا قد حققوا بعض النجاح المحدود مع الحزب الجمهورىّ على مدى ثمانينيات القرن العشرين، رغم أنه عرقلته العوامل الديمقراطية والدستورية الأوسع للمجتمع الأمريكىّ.
وفيما يتعلق بالأصولية فى سياقات دينية مختلفة، تميل الكاثوليكية إلى وضع سلطة أكثر مباشرة فى هيراركية الكنيسة ذاتها، وليس فى المصادر الكتابية أو المبنية على النصوص. ويميل هذا الواقع، بمفرده إلى وضعها على مسافة واحدة من الدوافع الأصولية. غير أنه، مع مجيئ "الأصالة" [الأصولية، التمامية، التعصُّب] intègrisme الكاثوليكية – وبصفة خاصة مع الانتقادات السجالية المتباينة لمظاهر اللَّبْرلة للمجمع الڤ-;---;--اتيكانى الثانى (1965-62)، من جانب أمثال رئيس الأساقفة ليفيڤ-;---;--ر Lefebvre، و الأب جومار دى پو Father Gommar De Pauw و الأب فرانسيس فينتون Father Francis Fenton فى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين – ظهر شيء أقرب للأصولية داخل الكاثوليكية (Dinges in Marty and Appleby eds 1991, 81ff). وكان هناك إحساس محدَّد مشترك (مع الأصولية الپروتستانية) بتقوى ملحوظة بأصول موضوعية، وبالغة التقيُّد بالشريعة الدينية، وغير متغيِّرة(7). وارتدتْ ممارسات مثل القداس الكاثوليكى الرومانى Latin-based Tridentine، بصفة خاصة، طابعا أساسيا موضوعيا. وعلى هذا النحو كان يُنظر إلى الكاثوليكية على أنها تملك نواة نضالية عاقدة العزم على شنّ حرب روحية ضد تخريبات الليبرالية، والعلمانية، والإنسانوية الحديثة بل أشار البعض إلى أن لمنظمات مثل منظمة عمل الرب Opus Dei طابعا أصوليا محدَّدا.
وفى اليهودية كانت الجماعتان الأساسيتان المرتبطتان بالأصولية هما جوش أمونيم – الذين كانت لهم أهميتهم رغم أنهم جماعة صغيرة نسبيا، خاصةً فيما يتعلق بسياسات الاستيطان للحكومة الإسرائيلية – والحريديم. ومرة أخرى فإننا مع هاتين الجماعتين الأخيرتين نتحدث إلى حد كبير عن التطورات منذ سبعينيات القرن العشرين. وكانت جوش أمونيم تتلقى المساعدة من خلال صلات مع حزب الليكود. وبهذا فإنها تمثل، جزئيا، ما سمّاه أحد الكتاب "بلورة الأصولية"، وهو موقف كان وثيق الارتباط "بموقف اليمين المتطرف التحريفىّ" (Aran in Marty and Appleby eds 1991, 288-9). وقد سمّاها بعض النقاد "الخمينيّة الإسرائيلية". وفى الحالة الإسرائيلية يبدو أنه توجد صلة أقرب كثيرا بين القومية والأصولية(8). كما ظهر نموذج مماثل حديث نسبيا من التسييس الأصولىّ داخل الهندوسية، والسيخية، والبوذية، وقد جذبتْ عناصر لهذه الأديان جميعا مصطلح الأصولية(9). وتطورتْ مثل هذه العناصر جميعا بهذه الطريقة بصورة تدريجية من سبعينيات إلى ثمانينيات القرن العشرين.
وباختصار فإن كلمة "أصولىّ"، المستخدمة كوصف ذاتىّ إيجابىّ نشأتْ مع جماعة محددة للپروتستانت الأمريكيِّين الشماليِّين فى عشرينيات القرن العشرين، الذين دحضوا فيما بعد، وما يزالون يواصلون فى الواقع دحض استعمالها. وقد حدث التغيير الحاسم للمنظور فى أعقاب محاكمة سكوپس فى تينيسى. وبعد فجوة وفترة انسحاب، عادت الأصولية فى الولايات المتحدة الأمريكية بصورة مفرطة فى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. وينطبق مسار زمنىّ مماثل على الأصولية الإسلامية، التى نشأتْ منذ عشرينيات القرن العشرين، وأغرقتها لفترة من الزمن القومية، والماركسية، والمجادلات الليبرالية، ثم عاودتْ الظهور فى شكل دينىّ التوجُّه فى عقديْن حتى تسعينيات القرن العشرين. وفى فترة لاحقة، وبصفة خاصة فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، واستُخْدِم تعبير "الأصولية" على نطاق أوسع كثيرا وجرى لاحقا بحثٌ عن كلمات مماثلة فى لغات أخرى وتراثات دينية أخرى. غير أن بعض هذه الاستعمالات تبدو بالفعل، فى بعض النقاط، متكلَّفة، خاصة فى أديان مثل البوذية.

طبيعة الأصولية
بعد أنْ استعرضنا نظريات بعينها حول جذور الأصولية، يتركز هذا القسم فى المحل الأول على نظرة عامة إلى بعض الشروح والتفسيرات النظرية الأساسية التى تظهر فى الأدبيات عن الأصولية. على أن هذا ما يزال يستتبع بعض الإحالة التاريخية. وسوف ينتهى هذا القسم إلى إيضاح موجز لما لا ينبغى ربط الأصولية به، فى المحل الأول كطريقة لتمهيد السبيل للمناقشة المفاهيمية فى الأقسام التالية.
فى نفس الفترة (سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين) التى كان يقوم فيها الأصوليون الأمريكيون باستعادة ثقتهم بأنفسهم وبتوسيع برامجهم السياسية، أنكر كثير منهم بشدة بالغة وَصْفَ "أصولىّ" وهو وصف كانوا راضين به إلى حد كبير فى عشرينيات القرن العشرين. غير أن هذه الفترة الأخيرة من الإنكار شهدت أيضا بصورة مفارقة النمو المفاجئ فى المناقشة الأكاديمية للدراسات الأصولية، وهى مناقشة حركتْ الطريق بعيدا عن المثال الأمريكىّ الشمالىّ. وبين 1988 و 1993 بلغ الإدراك الأكاديمىّ أوجه فى المشروع البحثىّ الضخم عن الأصولية، بقيادة مارتن إى. مارتى Martin E. Marty و سكوت أپليبى R. Scott Appleby، اللذين نظما عشرة مؤتمرات بأكثر من مائة باحث ونشرا فى النهاية خمسة مجلدات ضخمة جدا لدراسات حالة، عن طريق مؤسسة نشر جامعة شيكاجو، بين 1991 و 1995. وقد استخدم هذا المشروع تعبير "الأصولية" على مستوى متعدد العقائد. ويمكن أنْ نرى فى هذه المجلدات مجموعات من الاعتبارات التفسيرية والتعليلية المعقدة يجرى استخدامها لشرح الظاهرة. على أن الفكرة الرئيسية الأكاديمية السائدة كانت تميل إلى أنْ تكون سوسيولوچية الطابع.
ولم يحدث إلا مؤخرا نسبيا أنْ برزتْ الأصولية فى الدراسات السياسية – وأحيانا بصورة عرضية عن طريق التركيز على الإرهاب. غير أنها ما تزال شاغلا لأقلية، وإلى يومنا هذا كان السوسيولوچيون هم الذين قاموا بتوجيه الأبحاث. ويُعَدّ سببٌ أساسىٌّ لهذا الاهتمام السوسيولوچىّ بالأصولية وثيق الصلة بالموضوع. كان الإحساس الداخلىّ العام لدى علم السوسيولوچيا بأكمله، ربما حتى ثمانينيات القرن العشرين، من حيث ما ينبغى النظر إليه باعتباره افتراضات لشخصيات مُؤسِّسِيه – سان-سيمون، وكونت، و ماركس، و سبنسر، و ڤ-;---;--يبر، و دوركيم – هو أن التطور الاجتماعىّ يتمثل فى حركة بعيدا عن التصور الدينىّ الرئيسى للحياة الاجتماعية نحو حركة أكثر علمانية، وعلمية، وعقلانية. وكان علم الاجتماع ذاته، بمعنى ما، جزءًا من هذه العملية المتزايدة لإخفاء الطابع العلمىّ والعقلانىّ على المجتمع. وكان كونت أحد أشهر الشارحين الأوائل لهذه النظره فى تصوره عن تطور العلم الوضعىّ. وفى علم اجتماع دوركيم يجرى الإدراك الدقيق للحركة فى التمييز بين مجتمعات ميكانيكية ومجتمعات عضوية، أىْ، التمييز بين الأبنية المفروضة طقسيا أو أسطوريا للمعنى، فى مقابل الأبنية الاجتماعية المتولدة ذاتيا. ولم يقم مفهوم دوركيم عن "الضمير الجمعىّ" بوظيفته بطريقة مماثلة لدين، رغم أن "الوظيفة" هى الكلمة الأساسية. وقد نظر دوركيم إلى الدين على أنه وسيلة يحقق المجتمع عن طريقها اندماجه، بربط نفسه بمعتقدات وقِيَم تكون منطقية بالنسبة لتلك الجماعية (Durkheim 1995). ويعطى هذا التصور للدين دورا وظيفيا حيويا لتجربة النشاط الاجتماعىّ sociality، وليس لأىّ فكرة عن إله. كما ربط ڤ-;---;--يبر الدين الپروتستانتىّ بعملية العلمنة ذاتها، وبصورة خاصة فيما يتعلق بصلته المرهفة بالرأسمالية، مُفْضِيًا فى نهاية المطاف إلى انقشاع الأوهام الروحية كأمر مُلازم للحداثة.
وباختصار فإن علم الاجتماع، منذ تدشينه كفرع معرفىّ، كان راسخا فى نظره إلى الدين فى العالم الحالىّ على أنه بقية ضئيلة من بقايا أزمنة عتيقة، وعلى أن من المحتوم أنْ يتبخر مع تطور العلم والتنوير. وينطبق شيء مماثل على سلسلة بكاملها من التصورات العلمية الاجتماية عن الدين. والدين شيء مثير للفضول للدراسة، لا ينبغى أخذه مأخذ الجد كشكل أساسىّ للفهم. وفى ضوء الطابع المركزىّ للافتراضات المسبقة مثل العلمنة، والتحديث، والعقلنة، وهكذا وإلخ.، بالنسبة الفرع المعرفىّ لعلم الاجتماع فإن من المفهوم أن الصعود الحديث للأصولية قد أحدث بعض فورات الاهتمام فى الجمعية السوسيولوچية. وبالنظر إلى طابع ونمو فرع السوسيولوچيا، لماذا يحقق الدين مثل هذه العودة فى كل أنماط المجتمعات؟ وفى إنتاج عدد من أحدث الكُتَّاب ذوى الميول السوسيولوچية، مثل روبرت بيلا Robert Bellah: (1991) Beyond Belief [ما وراء العقيدة]، وفيليپ هاموند Phillip Hammond: (1985) The Sacred in a Secular Age [المقدس فى عصر علمانى]، و هارڤ-;---;--ى كوكس Harvey Cox: (1985) Religion in the Secular Society [الدين فى مجتمع علمانىّ]، يسود الاعتقاد بأن الدين لم يَضْعُفْ أو يختفِ مع مجيئ العلمنة والتحديث بقدر ما تكيَّف ببراعة مع الظروف الحديثة.
وهناك نقطة أخرى يمكن أنْ تفسِّر اهتمام علم الاجتماع بالأصولية. وتشترك الأصولية فى شيء جدير بالملاحظة مع أيديولوچيات مثل الفاشية. فبسبب غرابة المعتقدات الاشتراكية القومية أو الفاشية، أو طابعها الشاذ أو مجرد العشوائى، كانت هناك فى كثير من الأحيان نظرة فى أدبيات القرن العشرين بشأن الفاشية فحواها أن الشيء المهم هو التركيز على التفسير غير الأيديولوچىّ. وعلى هذا النحو جرى أحيانا النظر إلى الفاشية على أنها أكثر ارتباطا بالپاثولوچيا. وقد تكون المقاربات السيكولوچية، أو التاريخية، أو السوسيولوچية، أو الاقتصادية أكثر كشفا. وبالتالى فإن قدرا أكبر من البصيرة النافذة يمكن بلوغها (هكذا تمضى المناقشات) فى فهم الفاشية عن طريق تجاوُز الأفكار والمعتقدات وإعادة التركيز بدلا من ذلك على الأوضاع الاقتصادية، والمظاهر الجانبية السيكولوچية أو البيوجرافية، والوظائف الاجتماعية للمنظمات الفاشية. والواقع أن هذا النمط من التفسير يغدو الوصف المفضل للفاشية فى كثير من التفسيرات السوسيولوچية أو التاريخية. ويمكن تطبيق نفس النقطة بشيء من السهولة على الأصولية. وعلى هذا يمكن تفسير الأصولية بصورة أفضل باعتبارها پاثولوچيا اجتماعية وليس كأيديولوچيا. وبهذا المعنى تصير الأسباب الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو السيكولوچية وراء الأصولية مهمة حقا. ويمكن أنْ نرى جاذبية هذه المقاربة، حيث إنها تسمح للمراقب بأنْ يتجاهل الدعاوى المذهبية للأصوليِّين وتنقل الاهتمام إلى تفسيرات اجتماعية سببية وپاثولوچيات عامة. إنها تسمح بمجال أكثر توحيدا للتفسير.
غير أنه، كما أشرنا فى فصل الفاشية، توجد مع ذلك بعض الثيمات، والمفاهيم، والقيم الفكرية التى يمكن فكّ تشابكها فى الفاشية، حتى إذا كانت لا تبدو معقولة إلى ذلك الحد بصورة صريحة. وتنطبق نفس الفكرة العريضة على الأصولية. وعلاوة على هذا، وفى تفسير آخر، تشترك الأصولية بالفعل فى بعض الصلات الشكلية غير المتوقعة، و، فى بعض النقاط ، فى بعض الصلات الأيديولوچية الأساسية مع الفاشية. والواقع أن بعض الكتاب الأصوليِّين الأساسيِّين مثل الكاتب الپاكستانىّ سيد أبو الأعلى المودودى، عبَّروا بالفعل عن إعجاب صريح بجوانب للفاشية الأوروپية.
غير أن السؤال يبقى قائما: ما هى الثيمات الأساسية للأيديولوچيا؟ وقبل الانتقال إلى مناقشة لهذه الثيمات الفكرية فى القسم التالى، أريد أنْ أركِّز بإيجاز على قضايا تتعلق بما لا ينبغى ربط الأصولية به. والمقصود بهذا هو تمهيد السبيل لتفسير أيديولوچىّ أكثر أساسية.
وفى المحل الأول فإن الأصولية ليست مرادفة لكل وأىّ شكلٍ للتطرف. ولمعظم الحركات من أىّ لون – حتى مراقبة الطيور أو جمع الطوابع البريدية – متطرِّفون، أىْ، أولئك الذين يرفضون بعمق إبداء أىّ حلّ وسط مع قِيَم يؤمنون بها بإخلاص ويكونون مستعدين للقيام بأىّ شيء تقريبا لمنع مثل هذا الحل الوسط. ولا شك فى أن كثيرا من الأصوليِّين الدينيِّين متطرفون أو كانوا متطرفين غير أن مسألة ما إذا كان هذا وصفا چينيًّا لكل الأصوليِّين فإنها مفتوحة للنقاش. وواقع أن بعض الأصوليِّين الإسلاميِّين هاجموا مركز التجارة العالمية لا يستتبع أن كل الأصوليِّين يتبنون نفس المقاربة المتطرفة. والواقع أن هذه الإستراتيچية سوف تدحضها غالبية من الأصوليِّين المسيحيِّين الأمريكيِّين .
وعلاوة على هذا، هناك إنكار متكرر فى الأدبيات لفكرة أنْ يكون الأصوليون ببساطة محافظين أو تقليديِّين دينيِّين. والواقع، فى الممارسة، فى أديان مثل الإسلام، والمسيحية، واليهودية، هو أن الحال فى كثير من الأحيان هو أن الفصائل الأصولية تكون فى صراع مع القوى المؤسسية المحافظة أو التقليدية. ولا شك فى أن هذا حدث فى الإسلام، حيث دخل الناشطون الأصوليون فى صراع مع دارسين أكثر تقليدية من العلماء(10). ومع هذا فلا شك فى أنه ما تزال توجد تشابكات بين هذين البُعْدَيْن. وهكذا فإن من المحتمل أن الأصوليِّين الپروتستانت الأوائل فى عشرينيات القرن العشرين كانوا أكثر محافظة وتقليدية بالغريزة. وفضلا عن هذا فإن الأصوليِّين فى كل الأديان – إلى يومنا هذا، يلجأون عادةً إلى شكل ما من أشكال اللجوء إلى ماضٍ تراثىّ أنقى أو أكثر أساسية، كطريقة لوضع الحدود وجذب الولاءات. وبهذا المعنى فإن الأصولية الدينية تُشفِّر بالفعل فَهْمًا للتراث، يجرى التعامل معه بالتالى على أنه، بطريقة ما، نقىٌّ. وما من معلِّق يمكن أنْ يُنكر هذا. غير أن الماضى الأصولىّ مختلف. إنه فى كثير من الأحيان ماضٍ أسطورىّ أو مزيَّف، مُسْتَعْمَل أكثر للرمزية والتباهى البلاغىّ فى الحاضر. ومعظم الأصوليِّين الحاليِّين بعيدون عما هو تراثىّ بصورة صريحة؛ وهم فى العادة أكثر شبابا، وأكثر تعليما، وفى كثير من الأحيان قابلون للتكيف للغاية مع الشروط والتكنولوچيات الحديثة. ويكون استعمال تراث مُخْتَرَع بصورة أكبر للتركيز على الوصفة الاجتماعية الراهنة لأىٍّ من التجديد القومىّ أو الثقافىّ. وبهذا المعنى فإن الأصوليِّين أكثر اهتماما بتوفيق التراثات كوسيلة لتحدى الحداثة، ونقدها، وتغييرها. والدفاع عن القديم أو التراثى، لأنه قديم، ليس هو ما يهتم به الأصوليون. وتتمثل طريقة العمل modus operandi الخاصة بهم، على العكس، فى استعمال التراث وسيلةً كجزء من برنامج أوسع للعمل العام الحالىّ.
