-الثورة الشعبية/الاجتماعية- ليست محرِّك التاريخ


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4977 - 2015 / 11 / 6 - 08:18
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



ظللتُ أردِّد على مدى سنوات تمييزا بين ثورة سياسية وثورة اجتماعية، وظللتُ أؤكِّد، بعد ثورة يناير، أن وظيفة الثورة السياسية نظريًّا هى أن تنقل سلطة الدولة من طبقة اجتماعية إلى أخرى، مثلا من الطبقة الإقطاعية إلى الطبقة الرأسمالية/البرچوازية، وأنها ليست ثورة اجتماعية، فهذه تنقل المجتمع من نمط للإنتاج إلى نمط آخر. وكنت أتحدث عن ثورتنا باعتبارها ثورة شعبية فى كل الأحوال، وإنْ كان هذا بمفهوم يختلف تماما عن المفهوم الذى توصَّلتُ إليه، منذ حوالى سنة ونصف تقريبا عن الثورة الشعبية. وكنتُ أشير إلى أننا لسنا أيضا إزاء ثورة سياسية إلا بمعنى متواضع للغاية، لأن ثورتنا لم ولن تنقل السلطة من طبقة إلى أخرى، وإنْ كانت تنقلها من قطاع أو مجموعة من الطبقة الحاكمة إلى قطاع آخر أو مجموعة أخرى من نفس الطبقة. وكان تمييزى بين ثورة سياسية وثورة اجتماعية خاطئا، على ضوء توصُّلى إلى مفهوم جديد للثورة الشعبية. وكما أكَّد ماركس أنه ليس ماركسيا، على حين تجاهلتْ الماركسية السلفية هذا المبدأ، رأيتُ أن الاجتهاد بحرية خارج القفص حق لكل ماركسى، وواجب عليه. ولا يمكن أن أتنصَّل من تلك الأخطاء رغم أن نظرية الثورة عند ماركس ضللتنى، وأدت بى إلى تبنِّى أفكار وصياغات اتضح أنها خاطئة. أما الماركسيون الأرثوذكسيون، أو بتعبير آخر الماركسيون السلفيون، الذين لا يجتهدون ويهاجمون كل اجتهاد، فيبدو أنهم سوف يُحْشرون داخل القفص الذى سجنوا عقولهم فيه، فرغم أن من حقهم نقد أىّ موقف فكرى إلا أنه لا ينبغى رفضه لمجرد أنه اجتهاد يمَسّ الماركسية.
*****
1: هناك التباس كبير بشأن الثورة الاجتماعية؟ فقد ظل من المعتقد أن "الثورة الاجتماعية" هى التتويج النهائى واللحظة الحاسمة لتحوُّل المجتمع مثلا من مجتمع إقطاعى إلى مجتمع رأسمالى. وقد يكون من الملائم أن نستخدم تعبير التحول/الانتقال (من نمط إنتاج اجتماعى سابق إلى نمط إنتاج اجتماعى لاحق) بدلا من تعبير "الثورة الاجتماعية"، لسببين هما أن ظاهرة التحول من نمط إنتاج سابق أو قديم إلى نمط إنتاج لاحق أو جديد، يتمثل فى أن هذا التحول تطور تراكمى تدريجى بالغ البطء ولا ينطوى على أىّ ثورة بمعنى حركة جماهيرية احتجاجية انفجارية كبرى للتغيير، ويتمثل السبب الثانى فى ضرورة تفادى استعمال لفظة واحدة أىْ "الثورة" فى الحديث عن ظاهرتين اجتماعيتين مختلفتين تماما.
2: ومن هنا جرى النظر إلى "الثورة الاجتماعية" (فى حالة "الثورة الرأسمالية/البرچوازية" بالذات) على أنها نهاية نمط الإنتاج القديم، الإقطاعى (بعد تراكم رأسمالى سابق حمل به النمط القديم)، وبداية نمط الإنتاج الجديد؛ الرأسمالى، غير أن الثورة الشعبية مهما سُميت "ثورة اجتماعية"، ومهما تعددت التسميات، ليست محرِّك التاريخ، ليست محرِّك "عملية تحوُّل أسلوب الإنتاج الإقطاعىّ إلى أسلوب إنتاج رأسمالىّ"، كما يسمِّيها ماركس، غير أن ماركس اعتقد أن "الثورة" هى "داية كل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد"، أىْ أنها نهاية النمط الإقطاعى وبداية النمط الرأسمالى؛ وبهذا ترك لنا مسألة جدالية عويصة، وإنْ كان قد أرشدنا فى مناقشتها بتأكيده أن الثورة ("العنف") تطور لاحق لحدوث "حمل المجتمع القديم بالمجتمع الجديد" وهو ما يعنى أن الرأسمالية تشكلت وتكونت وتطورت فى رحم الإقطاع وليس بعد الإطاحة بالإقطاع.
