هل سيكون الطعام كافيا للجميع؟ مايور و بانديه ترجمة خليل كلفت و على كلفت


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 6189 - 2019 / 4 / 2 - 16:17
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

10
هل سيكون الطعام كافيا للجميع؟ مايور و بانديه ترجمة خليل كلفت و على كلفت

سيكون الأمن الغذائي رهانا رئيسيا من رهانات القرن الحادي والعشرين. وكما يؤكد چاك ضيوف Jacques Diouf، المدير العام لمنظمة الفاو، فإنه "لن يكون هناك خلاص للبشرية إن لم نفز في السباق بين الزيادة الديموغرافية وإنتاج الطعام في البلدان النامية...خصوصا في أكثرها حرمانا".
وفي 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1945، قام 44 بلدا بإنشاء منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) بهدف طموح هو "إطعام الكوكب". غير أن الأمن الغذائي، مفهوما باعتباره الحصول الدائم للجميع على المواد الغذائية الأساسية، بعيد اليوم عن أن يكون قد تم تأمينه حتى وإن كانت هناك بلدان حققت الكثير من التحسن ـ ولنفكر في الثورة الخضراء في الهند ـ في تقنيات إنتاج وحفظ الأغذية. وكان المتوقع من المؤتمر العالمي للغذاء عام 1974 ومن القمة العالمية للغذاء في تشرين الثاني/ نوفمبر 1996 أن يتخذ المجتمع الدولي إجراءً حاسما لضمان الأمن الغذائي في العالم. على أنه، وفقا لتقديرات الفاو، لا يزال في العالم أكثر من 840 مليون شخص يعانون من الجوع أو من سوء التغذية، أي شخص بين كل خمسة أشخاص في البلدان النامية، علاوة على 2 مليار شخص يعانون من نقص التغذية. ويظل ملايين الأطفال يموتون كل عام من جراء الجوع أو الأمراض المرتبطة بنقص الأغذية. ووفقا لمنظمة الفاو، يعاني اليوم حوالي 190 مليون طفل من نقص الوزن ويوجد 230 مليون طفل مصابون بالكساح، و50 مليون طفل مصابون بالهزال(1). ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، يعاني 2.7 مليون طفل كل عام من إحدى إصابات العيون الناتجة عن نقص فيتامين أ ويصاب 350000 بالعمى، ويموت حوالي 60% منهم في غضون أشهر قليلة بعد الإصابة بالعمى(2). وفضلا عن ذلك، يشدد اليونيسيف على أن النساء اللائي يعانين من سوء التغذية يلدن أطفالا يقل متوسط نسبة ذكائهم بخمس نقط عن نظيره لدى الأطفال الذين يولدون لنساء موفورات الصحة(3).
فهل يمكن إذن أن نقنع بهدف متواضع مثل ذلك الذي التزمت به الدول في إعلان روما بشأن الأمن الغذائي العالمي، أي النزول بعدد الذين يعانون من سوء التغذية إلى النصف من الآن وحتى 2015؟ وقد اعترضت بشدة على هذا الإعلان الذي أنظر إليه على أنه تعبير عن قصر النظر الزمني وانعدام التضامن: أصبحت عولمة الأسواق محور الاهتمام في وقت غدا فيه استقرار العالم مهددا في الأجل المتوسط، وتم إهمال عولمة الفقر في وقت ينبغي فيه التركيز على الحد من الاختلالات الاجتماعية. ويتواصل استثمار مليارات الدولارات في غير الضروريات وفي التسليح، ولا يؤخذ في الاعتبار ملايين الكائنات البشرية الذين يعانون، كل يوم، في صمت.
ولكي نفهم جيدا رهانات ونجاحات وإخفاقات الأمن الغذائي وندرك بصورة أفضل أهمية التعليم والمؤشرات الاجتماعية الأخرى، يجب أن نضع نصب أعيننا الدور الأساسي الذي يلعبه التطور الديموغرافي: من مليار نسمة في 1830 إلى مليارين في 1930 وإلى 3 مليارات في 1960 وإلى 4 مليارات في 1975 وإلى 5 مليارات حوالي عام 1990 وإلى 6 مليارات اليوم وإلى حوالي 7 مليارات في 2010 وإلى ما يتراوح بين 7.7 و11.2 مليار نسمة في 2050، وفقا للبدائل الأكثر احتمالا، والتي تنطوي، كما نرى، على هامش كبير من عدم اليقين. فكيف يمكن لنا إذن أن نكون واثقين بأن الموارد الطبيعية لكوكب الأرض ستكون كافية للوفاء بحاجات السكان عام 2050؟ ومنذ 1991، دق صندوق الأمم المتحدة للسكان جرس الإنذار بالعبارات التالية: "في اللحظة التي ينتهي فيها القرن العشرون، لا مناص من أن يجد العالم نفسه في مواجهة تحدٍّ مروع: الموازنة بين العدد المتزايد للبشر والموارد الطبيعية الضرورية لتلبية حاجاتهم [...] إن الصدام بين عدد البشر والموارد التي يحتاجون إليها سيصير أكثر حدة في السنوات الأخيرة من القرن العشرين وما بعد ذلك"(4).
وفي عشية قمة الأرض التي انعقدت في ريو، قدر ليستر براون، رئيس معهد المراقبة العالمية، أن عدد سكان العالم لا يمكن أن يتجاوز 8 مليارات نسمة"(5). ويرتكز هذا التنبؤ المتشائم، الذي ردده ليستر براون منذ ذلك الحين، وإن كان يشكك فيه عدد من الخبراء، على الحجة التالية: انخفاض معدل نمو الإنتاج الزراعي الذي لوحظ منذ منتصف الثمانينيات يمكن أن يزيد من عدم اليقين الذي يحيط بقدرة البشرية على إطعام سكان يتزايدون بصورة متواصلة(6). وطالما ظلت الأسعار العالمية مرتفعة جدا وطالما ظلت مخزونات البلدان المصدرة الرئيسية عند أدنى مستوى لها، فإن خطر حدوث قحط عالمي سوف يصير وشيكا بصورة متزايدة.
وعلى هذا النحو، فإن الزيادة السكانية وتوافر الموارد الطبيعية يغدوان متعارضين تماما. غير أن خبراء آخرين يقدمون رؤية أكثر تفاؤلا. ووفقا لعالم الديموغرافيا هيرڤي لوبرا، على سبيل المثال، فإن الانفجار السكاني يتباطأ بسرعة كلما انتشر الحصول على التعليم وكلما نمت الدول اقتصاديا(7). ويبعدنا شيء من عدم اليقين عن الركون إلى تنبؤات الأمن الغذائي: إذا كنا نعرف تقريبا عدد سكان الأرض بفضل التعدادات، وإذا كنا نستطيع أن نتوقع الزيادة السكانية، بهامش كبير من عدم اليقين على كل حال، وإذا كنا نستطيع حساب قيمة الإنتاج أو التنبؤ بها، فليس في متناولنا دائما "مسح الميراث الطبيعي" الذي أوصى به برنامج العمل (Agenda 21) الذي اعتمده مؤتمر ريو عام 1992 (8)، وأوصى به أيضا البنك الدولي(9). ويحول هذا دون التقدير الدقيق للوضع. والحقيقة أن الأعمال المستقبلية يتم إجراؤها في الوقت الحالي دون أن نستطيع أن نحدد بدقة ما هى النسبة التي يمكن أن نعزو بها المخاطر إلى الزيادة السكانية في الجنوب أو إلى أنماط الإنتاج والاستهلاك في بلدان الشمال. كما تتباعد آراء الخبراء أيضا في نقطة حاسمة بنفس القدر: ما هي قدرات التكيف والتجديد التي سوف تبديها مجتمعات البشر؟ ولهذا فإن سؤال "هل سيكون الطعام كافيا للجميع؟"(10) جدير بالتناول انطلاقا من معرفة دقيقة بالحقائق وتحليل صارم لكل مستقبل ممكن توجد الآن بذوره في الحاضر. ويستدعي هذا السؤال سؤالا آخر، ليس استكشافيا بقدر ما هو معياري وإستراتيجي: ماذا يجب أن نفعل للقضاء على الجوع وسوء التغذية؟ وكيف يجب أن نشرع في تأمين أن يتوفر طعام لكل البشر وأن يكون هذا الطعام كافيا وملائما في آن معا؟
التحسين في الوضع الغذائي منذ الحرب العالمية الثانية
على مر القرون، بقي مردود الحبوب الغذائية منخفضا جدا. وعلى سبيل المثال، لم يتجاوز متوسط مردود القمح في فرنسا 10 كينتالات لكل هكتار في 1660. ولم تتوقف إراحة الأرض jachère، في أوروبا إلا في القرن العشرين، مع الاستخدام الواسع للأسمدة العضوية. وكانت لا تزال نسبة 40% من الأرض الزراعية في حالة إراحة في فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر. وبفضل أحدث الإنجازات التقنية، فإن مردود القمح والأرز غير المقشر والذرة الشامية، وكذلك المساحات المخصصة لهذه المحاصيل تضاعف حتى ارتفع إلى ثلاثة أضعاف. وتجاوزت إنجازات المحاصيل الزيادة السكانية إلى حد كبير. وفي معظم المناطق الأعلى كثافة في العالم، تم صنع تاريخ حضارات الأرز والقمح والذرة الشامية من تحسين التربة عن طريق حرث الأرض والهندسة الهيدروليكية. غير أنه توجد أيضا أمثلة عديدة للاستغلال الحيواني أو النباتي المفرط أفضت إلى التصحر وإلى انهيار مجتمعات بعينها. ولهذا، ينبغي إجراء أي بحث مستقبلي بمساعدة حسابات ميزانية الموارد.