وأخيرا فإنه يكون من الخطأ أنْ نفكر فى الأصولية على أنها مجرَّد عبادة. والحقيقة أن اعتماد العبادة على سلطة زعماء كاريزميِّين (مثل ديڤ-;---;--يد كوريش David Koresh من طائفة الفرع الديڤ-;---;--يدى Branch Davidian أو چيم چونز Jim Jones فى جويانا) ليس جليًّا إلى هذا الحدَ داخل الأصولية، مع أنه مرة أخرى توجد دون شك مع ذلك قادة كاريزميون مهمون داخل الجماعات الأصولية، مثل أسامة بن لادن للقاعدة، والشخصية القيادة لحزب الله الشيخ محمد حسين فضل الله ولا شك فى أن مثل هذه الشخصيات لها مكانة سلطوية. غير أنهم، بصورة أعمّ، يميلون إلى أنْ يستمدوا سلطتهم ليس من قدْر كونهم شخصيات كاريزمية، بل من قدْر ما يستمدونه من قراءة سلطوية لكتب مقدسة، مثل القرآن، أو الإنجيل، أو التوراة. وعلى هذا النحو فإنه حتى القادة أنفسهم يرغبون فى النظر إليهم على أنهم يعملون فى وفاق مع التراث الراسخ والسلطات النصية. وفى عبادة الأشخاص توجد فى العادة قطيعة فى التراث والاعتماد الثقيل جدا على القادة وفى العادة يؤدى موت قائد معبود إلى موت العبادة. وليس هذا هو الحال مع الجماعات الأصولية.
وباختصار فإنه يكون من الخطأ أنْ نحاول التفكير فى الأصولية على أنها ببساطة شكل من التطرف السياسىّ أو الدينىّ. وسيكون من الخطأ أيضا أنْ نحدد مكان الأصوليِّين سواء ببساطة باعتبارهم محافظين أو تراثيِّين دينيِّين، أو باعتبارهم شكلا حديثا من عبادة. إن الصورة أكثر تعقيدا.

السياسة والدين
وتنتقل الآن هذه الأقسام القليلة التالية إلى المكوِّنات الأيديولوچية للأصولية. وكما فى كل الأيديولوچيات التى درسناها فى هذا الكتاب فإنه لا توجد أيديولوچيا أصولية جرانيتية نقية، بنفس الطريقة التى لا توجد بها ليبرالية أو لادولتية (= أناركية) جرانيتية. وهناك، بالأحرى، مجموعة من الالتزامات الشكلية الأساسية التى تجسِّد كلًّا من التعقيد والخلاف الداخليَّيْن العميقيْن فضلا عن التشابهات العائلية الصريحة غير أنه، فى نظر الأصوليِّين – مثل معظم الشخصيات الأيديولوچية الرئيسية – يجرى النظر إلى أغلب هذه الالتزمات المفاهيمية على أنها جوهرية، أىْ، تملك معنى مضمونا لا خلاف عليه. ويمكن فحص كثير من هذه الالتزامات فى الأقسام القليلة التالية.
ما هى الأفكار الأساسية التى تجعلنا قادرين على تمييز أيديولوچيا الأصولية؟ يجدر بنا تذكير أنفسنا هنا بأن هذه سوف تشمل مجموعة متنوعة من الظواهر والجماعات، يتجنب كثير منها المصطلحات. وترتبط الخصوصية المتميزة حقا للأصولية بالدين. غير أن العلاقة بالدين معقدة ومتعددة الوجوه. ولا ينبغى أنْ يندفع المرء إلى أىّ استنتاج ساذج حول هذه القضية. وتبرز هنا نقطة نقدية من الضرورىّ التصدى لها فى الحال: هل ترتبط الأصولية حقا بالدين؟ ولهذا السؤال عدد من الأبعاد التى تمدّ المناقشة إلى خارج متناول هذا الفصل. واسمحوا لى بتناول أسهل هذه الأبعاد. ويتمثل الجوهر الأساسىّ لهذه النقطة فى أن الكثير من الملامح التى قد نربطها للوهلة الأولى بالجماعات الدينية الأصولية – مثلا مجموعة أساسية من الحقائق مصحوبة بنص مرجعىّ أو نصوص مرجعية، مطالبة بطاعة غير مشروطة لهذه الحقيقة، وهكذا وإلخ.، – يمكن ربطها بما يمكن وصفه بصورة فضفاضة بأنه مجموعات علمانية من الأفكار. وبالتالى تغدو الحجة أن الأصولية شيء أوسع كثيرا من الدين وكما لاحظ أحد المعلقين فإن "الأصولية قد حلَّتْ محلَّ الشيوعية كشبح يستحوذ على الوعى الغربىّ: شبح يبدو أضخم من أىّ وقت مضى فى أعقاب 11 سپتمبر". ويواصل قائلا إنه "ليس من الغريب للغاية أنْ نشير إلى أنك عندما تخطو خارجا من الباب فى الصباح، إنما تخطو داخلا فى عالم أصولىّ، فى عصر مظلم جديد من العقيدة الجوهرية" (Sim 2004, 4 and 7). وفى هذا السياق تندرج أيديولوچيات كثيرة علمانية بوضوح تحت عنوان الأصولية، وليس بصورة أقل: ليبرالية السوق الحرة، والقومية، والبيئية، والنسوية، وحتى، فى نظر المؤلف المذكور أعلاه، ثقافة إدارة الأداء التى توجِّه حاليا الخدمات العامة لبريطانيا(11).
وفى هذا السياق يكون من الصعب أنْ نعتقد أن لمعظم الأيديولوچيات والأبنية الفكرية، من أنماط كثيرة ومتبانية، مكوِّناتها الأصولية. وكما يعبِّر ماليز روثڤ-;---;--ين Malise Ruthven فإن "كل حركة تقريبا، من حقوق الحيوان إلى النسوية، سوف تحتضن طيفًا يتراوح بين راديكالية متصلبة أو "تطرف" متصلب وتوفيقية ذرائعية" (Ruthven 2004, 32). وفى كل هذه الحركات هناك أولئك الذين يعارضون التفاوض على مبادئهم الأساسية. غير أنه على حين ينظر البعض إلى الأصولية على أنها شيء يميز عصرنا (حيث لا يمثل الدين سوى مُتَهَّمَ أصولىّ محتمل)، يكون معلقون آخرون أقل ثقة بذلك بكثير. وفى قراءتى الخاصة، أزعم أن الأصولية – فى اللحظة الحالية – شيء يرتبط بصورة أكثر غلبة بالدين. وهذا هو الخط العام للتفكير الأكاديمىّ الذى تطور من مشروع الأصولية لتسعينيات القرن العشرين، والذى أتفق معه فى الرأى. إن جرَّها بعيدا عن الدين يعنى جعلها مقولة أوسع مما ينبغى.
وعلى هذا النحو فإن ردّ فعلى على هذا الاستعمال الأكثر شمولا للأصولية هو أنْ أشير إلى أنها تملك قوة أكبر، كمفهوم أيديولوچىّ، إذا فكرنا فيها فى سياق الدين. غير أنه – وإنما هنا تبدأ الأشياء فى أنْ تغدو فى حالة فوضى – إذا تناولنا الأصولية بوصفها أيديولوچيا، فإن علينا أنْ نفكر بالتالى فى الدين والسياسة بالترادف بطريقة ما. فماذا تعنى هذه العلاقة فى الممارسة؟ وهذا سؤال حتى أكثر إرباكا جرى إهماله بابتهاج إلى يومنا هذا: ماذا نعنى بالدين؟ ثالثا، تتمثل إحدى القضايا الحرجة التى ذكرها معظم المعلقين على الأصولية الدينية – بما فى ذلك الجانب الأكبر من التعليق السوسيولوچىّ – فى أنها تميل إلى أنْ تكون ردّ فعل أو تحدِّيًا لأزمةٍ للعلمنة والتحديث. فما المقصود، إذن، بالعلمنة والتحديث فى هذا السياق؟
وهذا السؤال الأول مهمّ فيما يتعلق بوصف المجال المحدَّد لتحليل الأصولية. وإذا تكلمنا ببساطة فإنه يوجد عدد من الطرق التى يمكن بها ترتيب علاقة السياسة والدين. ووفقا لحسابٍ ما، يمكن فصل الدين تماما عن السياسة. ويمكن عمل هذا لدوافع دينية أو سياسية. وعلى هذا النحو، تمثل فكرة مدينتىْ أوغسطين Augustine شكلا راسخا تماما للحجة الدينية. وفى هذا السياق الأخير تكون السياسة عالما ميئوسا منه من النقص الذى لا سبيل إلى علاجه ومجرد محطة تجمُّع لوجود أكثر كمالا فى مدينة السماء. كما يمكن، من جانب السياسة، أنْ يؤكد أولئك الذين ينظرون، على سبيل المثال، إلى الحرب الأهلية الدينية على أنها شيء يجب أنْ نتركه خلف ظهورنا، أن الدين والدولة العلمانية يجب الفصل بينهما بالكامل، غير أنه يوجد هنا بُعْدٌ آخر هو الاندماج الممكن أو الصلة البارعة بين السياسة والدين. ومرة أخرى فإنه يمكن بدء هذا من الجانب الدينىّ أو السياسىّ. وبأبسط تعبير فإنه فى قراءةٍ يستعمر الدين السياسة أو يستعبدها وفى القراءة الأخرى تستعمر السياسة الدين أو تستعبده.
وإذا كان على المرء أنْ يحفر إلى مدى أعمق فى هذه الدراسة الشاقة للرموز فإنه: على الجانبين الدينىّ أو السياسىّ يمكن أنْ يوجد منظور فردىّ الطابع للغاية. والواقع أن الفكرة الفردية – فكرة أن الدين مسألة رأى خاصّ من جانب الفرد يجب الاحتفاظ بالسياسة بعيدا عنه – مميزة للغاية للسياسة الليبرالية والقائمة على الدستور، رغم أنها يمكن أنْ توجد فى سياقات أخرى(12). ومثل هذه الأفكار الفردية تزدهر على فكرة حياد السياسة إزاء الدين. ويمكن أنْ يتمثل بُعْدٌ آخر لهذا الدفاع فى دين يحافظ على نفسه بوعى ذاتىّ بصرف النظر عن السياسة، كما فى حالة طائفة آميش Amish فى الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الجانب السياسىّ، يمكن النظر إلى الطوائف بأىٍّ من العداء أو اللامبالاة الكاملة. ويعنى هذا، رغم ذلك، ابتعادا واعيا عن السياسة من جانب طائفة دينية. غير أنه توجد جماعات دينية وكنائس تقبل بوعى ذاتىّ الفصل بين الدين والسياسة وتميّز فائدته وتوافق على أن من الضرورىّ وضع قيود الدستورية على الأديان. وأخيرا، توجد أديان تحاول بوعى أنْ تضيف وزنها إلى شرعية السياسة، أىْ أنها تقدم الدعم للنظام السياسىّ وتحاول إضفاء طابع مقدِّس عليه، وفى كثير من الأحيان تصير متطابقة بالكامل مع القومية. والشنتووية Shintoism فى الياپان وجوانب من الصهيونية اليهودية مثالان على ذلك. ولإكمال هذه الصورة، هناك أديان ترغب فى نهاية المطاف فى إخضاع السياسة لإرادتها وآرائها وفى ملاءمة كل توقع دينى مع أشكال سياسية وقانونية. وفى التحليل الأخير فإن هذا يمكن أنْ يعنى الدمج الكامل للسياسة مع الدين (من الجانب الدينىّ)، وبكلمات أخرى: الثيوقراطية، أىْ حُكْم النُّخَب الدينية ومرجعية النصوص المقدسة، كما فى إيران الحديثة.
ويتمثل البُعْد المضادّ لدراسة الرموز هذه فى قيام السياسة بإخضاع الدين. وأنا أفكر هنا فيما سمَّاه عدد من أحدث المعلقين "الدين السياسىّ"، أو، كبديل، فيما يتوق إليه بعض الكتاب: "الدين المدنىّ". وبهذا المعنى تستعمر السياسة المفردات الدينية. والواقع أن السياسة يمكن بكل بساطة أنْ تصير دينا مكتفيا ذاتيا. وفى دراسات حديثة لهذه الظاهرة، كانت الفاشية والاشتراكية القومية تشكلان المجال الأساسىّ للاهتمام الأكاديمىّ. وعند كتاب مثل مايكل بيرليه Michael Burleigh، فى كتابه (2006) Sacred Causes [قضايا مقدسة]، أو إميليو چينتيله Emilio Gentile، فى كتابه (2006) Politics as Religion [السياسة كدين]، أو چون جراى John Gray، فى أعمال مثل (2007) Black Mass [القداس الأسود]، يمكن أنْ يبدو أن بعض الحركات حركات سياسية أيديولوچية علمانية تحقق تقريبا كل شيء يمكن أنْ يتوقعه المرء من المقدَّس، بما فى ذلك تفسيرا للطبيعة البشرية، والسقوط، Fall، والهلاك الروحىّ الأبدىّ perdition، والخلاص redemption. وكما يعبِّر چنتيله:
تُضفى حركة سياسية مكانة مقدسة على كيان دنيوىّ (الأمة، البلد، الدولة، البشرية، المجتمع، العِرْق، الپروليتاريا، التاريخ...) وتجعله مبدأً مطلقا للوجود الجمعىّ، وتعتبره المصدر الرئيسىّ للقيم المتصلة بالسلوك الفردىّ والجماهيرىّ، وتمجِّده على أنه الوصية الأخلاقية العليا للحياة العامة. وعلى هذا النحو يصير موضوعا للإجلال والتكريس، حتى إلى حد التضحية بالنفس (Gentile 2006, 18-19)(13).
ومن نواحٍ كثيرة تلتقط هذه النقطة ثيمة سبق أنْ تناولها بإيجاز إيريك ڤ-;---;--وجلين فى كتابه: (1938) The Political Religion [الدين السياسىّ]، و چاكوب تالمون فى كتابه: The Origins of Totalitarian Democracy (1952) [جذور الديمقراطية الشمولية]، ونورمان كوهن Norman Cohn فى كتابه: The Pursuit of the Millennium (1970) [البحث عن الألفية]، أىْ أن الأيديولوچيات السياسية تُعيد إدراج الألفاظ الدارجة الدينية (Shorten 2007).
والخلاصة أنه إذا كان المرء يسعى إلى وضع الأصولية داخل دراسة الرموز هذه لتقديس السياسىّ أو تسييس المقدَّس فإن حدسى سيكون عندئذ أن هذا سيبدو بُعْدا لتقديس السياسىّ. والواقع أنه سيتلاءم على أكمل وجه مع مقولة الأديان التى تحاول إخضاع السياسة لمشاعرها وآرائها الدينية، وبهذا المعنى فإن المثل الأعلى (إذا أمكن تحقيقه) سيتمثل فى ثيوقراطية كاملة. والمسلمون، وبعض اليهود، أكثر وضوحا وصراحة فيما يتعلق بهذا من المسيحيِّين الأصوليِّين، بالتأكيد فى فترة الثلاثين سنة الأخيرة.
والسؤال التالى هو: ما هو الدين؟ وهذا سؤال محفوف بالمخاطر، ليس بصورة أقل بسبب الطابع الخلافىّ بعمق لهذه الكلمة؛ غير أنه يظل من الضرورىّ أنْ نسأل هذا السؤال بقدر ما أن الدين يمثل المظهر الرئيسىّ للتفكير الأصولىّ. وكما علَّق ويليام چيمس على الدين فى 1902 فإن، "مجرد واقع أنه توجد أديان كثيرة جدا ومختلفة جدا عن بعضها البعض يكفى لإثبات أن كلمة ’دين‘ لا يمكن أنْ تمثل أىّ مبدأ أو جوهر واحد، بل إنها تمثل بالأحرى اسم جمع collective name" (James 1971, 46). ولفظة religion ("دين") مشتقة من الفعل اللاتينىّ religare، الذى يعنى "يقيِّد بإحكام" أو "يربط"، أو من باب التوسيع "يضع التزاما على". وفى حد ذاته، لا توجد أىّ صلة ضرورية لهذا بأىّ معنى للروحانية أو الإله (الآلهة). والدين، حتى فى البُعْد الروحىّ، يمكن أنْ يكون توحيديًّا theistic أو متعدد الآلهة polytheistic، أو بلا أىّ تصوُّر صريح عن أىّ ألوهية، كما فى البوذية. وقد رأى چ. س. ميل إمكانية "دين للبشرية" كعنونة مثالية لتعبير "الدين" (Mill 1874, 110ff).
غير أن الدين يميل، فى استخدامِ أكثر اصطلاحية إلى الدلالة على عدد من السمات المميزة. يُنْظَر إلى العالم المنظور visible إلى حد كبير على أنه جزء من شيء أكثر أهمية – شكل ما من العالم الروحىّ غير المرئى unseen يُضيف معنى، وبريقا، وهدفا. ويوجد فى معظم الأديان إحساس قوىّ بالسمة المبهمة، والجليلة، والمقدَّسة، وفى نهاية المطاف غير القابلة للعقلنة لغير المرئىّ هذا. وقد وصف العالم اللاهوتىّ رودولف أوتُّو Rudolf Otto، فى 1917، هذا بأنه إحساس بالمقدَّس، أىْ " شيء ما يمكن أنْ نحسّ بطابعه الخاص، دون أنْ نكون قادرين على أنْ نعطيه تعبيرا مفاهيميا واضحا(Otto 1972, 30 and 109). وفى نظر أوتُّو فإننا، إذا أهملنا هذا المظهر المقدَّس، نُفْقِر كل فهمنا للدين. وعلاوة على هذا فإن هدف الدين يتمثل بطريقة ما فى عقد صلة بين العالمين غير المنظور والمنظور وفى العادة تكون الطريقة التى يتم بها عقد هذه الصلة عن طريق أشكال متنوعة من الطقس، أو الصلاة، أو التأمل، أو الأعمال الطيبة، أو العبادة. كما تحتوى الأديان على مجموعات من التعاليم التى تهدف إلى أنْ تُوجِز القواعد والأوامر المتصلة بهذا البُعْد الروحىّ. ويُنْظَر إلى مثل هذه المعتقدات على أنها فى وقت واحد صحيحة وذات تأثير على مجموع الحياة، والواقع أنها قد تؤثر بالفعل فى "خلاص"، و "سعادة"، وحتى فناء المؤمن. وتشتمل السرود والقصص الأسطورية على كثير من هذه التعاليم. كما أن التعاليم الأساسية تؤدى فى كثير من الأحيان إلى نشوء مجموعات من المبادئ الأخلاقية. كما يكون للأديان فى العادة بُعْد اجتماعىّ وطائفىّ، أىْ أن لها جوانب مؤسسية وتنظيمية. وعلاوة على هذا فإن الدين سوف يشدّد بقوة فى كثير من الأحيان على بُعْد تجريبىّ، أىْ فكرة ما عن التجربة (البالغة العاطفية فى كثير من الأحيان) للروحىّ، مع أن هذا يتوقف فى كثير من الأحيان على الدليل الشخصىّ(14). وكل النقاط المذكورة أعلاه عموميات نمطية مثالية وبحاجة إلى أنْ تُكَسَى لَحْمًا. وهناك أيضا تنويعات أساسية على هذه الثيمات ضمن تراثات عقائد متمايزة.
فما هو الطابع المميِّز للنظرة الأصولية للدين؟ هناك عقدة متشابكة من القضايا المفاهيمية هنا. وعلى السطح، يمكن أنْ تبدو المواقف الأصولية إزاء الدين عادية ومتوقعة تماما. والشيطان يكمن إلى حد كبير فى التفاصيل. ويتعلق أول هذه التفاصيل بواقع أن بعض المعلقين يؤكدون أن الأديان التوحيدية الإبراهيمية أكثر ميلا إلى الأصولية من العقائد المتعددة الآلهة. وعلى هذا فإننا، عندما نتحدث عن الأصولية، نتوجَّه فى الواقع بوجه عام، إلى اليهود، والمسلمين، والمسيحيِّين، وليس إلى الهندوس أو البوذيِّين. والأسباب وراء هذا الزعم جلية تماما على أحد المستويات. فإذا كان يوجد إله واحد يكون من الأسهل كثيرا التفكير فى إرادة فريدة واحدة ومجموعة مرجعية واحدة من الأوامر. كما يجرى دعم هذا بنص مرجعىّ واحد، مثل الكتاب المقدس أو القرآن. أما فى الأديان المتعددة الآلهة أو الأديان التى ليس لها أىّ مفهوم جازم عن ألوهية، فإن من الأصعب الحصول على أىّ حجية إجماعية متميزة. وتنطبق هذه النقطة نفسها على النصوص الأساسية. فما هو، على سبيل المثل، النص المرجعىّ الأساسىّ فى الهندوسية أو البوذية؟ توجد نصوص كثيرة يجرى تبجيلها، غير أنه لا وجود لوثائق مفردة. وعلى هذا النحو، كما تواصل هذه الحجة، تكون درجات من التسامح والتعددية مندمجة فى صميم هذه الأديان الأخيرة بحكم غياب مثل هذه النصوص المرجعية.
وفى العادة تنطوى الحجة المضادة لهذه الحجة على احتكامٍ إلى تفاصيل تجريبية وتاريخية، أىْ أننا إذا نظرنا، مثلا، إلى البوذيِّين فى سرى لانكا وغَرْسهم لمعتقدات قومية، وتعاليم ومواقف "حزب بهاراتيا چاناتا" Baharatiya Janata Party (BJP) الهندوسية، وبصورة أخص حركة "هندوتڤ-;---;--ا" Hindutva (التى طورت، بالفعل، مفهوم إله فَرْد الآن – "راما" Rama)، فإنها جميعا تنطوى على سلوك أصولىّ، رغم أنها متعددة الآلهة بصفة جوهرية. أىْ أنها معادية للعلمانية، ومتشككة إزاء الحداثة، وإطلاقية فى معتقداتها، وإقصائية، وفى كثير من الأحيان عنيفة. وفى كثير من الأحيان يجرى تطبيق نقطة مماثلة على السيخ Sikhs الذين دافعوا عن المعبد الذهبىّ فى "أمريتسار" واغتالوا السيدة غاندى Mrs Gandhi لانتهاكها حرمته. ويبدو أن هذه النقاط تعزز الاقتناع بأنه توجد أقسام أصولية داخل الأديان المتعددة الآلهة شأنها فى هذا شأن الأديان التوحيدية.
وتتعلق قضية أخرى بالحَرْفية literalism والعصمة inerrancy (التى تعنى التحرر من أىّ خطأ). ومن المهم أنْ ندرك هنا أننى أعترف بالفعل بوجود اختلاف بين الحَرْفية والعصمة. وهما غير قابلتين بالضرورة للتوفيق ومع هذا فإن كلا الفكرتين تظهران بالفعل فى كتابات أصولية. والأصوليون أنفسهم ليسوا واعين دائما بعدم التماسك الكامن هنا. ومن الناحية الأساسية، تزعم الحَرْفية الأصولية أنها لا تفسر النص المقدس. وبالأحرى فإن الحجة تتمثل فى أن النص المقدس هو الكلمة الحَرْفية لله(15). والواقع أن مثل هؤلاء الأصوليِّين لا يتفادون كل فساد فى التفسير؛ وبالأحرى فإنهم يعطون تفسيرا ضيقا وغير واسع الخيال ثم يسمونه كلمة الله. كما يمكن أنْ يكونوا انتقائيِّين فى قراءتهم. وعلى سبيل المثال فإن أنصار النظام الدينىّ قبل الألفىّ فى الولايات المتحدة لا يبنون آراءهم الأساسية على الكتاب المقدَّس بقدر ما يبنونها على تفسير كاتب أو كاتبيْن من كتّاب القرن التاسع عشر لبعض النصوص المقدَّسة(16). وبطريقة مماثلة تعتمد حركة جوش إيمونيم فى إسرائيل بشدة على تفسيرات للتوراة فى الكتابات الواردة فى رابى زڤ-;---;--ى يهودا Rabbi Zvi Yehuda. وفى مثل هذه التفسيرات الضيقة يجرى أخذ الكلمات على أنها تعنى بالضبط ما يبدو أنها تقوله؛ وعلى هذا فإنه إذا قالت التوراة إن الخلْق استغرق ستة أيام، فإن هذا بالضبط هو ما تعنيه. وبطبيعة الحال فإن أصوليِّين كثيرين يتحفظون، فى الممارسة، بشأن هذا النص ونصوص أخرى: أىْ، هل لدينا نفس المفهوم الذى عند الله عن النهار والليل (أىْ، فى فهمنا للستة أيام)؟ غير أنه ما يزال يوجد إحساس مشترك لدى الكثيرين، رغم بعض المشكلات فى فهمنا، بأن النص الدينىّ ماثل بوصفه الكلمة الحَرْفية لله.
ولا تمثل الحَرْفية قضية بالنسبة للأصوليِّين؛ والعصمة أكثر، أهمية. وبعض المعلِّقين مثل سيد قطب لا يبدون قلقين جدا بشأن فكرة الحقيقة الحَرْفية، رغم أنه يظل يعتقد أن القرآن يجسِّد كلمة الله المعصومة من الخطأ (Nettler 1996). وقضية السرد الحَرْفى المتماسك لا يمثل مشكلة مباشرة كهذه فى القرآن، فهو منظَّم بطريقة مختلفة تماما عن الكتاب المقدَّس المسيحىّ. وتفسيرات قطب مفتوحة تماما، وشعرية، ومَرِنَة. وعلاوة على هذا فإن مفهوم النقد اللاهوتىّ الأعلى الذى تطور بصورة منهجية فى مسيحية القرنين التاسع عشر والعشرين لم يحقق، إلى يومنا هذا، سوى تقدُّم ضئيل فى الإسلام(17). غير أنه ما تزال توجد مشكلات حقيقية مع الحَرْفية بقدر ما يمكنها إبراز تناقضات واقعية مزعجة فى النصوص المرجعية. ولن يعرف هذا جيدا سوى القرّاء المدقِّقين للكتاب المقدس المسيحىّ. وعلى هذا فإن من الضرورى دَعْم الحَرْفية بعقيدة أخرى تتمثل فى العصمة من الخطأ. وتعنى العصمة من الخطأ أنه يجب النظر إلى نصوص مثل الكتاب المقدس أو القرآن على أنها كاملة كمالًا إلهيًّا داخليا. وإذا وُجِدَتْ مشكلات نصية، فإنها تخصنا نحن، القرّاء الناقصين، وليس مشكلات النص. ويبقى النص معصوما من الخطأ بوصفه كلمة الله. ورغم أن كلمة الله معصومة فإنها تظل تحتاج إلى الاستخلاص من النص. وهكذا فإنه على حين أن الحَرْفية الخالصة يمكن أنْ تقود إلى مشكلات نصية فإن العصمة تخلق نصا منسجما. وفى بعض الأحيان يُنظر إلى العصمة، بهذا المعنى، على أنها الدرب الأكثر أمنا للأصوليِّين.
وتتعلق قضية متصلة ثالثة بالطريقة المتميزة تماما التى يقرأ بها الأصوليُّون فى كثير من الأحيان النصوص الأساسية – ما إذا كانت قراءة حَرْفية أم استخلاصا لكلمة الله المعصومة. وقد لاحظ هذا عدد من الكتاب حول الأصولية. فالنصوص لا يُنظر إليها على أنها وثائق بشرية بارعة أو معقدة باحتمالات متعددة، للخطأ وسوء الفهم البشريَّيْن. وهى لا تُقْرَأ على أنها سرود مشروطة تاريخيا أو رمزية. ولا مجال لفارق ضئيل مذهبىّ. وحتى إذا كان شيء ما معصوما أو كان كلمة الله، فقد يظل المرء مستعدا للتسليم بأن له جوانب رمزية معقدة. وعلى العكس فإن النصوص تُقْرَأ، وهذا على العكس مميِّز للعقلية الأصولية فيما يتعلق بالدين، على أنها برامج أو كتيبات إجرائية تقنية من أجل العمل. ولهذا فإنها لا تشتمل على غموض بشرىّ دقيق بل على أوامر واقعية عادية. إنها المعادل الروحىّ للكتيبات التقنية. وعلى هذا النحو، فإنه فى آية السيف الشهيرة فى القرآن، يؤخذ هذا بصورة واقعية فى كثير من الأحيان(18). ويجرى تقديم نفس النمط من القراءة لتعبير "جهاد"(19). وبطريقة مماثلة فإنه عندما يقرأ أصوليون مسيحيون أمريكيون عن المعبد اليهودىّ المطلوب إعادة بنائه فوق جبل الهيكل فى أورشليم (من المفترض فوق أنقاض المسجد الأقصى)، يُفْهَم هذا من جديد على أنه أمر "تقنىّ" بسيط، يكون عملا تمهيديا ضروريا لهرمجدُّون Armageddon والمجيئ الثانى للمسيح. وعلى هذا النحو، يشترط جزء من الاحتفال بإعادة البناء هذه التضحية بِعِجْلَةٍ حمراء نقية، والواقع أنه يوجد أصوليون مسيحيون الآن فى الولايات المتحدة يقومون بتمويل برنامج تربية انتخابية باهظة التكلفة لإنتاج عِجْلَةٍ نقية لهذا الغرض.
وقد أعطت كارين آمرمسترونج لهذا النمط من القراءة تفسيرا أكثر تكلُّفًا قليلا. ويتمثل جوهر حجتها فى أن مصدرين للمعرفة والفهم البشريَّيْن يجرى الخلط بينهما فى هذا النمط من القراءة الأصولية: أسطورىّ mythos وعقلانىّ logos. والعقلية الأسطورية (وهى مفهوم قبل-حديث premodern على الأغلب) تفهم السرود الدينية على أنها قصص أسطورية ورمزية ينبغى تفسيرها وقراءتها بعناية. أما العقلية العقلانية فقد تطورتْ إلى حد كبير مع العلوم الطبيعية. وهى مرتبطة بفهم أكثر عقلنة وعلمنة بصورة مباشرة. والواقع، كما لاحظ معلقون على الأصولية، أن كثيرا ممن يدافعون فى الوقت الحاضر أو يدعمون بنشاط الفكرة الأصولية يأتون من خلفية علوم طبيعية أو تطبيقية(20). وفى هذه القراءة الواقعية للنصوص يصير الأسطورى، فى الواقع، عقلانيا، وتصير الأسطورة تاريخا فعليا. وعندئذ تصير الأفعال المادية للأصوليِّين أفعال الله. وتصير إرادتهم واجتهادهم – كما يقومان على الكتيب التقنىّ المعصوم من الخطأ – أفعال الله فى التاريخ. وكما يعلق روثڤ-;---;--ين، عندما يترجم الأصوليون الأسطورة إلى واقع تجريبىّ، فإنهم يُطْلِقُون العنف الكامن للنص. وعلى هذا النحو فمن الغريب أن الأصولية، "تمثل الدين متجسَّدا، الكلمة صارت لَحْمًا،... حيث يتمّ تحويل اللحم، فى كثير من الأحيان، إلى أعضاء جسم حطمتها قوى الغضب الإلهىّ" (Ruthven 2004, 191).
ويتمثل بُعْد متصل آخر لهذه الطريقة فى قراءة النصوص المرجعية فيما يمكن أنْ يُسَمَّى عقلية مانوية Manichean. حيث ينقسم العالم فى نظر الأصوليِّين إلى الوجوديْن الفعليَّيْن المتحاربيْن للنور والظلام، أو الخير والشر، أو الله والشيطان، أو التقليدىّ والمُهرطق. ولا توجد أىّ ظلال من الرمادىّ، ولا أىّ إبهامات طفيفة. ويوجد بالتالى عدوّ واضح ومتميِّز ينبغى الصراع معه. وتصير الحرب الروحية والمادية ضد المظلم والشرير، والجاهل، والكافر، والمُهرطق واجبا دينيا إلزاميا. وفى هذا السياق لا يمكن مطلقا أنْ يكون الفكر الدينىّ استكشافيا، أو استقصائيا، أو تاريخيا، أو تفسيريا. إنه دائما تفسيرىّ وتبريرىّ للحقيقة الموضوعية، المقرَّرة ضد أكاذيب الكافر.
ويتمثل جانب متميز رابع للدين الأصولىّ فى أنه ليس ممارسة فردية، أو خاصة، أو ذاتية. وعلى العكس فإن هذه الممارسة لن يتقبَّلها الأصوليون من كل الأنواع. ولا بد أنْ يكون الدين على العكس نشاطا عاما وطائفيا. فهو لا يخص صلة ذاتية خاصة مع إله أو عملية ما من التهذيب الذاتىّ الروحىّ. إنه بالأحرى شيء يقتضى الفعل العام، والطاعة، والمشاركة الطائفية، والتجديد الأخلاقىّ والاجتماعىّ و، بالتأكيد فى الثلاثين سنة الأخيرة فى نظر الكثيرين، التعبئة السياسية. ولا شك فى أنه توجد مظاهر أكثر سلبية للأصوليِّين، أىْ أولئك الذين نادوا بالانسحاب من العالم ورفضه. حدث هذا للأصولية الپروتستانتية الأمريكية بين ثلاثينيات وسبعينيات القرن العشرين. غير أن الاتجاه الراهن لمثل هؤلاء الأصوليِّين المسيحيِّين، واليهوديِّين، والإسلاميِّين، وغيرهم هو أنْ يصيروا مشتركين مباشرة فى العالم السياسىّ وأنْ يحاولوا إحداث تغيير قانونىّ وسياسىّ، إنْ لم يكن ثورة (كما فى إيران). وفى آيرلندا الشمالية، أيضا، خلال ثمانينيات القرن العشرين، قدَّم الحزب الديمقراطىّ الوحدوىّ بقيادة إيان بيسلى Ian Baisley شكلا ثوريا بصورة كامنة من الأصولية الپروتستانتية – رغم أن هذه الحالة الأخيرة معقدة تاريخيا بصورة أكبر. وعلى كل حال، إذا كان الكتاب المقدس، أو التوراة، أو القرآن، كلمة الله المعصومة من الخطأ، التى لا تحتاج إلا إلى القراءة مثل دليل للتعاليم، بقواعد محددة بوضوح، فإنه يبدو عندئذ من الغريب إلى حد بعيد أنْ يجرى ببساطة إيقاف مرجعية الكتاب المقدس عند الباب السياسىّ أو القانونىّ. وهذان العالَمان الأخيران من الضرورىّ استعمارهما وإخضاعهما للإرادة المطلقة لله.

الطبيعة البشرية والحداثة
يتعلق جانب من الجوانب الرئيسية للتفكير بشأن الأصولية بعلاقتها بالحداثة ومقتضياتها على فَهْمٍ للطبيعة البشرية. وهناك جدال كبير حول متى ظهر تعبير "حديث" modern و "حداثة" modernity لأول مرة. وقد تتبَّع البعض لفظة modernus عائدين بها إلى القرن الخامس الميلادى، كطريقة لتمييز المسيحيِّين عن الوثنيِّين الرومان. وفى العادة يركِّز آخرون أكثر على النهضة أو تنوير القرن السابع عشر. وللأخير دلالة خاصة فى نظر بعض الدارسين بقدر ما أدخل أفكارا عن مرجعية العقل البشرىّ لكل الأشكال الأخرى للفهم (Habermas in Rabinow and Sullivan eds 1987, 142-3). وكما يلاحظ يرجن هابراماس Jürgen Habermas فإن الحداثة فى هذا السياق "تمثلتْ فى... الجهود الرامية إلى تطوير العلم الموضوعىّ، والأخلاق العالمية، والقانون"، حيث تعنى "التنظيم العقلانىّ للحياة الاجتماعية اليومية" (Habermas in Rabinow and Sullivan eds 1987, 149)(21). وقد نشأ جانب التطور الدينامىّ الأصلىّ للعلوم الطبيعية من هذا الإقرار بمرجعية العقل. ويدل الحديث modern، بهذا المعنى الاصطلاحىّ، على أن الأفكار، الدينية أو غيرها، ليست كافية ذاتيا من حيث القوة التفسيرية؛ إن عليها أنْ تؤكد نفسها عن طريق المرجعية النقدية للعقل. وبهذا المعنى فإن فكرة "الحديث" تحلِّق فوق كل الدعاوى الدينية. ولا يعنى هذا أن الحداثة، والعقل، والكثير حقا من الأيديولوچيات الحديثة، لا تنطوى على زخارف دين مُسَيَّس(22). غير أن الحداثة، فى نظر أولئك الذين يرغبون فى إضفاء الطابع المقدَّس على السياسىّ، تثير بالفعل بعض المشكلات(23). وتتصل بعض هذه المشكلات ببساطة بالطريقة التى يبحث بها التفكير العلمىّ الطبيعىّ عن أسباب أكثر تقنية ومادية للأحداث، كما تتصل أيضا بأن الحقائق يمكن أنْ تتغيَّر، وتتغيَّر بالفعل، وفقا لأدلة مادية أو تجريبية كافية مُبَرْهَن عليها. كذلك فإن الشرح التجريبىّ الدقيق يسمح بالتوقع الأكثر أمنا، الذى يمنح بدوره المزيد من القوة والسيطرة للبشر على العالم. والمنطق الداخلىّ لمثل هذا الجدل، فى حد ذاته، لا يدحض الدين، بل يبدأ بالأحرى فى تقليص دور الدين فيما يتعلق بتوفير شروح مُرْضِية بصورة حقيقية.