وحين وجدت منظمة الفاو نفسها بين عامي 1965 و1970 في مواجهة أسرع زيادة ديموغرافية شهدتها البشرية طوال تاريخها، شرعت في القيام بالممارسة الأكثر طموحا التي تحققت إلى يومنا هذا في مجال الأبحاث المستقبلية الزراعية الديموغرافية(11). وكان هناك سؤالان رئيسيان ماثلان في قلب هذه الدراسة: هل يمكن أن تتواصل الزيادة في الإنتاج الغذائي بمعدل مساو لمعدل الزيادة الديموغرافية؟ وكم سيكون الحد الأقصى لعدد سكان كل بلد على مشارف عام 2000 وفقا للسياق الإقليمي؟ وكان قد تم إجراء هذا التحليل وفقا لفرضيات استثمارية تتلاءم مع ثلاث مراحل كبرى لتاريخ التنمية الزراعية:
الفرضية المنخفضة: العمل البشري هو العامل لوحيد للإنتاج. لا لاستخدام أي مخصبات ولا لأي مبيد حشري.
الفرضية المتوسطة: يتم استكمال العمل البشري عن طريق عمل حيوانات الجر. ويتم استخدام بعض المخصبات الكيميائية لاستكمال المخصبات الطبيعية المستمدة بصورة خاصة من تربية الحيوانات. تتم ممارسات أولية للمحافظة على التربة.
الفرضية المرتفعة: العمل البشري يتم تعزيزه بميكنة كاملة للزراعة. ويقوم ازدهار الزراعة، فضلا عن هذا، على استغلال المواد الوراثية العالية الأداء وعلى استخدام المنتجات الكيميائية التي تعتبر لا غنى عنها. وتطبق سياسة يقظة لحماية التربة.
وقد أظهرت دراسة منظمة الفاو حقيقة أنه، مع الانتقال من المرحلة التكنولوجية الأولى إلى المرحلة التكنولوجية الثالثة، يمكن أن تزيد الطاقة الإنتاجية إلى عشرة أضعاف، بفضل البنية الأساسية الجديدة، في الاستغلال العقاري والهيدروليكي، والبحوث الوراثية الحيوانية والنباتية، والاستثمارات في تربية الماشية وفي المعدات الزراعية، ولكن أيضا، وربما بصورة خاصة بفضل الإنسان ومهارته التقنية. وقد أظهر التقرير النهائي أيضا أن عدد البلدان التي تعاني من أوضاع حرجة قد يرتفع بحدة حتى عام 2000.
غير أن الاحتياجات الغذائية لكوكب الأرض يتم تأمينها بصورة أفضل فأفضل في الوقت الحالي. وعلى النطاق العالمي، ارتفعت نسبة توافر الطعام إلى الاحتياجات الغذائية من 1.05 في 1962 إلى 1.12 في 1970، وإلى 1.18 في 1990، رغم الزيادة الديموغرافية الاستثنائية التي لوحظت خلال هذه الفترة. غير أن الوضع غير متكافئ مطلقا وفقا للبلدان. وبعد أن عرفت آسيا متوسط عجز غذائي خطير للفرد حتى عام 1962، حسنت بطريقة واضحة ومستمرة ميزانها الغذائي. وهي تتجه اليوم إلى اللحاق بأمريكا اللاتينية حيث نلاحظ، بعد فترة من تحسين معدل التغطية، قدرا كبيرا من الاستقرار. وبالمقابل، لم تنجح أفريقيا في تحسين ميزانها الغذائي، كما تدهور الوضع تماما في المتوسط في البلدان التي تستهلك المنيهوت أو الإنيام أو القلقاس (معدل التغطية: 0.98 في 1990)(12).
وقد ارتفع متوسط نصيب الفرد من الإمدادات الغذائية المتاحة بسرعة أكبر من المتوقع في عدد كبير من البلدان وخصوصا في آسيا. أما الأوضاع الحرجة التي كان يخشى منها بالنسبة لعام 2000 فقد اتضح أنها أقل عددا وأقل خطورة مما كان متوقعا مع اقتراب هذا التاريخ. وبصورة بعدية a posteriori، أثبتت التطورات صحة تنبؤات منظمة الفاو في البلدان التي تسود الزراعة فيها النشاط القومي وتظل فيها التطورات الاقتصادية والإنجازات التكنولوجية متواضعة: هذا هو الوضع في أفريقيا على وجه الخصوص. وقد منع العجز عن الوفاء بالديون استيراد الحبوب الغذائية الضرورية لإطعام السكان، مهما كانت سرعة الزيادة الديموغرافية. وفضلا عن ذلك، فإن التوزيع غير القائم مطلقا على المساواة للأغذية وعوامل الإنتاج الزراعي كان مسئولا عن جانب كبير من سوء التغذية المزمن، أثناء هذه الفترة، ويمكن، بصورة خاصة، تفسير التباطؤ الملحوظ في نمو الإنتاج الزراعي منذ منتصف الثمانينيات والانخفاض في نصيب الفرد من إنتاج الحبوب الغذائية منذ عام 1984، بتدابير التكيف التقني، مثل تجميد ("تصقيع") الأرض الذي يمارس في البلدان الرئيسية المصدرة للحبوب الغذائية (الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، الاتحاد الأوروبي) بهدف خفض المخزون ودعم زيادة الأسعار التي كان يتم الاحتفاظ بها منخفضة بصورة مصطنعة(13).
وعلى حين أن 80% من سكان العالم كانوا يعيشون في 1960 في بلدان كانت الإمدادات الغذائية المتاحة فيها غير كافية بصورة معروفة للجميع (أقل من 2100 سعر حراري في اليوم للفرد)، فإن أقل من 10% من سكان العالم يعيشون اليوم في هذه الحالة. وفي معظم بلدان العالم، لا تزال الإنتاجية أقل كثيرا من تلك التي يتيحها استخدام المعارف العلمية والتقنيات الموجودة. غير أنه يمكن تحقيق مكاسب كبيرة في الإنتاجية عن طريق تطبيق تقنيات بسيطة وبالاستعانة باستثمارات متواضعة. يكفي للاقتناع بهذا أن نقارن المردودات الحالية وتلك التي يمكن الحصول عليها في ظروف مثلى، منطقة منطقة: مازالت معدلات المردودات في الظروف المثلى أعلى بنحو 5 إلى 9 أمثال من متوسطات المردودات في البلدان الصناعية والبلدان النامية(14). ولهذا، يبدو أن عدم الأمن الغذائي ينشأ عن عيب في تطبيق التقنيات المعروفة، نتيجة لعدم المساواة في الحصول على وسائل الإنتاج أو على المعارف والمهارات التقنية، أكثر مما ينشأ عن نقص عام في المعارف والتقنيات.
فهل يمكن إذن لأي شخص أن يتحدث عن نقص الموارد الغذائية على نطاق العالم؟ إن المشكلة الحقيقية، في الوقت الحاضر، تتمثل في توزيعها السيئ على سطح الكرة الأرضية وفي العجز الغذائي الذي يصيب بوجه خاص مناطق بعينها وفئات محرومة بعينها من السكان. وكما قال إدغار بيساني Edgar Pisani، عن حق، فإن "الإنتاج بمقادير كافية لا يعني أن يحصل كل فرد على ما يكفيه من الغذاء، ولا حتى أن الأمن الغذائي العالمي يتم تأمينه"(15). وهكذا فإن مشكلة الجوع في العالم لا تنشأ ـ على الأقل حتى الآن ـ عن نقص في طاقة الكوكب: إنها مشكلة عدم مساواة في الحصول على الغذاء.
والواقع أن قضية توزيع الموارد الغذائية، من وجهتي النظر الجغرافية والاجتماعية، هي القضية الرئيسية. وتقدر منظمة الفاو أنه حالما يصل نصيب الفرد من الإمدادات الغذائية المتاحة إلى 2700 سعر حراري، تصل نسبة السكان الذين يعانون من سوء التغذية إلى 10%. وتتراوح هذه النسبة بين 15% و35% إذ أن مستوى المتوسطات القومية للإمدادات الغذائية المتاحة يتراوح بين 2200 و2500 سعر حراري. والواقع أن "الأمن الغذائي الحقيقي لا يستتب ما لم تتجاوز المتوسطات القومية للأغذية المتاحة 30% على الأقل من الاحتياجات"(16). ولتحقيق هدف كهذا من الآن وحتى عام 2050، سوف ينبغي أن تزيد الأغذية المتاحة بنسبة 14% على مستوى العالم، بزيادة بنسبة 8% في أمريكا اللاتينية و14% في آسيا و33% في أفريقيا و50% في شرق أفريقيا.
ومن وجهة النظر هذه، فإن السياسة الحالية الخاصة المتمثلة في خفض المخزونات الغذائية سياسة خطرة، إذ أنها تدفع مشروعات القطاع الزراعي إلى الإقدام على نفس المخاطر التي تقدم عليها المشروعات التي تمارس سياسة "في الوقت المناسب"، هذه السياسة التي تهدف إلى عدم الاستجابة لارتفاع الطلب إلا عندما يظهر هذا الارتفاع بالفعل. وفي نظر راي ايه. غولدبرج Ray A. Goldberg، الأستاذ بجامعة هارڤارد، فإن سياسة "في الوقت المناسب" هذه لا تؤدي، في حالة الأزمة الغذائية، إلا إلى تفاقم المشكلة(17). ولا ينبغي أن يدفع مئات الملايين من الأفراد الذين يعانون من الجوع أو من سوء التغذية نفقات السياسات التي تضحي بالأمن الغذائي بذريعة العقلانية الاقتصادية، وفي الواقع بحكم قانون أقصى الربح. ويشدد كيڤين واتكينز Kevin Watkins، مسئول منظمة أوكسفام الخيرية البريطانية، في هذا الشأن على أن "الأمن الغذائي يعتمد لا على توافر الأغذية وإنما على السيطرة على الموارد وعلى توازن القوى". ويلاحظ أنه، في الساحل، "تراجع إنتاج الذرة البيضاء (الصيفية) والذرة العويجة والمنيهوت بنسبة 1% سنويا في العشرين سنة الأخيرة، على حين أنه في الوقت نفسه ترتفع واردات القمح بمعدل سنوي يصل إلى 8%". ويلح كيڤين واتكينز على ضرورة قلب هذا الاتجاه "لأنه ما من بلد يمكن أن يسمح لأمنه الغذائي الخاص بأن يعتمد على التقلبات في الأسواق العالمية، أو بأن يشهد، نتيجة للواردات المنخفضة الأسعار، تدمير أسس وقواعد المجتمع التي تتمثل في الاستثمارات الزراعية الصغيرة"(18).
وداخل كل دولة على حدة، كثيرا ما يؤثر التوزيع غير المتكافئ للثروة تأثيرا هائلا على الوضع الغذائي لمجموعات السكان المحرومة. وعلى سبيل المثال، فإنه في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية، نجد أن الملكية العقارية بجانبها الأكبر تحتكرها اللاتيفونديات، وهي ضياع شاسعة يملكها عدد قليل من الأسر أو تملكها ـ بصورة متزايدة ـ شركات كبرى، قومية أو عبرـ قومية: الواقع أن التركيز المفرط للأرض يرهن مستقبل الفلاحين الفقراء، ويشجع استمرار الممارسات الاجتماعية لعصر سابق، ويضع العقبات مرارا وتكرارا في طريق ظهور زراعة حديثة. وينبغي، لأسباب اجتماعية واقتصادية في آن معا، التشجيع على توزيع أكثر عدالة للأرض، عن طريق إصلاحات زراعية فعالة وشاملة. أما المفارقة الخاصة بأرض بلا رجال ورجال بلا أرض فإنه يجب حلها عن طريق تدابير تشريعية وإدارية وليس عن طريق القوة. وهذا ضروري لتجنب ظهور مجموعات شبه عسكرية كثيرا ما تنتهي إلى اغتصاب الأراضي. على أن التدابير التي تهدف إلى تشجيع استخدام أفضل للأرض يجب أن تدعم على نطاق واسع جدا الوصول إلى الملكية الخاصة، وتطوير المشروع الزراعي العائلي، وإحياء تعاونيات الإنتاج حيثما كان هذا ملائما مع الإطار المحلي أو الممارسات الجماعية. غير أن هذه الإصلاحات لا يمكن إجراؤها بدون إقرار فعلي لحقوق السكان المحليين. وبهذا الخصوص، يجدر بنا أن نقدم التحية للموقف الشجاع الذى اتخذته الكنيسة الكاثوليكية لصالح إصلاح زراعي يقوم على توزيع أفضل للأرض(19).
والحقيقة أن نقص التغذية الخاص بمنطقة أو بفئة من السكان ليس، في نهاية المطاف، سوى وجه آخر للفقر: إنه نتيجة لنقص في الدخل أكثر منه نتيجة لنقص في الغذاء. وفي هذه الظروف، يقتضي أي عمل فعال من أجل حل مشكلة الجوع ليس فقط حلولا تقنية بل، بصورة خاصة، إرادة سياسية. وقد شدد أمارتيا سين Amartya Sen، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، في موضع آخر، على أهمية الديمقراطية وحرية الصحافة وحرية الحصول على المعلومات (وبالتالي على التعليم) في سبيل الكفاح ضد المجاعات وخلق هذه الإرادة السياسية. وكما يقول لنا سين، فإنه لتفسير المجاعة، ليست الإمدادات الغذائية الكلية هي ما يجدر بنا أن نفكر فيه في المقام الأول، بل بالأحرى "الحقوق" الممنوحة للمجموعات الأكثر تأثرا، "حقوق" الحصول على الغذاء التي يمكن أن تطالب بها هذه المجموعات(20). والواقع، أن وجود مساحة عامة للديمقراطية ورأي عام وبالتالي وسائل إعلام حرة ومستقلة، يمكن وحده أن يتيح المطالبة بهذه الحقوق. ومنذ مجاعة 1943، الشهيرة بصورة كئيبة، في البنغال، التي شهدت وفاة حوالي 3 ملايين شخص، على حين أن الموارد الغذائية كانت كافية في ذلك الإقليم، فإن القضاء على المجاعات في الهند التي صارت مستقلة وديمقراطية كان بجانبه الأكبر نتاج برنامج التدخل الحكومي المطبق بصورة منهجية(21). وعلى العكس، فإن استمرار مجاعات ضارية اليوم، في بلدان لا توجد فيها حرية الصحافة ولا التعددية الديمقراطية ولا الحريات السياسية، يثبت صحة أطروحة سين.
الاحتياجات الغذائية
للبشر في 2050
ستكون الزيادة الديموغرافية، من الآن وحتى عام 2050، السبب الرئيسي لزيادة الاحتياجات الغذائية المانحة للطاقة في البلدان النامية. ووفقا لدراسة مستقبلية عن الغذاء أجريت من أجل منظمة الفاو وصندوق الأمم المتحدة للسكان، يمكن أن تزيد هذه الاحتياجات المانحة للطاقة بنسبة 95% في البلدان النامية مأخوذة ككل، وبنسبة 215% في أفريقيا، وبنسبة 250% في البلدان الأفريقية التي تستهلك بصورة رئيسية المنيهوت أو الإنيام أو القلقاس(22). والواقع أن انخفاض الخصوبة لن تكون له سوى آثار ضئيلة، من الآن وحتى عام 2050، على الزيادة الديموغرافية في البلدان الأكثر هشاشة بسبب شباب سكانها.
ومن ناحية أخرى، يجب أن تقوم البلدان النامية بجعل نظامها الغذائي متكاملا وغنيا إذا أرادت أن تقضي على سوء التغذية المزمن لقسم من سكانها. ولتحقيق هذا، ينبغي أن تتم زيادة الأغذية المتاحة في البلدان النامية بنسبة 18% من الآن وحتى عام 2050. ولتصبح هذه النظم الغذائية متوازنة (في الأحماض الأمينية والڤيتامينات والعناصر المغذية)، فإنها يجب أن تصير أيضا متنوعة، مما يتطلب زيادة أخرى بنسبة 19% في الأغذية المتاحة في البلدان النامية من الآن وحتى عام 2050.