ولمجيئ الحداثة أيضا صلات فضفاضة قليلا بِقِيمَ مثل المساواة. ويمثل هذا، إلى درجة ما، نتيجة غير مقصودة أو نتيجة محتملة لأديان بعينها مثل الپروتستانتية، أىْ، للنظر إلى الأفراد على أنهم متساوون فى نظر الله. وبالنسبة لبعض الدارسين، مثل ماكس ڤ-;---;--يير، كان هذا سلفا مهمًّا لكل من التصنيع والرأسمالية الحديثة(24). غير أنه كانت له أيضا النتيجة المتمثلة فى تقويض مفاهيم نماذج الهيراركية والسلطة التقليدية وكان يسهّل على هذا النحو بصورة غير مباشرة نموّ أفكار مثل الفردية وحتى لاستقلال الإنسان (Bruce 1995, 27). وأريد أنْ أتوقف لحظة عند هذا التصور للفردية والاستقلال. وهذه ثيمة ظهرت بالفعل فى عدد من الأيديولوچيات، ومع هذا فإن الليبرالية (وبعض أشكال اللَّادولتية) كانت وثيقة الارتباط جدا بها. وفى نظر كثير من الأصوليِّين، خاصةً أولئك الذين فى الولايات المتحدة، ترتبط هذه الفكرة عن الفرد المفكر المستقل ارتباطا وثيقا بمهفوم "الإنسانوية" humanism. وتدل الإنسانوية، فى نظر الأصوليِّين، على أن الوساطة البشرية الفردية مكتفية بذاتها وتحتوى على كل الموارد الأخلاقية والإيپيستيمولوچية الضرورية المعقولة داخل نفسها. وليست هناك بالتالى أىّ حاجة إلى أىّ نوع من الحجة الدينية لتعليل الوجود البشرىّ. وهكذا فإن كاتبا أمريكيا أصوليا رئيسيا، تِيمْ لاهاى Tim LaHaye، وصف الإنسانوية الفردية الطابع بأنها "ضد الله، وضد الأخلاق، وضد ضبط النفس، وضد أمريكا" وجزءا من المؤامرة الأكثر عمومية ضد الدين (quoted in Armstrong 2004, 272)(25). وقد حاول الأصوليون الأمريكيون بالفعل عن طريق وسائل قانونية مختلفة تصنيف الإنسانونية على أنها دِينٌ علمانىٌّ منافس(26).
ووسط رد الفعل هذا الأكثر هيستيرية توجد فكرة شاملة هى أن أفكارا بعينها مغروسة فى إنسانوية وفردية التنوير اللتين تُعَدَّان إشكاليتيْن فى نظر كثير من الأصوليِّين. وتمثل الإنسانوية – كنتاج للحداثة – ليس فقط فقدان بُعْدٍ روحىّ، بل أيضا إحساسا بأنها عكستْ الأولويات الأساسية للوجود البشرىّ. وكما سبقتْ الإشارة، يُنْظر إلى العقل الإنسانوىّ على أنه مصدر مكتف بذاته للسلطة. وكما لاحظ الفيلسوف الهيجلىّ لودڤ-;---;--يج فويرباخ ببلاغة فى منتصف القرن التاسع عشر ففى نظرنا نحن المحدثين: كل لاهوت فى صميمه أنثروپولوچيا. ويجرى تحديد هوية الطبيعة البشرية بصورة كاملة ضمن پارامترات غير دينية. إن البشرية هى التى مَفْصَلَتْ الإله (الآلهة) فى صورتها هى. وبهذا المعنى تمثل الإنسانوية (والفردية الحديثة) شيئا أساسيا تماما فى نظر كل الأصوليِّين، أىْ انقلابا كونيّا لنظام العالم. فالبشر يأتون قبل أىّ فكرة إله؛ وتتحدَّد هوية الطبيعة البشرية. بمكوِّنات غير روحية كليًّا. وفى نظر غالبية الأصوليِّين فى كل العقائد الدينية يكون العكس صحيحا: الإله أو البُعْد الروحىّ هو مصدر كلّ قيمة، ومعرفة، وأخلاق. والله (خاصةً بالنسبة للأديان الإبراهيمية السائدة) هو المخطط الوحيد للطبيعة البشرية والقيمة الإنسانية ولا ينبغى أنْ يعوق أىّ شيء هذه الحقيقة المطلقة. وفى هجومهم على الإنسانوية، يدعى الأصوليون بالتالى أنهم يستعيدون الأولويات الصحيحة للوجود البشرى وبالتالى يسحرون العالم من جديد بالروحانية.
وفى أبسط صورها تكون استجابة الأصولية إزاء الحداثة قابلة للتنبؤ. فالتحديث يمثل (عند مستوى عميق) خطرا على الدين، ليس فقط على دعاواه للحقائق فيما يتعلق بالله، وما شابه ذلك، بل أيضا على تصوره لبعض القضايا الأساسية المتصلة بالأسرة، والنوع ودَوْرَىْ (الأنثى والذكر)، والتعليم، والعمل. وفى نظر الأصوليِّين، يمكن أن تنتشر الإنسانوية والفردية العلمانية فى كل هذه المجالات وأنْ تفسداها. ولا يعنى هذا أن أىّ ممارسة من هذه الممارسات الخاصة لها سمات ضرورية فى نظر الأصوليِّين. ولهذا فإن الأسرة ودورىْ النوعيْن يمكن أنْ يتخذا عددا من الأشكال الممكنة فى نظر الأصوليِّين. ودورا النوعيْن، على سبيل المثال، قد يكونان متساوييْن أو غير متساوييْن. غير أنه (وهذه هى القضية الأساسية)، إذا كان الله، أو شكل ما من أشكال الروحانية، لا يجرى الاعتراف به على أنه السبب الأوَّلىّ لمثل هذه الممارسات، فإنه سيتم تشويهها بصورة لا يمكن تفاديها. وبطبيعة الحال فإن الأصولية ليست الأيديولوچيا الوحيدة التى تستجيب بصورة نقدية إزاء الحداثة. والواقع أنها، فيما يتعلق بنقدها، تشارك أو تتوافق مع تراثات أيديولوچية لمعاداة التنوير والمحافظة – ومع هذا فإنه يجدر بالذكر هنا أنه توجد أيضا بعض الفروق المهمة خاصة مع الأيديولوچيا المحافظة. وعلى هذا النحو فإن الأصولية لا تشارك فى الشكية الملازمة للمحافظة التقليدية، فهى ليست رجعية، بوصفها كذلك، وتجذبها مصالحها فى القيادة الإكليريكية، والشعبوية، والتجديد الأخلاقىّ والسيكولوچىّ، وفى نهاية المطاف: الثيوقراطية، بعيدا عن المحافظة التقليدية.
ورغم الملاحظات السابقة فإن ردّ فعل الأصولية على الحداثة ليس مباشرا على الإطلاق. وكان بُعْدٌ من أبعاد الاستجابة الأصولية رجعيا ومعاديا للحداثة بكل جلاء. فالحداثة تعنى الفساد والوجود الكافر ويتمثل الحل لهذا فى إعادة السحر الروحىّ، التى يمكن أنْ تكون فى أحوال كثيرة قاسية ولا ترحم على كل مستوى للمجتمع، من الأسرة حتى الدولة. ومن الجلىّ أن كثيرًا من الأصوليِّين (رغم أنهم لا يعبِّرون عن هذا دائما) يودُّون أنْ يروا الحياة بكاملها تشارك فيها من جديد وتحكمها قِيَم وقوانين دينية. والدور السياسىّ والقانونىّ اليومىّ لقانون الشريعة الإلهية داخل الإسلاموية الراديكالية مثال على هذه الفكرة(27). غير أن عددا من المعلقين لاحظوا، بصورة غير متوقعة، أن الأصولية ما تزال مع هذا ملتزمة بجوانب للحداثة. كما يعلق مؤلِّفو دراسة حديثة فإنه "رغم الطابع اليقينىّ لعقيدتها، ترتبط الأصولية بالمشروع الحداثىّ لأوائل القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حتى عندما ترفض الحداثة" (Schick et al. eds 2004, 13)(28). ومع هذا فإن من المهم أنْ ندرك أن الحداثة ليست فكرة غريبة؛ إنها تجسِّد تيارات كثيرة من التفسيرات الممكنة. وكثير من هذه التيارات متناقضة حقا.
وقد تتمثل نظرة أكثر دقة إلى العلاقة بين الأصولية والحداثة فى نظرة حركة توفيقٍ بين الأديان(29). وتعمل هذه الحركة على عدد من المستويات: لوحظ فى كثير من الأحيان أن عضويات عاملة كثيرة فى جماعات أصولية متعلمة جيدا نسبيا، وفى كثير من الأحيان فى أحد العلوم الطبيعية والتطبيقية، وليس مع أىّ فَهْم متطور للَّاهوت. والواقع أن لاهوت الأصولية يتركز على العقديات dogmatics وعلم الدفاع عن العقائد المسيحية apologetics وليس على شيء نقدىّ أو تفسيرىّ حقا. كما يُبْدى الأصوليون ألفة كافية مع تكنولوچيات حديثة، خاصةً فى مجالات مثل الاتصالات، ووسائل الإعلام، والمحاسبة، والبنوك، وفى بعض الحالات: الأسلحة الحديثة(30). والواقع أن تلاعُبهم بوسائل الإعلام والتكنولوچيا الحديثة معقد تماما. وعلاوة على هذا فإن الأصولية، على مستوى أكثر أساسية، تخاطب وإلى حد كبير تتطفل بصورة فعالة على الإحساس بالاضطراب anomie، والتشوُّش dislocation، والاغتراب alienation، والذى يمكن أنْ يصحب المجتمعات السريعة التحديث، والانتقال من الحياة الريفية إلى الحضرية والإحساس الثقافىّ والاقتصادى الناشئ عن ذلك بالتمزق. وتقدِّم الأصولية إحساسا مباشرا جدا بالهوية، والاطمئنان العميق، وإحساسا ثابتا بالهدف نحو جماعة من المحتمل أنْ تكون مجتثة الجذور (Ruthven 2004, 202). ورغم لجوئها بلاغيا فى كثير من الأحيان إلى ماضٍ قديم، فإنه ليس لدى معظم الأصوليِّين سوى اهتمام فعلىّ ضئيل أو إحساس حقيقىّ بذلك الماضى. ويكون تركيزهم كثيرا جدا على الحاضر الحديث.
وتتعلق نقطة أخيرة ينبغى أنْ نذكرها هنا، فيما يتعلق بالهوية، بمفهوم العلمنة(31). ونظرا لأن بُعْدًا حاسما للتحديث يستتبع العلمنة، ونظرا لأن الأصولية توجد فى علاقة معقدة، وحرجة تماما، فى بعض النواحى، مع التحديث، فإنه ينتج عن هذا أن العلمنة تتعرض أيضا للشك. وقد سبقت الإشارة إلى هذه القضية فيما يتعلق بتطور فروع فى العلوم الاجتماعية مثل علم الاجتماع(32). وعندما ظهر الدين عند كتاب مثل دوركيم، جرى إضفاء طابع اجتماعىّ عليه ليستحيل إلى شكل من التضامن الاجتماعىّ العضوىّ(33). ومع هذا، هل يُحَتِّم الطابع العلمانىَ الرفض الكلى للدين؟ إنه يستتبع أنْ يكون الدين عرضة لقوى الحداثة وأنْ يكون له مكان أكثر محدودية فى بعض ميادين الحياة الحديثة، مثل المجال العام للسياسة والدولة. ومع هذا فإن فكرة العلمانية ذاتها حساسة للسياق context-sensitive وتتوقف على نمط الدين، والمكان، والظروف. وعلى هذا النحو فإنه فى مجتمع تعددىّ أو مجتمع متعدد الأديان مثل الهند، يمكن تأكيد أن العلمانية "ضرورية لحرية الدين، بدلا من أنْ تكون متعارضة مع الدين" (An-Na’im in Juergensmeyer ed. 2005, 32). وفى أديان أخرى، مثل الإسلام، لا يبدو سوى اهتمام أو حتى أهمية أقل صراحة بكثير بالعلمانية. ومن نواح عديدة ظل الإسلام مقاوما بصورة ملحوظة لجوانب من العلمانية، وهو ما يحتاج فى حد ذاته إلى بحث إضافىّ. ومن المحتمل أن الأصولية المسيحية كانت الأكثر تمرُّسًا على العلمنة، رغم أن ما هو علمانىّ، كما سبقت الإشارة، ليس بالضرورة شيئا متعارضا دائما مع الدين. والواقع أننا إذا فكرنا فى المفهوم، الذى سبقت مَفْهَمَتُهُ عن الدين السياسىّ، أىْ حيث تقوم أيديولوچيات مثل الفاشية بتسييس المقدَّس، فإنه يبدو من الصعب بصورة متزايدة ترسيخ مفهوم الطابع العلمانىّ بدقة كمفهوم(34).

سياسة الأصولية
يوجد ارتباط عميق بين لغة السياسة ولغة الدين يتواصل إلى يومنا هذا، رغم أنه غير مُدْرَك دائما إدراكا كاملا(35). والخلاصة أنه يوجد ارتباط عتيق بين المفهومين السياسىّ والدينىّ – قبل مجيئ الأصولية الحديثة بكثير. وكانت للدين دائما صلة جوهرية بالسياسة من حيث اللغة. غير أنها علاقة جدلية متبادلة. وهكذا فإنه إذا فكَّر المرء فى الله بوصفه ملكًا، أو حاكما، أو قويا، أو ذا سلطان، أو سيِّدًا، أو ذا جلال، أو حَكَمًا، أو صاحب شريعة وما شابه ذلك، فإن كل هذه الأمور أفكار مستمدة بصورة مباشرة تماما من مفاهيم الحُكْم السياسىّ. وفى حديثه عن الفردوس، وصف چون دون John Donne الملائكة بأنهم سفراء ووزراء الله. وكان يمكن أنْ يكون الشياطين مُخْبِرين أو عملاء محرِّضين سياسيِّين. و دون واحد من أمثلة تاريخية متعددة. وكان لله، موصوفا كأب سلطوىّ، تأثير حالىّ، مباشر تماما، على سبيل المثال، على العقيدة المسيحية للقرن السابع عشر المتمثلة فى البطريركية patriarchalism. وكان يُنْظَر إلى الملوك كآباء للناس، على أنهم يستمدون سلطتهم من أبوة آدم والأبوة الجوهرية لله. وقد ازدادت المسألة تعقيدا بواقع أنه لم تكن توجد أيضا سوى حكومة الكنيسة، بالإضافة إلى الحكومة السياسية العادية (أىْ، sacerdotium [هيراركية رجال الدين فى أوروپا كدولة كنيسة واحدة فى القرون الوسطى - المترجم]، و regnum [المملكة]) – التى كانت لها فى حالة البابوية وظلت دائما دورٌ سياسى وكذلك دينى (Nicholls 1994, 8 and 14).
وكبديل، يوجد إحساس استعارتْ فيه السياسة ذاتها تصورات من اللغة الدينية للتعبير عن أفكار سياسية. ولمفهومىْ الجلالة والسيادة أصداء مرهفة بصورة خاصة هنا. وقد أثرتْ صور الله بصورة ملحوظة على السلوك السياسىّ، بالإضافة إلى تفضيلات سياسية تؤثر على التصورات الدينية. وفى بعض الأحيان يمكن أنْ تقوِّى صور الله دولة؛ وفى بعض الأحيان يمكن أنْ تقوِّضها. ولا توجد دقة هنا. وعلى سبيل المثال، تمثلتْ نتيجة من نتائج فكرة كمال دولة الله فى مفهوم الاكتفاء الذاتىّ. صورة الله المكتفية ذاتيا منقولة إلى السيادة المكتفية ذاتيا للدولة ذات السيادة. وعموما فإن هذه علاقة سببية، بل علاقة تكافلية جدلية تنطوى على استخدامات معقدة ومجازية للاستعارة، والتناظر، والتشبيه، وأحيانا الحَرْفية الصارمة. وهذه الصلة السياسية – الدينية بأكملها لا هى فقط عن اللاهوت ولا هى عن النظرية الاجتماعية–السياسية؛ إنها على العكس علاقة متعددة الأوجه وممتزجة. والواقع أن من الصعب فضّ أسرار عمق ورهافة هذه العلاقة فى نطاق صغير.
ولهذا يمكن أنْ تكون الحكومة السماوية أو الإلهية نموذجا حَرْفيا للشكل الدنيوىّ؛ وكذلك فإنه من نواحٍ يجرى النظر إلى ما هو دنيوىّ على أنه نظير للإلهىّ. ومن المهم، مع هذا، أنْ نلاحظ أنه لا الله ولا "الله الفانى" الهوبزىّ”mortal God” Hobbesian، ككيان ذى سيادة، له أىّ صلة ضرورية بالحكم المطلق والاستبداد. وكان إله لوك Locke، أو المستقلين independents فى الحرب الأهلية الإنجليزية، إلهًا تعاهديا، وتشاوريا وتعاقديا، ودستوريا. وكان إله الجمهورية الأمريكية فى 1776 إلهًا فيدراليا (اتحاديا). وبحلول أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كان هناك حتى إله دولة رفاهية، بالإضافة إلى إله كان رأسماليًّا من أنصار السوق الحرة. ويمكن حقا أنْ يكون الله ديمقراطيا وكذلك طاغية سماويا. ومن المحتمل أنْ يكون من الأسهل ربط المفاهيم المطلقة للمَلِكِيّة أو السيادة مع الديانات التوحيدية الإبراهيمية، على حين أن إلهًا ديمقراطيا يمكن أنْ يجد موطنا أسهل فى تعدد الآلهة وربما على الأقل عقيدة الثالوث Trinitarianism، مع أن ليس هو الحال دائما. كما يمكن أنْ يكون التوحيد، بالاعتماد على فَهْم الله، رفيقا مساواتيا للمضطهدين، كما فى لاهوت التحرير الكاثوليكىّ. والواقع أننا يمكن، فى أواخر القرن التاسع عشر، أنْ نرى الإله يجرى تكييفه مع حركات فى مركز زلزال العلمانية المزعومة، مثل بُعْبُع bête noire كثير من الأصولية المسيحية، أىْ الداروينية. وعندئذ يمكن النظر إلى الله على أنه "يتطور" كمقابل لأنْ يكون فى حالة كمال سكونىّ(36).
وفى السياق السابق لا ينبغى أنْ يدهشنا أنْ نجد الأصولية الحديثة تستغل اللغة الدينية فى السياسة وتُحيل، على سبيل المثال، إلى سيادة الله على السياسة والحاجة إلى إعادة استعمار القانون والدولة. ورغم العلمنة المزعومة فإن أساس هذا النوع من التلهف الأصولىّ كان جيد الإعداد. وكان للدين والسياسة بالفعل چينيولوچيا تاريخية طويلة وبالغة التعقيد. غير أن ما تجلبه الأصولية هو تركيز ضيِّق أو ضعيف جدا على هذه اللغة المحبوكة، ضيق سواء من حيث السياسة أو من حيث تصورات الله والدين.