وعلى وجه الإجمال، فإن البلدان النامية يجب أن تزيد أغذيتها المتاحة المانحة للطاقة ذات الأصل النباتي بنسبة 175% من الآن وحتى عام 2050. والواقع أن معدلات زيادة الطاقة ذات الأصل النباتي المتوقعة بالنسبة لآسيا وأمريكا اللاتينية أقل بكثير من معدلات الزيادة في الإنتاج الزراعي التي أتاحتها الثورة الخضراء خلال الفترة 1975ـ1990، في هاتين القارتين. وحتى يمكن لبلدان أمريكا اللاتينية وآسيا تأمين احتياجاتها الغذائية حتى عام 2050، فإنها يجب أن تضاعف تقريبا الأغذية المتاحة لديها، على حين يجب على أفريقيا أن تزيد استهلاكها من الطاقة ذات الأصل النباتي إلى خمسة أضعاف (وسبعة أضعاف في حالة البلدان التي تستهلك بصورة رئيسية الجذور والدرنات). أما بين الشعوب التي تتغذى بصورة رئيسية على المنيهوت أو الإنيام أو القلقاس أو لسان الحمل فإنه يجب أن تتوسع استخدامات الطاقة ذات الأصل النباتي بأقصى سرعة، بزيادة تتجاوز 600% من الآن وحتى عام 2050. ويجب أن يزيد حوالي 25 بلدا استخداماتها من الطاقة ذات الأصل النباتي حتى بأكثر من 4% سنويا من مواردها الطبيعية، الأمر الذي سينتهي إلى مضاعفة الاستخدامات إلى ثمانية أو عشرة أضعاف أو حتى خمسة عشر ضعفا في غضون 55 عاما.
أما البلدان المصابة الآن بأخطر سوء تغذية مزمن (أقل من 2100 سعر حراري يوميا) فهي تلك التي سيكون عليها أن تزيد بسرعة أكبر استخداماتها من الطاقة ذات الأصل النباتي. وسيكون عليها أن تفعل هذا بالاغتراف من مواردها الخاصة أو، إذا كانت لديها موارد مالية، أن تلجأ إلى الواردات. غير أن هذا الارتفاع الشديد في الاستخدامات لا يمكن تفسيره فقط بضرورة استكمال الحصص الغذائية للسكان الحاليين، بل يهدف أيضا إلى تدبير احتياجات السكان القادمين من الآن وحتى عام 2050. ويهم هذا بصورة خاصة عددا كبيرا من البلدان الأفريقية ذات الكثافة السكانية الريفية العالية (60 إلى 75% من العدد الكلي للسكان).
وحتى يمكن تلبية حاجات السكان، لا مناص من أن تقترب تنمية بلدان أفريقيا من التنمية التي يمكن أن نلاحظها في شرق آسيا بين 1975 و1990، أي أنه لا مناص من أن تتم ترجمة هذه التنمية إلى أعلى زيادة تم تسجيلها في هذه المنطقة في مجال الإنتاج الزراعي. غير أن النمو الاقتصادي العام في آسيا قد شكل، في الفترة ذاتها، بيئة ملائمة للتنمية الريفية. أما البيئة الاقتصادية الحالية في أفريقيا جنوب الصحراء فهي بعيدة تماما عن أن تكون ملائمة، وكان أسرع نمو مسجل في هذه المنطقة على مدى فترة تزيد على خمسة عشر عاما نحو 2.4% في السنة بين 1971 و1990(23). ولهذا فإن مستويات الأداء التي يجب أن تحققها البلدان التي تعانى من سوء تغذية مزمن، إذا أرادت أن يستتب الأمن الغذائي فيها، تتطلب تغييرا حقيقيا في حجم التنمية.
ومن المحتمل أن معدل النمو السنوي للإنتاج الزراعي في آسيا سيكون أقل من معدل العقود الأخيرة (4.3% في السنة بين 1975 و1990). وسوف ينطبق نفس الشيء بالنسبة لأمريكا اللاتينية. وفي أفريقيا، سيكون من الضروري أن يتجاوز معدل نمو الإنتاج الزراعي معدل النمو في الخمسة عشر عاما الأخيرة تجاوزا كبيرا. ونتيجة لنقص الأرض، فإن من المحتمل أن تعجز سبعة بلدان عن تحقيق الأمن الغذائي ما لم تستخدم إلى أقصى مدى إنجازات التكنولوجيات: إثيوبيا، موريتانيا، ناميبيا، النيجر، نيجيريا، أوغندا، السنغال). وستعاني عشرة بلدان من استحالة الإطعام المشبع لسكانها حتى إذا استخدمت التقنيات الأكثر تقدما، وستكون مضطرة إلى استيراد الحبوب الغذائية بكميات ضخمة: الجزائر، بوروندي، مصر، كينيا، ليسوتو، ليبيا، المغرب، رواندا، الصومال، تونس. وأخيرا، فإن خمسة عشر بلدا، بينها البلدان العشرة المذكورة للتو، ستواجه نقصا خطيرا في المياه الصالحة للشرب. وسيكون على خمسة بلدان منها، وهي بوروندي وكينيا وملاوي ورواندا وتونس، أن تستورد كميات كبيرة جدا من المياه أو ـ بالنسبة لبلدان منها يتضح أن هذا ممكن فيها ـ أن تقوم بتحلية مقادير كبيرة من مياه البحر(24). غير أن إزالة الملوحة تظل حلا غالي الثمن يبقى استخدامه وقفا على بعض الدول الغنية أو الجزرية، ومن هنا أهمية استخدام هذه البلدان للموارد المائية المتاحة لها استخداما أكثر فعالية(25).
وتتفق الدراسات المستقبلية الرئيسية التي أجريت في العالم في تقدير أن الأوضاع الحرجة سرعان ما سوف تصيب مجموعة من البلدان تمثل 5% إلى 10% من سكان العالم. والبلدان المعنية هي تلك التي تعاني حاليا من أعلى درجات النقص الغذائي. ووفقا لتوقعات منظمة الفاو، فإن تزايد عدم الأمن الغذائي في أفريقيا يمكن أن يؤدي في النهاية إلى عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي للقارة بكاملها(26). وعلاوة على هذا فإن مثل هذا الوضع يمكن أن يغذي مناخا من الأزمة الدولية الدائمة.
ولاشك في أن الارتفاع في المردودات والزيادة في المساحات الصالحة للزراعة وفي المناطق المروية سوف يتيحان مع ذلك الاستجابة لزيادة الطلب القادر على الدفع من الآن وحتى عام 2010، بل حتى من الآن إلى عام 2025 على نطاق كوكب الأرض. وإذا استمر الاتجاه الحالي، فإن من المحتمل أن ينخفض العجز الغذائي المزمن على مستوى العالم. وسوف ينخفض عدد الذين يعانون من العجز الغذائي من 800 مليون في 1988ـ1990 إلى 650 مليونا في 2010. ويمكن تفسير هذا التطور بصورة خاصة بالدفعة التي تعطيها آسيا، التي يمكن أن تشهد انخفاض عدد الذين يعانون من النقص الغذائي إلى النصف، من 520 إلى 270 مليون شخص (لا تأخذ هذه التقديرات في اعتبارها الأزمة الاقتصادية العالمية التي أصابت، بصورة خطيرة، بلدان آسيا منذ عام 1997). وبالمقابل، سوف يتفاقم النقص الغذائي في أفريقيا، مرتفعا من 175 إلى 300 مليون فرد(27).
ويمكن أن لا تلقى البلدان الصناعية صعوبات في إنتاج الحبوب الغذائية الضرورية لسد عجز البلدان النامية حتى عام 2010، بل وحتى عام 2025(28). والواقع أن الانخفاض في الإنتاج الزراعي الذي تم تسجيله منذ منتصف الثمانينيات يرجع إلى الانخفاض في الإنتاج العالمي للبلدان المصدرة الرئيسية الصافية للحبوب الغذائية. غير أن هذا الانخفاض لم يقترن بارتفاع في الأسعار العالمية، التي ظلت بالعكس تنخفض إلى تاريخ قريب. وكان الهدف من تقييد زيادة إنتاج البلدان المصدرة الرئيسية هو تجنب هبوط الأسعار الذي كان يمكن أن ينتج عن نقص التصريف وتراكم الفائض. ولهذا فإن المشكلة الرئيسية هي مشكلة التقدم الضعيف للطلب القادر على الدفع أو، بعبارة أخرى، مشكلة الفقر، الذي يعرقل الطلب وبالتالي الإنتاج الغذائي. ولا يمكن تفسير انخفاض نمو الإنتاج الصناعي منذ منتصف الثمانينيات باعتباره نذيرا بندرة الأغذية ولا باعتباره وصولا إلى سقف الإنتاج الملائم للشروط البيئية. وفي إطار فرضية التحسين الملحوظ في إعادة توزيع وسائل الإنتاج الزراعي ووسائل نشر المعارف، لا يبدو أن من المستحيل تلبية حاجات البشرية من الآن وحتى عام 2050، بشرط أن يوجهنا السعي إلى الاستقرار السياسي على نطاق العالم وليس تحقيق مصالح اقتصادية خالصة. وبدلا من تبديد الموارد في وسائل التدمير، ينبغي الاستثمار في الجوانب البشرية للأمن، لأن هذه أفضل وسيلة للحيلولة دون الهجرات الجماعية والتوترات والنزاعات المرتبطة بعدم الأمن الغذائي. ويكشف الوضع السائد اليوم في العالم عن فشل القوة وكذلك فشل نظام اقتصادي يقوم على القروض، ويوسع الفجوة بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية، بدلا من تضييقها.
ثمانية حلول مقترحة
للقضاء على عدم الأمن الغذائي
الانتقال الديموغرافي
يمكن أن ييسر الانتقال الديموغرافي الحالي الوصول إلى الأمن الغذائي في العالم النامي، مؤديا في النهاية إلى انخفاض في الزيادة الديموغرافية لسكان البلدان النامية. ويشجع التعليم التحديد الطوعي لعدد مرات الحمل ويلعب من الآن فصاعدا دورا رئيسيا في هذا التطور(29). وإذا تأكد هذا الانتقال الديموغرافي، فسوف يكفي ارتفاع بنسبة 1.8% في معدل النمو السنوي للطاقة المتاحة الضرورية ذات الأصل النباتي لتغذية السكان في البلدان النامية من الآن وحتى عام 2050. وكلما صار الانتقال الديموغرافي أسرع، صرنا أقدر من حيث مستوى تأمين التنمية المستديمة والأمن الغذائي في العالم.
غير أنه لا ينبغي المبالغة في دور انخفاض الخصوبة، ذلك لأن استقرار معدلها عند 1.6 (الفرضية المنخفضة للأمم المتحدة)، أو 2.1 (الفرضية المتوسطة)، أو 2.6 طفل لكل امرأة (الفرضية المرتفعة) سيكون من نتائجه أن تضاعف القارة الأفريقية الطاقة ذات الأصل النباتي التي تستعملها إلى 4 أو 5 أو 6 أضعاف من هنا وحتى عام 2050. أما بالنسبة للسكان الذين يستهلكون بصورة رئيسية المنيهوت أو جذورا أو درنيات أخرى، وفقا للحالات، فإنه سيكون عليهم أن يضاعفوا الطاقة المستخدمة إلى 6 أو 7.2 أو 8.4 أضعاف. وعلى هذا، فإنه وفقا للطريقة التي تواجه بها هذه البلدان فرضية انخفاض بطئ أو متوسط أو سريع للخصوبة، فإنه سيكون عليها أن ترفع مسحوباتها من الطاقة ذات الأصل النباتي بنسبة 3.9% أو 3.6 أو 3.4% في السنة على الترتيب بين عامي 1975 و2050، مما يتطابق مع زيادات سنوية تختلف قليلا، وفقا لسيناريوهات الانخفاض في الخصوبة. ومهما كانت درجة ضخامة هذه الزيادات، فإنها تبدو غير مفهومة في غياب سياق ملائم اجتماعي اقتصادي أو خاص بالبنية الأساسية، أو بالتالي في غياب تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتقنية عميقة.
رسملة عقارية جديدة
يمكن أن تشكل زيادة المساحات المنزرعة استجابة أخرى لعدم الأمن الغذائي. ووفقا لمنظمة الفاو، يبقى أن مليار وثمانمائة مليون هكتار من الأراضي القابلة للزراعة على مياه الأمطار مازالت غير مستغلة، دون أن نأخذ في الاعتبار مساحات الأرض في الصين(30). وبين هذه الـ 1800 مليون هكتار، 94 مليونا تشغلها مستوطنات بشرية و770 مليون تغطيها مساحات غابات و200 مليون تشكل جزءا من مناطق محمية قانونا (متنزهات قومية، غابات حفظ، محميات طبيعية)(31). وعلى هذا، يبقى أكثر من 700 مليون هكتار يمكن زراعتها، أيْ مساحة من الأراضي تساوي تقريبا المساحة المستغلة حاليا. وتقع معظم الأرض الصالحة للزراعة ولكن غير المستغلة في أفريقيا (500 مليون هكتار في أفريقيا جنوب الصحراء)، وأمريكا اللاتينية (220 مليون هكتار)، حيث يوجد في شبه القارة هذه احتياطي ضخم من الغابات، وإلى مدى أقل في شرق آسيا (45 مليونا، بدون الصين)، أو في جنوب آسيا (10 ملايين). وهذه الأراضي، بجانبها الأكبر، أراض ذات خصوبة طبيعية قليلة. ويمكن أن يفسر هذا جزئيا لماذا لم تتح برامج استيطان أراض جديدة تم تنفيذها خلال العقود الأخيرة مطلقا استيعاب نسب كبيرة من فائض سكان الريف(32).
وفضلا عن هذا، كثيرا ما اتضح أن الاستخدام الذي تم لهذه الأراضي كان في تناقض مع متطلبات أمن غذائي على مستوى الكوكب في الأجل الطويل. والواقع أن الأمن الغذائي يجب فهمه في ضوء مقتضيات تنمية مستديمة. غير أن التقنيات المستعملة منذ الستينيات لزيادة مردود الاستثمارات الزراعية كثيرا ما كان لها تأثيرات ضارة على التربة وعلى المحاصيل، حيث أن الري المفرط يؤدي إلى ملوحة الأراضي الزراعية أو، بالعكس، إلى زيادة تشبعها بالمياه. علاوة على أن الإفراط في الأسمدة يؤدي إلى إضفاء طابع صناعي على التربة. ويقدر تقرير حديث للمعهد الدولي لبحوث السياسة الغذائية أنه، من مجموع 8.7 مليارات هكتار من المراعي والغابات والأراضي المستخدمة في الزراعة في العالم، تدهور 2 مليار هكتار نتيجة للتحات والتصحر والتملح. وفي آسيا، عانت الغابات أشد المعاناة، أما في أفريقيا فقد لحقت بالمراعي والأراضي المنزرعة الأضرار البالغة(33). ويرى غي ﭙايوتان Guy Paillotin، رئيس المعهد الوطني للبحوث الزراعية في فرنسا، أن ستة ملايين هكتار من الأراضي المنزرعة تختفي كل عام بسبب تدهور التربة. وحين تضاف هذه الاتجاهات إلى الحضرنة، يمكن أن يؤدي هذا إلى فقدان 16 مليون هكتار من الأرض الزراعية سنويا خلال العقود القادمة(34). ولهذا يبدو أن من الخطورة بمكان الرهان على البدء في زراعة أراض جديدة لتأمين الأمن الغذائي بصورة حاسمة في العقود المقبلة.
وفي هذا الصدد، قدم البروفيسير سواميناثان Swaminathan في الآونة الأخيرة مفهوم "ثورة دائمة الخضرة" تتميز بزراعة مستديمة "راسخة الجذور في مبادئ الإيكولوجيا، والاقتصاد، والإنصاف بين المجموعات الاجتماعية وبين الذكور والإناث، وخلق فرص العمل"(35). ويمكن أن تستند هذه "الثورة الدائمة الخضرة" إلى العناصر السبعة التالية:
المحافظة على التربة، التي لا غنى عنها لكل تكثيف مستديم؛
الاستخدام بأكثر كفاءة ممكنة للمياه المخصصة للمحاصيل، التي تتطلب على وجه الخصوص المحافظة على مياه المطر؛
إدارة المحاصيل ومقاومة الآفات الزراعية؛
إدارة أكثر كفاءة للطاقة، مع استعانة أكبر بطاقة البيوغاز (الغاز الأحيائي) والبيوماس (الكتلة الأحيائية) والطاقة الشمسية وطاقة الرياح؛
الاستثمار في التدابير الصحية والتدابير المتعلقة بالعناية بصحة النبات للحصول على منتجات غذائية ذات نوعية عالية؛
دراسة بالغة العناية لتركيب النظام الزراعي؛
نظام كفء للمعلومات والتدريب يتيح زراعة محكمة.