وبالتالى، ما الذى ينبغى اعتباره جوهر الحساسيات والقِيَم السياسية للأصولية؟ تتمثل ثيمة جوهرية فى فَهْمٍ خاص للدين (سبقتْ الإشارة إلى خطوطه العريضة). ويمكن أنْ نعيد اختصاره بإيجاز شديد: إنه تصوُّر يظهر بسهولة أكثر كثيرا فى الديانات التوحيدية (ومع أن هذا ليس بصورة حصرية بحال من الأحوال). وهو يقرأ النصوص المرجعية على أنها مراجع تعليمات مباشرة للسياسة والأخلاق. ويجرى نبذ التفسير، والرمزية، والنقد التاريخىّ. وأخيرا فإنه يميل إلى التفكير فى الدين على أنه نشاط عام إلى حد كبير جدا. ويجرى رفض التهذيب الروحىّ الخاص. ويتمثل جانب إضافىّ من جوانب هذا التصور للحياة العامة فى الرأى القائل بأن من الضرورىّ إخضاع السياسة لأوامر الدين أو دمجها فيها. وقد يشترط هذا تماما عندئذ الإرشاد الدينىّ الحازم من جانب نخبة روحية كنسية hierocratic. وبالتالى فإن الأهلية لمثل هذه القيادة السياسية سوف تعتمد على مؤهلات سياسية. وقد تطور هذا بالفعل بصورة كاملة تماما فى إيران المعاصرة.
وتتمثل سمة أخرى فى إحساس قوىّ بأن الحكم الدينىّ – الثيوقراطية – سوف يقدِّم فى التحليل الأخير المفتاح لحل مشكلات السياسة الحديثة. وفى معظم الأصوليات، تمثل السلطة أصلًا مهمًّا، وأهم سلطة ينبغى امتلاكها فى الدولة الحديثة. ولا شك فى أن هذا كان اهتماما مباشرا جدا فى بلدان مثل إيران، وپاكستان، والسودان، وأفغانستان (فى ظل طالبان)، بين بلدان أخرى. وكانت إيران أنجح مثال هنا(37). وكانت السيطرة على الدولة أيضا موضوع طموح لجماعات أخرى مثل الإخوان المسلمين، وحزب الله، وحماس. وعند كتّاب مثل آية الله روح الله الخمينى، يجرى الدفاع بصراحة عن الثيوقراطىّ: على سبيل المثال، طوّر كتابه: Hokomat-e eslami (Islamic Government: Governance of Jurisprudent, 1971 [الحكومة الإسلامية: ولاية الفقيه] تعاليم شيعية بصورة نوعية لحكم دينىّ، وهذا شيء تطور لاحقا (بصورة ناقصة) فى إيران، وفى نظر الخمينى (كما فى نظر قطب أو مودوى)، "عندما يأتى الإيمان، يتبعه كل شيء" (quoted in Armstrong 2004, 257)(38).
وفى نظر الغالبية الواسعة من الأصوليِّين، من الضرورىّ تحويل السياسة والقانون إلى الإرادة السامية لله والأوامر التقنية للنصوص الكتابية المرجعية. ويوجد، بكلمات أخرى، نظام سياسىّ وقانونىّ صحيح أو سليم، وهو نظام يحكمه أمر إلهىّ. وعلى هذا النحو فإن الإجابة النهائية فيما يتعلق بالسياسة يكمن فى الثيوقراطية – أو فى شكل ما من أشكال الديكتاتورية الدينية(39). ومن الصعب تعميم الشكل الدقيق لهذه الثيوقراطية، مع أن لدينا أمثلة فعلية وواضحة تماما فى إيران. ومسألة ما إذا كانت الثيوقراطية الشيعية ستكون مماثلة تماما للثيوقراطية السنية أو المسيحية مفتوحة للنقاش. وعلاوة على هذا فإن الثيوقراطية تمثل بالفعل تحدِّيًا عميقا للنموذج الويستفالىّ للدولة Westphalian model of state، أىْ، كنموذج حاول إبعاد المجال العام للدولة عن أىّ تأكيد صريح للدين(40). وتقوم الثيوقراطية بصفة جوهرية على افتراض التقديس القوىّ لما هو سياسىّ. وتتمثل القضية النظرية الوحيدة التى تكبح هذه العملية فى أن الأديان الإبراهيمية تطالب فى كثير من الأحيان بسيادة عالمية. ولهذا لا يمكن أنْ يكون الله مقيَّدا بالدولة السياسية. ويوجد، بالتالى، إحساس بأن الثيوقراطية لا يجرى تصورها فى كثير من الأحيان إلا كموطئ قدم نحو السيطرة العالمية. ولا شك فى أن هذه الثيمة ظهرتْ بصورة فعالة عند بعض الكتّاب الإسلاميِّين الراديكاليِّين الأساسيِّين مثل [سيد] قطب. ولن تقوم بوظيفتها أىّ دولة ولا أىّ نظام عالمىّ ما لم يحكم القانون الإلهى كسيِّد (عن طريق خلافة عالمية). وفى نظر [سيد] قطب فإنه طالما أن العالم، ككل، لا يدرك سيادة الله فإنه يبقى فى حالة جهل وثنىّ (جاهلية)(41). وبطريقة غريبة يكون لهذا الجدال حول دور الدولة الأمة فى الأصولية صدى خاص مع الجدال بين تروتسكى و ستالين فى عشرينيات القرن العشرين حول ما إذا كان يمكن تحقيق الماركسية فى دولة واحدة أم يحتاج الأمر إلى ثورة عالمية.
ويتمثل الاستثناء على هذا الدافع الثيوقراطىّ فى الأصوليِّين داخل المجتمعات الليبرالية الديمقراطية الراسخة. وفى الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، ما يزال منطق الحجة الدينية يقود الأصوليِّين بالفعل بصورة طبيعية تماما إلى الثيوقراطية. وهكذا فإنه لا شك عند أنصار النظام الدينىّ قبل الألفىّ فى أن حكم الألف عام المتوقع للمسيح يمثل عقيدة خالصة للثيوقراطية (أىْ، حكومة مطلقة السيادة للمسيح دون حاجة إلى الديمقراطية)؛ ومع هذا ما يزال يوجد إحساس عند هؤلاء الأصوليِّين الأمريكيِّين بأن هناك قلقا ضمنيا لأن جانبا من هويتهم، كمواطنين أمريكيِّين وطنيِّين، مرتبط بالضرورة الدستورية المتمثلة فى إبقاء الدين والدولة منفصليْن(42). وعلى هذا النحو تبقى هذه القضية مشوَّشة وبدون حل فى الأصولية المسيحية، مع أنها ليست كذلك إلى هذا الحد فى الإسلاموية الراديكالية. وقد يكون هذا بالفعل بسبب مسار تاريخىّ مختلف داخل الإسلام(43). وعلاوة على هذا فإن طابع المجتمع المدنىّ والعضوية الاجتماعية فى مجتمعات مسلمة كثيرة يكون فى كثير من الأحيان مختلفا بصورة ملحوظة من حيث دور شبكات الأسرة، والعشائر، والقبيلة. وفى الإسلام كانت السياسة مرتبطة تاريخيا فى كثير من الأحيان بصورة أوثق كثيرا بعوامل أخرى مثل محسوبية الأسرة أو الجماعة. وعلى المرء فقط أنْ يفكر فى مشيخات الخليج ليرى هذا فى الممارسة على أساس يومىّ. وعلاوة على هذا فإن فكرة كنيسة ودولة منفصلتين لا توجد فى الثقافة المسلمة، حيث لا يملك المفهوم الشكلىّ لكنيسة مؤسسية معنى فى الواقع.
وفى علاقة مع هذا التصور العام للدولة الثيوقراطية، فإن للأصولية بالفعل علاقة غامضة غير حاسمة مع القومية. ويرى بعض المعلِّقين على الأصولية علاقة واضحة بين التعبيريْن؛ فكلا المقولتين فى الواقع حديثتان وكلاهما تتصوران مجتمعا متلاحما. وينظر معلقون آخرون إلى التعبيرين على أنهما نقيضان مستقطبان(44). ويعتمد الكثير هنا على الطريقة التى تنظر بها القومية إلى نفسها وأين بالضبط يرى المرء أصلها. ورد الفعل الأصولىّ على القومية كثيرا ما ينشأ عن تجارب تاريخية نوعية لجماعة. ومن الجلىّ أن بعض الأصوليِّين لا يجدون أىّ صعوبات مع القومية. وفى الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، نادرا ما تكون الأفكار الأصولية قابلة للتمييز من بعض النواحى من القومية. وفى الهند، لا شك فى أن حزب بهاراتيا چاناتا الهندوسىّ (الذى يُبْدى بعض زخارف الأصولية) يميز دوافع دينية فى تماثلاته القومية(45). وعند حماس بفلسطين أو حزب الله بلبنان يوجد توليف واضح للإسلاموية الراديكالية مع الأمانى القومية(46). ولا شك فى أنه يمكن أنْ توجد توترات أساسية، غير أن من الجلىّ أن توليف هذه العناصر يعمل لصالح بعض الأصوليِّين. والواقع أن القومية تتكيف حقا بصورة وثيقة مع مفهوم دين مدنىّ أو سياسىّ. غير أنه خارج الدين السياسىّ، لا ينبغى ربط القومية، على خلاف الماركسية، بما هو دنيوىّ. وعلى سبيل المثال، رأى بعض الأصوليِّين قَدَرًا دينيا صريحا لأمتهم وبالتالى كان الأصوليون فى الأنظمة الإسلامية فى القرن العشرين فى كثير من الأحيان من وراء الأفكار القومية. وكان يمكن بالتالى اعتبار فشل المشروع القومىّ علامة على فقدان للإيمان الدينىّ. والواقع أنه فى دول مثل إيران فى عهد الخمينى، أو پاكستان فى عهد الچنرال ضياء الحق، كانت هناك محاولة واعية لصياغة فَهْم أكثر أصولية للدين ضمن مشروع قومىّ.
غير أنه، من نواحٍ أخرى، خاصةً فى سياقات إسلامية بعينها، كان يُنْظَر إلى القومية على أنها متعارضة مع الأصولية. وعلى سبيل المثال، كان كتّاب أصوليون مثل [سيد] قطب وحركات مثل الإخوان المسلمين ينظرون إلى القومية العربية الناصرية فى مصر أو النظام البعثىّ فى العراق على أنهما من بقايا التصنيف الاستعمارىّ الغربىّ (Ruthven 2004, 150). وكانت القومية تعنى العلمانية، والحداثة، والاستعمار الكولونيالىّ، وروحا معادية للإيمان الدينىّ. وكان يُنْظَر إلى الأصولية على أنها مكتفية ذاتيا ولا حاجة بها إلى أىّ إلهام قومىّ. وكان بوسع الأصولية فى الواقع أنْ تفى بحاجات المطالب الضمنية للقومية. وكما لاحظ إرنست جيلنر Ernest Gellner بفطنة فإن "الإسلام يقوم بعدد من نفس الوظائف التى تؤديها القومية فى أماكن أخرى – الانتقال إلى مجتمع حديث تصير فيه الثقافة الرفيعة، للمرة الأولى فى التاريخ، الثقافة العامة لمجموع المجتمع. وهذه الظاهرة، التى تعبِّر عن نفسها كقومية فى أماكن أخرى، تعبِّر عن نفسها فى العالم المسلم كإحياء دينىّ، كأصولية" (Gellner in Marty and Appleby eds 1995, 285-6--;-- also Green in schick et al. eds 2004). ومع هذا تتمثل صعوبة داخلية يواجهها بالفعل معظم الأصوليِّين مع القومية، خاصةً ضمن العقائد الإبراهيمية التوحيدية، فى ذات الفكرة الأساسية القائلة بأن القومية تعنى الأقاليمية والمحلية. وسيادة الله تكون على العالم، وعلى الكون فى الحقيقة. والواقع أن محاولة تقييد هذا الهدف الكونىّ بأمة واحدة، بدلا من الأمة Umma العالمية، (المجتمع الإسلامىّ العالمىّ) أو مجتمع المؤمنين المسيحىّ، وغيرهما، تبدو لكثير من الأصوليِّين زندقة محتملة، بالطبع ما لم يعتقد المرء ببساطة أن أمته هو بالذات هى شعب الله المختار.
ويتعلق بُعْدٌ ثالث بالرغبة الأصولية فى إحياء عصر ذهبىّ للحكم الثيوقراطىّ. وفى هذا السياق يوجد عنصر محدد من اليوتوپية الماثلة فى كثير من الكتابات الأصولية. فمن الجلى أنه يوجد فى بعض الكتابات المسيحية، واليهودية، والإسلامية، اهتمام بالشرح التفصيلىّ لدولة فى المستقبل ستكون فيها كل المطالب البشرية متحققة. وعلى هذا النحو توجد رؤية من نوع ما لأركاديا (بمعنًى مجازى: فردوس أرضية - المترجم) arcadia أو يوتوپيا – أحيانا فى الماضى – كانت فيها الحياة أو ستكون متفقة مع سيادة الله. وهكذا توجد فى نظر بعض الأصوليِّين المسلمين رؤية خاصة بالحالة التى كانت فيها مكة (بإرشاد محمد أو خلفائه، الخلفاء "الراشدين")، أو كبديل: رؤية تتعلق بما قد تكون عليه فردوس أرضية فى المستقبل. وبصورة مماثلة يوجد فى نظر الأصوليِّين المسيحيِّين حلم عن حياة فى مجتمعات نيو إنجلاند New England الأبسط فى الماضى، أو كبديل: اهتمام بحياة غبطة الصعود بعد الآلام post-Rapture". والواقع أن هذا الاهتمام الأخير قد خلق نوعا أدبيا أصوليا شديد الشعبية (Armstrong 2004, 82-3). وباختصار فإن المشاعر اليوتوپية مغروسة فى كل الأصوليات؛ غير أنه لا تستحوذ عليها هذه اليوتوپية باستثناء كل شيء آخر.
ويتمثل بُعْدٌ رابع، ينشأ من الاهتمام بالثيوقراطية، فى علاقة قلقة ولم تجد حلا مع الممارسات الديمقراطية (Wickham in Juergensmeyer ed. 2005). وفى دول مثل إيران تبقى هذه القضية بكاملها حساسة ومرنة للغاية، أىْ، هل يمكن أنْ يحتفظ المرء بالالتزام الدينىّ والحقائق المطلقة وسط ثقافة ديمقراطية بصورة حقيقية؟ وتميل إجابة كثير من الأصوليِّين إزاء الديمقراطية نحو التوجُّس السلبىّ. وتعنى الديمقراطية خطرا محتملا على اليقينيات الدينية. وتنشأ هنا قضية أخرى مرتبطة بهذا – وهى تفسر جزئيا السبب فى كون الديمقراطية غير مرغوبة – من تصوُّر خاص عن البشرية. وبصرف النظر عن واقع أن كثيرا من الناخبين الديمقراطيِّين المحتملين قد يكونون بالفعل متعلمنين، أو غير مؤمنين، أو ملحدين، فإن الطبيعة البشرية فى حد ذاتها تكون، فى نظر كثير من الأصوليِّين، فاسدة وناقصة بصفة جوهرية، خاصة إذا تأثرتْ بصورة جذرية بالتحديث والعلمنة. والطبيعة البشرية بحاجة إلى الخلاص أو التجدُّد عبر التسليم بسيادة الله. وقد يحتاج هذا إلى إرشاد سليم، وانضباط، وديكتاتورية محتملة فى بادئ الأمر. وأىّ نظام سياسىّ يفترض لنفسه القيام على سلطة هذه الطبيعة الفاسدة محكوم عليه بأنْ يكون فاسدا بصورة مماثلة. ولهذا تقود طبيعة بشرية خاطئة فاسدة إلى ديمقراطية تقوم على الرشوة. ولكى تعمل الديمقراطية يجب أنْ يوجد انسجام دينىّ سابق. وبهذا المعنى الأخير ما يزال من الممكن التفكير بصورة إيجابية فى ديمقراطية تمثيلية، أو تشاركية، أو حتى تشاورية، من وجهة نظر أصولية. على أن هذا سيكون معنى مختلفا جذريا عن تعبير "الديمقراطية" – مع أنه مألوف بالنسبة للپيوريتانيِّين (الطُّهْرِيِّين) الأمريكيِّين الأوائل. وسيكون على الديمقراطية أنْ تكون دينية بمعنى أنه سوف ينبغى أنْ يوجد قبول سابق prior acceptance (أو بنية سابقة fore-structure) لِقِيَم روحية مسيطرة (Hadji Haidar 2006)(47). ومثل هذا الاتفاق الروحىّ سوف يعترف بسيادة الله على كل الأمور البشرية؛ وعندئذ فقط ستكون الديمقراطية متوافقة بصورة صحيحة وستعمل بصورة صحيحة.
وتنتج سمة خامسة عن منطق مماثل للنقطة السابقة، أىْ، أن السياسات الأصولية لا يمكن أنْ تستضيف فى الحال، دون تأهيل، مذاهب مثل الليبرالية أو التعددية المجتمعية المفتوحة. وإذا كانت هناك حقائق مطلقة مغروسة فى القانون (مثل قانون الشريعة المزعوم أنه إلهىّ أو القانون الطبيعىّ المسيحىّ) فإنه لن يكون هناك بالتالى أىّ مجال للحياد الليبرالىّ أو التسامح الليبرالىّ، ولن يكون هناك مكان للتعددية الراديكالية. غير أنه، كما سبقتْ الإشارة، إذا كانت التعددية أو الليبرالية راسخة الجذور فى فرضية دينية كمالية perfectionist سابقة فإنه يظل من الممكن التفكير فى التعددية باعتبارها قابلة للتوفيق مع الأصولية. وبنفس الطريقة من الممكن تصوُّر ديمقراطية دينية مقبولة. وهذا لا يعنى، بالتالى، أن مفهوما ما للتعددية المدنية ليس ممكنا عمليا؛ ولا شك فى أن هذا النمط من التعددية المدنية يوجد بالفعل، مثلا، فى إيران. غير أنها تظل تعددية مزعزعة ومقيَّدة يوجد فيها دائما شك متربِّص من جانب السلطات الدينية فى أن الجميع يقبلون الفرضيات السابقة. والثيمة الأساسية بالتالى هى أنه يوجد تصوُّر عن خير دينىّ واحدىّ كمالىّ قوىّ لكل المجتمع ينبغى أنْ ينعكس فى عمليات مؤسسية وقانونية، سواء أكانت تعددية بصورة ديمقراطية أم لا.