ويتمثل عامل آخر له أهميته الخاصة في تيسير تخزين وحفظ المنتجات الغذائية، خصوصا عن طريق تحويلات بسيطة يمكن أن تحققها "صناعات صغيرة" ريفية. ومن هذا المنظور، أنشأت اليونسكو في 1992 كرسي أستاذية بجامعة ماكيريري في كمبالا، أوغندا، خاص بتطبيق التكنولوجيات البسيطة التي يتم تنفيذها بعد الحصاد. ومن الضروري أيضا حصول البلدان النامية بشكل مباشر على المهارات التقنية لتجنب أن تقوم بالحصاد قوة عمل متخصصة قادمة من بلدان أكثر تقدما.
زيادة إنتاجية العوامل ونقل البيوتكنولوجيات
وفقا لمنظمة الفاو، يمكن أن تتحسن مردودات منتجات الحبوب الغذائية بنسبة 37% بين 1988ـ1990 و2010 في البلدان النامية. ويعني هذا أن زيادة إنتاج الحبوب الغذائية (بنحو 58%) ستكون نتيجة لإنجازات في الإنتاجية وليس نتيجة زيادة في المساحات المنزرعة (17%). ويبدو أنه لا مناص من أن ترتفع متوسطات مردودات الحبوب الغذائية الرئيسية الثلاثة (الأرز، القمح، الذرة) بنسب 36% و42% و39% على التوالي. ولهذا فإنه ينبغي أن نتوقع زيادة سنوية بأكثر من 1.5% في مردودات الحبوب الغذائية. وسوف تنتج هذه الزيادات في المردودات على وجه الخصوص من تحسين سلالات الأصناف النباتية(i) cultivars وإنجازات البحوث، مما يتيح تضييق الفجوة فيما بين المردودات التي يتم الحصول عليها أثناء التجارب ومردودات الحقول، ويشجع انتشار البيوتكنولوجيا واختيار أصناف جديدة أكثر إنتاجية من المنيهوت أو الإنيام أو القلقاس. ويمكن أن تسهم إنجازات بحوث الهندسة الزراعية في خفض عدم الأمن الغذائي إلى حد كبير، لا سيما وأن الجذور والدرنات المنتقاة سوف تتحمل الأوضاع غير المؤاتية وتقاوم بصورة أفضل مسببات الأمراض. كما أن أبحاث الأصناف المحسنة من الحبوب الغذائية الجافة (الدخن، الذرة البيضاء) والذرة الصيفية يجب أن تهتم أيضا بأصناف مزروعة في مناطق مناخية غير مؤاتية. والواقع أن جهود أبحاث سلالات الأصناف النباتية cultivars المحسنة ما تزال غير كافية بالنسبة لهذه النباتات.
ولا يجب أن تقودنا هذه الإنجازات المتوقعة إلى النظر إلى التحسينات الجينية على أنها حل سحري. فالاحتياجات والحلول تختلف وفقا للعادات الغذائية في مختلف البلدان. وتستمد رواندا وبوروندي جانبا كبيرا من طاقتهما الغذائية من الجذور أو الدرنات، غير أنهما تستكملان النظام الغذائي بواسطة خضروات جافة غنية بالبروتينات. وهذه البلدان التي يكون الضغط الديموغرافي فيها عاليا في حاجة إلى تطوير إنتاجية كل عامل من عوامل الإنتاج (قوة العمل، الأرض، المياه). وبالمقابل فإن بلدانا عديدة أخرى تستهلك بصورة رئيسية الجذور أو الدرنات تمتلك احتياطيات كبيرة من الأراضي الرطبة التي تتلاءم مع توسعات ملحوظة في المحاصيل. وبعض هذه البلدان ذات كثافة سكانية منخفضة جدا. والواقع أن التوسع في زراعة محاصيل الجذور والدرنات يقدم بالفعل، في مثل هذه الأوضاع، حلولا لمشكلة الغذاء(36). وعلاوة على هذا فإن محصول المنيهوت لا يتطلب تقنية عالية، على خلاف محصول الإنيام، هذا النبات الحقيقي للحضارة والذي يستخدم في نيجيريا بصفة خاصة. وبالمقابل فإن احتياطيات الأراضي محدودة في بلدان مثل الكاميرون والغابون وكوت ديڤوار وتوغو، وهذا ما يجعل تحسينات المردودات ضرورية بصورة مطلقة. ومن هذا المنظور، يؤكد البروفيسير مارك ديفيمييه Marc Dufumier، الأستاذ بالمعهد الوطني للعلوم الزراعية (باريس ـ جرينيون)، أن النظم التي تجمع بين الأشجار والزراعة وتربية الماشية تتيح الحصول على مردودات مرتفعة في مناطق كثيفة السكان، مستشهدا بمثال من الساحل عن سنط الألبيدا acacia albida، "شجرة عميقة الجذور تقوم بتثبيت الأزوت، وتبحث عن المياه من الأعماق، وتتجرد من أوراقها في فصل الأمطار الذي يمكن فيه زراعة الأرض تحت فروعها"(37). ويشدد بعض الخبراء على الأهمية التي ستكون لتطوير محاصيل في أفريقيا يمكن، في نفس الوقت الذي تكون فيه منسجمة مع العادات الغذائية المحلية، أن تتيح استكمال النظم الغذائية: في هذا الخصوص، يجب إيلاء أولوية خاصة لزراعة فطر عيش الغراب الغنى بالبروتينات والتي يمكن تطويرها حتى في شروط غير ملائمة جدا للتربة والضوء.
استيراد الأغذية
قامت بلدان نامية كثيرة، طوال العقود الأخيرة، بزيادة وارداتها من الحبوب بدرجات متفاوتة. ومع ذلك، فإن البلدان المصدرة الرئيسية الصافية للحبوب الغذائية استطاعت أن تواجه دون صعوبة زيادة الطلب. والواقع أن الدعم الذي تستفيد منه، منذ وقت طويل، الزراعة في هذه البلدان المصدرة، وكذلك الازدهار الاستثنائي للإنتاجية في الشمال، يفسران جزئيا ضعف الأسعار وزيادة حجم واردات الحبوب الغذائية للبلدان النامية. وكلما أظهر الناتج القومي عجزه عن تلبية الاحتياجات الغذائية للسكان، فإن استيراد الحبوب الغذائية يغدو بصورة متزايدة أمرا لا غنى عنه للبلدان الفقيرة. غير أن حجم الاستيراد يعتمد اعتمادا كاملا على قدرة البلدان المستوردة على سداد ثمن وارداتها.
وتنفرد البلدان الأفريقية بنقطتين. فالواردات تكون أقل حجما كلما كانت الزيادة الديموغرافية أسرع، الأمر الذي يفسره عدم قدرة البلدان ذات الخصوبة العالية على الوفاء بديونها. ولهذا فإنه ينبغي مساعدة هذه البلدان على خفض خصوبتها بدلا من تشجيعها على الاستدانة. وعلاوة على هذا فإنه كلما ارتفع العبء الديموغرافي في علاقته بمساحة الأرض الزراعية للبلدان المستهلكة للمنيهوت أو الإنيام أو القلقاس، انخفض حجم نصيب الفرد من واردات الحبوب، وهذا ما يعبر عن الانعدام الأقصى للأمن الغذائي لهذه البلدان. وكلما ازداد عدم استقرار الوضع الاقتصادي والسياسي وجدت هذه الدول نفسها عاجزة عن استيراد الحبوب الغذائية اللازمة لإطعام سكانها(38). وهذا هو السبب في أن من المهم بصورة خاصة كسر الحلقة الشريرة للقروض والمديونية. ولأسباب تتعلق بالاستقرار على المستوى العالمي، سيكون من الضروري التوصل بكل سرعة إلى صيغ للتمويل تتيح لمختلف البلدان الاندماج في عالم أكثر توازنا، وذلك عن طريق الحد من اللاتماثلات الحالية التي تهدد الأمن الدولي بالخطر.
إعادة التوزيع المكاني للسكان
يؤدي عدم الأمن الغذائي إلى انطلاق هجرات نحو البلدان المجاورة. وهو أيضا عامل من عوامل توطين اللاجئين في أراضي البلدان المجاورة. فهو يمكن إذن أن يكون مصدرا لاضطرابات اجتماعية ونزاعات خطيرة من أجل الاستحواذ على الموارد الطبيعية للمياه والأراضي. والواقع أن المستوى المتوقع من تدفقات الهجرة هذه، حتى إن كان سيظل محدودا، من المحتمل أن يؤدي إلى اختلال الاستقرار السياسي في مناطق وصول الهجرات. فالهجرات الدولية، التي تراقبها البلدان المستقبلة النهائية بصرامة، لن تتيح الحد من الفوارق بين التوزيع المكاني للسكان والتوزيع المكاني للموارد الطبيعية، غير أنها ستكون، بالمقابل، سببا في اضطرابات اجتماعية واسعة النطاق وفي احتمال تصاعد لمشاعر كراهية الأجانب، وهو ما يحتمل أن يؤدي إلى العنف.
استثمارات في البنية الأساسية
ينشأ استمرار عدم الأمن الغذائي بجانبه الأكبر من النقص في البنية الأساسية وفي الاستثمارات الأساسية في عالم الريف، ومن عجز القدرات المحلية الذي لم تتح سده مداخل التنمية المتمحورة حول القروض والمساعدة الخارجية. وتؤثر هذه الفجوة في أغلب المجالات: الري وإدارة الموارد المائية، وشبكة الطرق، ووسائل النقل، ونشر المعلومات، وهياكل إضفاء الطابع التجاري، والوصول إلى موردين زراعيين. فما هي نتائج هذا النقص في البنية الأساسية والاستثمارات؟ الغياب أو الابتعاد عن الأسواق، وقلة منظمات المشاركة والتعاون والتكافل، وغياب الإشراف الصحي على القطعان، والشيخوخة الوراثية للمحاصيل، والبطء في انتشار التقنيات الزراعية والتدريب الزراعي. وإلى هذا، يضاف النقص في مجال السياسة الزراعية: العجز عن تنظيم الأسواق في كثير من الأحيان، الغياب المتكرر لسياسة ائتمانية ولقروض مخفضة طويلة الأجل ولتشريع ملائم لعدم الاستقرار العقاري. ولكل هذه الأسباب، يتضح أنه لا غنى عن تنفيذ برامج بصرية ـ سمعية للتدريب المكثف يمكن أن يتابعها السكان الأميون، في سبيل تعزيز قدرات المجتمعات الريفية.
مشاركة بلدان الشمال
تشكلت الزراعة في البلدان المتقدمة في الأجل الطويل بربحية هزيلة لرأس المال المنقول؛ وكان لا مناص من أن يستغرق تكوين التربة في الحضارات الكبرى القائمة على الحبوب الغذائية، وبخاصة حضارات الأرز والقمح، قرونا. ولهذا يمكن أن نأخذ معيار التدفقات المالية القادمة من الشمال والتي يمكن أن تصير ضرورية لتعزيز الاقتصادات الريفية في بلدان الجنوب وأن تسهم في القضاء على الفقر وعدم الأمن الغذائي فيها. غير أن من المحتمل أن لا تمثل هذه الاستثمارات أو هذه المساعدات سوى تعويض هزيل عن الأرباح المستمدة من تدفقات السلع الغذائية، التي ظلت تتجه، منذ العهد الاستعماري الكولونيالي إلى يومنا هذا، من الجنوب إلى الشمال، والتي تم استخدامها في توطيد الرسملة المالية والتقنية والعلمية والثقافية للغرب. غير أن قوانين ربحية رءوس الأموال لا ترتبط إلا بعلاقات بعيدة بتاريخ الحضارات. ومن هنا فإن إدراك الشمال لمصالحه الخاصة يمكن وحده أن يقنعه بالمشاركة بصورة جدية في تنمية الجنوب. ومن وجهة النظر هذه، تمثل بلدان الجنوب سوقا محتملة هائلة يمكن أن يكون توسيعها مفيدا لمصلحة هذه البلدان وكذلك بلدان الشمال نفسها. ومع هذا يبدو أن من غير المحتمل تقريبا أن يمر حل عدم الأمن الغذائي برسملة سريعة وبدون عرقلة الشمال للجنوب.
زيادة ضرورية للطلب القادر على الدفع
مادام الاعتماد على الزراعة سيظل قويا في البلدان النامية، فإن النضال ضد الفقر سوف يتحقق من خلال زيادة الإنتاج الغذائي والإنتاجية الزراعية. ولهذا فإنه ينبغي التشجيع بصورة نشطة على إحداث زيادة كبيرة في الإنتاج الزراعي للبلدان الأقل تطورا للنضال ضد عدم الأمن الغذائي. ويتطلب هذا زيادة في الاستهلاك الداخلي، وبالتالي مواصلة لخفض الأسعار، عن طريق جهود الحكومات والمجتمع الدولي لصالح تنمية زراعية مستديمة. ويجب أن يكون هذا الجهد مصحوبا ليس فقط بحفز إنتاجية مختلف عوامل الإنتاج (قوة العمل، الأرض، المياه) الكافية لتوليد مكاسب في الدخل، بل أيضا بسياسات دعم الصحة والتعليم الأساسي. وفي سياق سوء التغذية الذي أشرنا إليه من قبل، فإنه ينبغي تأمين ربحية عالية لمثل هذه الاستثمارات(39).
التعليم والتدريب كأساس للتنمية
هناك أهمية خاصة لسياسات تعزيز التعليم في البلدان التي يعاني فيها السكان من سوء تغذية مزمن وتضم نسبة كبيرة من السكان الريفيين. والبلدان التي تعاني من سوء تغذية مزمن هي أيضا ذات البلدان التي بها أدنى مستويات الانتظام في التعليم الابتدائي. والواقع، أن الأطفال المنتظمين في المدارس الابتدائية يمثلون في معظم هذه البلدان أقل من 80% من الفئة العمرية بين 6 سنوات و11 سنة. والحقيقة، أن هذه النسبة تظل منخفضة لأنه، إلى جانب الأطفال من 6 سنوات إلى 11 سنة، يوجد في هذه المدارس، مراهقون تسربوا من المدرسة الابتدائية مبكرا جدا وكبار أميون. والحقيقة أن التعليم الأساسي والتدريب المكثف للكبار هما مفتاحا التنمية الزراعية. فالتعليم يحدد اعتماد أساليب إدارة الموارد الطبيعية الأكثر تعقيدا(40). وهو يتيح الحصول على مكاسب الإنتاجية المرتبطة باستخدام مدخلات أو أصناف نباتية عالية الكفاءة. ويجعل نشر المعلومات الاقتصادية والتجديدات التكنولوجية التدريب المهني والتعميم الواسع أمرين لا غنى عنهما.
والأولوية التي تولى للنساء والبنات ـ اللائي يمثلن 65% من مجموع السكان الأميين ـ وثيقة الصلة بصورة خاصة بموضوع عدم الأمن الغذائي، وذلك نظرا للدور الرئيسي الذي تلعبه النساء في الزراعة في البلدان النامية والارتباط الثابت بين التعليم والانخفاض في معدلات الخصوبة. والواقع، أن تعليم البنات والنساء يؤدي إلى انخفاض في الخصوبة، مما يتيح تقليل حجم الأسرة وتقليل الضغط على "طاقة الحمولة" الخاصة بالأرض. كما أن هذا التعليم الأساسي يجب أن يقترن بتحسين الحالة الصحية للنساء، وبصورة خاصة حالتهن الغذائية. ويفترض هذا تعبئة للطاقات تتجاوز اختصاصات وزارات التعليم وحدها.
وما لم يشهد التعاون الدولي ازدهارا سريعا، فإن الوصول إلى مستوى جديد للتنمية وتحول الإنجازات العلمية إلى حقائق سوف يستغرقان جيلين. ذلك أن البراعات التقنية والنجاحات المادية لن تكون كافية لتأمين الأمن الغذائي العالمي. كما أن المفتاح النهائي للأمن الغذائي يتمثل في البحث في اللامادي: إنه يكمن في حقل المعرفة ونظام الحكم الديمقراطي، وفي خلق حيز عام شفاف، وفي بزوغ مجتمع يقوم على اقتسام القيم المشتركة. وبهذا المعنى، فإن الأمن الغذائي للكوكب يعتمد أكثر فأكثر على الأمن الاقتصادي والسياسي العالمي، وعلى "الأمن الأخلاقي" النابع من التحالف بين سيادة القانون الديمقراطي والعدالة الاجتماعية. وفي وقت نشهد فيه حضرنة سريعة في الجنوب وزيادة في الفقر في البيئة الحضرية، فإن الرهان كبير حقا، كما أكد ميشيل جريفون Michel Griffon، من مركز التعاون الدولي في أبحاث الهندسة الزراعية من أجل التنمية، وهو يعلن أنه في الوقت الحاضر "لا يشكل الفقر والجوع خطرا جيوبولتيكيا. غير أنه، إذا قدر لهما أن يشكلا مثل هذا الخطر، خلال السنوات العشر الأولى من القرن الحادي والعشرين، فإنه ربما أمكن لهذه البلدان عندئذ أن تقرر لنفسها وأن تنفذ بالتالي مشروع مارشال عملاقا ضد الفقر"(41).