وتتعلق سمة سادسة طوَّرها معظم الأصوليِّين المعاصرين بدوْر كلٍّ من النوعين (الذكر والأنثى) وأهمية الأسرة فى النظام السياسىّ. وللقضايا المتصلة بأدوار النوعين، والجنسية، والأبوة، وبصورة أخص، التصور البطريركىّ التقليدىّ، عن الأسرة، صورة منتظمة فى الكتابة الأصولية الراهنة. ويُنْظَر إلى أدوار الذكر والأنثى على أنه تحددها أوامر الكتب المقدسة ويجرى استعمال مرجعيات الكتب المقدس مثل القديس بولس St Paul بالنسبة للمسيحيِّين أو الأحاديث [النبوية] بالنسبة للمسلمين، لإقامة حجة سلطوية لصالح اللامساواة بين النوعين. وبطبيعة الحال فإن هذا المفهوم بكامله يمكن أنْ يصير مفرطا تماما. وكان المثال الأكثر تطرفا هو طالبان فى أفغانستان خلال تسعينيات القرن العشرين، الذين أصدروا مراسيم بأن النساء يجب ألا يكون لهن أىّ دور عام من أىّ نوع، وأنهن ينبغى أنْ يبقيْن بدون تعليم، وأنْ يَكُنَّ الملكية الحَرْفية لأزواجهن، ولا ينبغى أنْ يعملن خارج البيت. وبالفعل فإن النساء، وفى الحقيقة النشاط الجنسى للنساء بوجه عام، يُنْظَر إليهن فى كثير من الأحيان على أنهن يحتجن إلى سيطرة. والواقع أنه يبدو أن قَدْرا كبيرا من الإنتاج الأصولىّ يتركز بصورة استحواذية تقريبا على إحساس بعدم الارتياح إزاء النساء ودورهن المحدَّد. ويبدو أن الكتابة الأصولية تعطى اهتماما مغالًى فيه للسيطرة على النساء. ويتمثل الاتجاه فى النظر إلى دور النساء على أنه إنجابىّ إلى حد كبير، والقيام بالأمومة والخدمة البيتية للرجال. وعلى هذا النحو تقدِّم الأصولية حالة نموذج أصلىّ راهنة للبطريركية فى نظر النسويِّين المحدثين. ومن غير المؤكد، مع هذا، ما إذا كان هذا المركز للنساء، فى التفكير الأصولىّ الراهن، مجرد مذهب عارض، أم شيء أكثر دواما. ويبدو منطقيا تماما تأكيد أن المساواة بين النوعين وإصلاح الأسرة يمكن أنْ يكونا منسجمين تماما مع قبول مسبق لسيادة الله(48). وسيكون على المرء أنْ يفسِّر كلمة الله المعصومة بصورة مختلفة قليلا عن بعض النظرات اللاهوتية الراهنة، غير أن هذا يكون متوقَّعا. وعلى هذا النحو يبدو أنه لا شيء غير منطقىّ فى الإشارة إلى أن شخصا ما يمكن أنْ يكون مسلما أو مسيحيا أو يهوديا أصوليا وَرِعًا وأنْ يظل يقبل المساواة بين النوعيْن وضرورة إصلاح الأسرة البطريركية. ومع ذلك، يبدو هذا، فى الوقت الحالىّ، حجة أقلية.
سابعا، هناك مَيْل عند بعض، ولكنْ ليس كل، الأصوليِّين إلى استخدام العنف أو المواقف المتطرفة للنضالية كتاكتيك تطهيرىّ مشروع – سواء أكان هذا يستتبع الهجوم على عيادات الإجهاض أو نسف المدنيِّين. وكما سبقتْ الإشارة فإن هذا اتجاه يمثل طابعا مميِّزا لكل الأصوليِّين، على الأقل كإستراتيچية محتملة. وينظر كثيرون إلى القتال والشهادة على أنهما تاكتيكان مبرران لتحقيق أهداف دينية–سياسية. كذلك فإن بعض العنف، كما عند مفجِّرى القنابل الإسلاميِّين الانتحاريِّين، أو اغتيال زعماء، مثل أنور السادات فى مصر أو العنف الذى يفكر فيه كل من الأصوليِّين المسيحيِّين واليهود فيما يتعلق بتدمير المسجد الأقصى the Mosque على قبة الصخرة Dome Rock وإعادة بناء المعبد فى أورشليم (كتمهيد متوقع لهرمجدون Armageddon) يرتدى قَدْرًا مفرطا من الرمزية الدينية. وفى الولايات المتحدة الأمريكية كان صوت العنف أكثر خفوتًا، غير أنه يجدر بنا ألا ننسى أن هجمات الأصوليِّين على عيادات الإجهاض على مدى ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين أفضتْ إلى آلاف عديدة من الاعتقالات، خاصةً لأعضاء منظمة منع الإجهاض Operation Rescue. وبحلول 1985، على سبيل المثال، كانت هناك تقارير تعرض 92 فى المائة من عيادات الإجهاض الأمريكية لشكل ما من الهجوم من جانب متعاطفين أصوليِّين. ويتمثل السبب الوحيد وراء واقع أن صوت الأصوليِّين فى أوروپا والولايات المتحدة الأمريكية أكثر خفوتًا بشأن العنف والقتالية فى أنهم يشعرون بأن من المحتمل أنْ يتحقق كثير من أهدافهم عبر وسائل سياسية تقليدية(49).
وأخيرا، هناك رفض ظاهر لجوانب من الحداثة السياسية (كما أكدنا من قبل) عند معظم الحركات الأصولية. ويرتبط هذا فى العادة بإحساس قوىّ بالتفسُّخ الخُلقىّ والروحىّ فى مجتمعات علمانية حديثة. ويجتذب القلق إزاء الأخلاق الجنسية المعاصرة اهتماما قويا بصورة خاصة. ويُنْظَر إلى فَرْض القوانين التراثية، مثل الشريعة، أو أىّ شكل من الثيوقراطية، على أنه الحلّ الوحيد لهذا التفسُّخ الروحىّ. ويتمثل ما يُعَدّ مفارقة فيما يتعلق بهذا التصور بأكمله عن فساد الحداثة فى أنه، كما لاحظ معظم المعلقين، لا يوجد أىّ شيء قديم أو تراثىّ بصورة حقيقية فى الواقع فى الأصولية ذاتها. وهى على العكس ظاهرة حديثة إلى حد كبير. ومعظم أفكارها الرئيسية – على سبيل المثال، تطبيق الشريعة فى الإسلام، أو مفهوم النظام الدينىّ قبل الألفىّ فى المسيحية – إنما هى جميعا وسائل حديثة نسبيا(50). وعلى هذا النحو، تتمثل التكتيكات الأساسية لبعض الأصوليِّين الإسلاميِّين فى الإرهاب، على نطاق عالمىّ، وهذا شيء لم يكن متاحا لهم مطلقا فى أىّ وَضْع قبل حديث. وواقع أن الإرهاب يمثل الأداة المختارة يشير فى نظر چون جراى John Gray إلى أننا إذا رغبنا فى أنْ نفهمهم، فإن علينا عندئذ أنْ ندرك أن أقرب المساوين لهم مغروسون فى جانب أكثر ظلمة للحداثة الغربية. وفى نظر جراى فإن هؤلاء الأسلاف المبكرون "يتمثلون فى اللّادولتيِّين الثوريِّين فى أوروپا أواخر القرن التاسع عشر (Gray 2004, 2). ويقارن جراى، بالفعل، أسامة بن لادن بممثل اللَّادولتية العدمية الروسية ل "الدعاية بالأفعال"، سيرچى نيتشاييڤ-;---;-- Sergei Nechaev، الذى نوقش فى الفصل 5(51).
والحداثة، كما لاحظ كثيرون، ليست شيئا واحدا، وكانت تجارب القرن العشرين الشمولية جميعا جوانب للحداثة. وكان الإرهاب الثورىّ كطريقة لتحقيق برنامج وإعادة صنع البشر دربا سبق السير فيه جيدا فى الغرب الحديث. ومثل هذا الإرهاب يستخدم كل قدرات التكنولوچيا الحديثة (والدولة إذا استطاع تحقيق السيطرة عليها) لتحقيق هدفه التحويلىّ الراديكالىّ. وعلى هذا النحو، فى نظر جراى، فإن "الإسلام السياسىّ راديكالىّ، مثل الشيوعية والنازية". ويواصل قائلا إنه رغم "أنه يزعم أنه معادٍ للغرب، فقد تشكَّل إلى أقصى حد بالأيديولوچيا الغربية" (Gray 2004, 3). وعلى هذا النحو يمكن النظر إلى الأصولية على أنها وجه آخر من المشروع الحداثى المتعدد الأصوات، المكرَّس لإعادة صنع البشر على نطاق عالمىّ. ولتحقيق هذه الغاية فإن المطلوب هو شكل آخر من الحكم الشمولىّ، وفى هذه الحالة شكل من الثيوقراطية. وعلى هذا النحو فإن الأصولية تمثل، رغم المفارقة، الحديث والغربىّ على السواء فى طموحاتها السياسية السياسية والإرهابية.

الأصولية والاقتصاد
لمعظم الحركات الأصولية أچندات اقتصادية؛ غير أن مسألة ما إذا كان بوسعنا فى الواقع أنْ نصف هذه الأچندات بأنها أصولية بصورة مميِّزة مشكوك فيها. وتميل كل حركة أصولية إلى الاعتماد على تراثات مختلفة للفهم الاجتماعىّ والاقتصادىّ. وعلى هذا النحو فإنه على حين أن الإسلاموية الراديكالية جرى ربطها بالتخلِّى الكامل عن المنفعة، فإن هذه الممارسة لم تؤثر أدنى تأثير على الاقتصاديات الهندوسية أو البوذية (Kuran in Marty and Appleby eds 1993b, 289ff). على أنه، فى نواحٍ بعينها، كانت الأچندة الاقتصادية للأصوليِّين مدفوعة بقضايا مماثلة للتحديث والعولمة. ذلك أن هاتين القوتين كانتا مُمَزِّقتين فى سياقات بعينها. وتجسَّد الأصولية ردّ فعل ممكن واستجابة ممكنة لمثل هذا التمزُّق.
أولا، يوجد اعتقاد أساسىّ متماسك تشترك فيه فصائل أصولية بشأن مسألة الاقتصاد، ويتطابق بصورة مباشرة مع السياسات الثيوقراطية: أىْ، "يتمثل منبع الشرعية الاقتصادية فى... الإرادة الإلهية" (Kuran in Marty and Appleby eds 1993b, 292). أو وبكلمات أخرى فإننا بحاجة إلى الإقرار بسيادة الإله أو الروحىّ ضمن الاقتصاديات. وبالتالى، كما يعلق تيمور كوران Timur Kuran، "يتمثل ما يجعل الاقتصاديات الإسلامية، والمسيحية، والهندوسية، والبوذية، أصولية فى التزامها بفكرة الأصول الثابتة (غير المتغيرة) التى يجب أنْ يقوم عليها اقتصاد عادل" (Kuran in Marty and Appleby eds 1993b, 292-3). وتسيطر سيادة الإله أو الله على هذا المجال كما على كل مجال آخر. ثانيا، مصدر السلطة على الاقتصاديات كتابىّ، على سبيل المثال، الكتاب المقدس، أو القرآن، أو التوراة. ثالثا، تأتى الأخلاق قبل الاقتصاديات. غير أن مسألة ما هو التصور المحدَّد للأخلاق وكيف تستطيع أنْ تنجح يمكن أنْ تكون مختلفة تماما بصورة حاسمة فى مختلف الأصوليات. ومع هذا فإنه يوجد اعتقاد أساسىّ بأن أولئك الذين يفكرون ويتصرفون بصورة أخلاقية (وبالتالى بصورة دينية) يمكنهم وحدهم أنْ يفهموا العمليات الاقتصادية. وخارج هذه الأصول، تميل الاستجابات الاقتصادية إلى الاختلاف بصورة كبيرة، وما يتصور بعض الأصوليِّين أنه إشكالىّ بصورة عميقة يرحِّب به أصوليون آخرون. وإذا عبَّرنا بكل وضوح فإن الإله يمكن أنْ يكون رأسمالىيًّا من أنصار السوق الحرة الجامحة أو الكينزية بإلهام أبوىّ؛ ويمكن أنْ يكون من أنصار حرية التجارة أو حمائيًّا؛ ويمكن أنْ يؤمن بالفائدة المرتفعة أو لا يؤمن بأىّ فائدة. وعلى حين أن جماعة أصولية سوف تتوق إلى حريات السوق، سترغب جماعات أصولية أخرى فى تقليصها بصرامة (Kuran and Appleby eds 1993b, 298).
وتتحلَّل هذه المواقف بالفعل بطرق متوقَّعة، رغم أننا لا يجب أنْ نندفع إلى تعميمات متسرعة. ويمكن فى أكثر الأحيان أنْ يوجد الدفاع عن تصور ليبرالى كلاسيكى بصورة متميزة وتحررية فى الواقع لاقتصاد رأسمالية السوق الحرة فى أشكال الأصولية المسيحية الپروتستانتية. وتتمثل نقطة حاسمة فى المنظور الأصولىّ المسيحىّ بشأن الرأسمالية فى أنه لا يمكن أنْ توجد استهلاكية لا أخلاقية. والإصلاح الأخلاقىّ للفرد ونموذج استهلاكه/استهلاكها مطلوب بنفس القدر فى اقتصاد متحرر من الرقابة الحكومية (kuran in Marty and Appleby eds 1993b, 296). وهناك بالتالى إحساس غير متوقع بأن الخيارات الاستهلاكية يجب أنْ تكون مقيَّدة أخلاقيا وأنْ تعاد تربيتها حتى داخل الرأسمالية. والحقيقة أن الاقتصاد فى الاستهلاك يلقى الإعجاب لدى بعض الأصوليِّين. ومن شأن هذه النقطة وحدها أنْ تُزْعج معظم الاقتصاديِّين الليبراليِّين الكلاسيكيِّين العلمانيِّين.
على أن الأصولية الپروتستانتية الأمريكية الشمالية لا تقدم صورة متماسكة تماما. وإذا لم يكن بعيد الاحتمال للغاية، فإنه توجد بالفعل أبعاد تحررية ومتطرفة وديمقراطية اجتماعية أكثر حتى ضمن السيناريو الأمريكىّ (Iannaccone in Marty and Appleby eds 1993b, 342). ولا جدال فى أن عدد كبيرا من الأصوليِّين المسيحيِّين الپروتستانتيِّين فى الولايات المتحدة الأمريكية ملتزمون بدفاع صارم عن اقتصاد رأسمالية السوق الحرة. ويدلّ دعمهم المستمر للحزب الجمهورىّ على تفضيلهم العام (Iannaccore in Marty and Appleby eds 1993b, 360). غير أنه سيكون من الصحيح أيضا أن معظم "الأغلبية الأخلاقية" – وبصورة خاصة، شخصيات أساسية مثل چيرى فولويل Jerry Falwell – لم تحاول مطلقا أنْ تجدِّد أو توسِّع مناقشات السوق المعيارية التى نجدها عند ميلتون فريدمان، أو فريدريك هايك، أو لودڤ-;---;--يج فون ميزيس Ludwig von Mises. كما أن لديهم سلبية متوقَّعة إزاء كل الجدل الاقتصادىّ الاشتراكىّ أو الاشتراكىّ الديمقراطىّ. وبصورة غريبة فإن معظم المؤسسات الجامعية التعليمية الأصولية الإلهام، مثل جامعة بوب چونز أو جامعه الحرية، لها اهتمام ضئيل أو ليس لها أىّ اهتمام بالاقتصاديات. وبجامعة فولويل الحرية قسم اقتصاديات، غير أنه صغير بصورة ملحوظة ومنغرز فى الأعمال التجارية (Iannaccone in Marty and Appleby eds 1993b, 346). غير أن جامعة الحرية كانت مرتبطة بإقامة جمعية الاقتصاديات والأعمال المعاصرة (1987)، رغم أن علاقتها المحددة مع الأصولية تبقى، مرة أخرى، مشكوكا فيها. وجمعية الاقتصاديات والأعمال المعاصرة فريق أبحاث ومنظمة نشطة لاقتصاديات رأسمالية السوق الحرة. وهى مرتبطة أيضا بمجلة Christian Perspective: A Journal of Free Entreprise [المنظور المسيحىّ: مجلة المشروع الحر]، التى توجِّه نحو دفاع مسيحىّ عن نظام السوق؛ ومرة أخرى فإن مسألة ما إذا كان بوسعنا أنْ نصف هذا على أنه أصولىّ بصورة صريحة تبقى مفتوحة. غير أنه لا شك فى أن جمعية الاقتصاديات والأعمال المعاصرة والمجلة ملتزمتان بفكرة أن المشروع الخاص واحترام حقوق الملكية الخاصة حاسمان لكل روح الكتاب المقدس (Iannoccone in Marty and Appleby eds 1993b, 347). وهذه الثيمة ذاتها جرى الدفاع عنها أيضا فى كتابات اثنين من أنصار إعادة البناء المسيحية Christian Reconstructionists روساس روشدونى Rousas Rushdoony و جارى نورث Gary North. وعند هذين الكاتبيْن ينسجم التبرير الكتابىّ بروعة مع اقتصاديات السوق الهايكية. فالإله، فيما يبدو، عاقد العزم بصرامة على أن ضرائب الرؤوس الموحدة هى الأشكال الشرعية الوحيدة لفرض الضرائب وأن كل التخطيط الاقتصادىّ الجماعىّ غير كتابىّ. وعلاوة على هذا فإن الأمر الكتابىّ "لا تسرقْ" يجسِّد إنكارا صريحا لأىّ نظريات عن العدالة أو إعادة التوزيع الاجتماعية. وعلى هذا النحو يجرى تعريف العدالة الاجتماعية على أنها سرقة مُمَأْسَسَة – كلمة مقدسة a mantra حتى لمؤيدى حرية الإرادة العلمانيِّين. وأنصار إعادة البناء هم فى الصميم أنصار مخلصون للنظام الدينىّ بعد الألفىّ، مؤكدين فى الواقع أن المسيح سيعود عندما تُثمر جهود المسيحيِّين فى العالم، بما فى ذلك نشر فكر السوق الحرة(52).