منطلقات وتوصيات
التفكير في قضية الأمن الغذائي في سياق أوسع، أي في علاقتها بتطور العوامل الديموغرافية، وبالسياسات الصحية، وبالسياسات التعليمية. وفي هذا الإطار، الدعم في المحل الأول للتعليم الأساسي للجميع، والتدريب المكثف للكبار، والإرشاد الزراعي.
إنشاء أو تحسين البنية الأساسية التي لا غنى عنها لتنمية مستديمة للزراعة في البلدان النامية: يتعلق هذا بوجه خاص بنظم الري، ووسائل النقل، وهياكل التسويق، والشبكة المصرفية، ونظام القروض.
التنبؤ الدقيق بالأخطار التي قد تحدق بالأمن الغذائي للكوكب عن طريق تحديث دائم للأعمال المستقبلية وعن طريق تقييم منهجي لعمليات استغلال المساحات والموارد الطبيعية.
تجنب الزيادة في المساحات المزروعة والبحث عن مردودات أعلى لا تلحق الأضرار بمقتضيات تنمية مستديمة. والتشجيع على إدارة فعالة ومستديمة للموارد الزراعية الطبيعية في الأجل الطويل، وبصورة خاصة فيما يتعلق بالأراضي الصالحة للزراعة والموارد المائية.
تنشيط البحوث الزراعية ونقل التكنولوجيات والمهارات. واستخدام الإسهامات البحثية في الشأن الزراعي، خصوصا البيوتكنولوجيا، لزيادة المردودات والحصول على أصناف من المحاصيل أكثر مقاومة، مع وضع الأخطار، التي يمكن أن تحدث في الأجل الطويل لكل من البيئة والمستهلكين، في الاعتبار.
دعم التعاون الدولي بحيث لا تصير تدفقات الهجرات، في ارتباطها بانعدام الأمن الغذائي، مصدرا إضافيا للفقر وعدم الاستقرار والعنف.
تشجيع توزيع أفضل للأرض، خصوصا عن طريق إصلاحات زراعية واسعة النطاق، وذلك لتجنب أوضاع الظلم الصارخ. ولتحقيق هذا الهدف، وضع إطار تشريعي ملائم، خصوصا عن طريق تعريف أفضل لحقوق ملكية الأرض وحق الانتفاع بها.
توجيه مساعدة البلدان الغنية نحو الإجراءات الوقائية بدلا من توجيهها نحو إدارة الأزمات وحدها.

الفصل 10: هل سيكون الطعام كافيا للجميع

1: FAO, Synthèse des documents d information technique, Sommet mondial de l alimentation, Rome, novembre 1996.
2: Stéphanie Debruyne, “Le défi alimentaire”, dans “L an 2000, et après...”, numéro hors-série de la revue Futuribles, janvier 1999.
3: Michèle Aulagnon, “La malnutrition tue plus que n importe quelle autre épidémie. Le rapport annuel de l UNICEF estime que sept millions d enfants meurent chaque année”, Le Monde, 18 décembre 1997.
4: Population, Resources and the Environment: The Critical Challenge, UNFPA, New-York, 1991.
5: Lester Brown, “II faut des taxes de pollution de plus en plus lourdes pour augmenter le prix des énergies classiques”, propos recueillis par Marc-Ambroise Rendu, Le Monde, 4 mars 1992.
6: Lester Brown, “La guerre entre l homme et la Terre est d ores et déjà engagée”, propos recueillis par Jean-Paul Besset, Le Monde, 27 février 1996.
7: Hervé Le Bras, Les-limit-es de la planète: Mythes de la nature et de la population, Paris, Flammarion, 1994.
8: Agenda 21, Nations Unies, conférence des Nations Unies sur l Environnement et le Développement, New York, 1992.
9: Rapport sur le développement dans le monde 1992. Le développement et l environnement, Banque mondiale, Washington, D.C., 1992.
10: 2100 Odyssée de l espèce, Gaudin T., Paris, Payot, 1993.
11: FAO: Potential Population Supporting Capacities of Lands in the Developing World, G. M. Higgins et al., Technical Report of Project. Land resources for populations of the future, Food and Agriculture Organization of the United Nations, United Nations Fund for Population activities, International Institute for applied Systems analysis, Rome, 1982.
12: Croissance démographique et production alimentaire. Les rôles des facteurs démographiques à l horizon 2050, Ph. Collomb, rapport technique provisoire demandé par la FAO et le FNUAP pour le sommet mondial de l alimentation de novembre 1996, Centre de documentation du CICRED, décembre 1995.
13: Agriculture mondiale—Horizon 2010—Étude de la FAO, N. Alexandratos, Organisation des Nations Unies pour l alimentation et l agriculture (FAO) / Polytechnica, Paris, 1995.
14: Central Planning Bureau of the Netherlands, Scanning the Future: A Long Term Scénario Study of the World Economy 1990-2015, 1990.
15: E. Pisani, Le Monde diplomatique, avril 1995.
16: P. Collomb, “L alimentation de la population mondiale en 2050”, Population et sociétés, avril 1996, n° 312.
17: Business Week, 20/05/96.
18: Courrier international, n° 315, 14-20 novembre 1996.
19: Conseil pontifical Justice et Paix, “Pour une meilleure répartition de la terre. Le défi de la réforme agraire”, Libreria Editrice Vaticana, Vatican, 1997.
20: Sen, Poverty and Famines, Oxford, Clarendon Press, 1981.
21: Sen, “La liberté individuelle: une responsabilité sociale”, Esprit, mars-avril 1991.
22: Collomb, 1995, op. cit.
23: Alexandratos, 1995, op. cit.
24: Ph. Collomb, La Sécurité alimentaire de l humanité au début du XXIe siècle, note préparée pour l UNESCO, 1997.
25: انظر فصل "هل ستظل المياه جارية؟".
26: وفقا للبرنامج الغذائي العالمي، وصلت تكلفة المساعدة الغذائية العاجلة لرواندا في 1994 إلى 1.4 مليار دولار، أيْ 20% من المساعدة العالمية لذلك العام وحده: Le Figaro, 6 mars 1996.
27: Alexandratos, 1995, op. cit.
28: Ibid.
29: Population et développement — Programme d action adopté à la Conférence internationale sur la population et le développement, Organisation des Nations Unies, Le Caire, 5-13 septembre 1994”, volume 1, ST/ESA/SER. A/149, New York, 1995.
30: Alexandratos, 1995, op. cit.
31: كما تدقق منظمة الفاو، يمكن أن يوجد تشابك بين المناطق التي تشغلها مستوطنات بشرية، والغابات، والمناطق المحمية.
32: Population, Food, and Rural Development, R. E. Lee, W. B. Arthur, A. C. Kelley, G. Rodgers, T. N. Srinivasan, IUSSP, Liège, 1988.
33: People and the Planet, vol. 4, n° 4, 1995.
34: Debruyne, 1999, op. cit.
35: M.S. Swaminathan, “La science et la sécurité alimentaire”, Rapport mondial sur la science 1998, éditions UNESCO/Elsevier, 1998.
36: “Importance du manioc en alimentation humaine dans différentes régions du monde (The importance of cassava as human food in the different regions of the world)”, in Transformation alimentaire du manioc (Cassava Food Processing), Treche S., Paris, ORSTOM, 1995.
37: Hervé Kempf, “Le génie génétique est mal adapté aux besoins agricoles du tiersmonde”, Le Monde, 20-21 décembre 1998.
38: Ph. Collomb, “Transition démographique, transition alimentaire”: 1 — La logique économique, Population, 3, 1989, p. 583-612 - II — De la logique démographique à la logique alimentaire”, Population, 4-5, 1989, p. 777-807.
39: Global Food Supply, Demand, and Trade to 2050: Projections and Implications for Policy and investment, M. W. Rosegrant, M. Agcaoili-Sombilla, N. D. Perez: Paper prepared for the workshops on “A 2020 Vision for Food, Agriculture, and Nutrition: Issues Facing South Asia”, 27-29 mars 1995, Kathmandu, Nepal - et Long Term Projections for 2020, 11-12 avril. International Food Policy Research Institute (IFPRI), Washington, 1995.
41: Lester Brown, “Facing food insecurity”, State of the World 1994, World Watch Institute, Washington.
41: Christiane Galus, “Seul un gigantesque "plan Marshall" pourrait vaincre la malnutrition”, Le Monde, 20-21 décembre 1998.


هامش سفلى
i: سلالة صنف نباتي cultivar: مصطلح في علم النبات يستعمل لتسمية صنف من نوع نباتي يتم الحصول عليه صناعيا أو مزروعا.