وجدير بالذكر أن الصورة الواردة أعلاه ليست دقيقة تماما. فهناك بعض الأصوليِّين الأمريكيِّين فى الولايات المتحدة (ومن المسلَّم به أنهم عدد أصغر كثيرا) الذين يؤمنون بأن الإله مهتمّ بالفقر، والعدالة الاجتماعية، واللامساواة. وفى هذا السياق رفض حفنة من الأصوليِّين الأمريكيِّين صراحة فكرة رأسمالية السوق الحرة لصالح شكل ما من العدالة الاجتماعية وإعادة التوزيع. ويجرى التشديد على واقع أن الكنيسة المبكرة لم يكن لديها أىّ معنى للملكية الخاصة وكانت بالتالى تحوز الطيبات بصورة مشتركة (كما فى النظام الرهبانىّ). وهذه فكرة مألوفة لطوائف پروتيستانية أقدم فى الولايات المتحدة الأمريكية مثل طوائف آميش Amish، والهوتيريِّين Hutterites، والمينُّونيتيِّين Mennonites. وباختصار، من الصعب استنتاج أنه توجد نظرةٌ كتابيةٌ biblical view "a" إلى الاقتصاديات. إذْ إنه يمكن أنْ تحدِّد معظم الاتجاهات الاقتصادية مقاطع تبريرية فى الكتاب المقدس، إذا بدتْ طويلة وصلبة بما فيه الكفاية(53). والواقع أن كثيرين سوف يستعملون نفس المقطع لتبرير سياسات اقتصادية مختلفة تماما.
وفى حالة الإسلام الراديكالىّ يكون الموقف مختلفا مرة أخرى، رغم أن المظاهر يمكن أنْ تكون خادعة. وفى 1979 أمرت الحكومة ذات الإلهام الإسلامىّ فى پاكستان بنوكها لتقديم بديل بدون فائدة للممارسة البنكية التقليدية. وكان المطلوب منها التخلِّى عن الفائدة فى غضون خمس سنوات. وقد نالت فكرة بدون فائدة هذه دعما داخل الإسلام بوجه عام (خارج الفِرَق الأصولية). وتستوجب فكرة اقتصادية أساسية أخرى، يشار إليها عادة باسم الزكاة Zakat، المنْح الإلزامىّ لنسبة مئوية من ثروة المسلمين للإحسان. ويُنْظَر إلى الزكاة على أنها نمط من العبادة وتزكية النفس. وليست فى المقام الأول للإحسان. وهى تأتى من إقرارٍ بأن كل شيء مستمدّ من الإله وأننا نمتلك الطيبات على أساس محدود مؤقت فقط. ولا شك فى أن هذه كانت الفكرة الرئيسية المسيطرة فى كتابات إسلاميِّين أصوليِّين أساسيِّين مثل سيد قطب (فى مصر) و سيد أبو الأعلى المودودى (فى پاكستان). وكما فى عالمىْ السياسة والقانون، تتمثل القضية الحاسمة فى سيادة الإله على كل جوانب الوجود. ومنطق هذه الفكرة صريح تماما عند هؤلاء الكتّاب. ويفهم الإسلام على أنه طريقة كاملة للحياة، وبالتالى فإن السلوك الاقتصادىّ، مثل كل سلوك آخر، يجب أيضا أنْ يكون محكوما بالتعاليم الإسلامية.
والواقع أن النظام البنكىّ الإسلامىّ بدون فائدة وفكرة الزكاة قد انتشرا الآن على نطاق واسع فى عدد من البلدان المسلمة، بما فى ذلك ماليزيا، والمملكة العربية السعودية، والسودان. وتوجد أيضا بنوك ذات حافز إسلامىّ صريح فى شمال أفريقيا وجنوب آسيا وفى الحقيقة (فى نيوزيلندا وكاليفورينا). كما نشأتْ عن فكرة الاقتصاديات الإسلامية مراكز أبحاث مخصصة لدراستها وتطبيقها، كما فى المركز العالمىّ للأبحاث فى الاقتصاديات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز فى جدة والجمعية الدولية للاقتصاديات الإسلامية فى لايسسْتر Leicecter (بالمملكة المتحدة). كما أن لهذه الفكرة مجلة أكاديمية، Journal of Islamic Banking and Finance [مجلة البنوك والأموال الإسلامية]، مخصَّصة لنشرها. وينظر عدد من الأكاديميِّين العاملين فى هذا السياق إلى أنفسهم بصراحة على أنهم اقتصاديون إسلاميون.
وتبقى الطريقة التى تنجح بها الاقتصاديات الإسلامية على وجه الدقة بعد إقرار الزكاة والنظام المصرفىّ بدون فائدة غير واضحة. وتُجسِّد معظم الاقتصاديات الإسلامية بوضوح مناقشات سياسية متوقَّعة بشأن قضايا مثل النمو الاقتصادىّ، والتوظيف، والكفاءة. ولمثل هذه المناقشات سمة مميَّزة؛ وهكذا بدا الأصولىّ الپاكستانىّ المودودى فى كتاباته متعاطفا مع سوق أكثر حرية للسلع والخدمات، على حين أن قطب نظر بتحبيذ أكثر إلى تدخل الدولة لتصحيح اللامساويات. كما كانت توجد مجادلات مستمرة، حتى داخل مجال القروض بدون فائدة، بشأن ماذا على وجه التحديد يعنى حقا بدون فائدة فى ممارسة المحاسبة. وكان من المطروح للبحث بالتالى ما إذا كان يجب ربط القروض بمعدل التضخم فى سبيل حماية القوة الشرائية، وهكذا وإلخ. ولا بد أن من الصعب الحصول على إجابات كتابية (مقدسة) لمثل هذه المسائل الاقتصادية التقنية. وفى نظر بعض المعلقين، "قلما يكون الاقتصاد الإسلامىّ شاملا كما يعتقد أنصاره فيما يبدو" (Kuran in Marty and Appleby eds 1993b, 330-1). وإلى الآن يبدو أن مجيئ الاقتصاديات الإسلامية أو المسيحية كان تجميليًّا إلى حد كبير"(54).

الخلاصة
الأصولية ظاهرة مراوغة يصعب الحصول على إمساك نظرىّ بها لأسباب فحصناها بدقة فى هذا الفصل. وهناك حجة لصالح اعتبارها أيديولوچيا؛ غير أنها غير نموذجية بالمقارنة مع كثير من الأيديولوچيات القياسية التى التقينا بها إلى يومنا هذا. ويتمثل السبب وراء أن الأصولية قد كتب عنها بإحكام وبصورة رئيسية علماء اجتماع فى أنه يبدو أنها تطرح، بطريقة غير متوقعة، تحديا عميق الجذور تماما أمام هذا الفرع المعرفىّ ذاته. ومهما يكن من شيء، هناك سبب آخر وراء أن كثيرين منا من ذوى الاهتمامات بالأيديولوچيات السياسية قد نشعر بالتردد فى قبول الأصولية تماما كأيديولوچيا محتملة؛ ولهذا السبب صدًى مباشر فيما يتصل بقضية علم الاجتماع. ذلك أن الدراسة الأيديولوچية راسخة الجذور فى تاريخٍ أحدث نسبيا، تاريخٍ يعود إلى حوالى المائتى سنة الماضيتين (منذ بداية القرن التاسع عشر). والأيديولوچيات ذاتها جزء من حركة، ذات جذور فى التنوير، الذى كان قد بدأ فى الاستيعاب ببطء وإبهام لجوانب مهمة من الحداثة والعلمنة. وهذه الچينيولوچيا للأيديولوچيا والأيديولوچيات تعنى أننا (نحن الذين ندرس الأيديولوچيات) نشارك، جزئيا، فى جانب من قلق علم الاجتماع. وليس للأيديولوچيات بجانبها الأكبر سوى مجال مفتوح ضئيل لنظرية دينية جادة، للسبب الأساسىّ المتمثل فى أن الأيديولوچيات مرتبطة بصورة وثيقة للغاية بالعلمنة والعقلية الحداثية. ويتمثل الشرط الأساسىّ هنا فى المقولة الملتبسة المتمثلة فى الدين السياسىّ.
وكما سبق أنْ أشرنا، هناك إبهامات عميقة فى مفاهيم الدين، والعلمانية، والحداثة؛ غير أن القضية المفاهيمية الأساسية التى يلتزم بها كل أصولىّ – والواقع أنها الشيء المهم للغاية فى وضعها ككل – تتعلق بسيادة ما هو روحىّ أو الإله على كل الأمور البشرية. وفى التحليل الأخير، كما سبق التأكيد، يقود الزعم المفاهيمىّ الجوهرى الذى يتعلق بالإله والروحى إلى مفهوم قوىّ للثيوقراطية. وهذه الدعوى مقلقة للعقلية الأيديولوچية المعاصرة. ومن المحتمل أنْ تتجاوز هذه الدعوى الثيوقراطية تماما أىّ حسّ مهذَّب بالتسامح يمكن عَزْوُهُ إلى الدين كجزء من مجتمع تعددىّ ليبرالىّ. وفى الحالة الأصولية فإن من المحتمل أنها تمثل محاولة حديثة كاملة لتقديس ما هو سياسىّ. وبهذا المعنى فإنها تبدأ، حتى ضمن الحداثة، كنقيض مستقطب للِّيبرالية. ذلك أن الأصولية، كما سبقت الإشارة، استوعبتْ جوانب من الحداثة. وهى بالتالى، وبصورة مفارقة، تشترك فى الوجود مع الليبرالية ضمن الحداثة. فهى ليست انتكاسًا إلى الماضى قبل الحديث.
ومن المفارقات أن الأصولية فى كثير من الأحيان تشترك مع الكثير من التجارب الشمولية فى القرن العشرين فى إعادة صنع الطبيعة البشرية، أو على الأقل فى كشف الينابيع العميقة للطبيعة البشرية التى تُخْفِيها (بشروطها الخاصة) الزائدة العلمانية للثقافة الليبرالية الحديثة. والواقع أنه، حيثما نظر بعض الدارسين إلى الاشتراكية القومية على أنها "دِين مسيَّس"، فإنه يمكن النظر إلى الأصولية أيضا على أنها "سياسة مطبوعة بطابع التقديس" (أىْ، ثيوقراطية شمولية محتملة). وبهذا الشكل فإن الأصولية تشترك فى الكثير مع الاشتراكية القومية (أو الماركسية–اللينينية) كمشروع سياسىّ شمولىّ. ويتحالف الطرفان المتناقضان المتمثلان فى "تسييس المقدس" و "تقديس السياسىّ" فى تَجَلًّ إلهىّ من محاولة إعادة صنع البشر الحديثين. وفى القرن العشرين جرَّبْنا الدين المسيَّس إلى أقصى حدّ فى تجارب شمولية متباينة للاشتراكية القومية والماركسية-اللينينية. ومن ناحية أخرى فإن الفشل الملحوظ فى حداثة الدين المسيَّس (من حيث انهيار المجتمعات الشمولية) لم يُضْعِف الدافع العميق للمشروع الحداثىّ لإعادة صنع البشرية على نطاق عالمىّ. والأصولية – كمحاولة لتقديس السياسىّ – يمثل أيضا من بعض النواحى (بصورة كامنة) تجربة شمولية حداثية أخرى، منظورا إليها من زواية مختلفة جدا. والحقيقة أن تقديس السياسىّ (الثيوقراطية) صورة مرآة لتسييس المقدَّس (الاشتراكية القومية أو الماركسية-اللينينية). وعلى هذا النحو فإن من المحتمل أننا سنجرِّب مرة أخرى سنة صِفْرِيَّة، فى هذه الحالة من داخل ثيوقراطية أصولية حديثة (سنة صِفْرِيَّة = بدء تقويم جديد بالسنة الأولى بعد الاستيلاء على السلطة؛ مثلا السنة الأولى منذ 20 سپتمبر 1792 فى سياق الثورة الفرنسية وأعقبها حكم الإرهاب من 5 سپتمبر 1793 إلى 28 يوليو 1794، أو حكم الخمير الحُمر فى كمبوديا بعد 1975 بالإرهاب على الماركسى الماوى پول پوت بعد خمسة أعوام من حرب أهلية طاحنة - المترجم).
إشارات الفصل 10 الأصولية
1: يَرْجِع The Oxford English Dictionary بتاريخها إلى 1923.
2: الاستثناء على هذا الآن قد يكون فاشيٌّ يفضل (لأسباب تاريخية) وصفه بأنه من أنصار اليمين المتطرف أو بأنه قومى متطرف؛ غير أنه، نظرا لما يعتقده هو/تعتقده هى ربما تمثَّلَ وصف أفضل فى الفاشىّ.
3: اُنظرْ أيضا Marsden in Cohen ed. 1990--;-- Ammerman in marty and Appleby eds 1991, 2ff.--;-- Armstrong 2004, 167ff.
4: بمعنى أنه من المتوقع، من جانب معلِّقى "الغبطة"، أنْ يختفى ببساطة فى لحظة واحدة ملايين لا حصر لها من المعتقدين "المولودين من جديد".
5: مثل هؤلاء الإسلاميِّين الراديكاليِّين كانوا يميلون إلى أن يكونوا حضريِّين، من مجتمعات محلية صغيرة، أو من الشباب المستخدمين أو المتدربين فى وظائف دينية أو مهنية حديثة، وكانت لهم مكانة أعلى من آبائهم، يميلون إلى أن يكون لهم شكل ما من التعليم الأعلى (فى كثير من الأحيان فى العلوم الطبيعية أو التطبيقية) ويكونون فى كثير من الأحيان نافدى الصبر إزاء الإسلام التقليدى (Greifenhagen in Sch et al. eds 2004, 72).
6: يقبل السُّنَّة الأسرة الأموية التى أعقبت النبىّ. وينظر الشيعة إلى علىّ، والحسن، والشهيد الحسين، على أنهم شخصيات بارزة. وتتمثل فكرة شيعية رئيسية فى فكرة الأئمة الاثنى عشر. ويقال إن الإمام الأخير، محمد المهدى، لم يَمُتْ فى سنة 874 ميلادية، بل بالأحرى ذهب إلى الاختفاء الغيبى وسيعود من جديد. وقد لعب آية الله الخمينى على هذه الفكرة عندما عاد إلى إيران بعد سقوط الشاه (Bruce 2000, 42).
7: فى آيرلندا الشمالية قدَّم الوحدويون وبصفة خاصة الحزب الوحدوى الديمقراطى بقيادة إيان پيسلى Ian Paisley (فى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين) شكلا قويا آخر للأصولية الپروتستانتية، يتميز فى كثير من الأحيان بمعاداته المتطرفة للكاثوليكية.
8: "وُلِدت الأصولية اليهودية من الآمال المحطمة للصهيونية الدينية ... ويغتصب الدين القومية ويقدِّم القومية على أنها تجلِّيه الخاص" (ْ Aran in Marty and Appleby eds 1991, 297).
9: اُنظرْ، على سبيل المثال، مقالات بأقلام Gold (Hinduism), Madan (Sikhism), and Swearer (Buddhism) in Marty and Appleby eds 1991 ).
10: تنطبق نفس الفكرة على المسيحية، على سبيل المثال، حيث يكون المحافظون والإنجيليون الدينيون فى كثير من الأحيان، فى الطوائف الإنجليكانية أو الميثودية أو المعمودية، حريصين على الاحتفاظ بمسافة محدَّدة من الأصولية.
11: الواقع أن تعبير "أصولية السوق"، التى يربطها كثيرون بسياسات البنك الدولى وصندوق النقد الدولى، كان قد نحته فى البداية چورچ سوروس George Soros.
12: سيكون حدسى هنا أن هذا الوضع تحقق فى الأندلس فى ظل خلافة المغاربة بين القرنين الثامن والثانى عشر، حيث بدا أن اليهود، والمسيحيِّين، والمسلمين، كانوا قادرين على التعايش بدرجة كبيرة من التسامح.
13: كما يعلِّق چون جراى، "كانت أيديولوچيات التنوير فى القرون الماضية إلى حد بعيد لاهوتا منشقا. وليس تاريخ القرن الماضى حكاية تقدُّم علمانى، كما يُحِبّ أن يعتقد قويمو الرأى من اليمين واليسار. وكان الاستيلاء البلشڤ-;---;--ى والنازى على السلطة انقلابات دينية تماما مثل انتفاضة آية الله الخمينى الثيوقراطية فى إيران. وفكرة الثورة ذاتها كحدث تحوُّل فى التاريخ مدين للدين. والحركات الثورية الحديثة استمرار للدين بوسائل أخرى" (Gray 2007, 2).
14: توجد استثناءات على هذا، أىْ، عندما لا يكون شهادة شخصية بقدر ما هو تأكيد جماعى أو شعبى لمعتقد يكون حاسما.
15: وجد مسح لمعهد جالوب فى ثمانينيات القرن العشرين أن 40 فى المائة من الجمهور الأمريكى يعتقدون أن الكتاب المقدس هو الكلمة الحَرْفية للرب (Rathven 2004, 59).
16: الحقيقة أنه يبدو أن صناعة الغبطة بأكملها تقوم على ملاحظة عشوائية واحدة ل القديس پولس حول المؤمنين عندما يجرى "الصعود بهم إلى السُّحُب".
17: غير أن الدارسين المسلمين الأتراك قاموا مؤخرا (2008) بإجراء دراسة منهجية عن الحديث، الكتاب الثانى الأكثر قداسة فى الإسلام، بشأن إعادة بناء وحذف ما هو "ثقافى" من المكوِّنات الثيولوچية والمذهبية الحقيقية.
18: تقول السورة [الآية]: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم (أسرى - المؤلف)، واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد" (Qur an, Sura 9:5, 146).
19: هذه سمة مميزة بصفة خاصة ل (سيد) قطب وقراءة محبِّيه الإسلاميِّين الراديكاليِّين للقرآن (Qutb n.d.).
20: يمكن أن يشمل هذا أشخاصا مثل (سيد) قطب، و أسامة بن لادن، وكل أولئك الذين هاجموا مركز التجارة العالمية. ويتمثل أحد الأشياء، وهو ملحوظ أيضا فيما يتعلق ببعض الأصوليِّين الحديثين فى الوصول السهل إلى التكنولوچيات الحديثة، التى يستعملونها بفاعلية إستراتيچية كبيرة.
21: يدلّ تعبير "تحديث" فى هذا السياق، فى دلالات أكثر سيولوچية، على زيادة تفتُّت الحياة الاجتماعية، وتقسيم عمل أكبر، ووحدات إنتاج أكثر تخصُّصا. ويصير المجال العام أكثر أساسية وعقلانية ويُنظر إلى العالم الخاص على أنه أكثر تعبيرا وأكثر عاطفية (Bruce 2000, 18).
22: فى نظر چون جراى، على سبيل المثال، يمكن النظر إلى الوضعية التنويرية على أنها نظرية للخلاص فى رداء نظرية للتاريخ. "والصراع بين القاعدة والغرب يمثل حربا دينية. وفكرة التنوير للحضارة العالمية التى يدعمها الغرب ضد الإسلام السياسى، من نتاج المسيحية. والهجين الخاص بالقاعدة من الثيوقراطية واللَّادولتية/الأناركية نتاج ثانوى للفكر الراديكالى الغربى. وكلُّ الأنصار فى الصراع الحالى مدفوعون بمعتقدات مبهمة عنه" (Gray 2004, 105 and 117).
23: لأن الحداثة وكوكبة القِيَم والمعتقدات المصاحبة صارت ظاهرة عالمية، ليس من المدهش أن تصير الأصولية أيضا مطبوعة بطابع دولى.
24: يقوم هذا بدوره بتعزيز تصورات عن الجماعية، والتمايز، والاختلاف داخل المجتمعات، وإقرار ملازم بتنوع المعتقدات وأخيرا تصورات التسامح. والحقيقة أن الحداثة، فى نظر أديان بعينها مثل الإسلام، تمثل، مع هذا، شيئا آخر، أىْ، ميراث الكولونيالية والإمپراطورية. ولم يكن هذا فقط لأن القوى الكولونيالية السابقة كانت قد نشرت كثيرا من قِيَم وطموحات الحداثة، بل أيضا لأن النُّخَب ما بعد الكولونيالية المحلية الحاكمة فى مثل هذه المجتمعات فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين كانت قد اعتمدت الكثير من نفس تلك الحلول الحداثية الزائفة من أجل المنفعة الاقتصادية والسياسية (Greifenhagen in Schick et al. eds 2004, 66).
25: يعلِّق آرمسترونج أيضا بأنه "تماما كما كان من الصعب أن يعترف مسلمون ليبراليون بوصف سيد قطب لمدينة جاهلية حديثة، كانت رؤية أمريكا المتمثلة فى أن الأصوليِّين الپروتستانت يتطورون مختلفة جذريا عن رؤية الاتجاه الأساسى الليبرالى. وكان الأصوليون مقتنعين بأن الولايات المتحدة هى بلاد الرب، غير أنه بدا أنهم يشاركون فى القِيَم التى كان أمريكيون آخرون يقدِّرونها". وعلى هذا النحو نظر القيادى الاسمىّ الأصولى پات روبرتسون Pat Robertson إلى الثورة الأمريكية على أنها استلهمت الكالڤ-;---;--ينيِّين (وأنها كانت بذلك مختلفة كليًّا عن الثورة الفرنسية). وفى نظر روبرتسون لم يكن قد تم التركيز على هذه الفكرة الكالڤ-;---;--ينية بصورة ديمقراطية. ومن نواحٍ كثيرة يوجد شك فى الديمقراطية عند بعض الأصوليِّين الأمريكيِّين بنفس القدر الذى نجده عند الدوائر المسلمة واليهودية (Armstrong 2004, 273).
26: يُنظر إلى تعليم الداروينية فى المدارس على أنه أحد التدخلات الرئيسية للهيومانية.
27: تشير الشريعة إلى حد كبير إلى كامل جسم القانون الإسلامى. ومن الناحية الإيتيمولوچية تعنى "طريقا" أو "طريقا مطروقا جيدا". وفى نظر البعض، يجب أن تُوَجِّه الشريعة كل جوانب الحياة العامة والخاصة. ويشمل هذا التجارة، والمصارف، والزواج، والأسرة، وكذلك الحياة العامة. وهى مستمدة من مزيج من المصادر يشمل القرآن، والحديث (أقوال وأعمال النبى محمد)، والفتاوى – أحكام العلماء الإسلاميِّين. وهى فى المحل الأول قانون دينى ذو أصل إلهى وتمَّ إيجاده لمنفعة البشرية. ويُنظر إليها على أنها الأساس لحياة مستقيمة أخلاقيا وروحيا.
28: كما تلاحظ إيرا لاپيدوس Ira Lapius "الأصولية انتقادية بعمق لافتراضات تتعلق بمتطلبات الحداثة والسياسة الحديثة وتتشكل كذلك منها" (مقتبس فى Euben 1999, 18) وينظر Eisenstadt أيضا إلى الأصولية على أنها "ظاهرة حديثة تماما" (Eisenstadt in Marty and Appleby eds 1995, 259 ). واُنظرْ أيضا سامى زبيدة Sami Zubaida الذى يفسر الأصولية الإسلامية على أنها فكرة حديثة بوضوح مرتبطة جيدا بالمصطلحات التى تدور حول الدولة الأمة الحديثة. والحقيقة أنه ينظر إلى الأيديولوچيا اللينينية على أن من المحتمل أنها أوضح تناظُر للأصولية الإسلامية (Zubaida 1993, 13, 33, 155). ويؤكد أيوبى Ayubi أيضا أن نفس اعتقاد "أن الإسلام بطبيعته ’دين سياسى‘ له أصل حديث" (Ayubi 1991, 3-5). ويجرى أيضا استكشاف فكرة مماثلة عن بيرليه Burleigh (2006) و Gentile (2006) و Gray (2oo7).
29: تلك هى المحاولة للتوفيق بين معتقدات مختلفة أو متناقضة.
30: هذا المعنى لحداثة الأصوليِّين يمكن أن يكون مبالغا فيه على مستوى من المستويات. وواقع توجيههم لتكنولوچيات وأسلحة الغرب ضد الغرب ليس دليلا بالضرورة على أنهم تأقلموا مع الحداثة. إنها، بالأحرى، إستراتيچية منطقية لاستخدام أفضل الوسائل الممكنة لهزيمة العدوّ المتصوَّر. غير أننا، رغم هذه النقطة، لا يجب أن نقلِّل من شأن استيعابهم وفهمهم لهذه الأفكار والتكنولوچيات الحديثة. والمجتمع المرغوب للمستقبل فى نظر أغلب الأصوليِّين لا يمكن أن يكون بدون تكنولوچيات حديثة. ومع هذا فإن الموقف الشامل هنا يبقى غير واضح وغير قابل للتوقع.
31: كلمةsecular [علمانى] مشتقة من الكلمة اللاتينية saeculum، التى تعنى "عمر العالم".
32: كل المعلمين البارزين، على سبيل المثال، لفرع السوسيولوچيا، أىْ، ماركس، و دوركيم، و ڤ-;---;--يبر، اعتقدوا أنه كان هناك تطور من الوجود الاجتماعى المتمحور حول الدين، إلى وجود اجتماعى يقوم على التنظيم الذاتى البشرى العلمانى القائم على العلم. وفى الأنثروپولوچيا تظهر الفكرة ذاتها عند كتّاب فى القرن التاسع عشر مثل چيمس فريزر James Frazer و إدوارد تيلور، فى فكرة الحركة من السحر والغيبيات إلى العلم، والرشادة، والعلمانية.
33: كان يُنظر إلى الدين إلى حد كبير على أنه وسيلة يبحث المجتمع ويحقق عن طريقها شكلا ما للاندماج عن طريق الجمع بين التفاهمات الأخلاقية التى تخلق إحساسا داخليا بالجماعية الاجتماعية. وهى، فى حدّ ذاتها، خبرة الصلة الاجتماعية التى هى المنفعة الحاسمة للدين، وليس أىّ فكرة عن الربّ. ويعرِّف دوركيم الدين على أنه "أنساق موحَّدة لمعتقدات وممارسات ترتبط بأشياء مقدسة، أىْ، أشياء موضوعة جانبا وممنوعة – معتقدات وممارسات تتَّحد فى جماعة أخلاقية واحدة تسمَّى كنيسة، كل أولئك الذين يلتزمون بها" (Durkheim 1995, 44). وقد أقام دوركيم أفكاره المتعلقة بإعادة الدمج الأخلاقى على دين سياسى متمحور حول الدولة للاحتفاء "بعبادة الفرد المقدَّس".
34: يمكن أن تكون العلمانية secularism نظرية لإبقاء الدين خارج الحياة العامة أو السياسية. ويبدو هذا قريبا من فكرة اللايسية laicism [العلمانية الفرنسية: نظام سياسى يقوم بإبعاد التوجيه الإكليريكى - المترجم]. ويمكن النظر إلى مفهوم العلمانية على أنه شيء أكثر اعتدالا من اللايسية؛ وكما هو موضح فإنها يمكن أن تكون ببساطة حول الحكم الذى يقتضى السماح للأديان بأن توجد فى مجتمعات حديثة وتحتاج فيها إلى التسامح الواسع النطاق. والحقيقة أن بعض العلمانيات تكون مفتوحة على الدين وضرورية حقا فى بعض الحالات لوجودها. ويمكن أن تعنى العلمانية، مع هذا، شيئا أعنف، أىْ، رفضا مسلَّحا واعيا لأىّ شيء له صلة بالدين، أو، كبديل، عدم وجود علاقة مطلقا مع الدين لفهم العالم الحديث. على أن فكرة "الدين السياسى" تثير مجموعة جديدة من المشكلات. وعلى هذا النحو، إذا كان ما ينظر إليه كثيرون على أنه بنية معتقدات علمانية، مثل الماركسية أو الفاشية، عبارة عن أديان سياسية، فإنه يصير من الصعب بالتالى الإبقاء على قبضة حازمة على مفهوم العلمانى (Burleigh 2006´-or-Gentile 2006).
35: على سبيل المثال، فى الملاحظة الشهيرة ل كارل شميت القائلة بأن "كل المفاهيم الحاملة بالنظرية الحديثة عن الدولة إنما هى مفاهيم ثيولوچية مُعَلْمَنة" (مقتبس فى Nicholls 1994, 13).
36: كما فى "لاهوت العملية/الصيرورة" Process theology، المتضمنة فى أعمال فلاسفة القرن العشرين، مثل أ. ن. هوايتهيد A. N. whiteheadan، و تشارلز هارتشورن Charles Hartshorne، أو ربما بصورة أكثر إيجازا، فى كتابات تيّار شاردان Teilhard de Chardin.
37: "فى إيران حقق الأصوليون نجاحهم الأكبر. وقد ذهبت الأسلمة هناك بعيدا إلى حد أنها تتجه إلى أن يكون لها أثر طويل الأجل. وقد أعيد تشكيل الحكومة ذاتها، وأعيدت كتابة الدستور لتأسيس السلطة الدينية وسيادة القانون الإسلامى (كيفما أمكن تفسيره). وفى ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين كان رجال الدين الأصوليون قد توطدوا بصورة راسخة فى مواقع قوية وسيطروا على النظام القانونى للبلاد. وجرى سنّ قوانين جسَّدت سياسات الأصوليِّين المتمثلة فى مكافحة تآكل البنية الاجتماعية التراثية ونسق القِيَم. ... وتراجعت إنجازات ما قبل الثورة فيما يتعلق بمكانة المرأة، وتمَّ إلغاء قانون 1967 لحماية الأسرة، وجرى الهبوط بالنساء إلى أدوار تابعة تتعلق بالعناية بالأزواج والأطفال" (Mayer in Marty and Appleby eds 1993, 120؛ واُنظرْ أيضا Arjomand in Marty and Appleby eds 1993b ).
38: اعتقد الخمينى أن الحكومة يجب أن تخضع للحكم الدينى للفقهاء فى سبيل حماية حكم الله. وسوف يقوم فقيه - رجل دين متخصص فى القانون الإسلامى – بتأمين تطبيق الشريعة بصورة صحيحة. ويمثل هذا، مع ذلك، حجة مثيرة للجدل حتى داخل المناقشات الدينية الشيعية (Armstrong 2004, 256-7 واُنظرْ أيضا Khomeini 1979).
39: فى كثير من الأحيان تبدو الأصولية الإسلامية أشبه "بتعبير عن ديكتاتورية جرى إضفاء طابع الشرعية الدينية عليها". ويواصل المؤلف، قائلا "وهذا صحيح بالنسبة لكل الأشكال الأخرى للأصولية" (Tibi in Hawkesworth and Kogan eds 1994, 194).
40: ليس من الواضح، مع هذا، ما إذا كان يوجد تسويغ قرآنى لا لبس فيه لهذه الفكرة. ومن المشكوك فيه أيضا ما إذا كان قانون الشريعة فكرة قديمة من حيث استعمالاته العامة. وقد أشار بعض الدارسين إلى أنه اختراع متأخر تماما، إنْ لم يكن حديثا تماما، بالتأكيد فيما يتعلق بالتطبيق على النظام السياسى. وكان الحكم الإسلامى بصورة عامة بين القرنين الثامن والثالث عشر، فى ظل الشكلين الأموى والعباسى للإسلام، يقرّ بتمييزٍ بين السلطة الدينية والسلطة المدنية (Tibi in Hawkesworth and Kogan eds 1994, 193).
41: على هذا النحو يكون "للجهاد" (مفهوما بهذا المعنى كنضال مادى خارجى، تمييزا له عن نضال أخلاقى أعمق داخل الفرد) هدف سياسى عالمى.
42: "يتمثل ما يقيِّد الحق الدينى فى الإقرار الضمنى لكثير من الأمريكيِّين، الموجودين بين الناس العاديِّين مثلما بين قضاة المحكمة العليا، بأن فصل الكنيسة عن الدولة ووضع الدين فى المجال الخاص، ليسا حدثين تاريخيين. إنهما شرطان مسبقان وظيفيان لمجتمع ديمقراطى حديث يتفق أن يكون غير متجانس ثقافيا ويشدِّد بقوة على الفردية" (Bruce 2000, 89-90).
43: فى نظر برنارد لويس، "بالنسبة للمسلمين، كانت الدولة دولة الله، وكان الجيش جيش الله، وبالطبع كان العدو عدو الله. وكان ما هو أهم عمليا أن القانون كان قانون الله، ومن حيث المبدأ ما كان يمكن أن يكون هناك أىّ قانون آخر. ولم تنشأ مسألة فصل الكنيسة عن الدولة، إذْ لم تكن هناك أىّ كنيسة، كمؤسسة مستقلة ذاتيا، ليتمّ فصلها. كانت الكنيسة والدولة شيئا واحدا. ... ولنفس السبب، فرغم أن المجتمع الإسلامى سرعان ما طوَّر طبقة واسعة وفعالة من رجال الدين المحترفين، لم يمثل هؤلاء كهانة مطلقا بالمعنى المسيحى، وكان من الممكن بصورة فضفاضة فقط وصفهم حتى بأنهم إكليروس [رجال دين]. ... وفى العصر العثمانى فقط، دون شك تحت تأثير النموذج المسيحى، جرى تطوير منظمة من الشخصيات الدينية المسلمة الكبيرة، بهرميةٍ للمراتب وبولايات إقليمية. ويمثل آيات الله فى إيران حتى تجديدا أحدث، وربما لا توصف ظلما بأنها خطوة أخرى فى إضفاء الطابع المسيحى على المؤسسات الإسلامية، ورغم أنها ليست بحال من الأحوال تعاليم إسلامية. ... ولم يكن ما ينقص الإسلام هو الأساس النظرى والتاريخى فقط لفصل ما كان ناقصا فى الإسلام؛ بل كان أيضا الحاجة العملية. وكان مستوى الاستعداد للتسامح والعيش بسلام مع أولئك الذين يؤمنون إيمانا مختلفا ويعبدون بصورة مختلفة، أحيانا وفى كل مكان، عاليا بما يكفى لتعايش متسامح أن يكون ممكنا، ولهذا لم يشعر المسلمون بالحاجة الإلزامية التى شعر بها المسيحيون إلى البحث عن ملاذ من أهوال النظرية التى ترعاها وتفرضها الدولة" (Lewis 1992, 50).
44: فى نظر آيزنشتات، انتحل الأصوليون "جوانب رئيسية للبرنامج السياسى للحداثة"، بما فى ذلك "توجهاته التشاركية، والشمولية، والمساواتية. ويُنظر إليها [الأصولية]، مع هذا، فى الوقت ذاته، على أنها تقاوم أبعادا أخرى للتفكير التنويرى المعنىّ، على سبيل المثال، مع قابلية البشرية للكمال (Eisenstadt 2000, 91).
45: فى رأى مارتى و أپليبى، "يجرى تصوُّر كلٍّ من الأصولية والجماعة الأصولية كرفاقية أفقية عميقة، وأخوية "مقدَّسة"، فى سبيلها يموت الناس أو يقتلون أُناسا آخرين. ومثل القوميات تملك الأصوليات طموحات سياسية هيمنية وتطالب بتضحيات هائلة من جانب أنصارها". وفى كثير من الأحيان يُلهم كل منهما البطولة والتضحية بالنفس (Marty and Appleby 1993b, 622-6).
46: الواقع أن الصراع بين حماس وفتح فى فلسطين مظهر معقَّد للتوترات العميقة بين الدين والقومية.
47: ربما أكد البعض أن هذا يبدو تناقضا فى الألفاظ، ومع هذا فإنه حتى الديمقراطية الليبرالية العلمانية تتطلب بالفعل إجماعا على بعض القِيَم الضرورية لقيام الديمقراطية بوظيفتها.
48: على كل حال، استعملت مارى وولستونكرافت Mary Wollstonecraft دعاوى لاهوتية، جزئيا، لحجتها لصالح المساواة بين النوعين (اُنظرْ الفصل 7).
49: قيَّد نشاط "الغالبية الأخلاقية"، فى محاولة التأثير فى سياسة الحزب الجمهورى عن طريق جماعات ضغط مشروعة خلال ثمانينيات القرن العشرين، أىَّ ميْل إلى التشدُّد.
50: يعلِّق جراى بأن أحد أكثر "الكليشيهات إذهالا يتمثل فى اعتقاد أن الجماعات الأصولية، مثل القاعدة، ردَّة إلى الأزمنة قبل الحديثة. وعلى العكس فإنها نتاج الحداثة" (Gray 2004,1).
51: للاطلاع على محاولة أوسع وأشمل لتحليل أيديولوچيا بن لادن، (McAuley 2005).
52: وهم يرفضون بالتالى وجهات نظر الألفيِّين القائلين بالمجيء الثانى للمسيح، الذين يؤكدون أن علينا فقط أن ننتظر مجيء المسيح.
53: "يُدهش المراقبين دائما أن يروا بأىّ سرعة يتبنى ما يسمى بالأصولية المعادية للعلم التكنولوچيا الجديدة وبأىّ سهولة يكيِّفونها لأهدافهم الخاصة". وعلى هذا النحو "يبدو أن الأصوليِّين يستولون على مفاهيم اقتصادية بطريقة مشابهة تماما: الالتقاط والاختيار، غير مهتمين تقريبا بالمصدر الأصلى لأىّ حُكْم وقبل كل شيء باستعمال كل شيء يمكن أن يستعملوه كأداة لتعزيز أچندتهم الدينية (وربما الاجتماعية فى نهاية المطاف)" (Iannaccone in Marty and Appleby 1993b, 360-1 ).
54: رغم أن كوران Koran يختم بتعليق ممتاز بصورة مدهشة "تماما كما تزامن صعود الرأسمالية الأوروپية مع ظهور فلاسفة اجتماعيِّين جُدُد، كذلك أيضا يمكن أن يترافق مع التحرير السياسى والاقتصادى فى العالم الإسلامىّ تحوُّل بعيد المدى للاقتصاد الإسلامى" (Kuran in Marty and Appleby 1993b, 322).