3: وهناك اعتراض بأن كل ثورة شعبية هى ثورة اجتماعية؛ فليكنْ .. ولكنْ بشرط أن لا يكون المقصود بالثورة الاجتماعية الانتقال من نمط إنتاج قديم إلى نمط إنتاج جديد. والثورة الشعبية أو الاجتماعية (كوصف للثورة الشعبية) احتجاج على ظلم نظام مستقر أو على ظلم سياق انتقالى يتمثل فى العصر الحديث فى ازدواج الاستغلال الإقطاعى مع الاستغلال الرأسمالى. ولهذا فإنها ليست لحظة الطفرة من نمط الإنتاج السابق إلى نمط الإنتاج اللاحق، ليست ذروة أو تتويجا أو نتيجة أو محصلة للتراكم الرأسمالى البدائى. ذلك أن ذروة أو تتويج أو نتيجة أو محصلة التراكم الرأسمالى البدائى تتمثل ليس فى ثورة شعبية مثل ثورة 1789 الفرنسية الكبرى بل فيما يُسمَّى بالثورة الصناعية بثمارها التى تنفتح أمامها سُبُل التقدُّم عبر التطور التقنى اليومى، المتواصل، و"الثورات" (الاختراقات) التكنولوچية.
4: وإذا استعدنا للثورة الاجتماعية، جدلًا، معناها المألوف الذى استعملها ماركس للتعبير عنه، أىْ الانتقال من نمط الإنتاج الإقطاعى إلى نمط الإنتاج الرأسمالى مع وجود تعبير الانتقال عند ماركس بصورة متواصلة، نجد أن صيغة "الثورة الاجتماعية" تفقد معناها إلا إذا استعملناها كوصف لصيغة الثورة الشعبية بالمعنى الماثل فى مفهومها الجديد الذى اقترحتُه وشرحتُه فى مقالات سابقة. وهذا يعنى أن صيغة "الثورة الاجتماعية" تغدو تعبيرا زائدا عن الحاجة ولا معنى لها؛ لأننا وجدنا التعبير الملائم الأكثر أهمية، أىْ التحول، عند ماركس لإحلال نمط إنتاج جديد محل نمط إنتاج قديم، فلا معنى إذن لاستعمال صيغة "الثورة الاجتماعية" لنفس المعنى الذى لا ينطوى على كل حال على أىّ ثورة لأن المقصود هو تطور أو تحول رأسمالى تراكمى تدريجى طويل قد يستغرق مئات الأعوام قبل الثورة الصناعية؛ كما تبدو صيغة "الثورة الاجتماعية" زائدة عن الحاجة ما دامت صيغة الثورة الشعبية الاحتجاجية الانفجارية موجودة. ويمكن بالطبع أن نصف الثورة الشعبية بصفات كثيرة قد تكون بينها صفة "اجتماعية"، تماما كما يمكن أن نصف التحول/الانتقال بصفات أخرى لأنه ليس فقط انتقالا فيما هو اجتماعى أو سياسى بل هو كذلك انتقال اقتصادى وتقنى وفلسفى وجمالى وفى كل المجالات. وكان من الممكن أن نكتفى بتعبير الاجتماعى أو الاجتماعى-الاقتصادى لكننى أريد هنا إبراز "السياسى" فى هذا التحول لأنه تراكمى بدوره، ويتطور خطوة خطوة مع التطور التحويلى الاقتصادى والاجتماعى، فالسياسى ليس مجرد لحظة انتقال سلطة الدولة من ملك أو إمپراطور إلى الطبقة الرأسمالية الكبيرة، فمثل هذا الإجراء يكون من الناحية الجوهرية "تحصيل حاصل".
5: ثم إننى أهتم بإبراز "السياسى" لاستبعاد نظريات تؤكد أن الثورة "الاجتماعية" التى تحقق التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية تعنى انتقال سلطة الدولة إلى الطبقة الرأسمالية فى سياق ثورة مثل الثورة الفرنسية، فى مناقشات نظرية أحدث عن "الثورة الاجتماعية"، والنظريات القائلة بأن الثورة تتمثل فى انتقال السلطة من طبقة إلى طبقة تُخْطِئ إذْ تركِّز على السلطة وانتقالها، وتتجاهل المجتمع وتحوله من حيث قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج؛ فماذا نقول إذن عن انتقال سلطة الدولة تراكميًّا من الإقطاع إلى الرأسمالية بدون ثورة "جماهيرية" للطبقات العاملة والفقيرة من أىّ نوع (الياپان)؟!
6: ونقف قليلا عند مقولة أن الثورة أىْ الثورة الشعبية هى محرِّك التاريخ بمعنى أنها هى التى تُحْدِث التحوُّل من نمط إنتاج اجتماعى إلى نمط إنتاج اجتماعى آخر. والثورة حركة شعبية احتجاجية انفجارية كبرى تكون دورتها "بحكم قانونها" قصيرة الأمد فلا تزيد على أعوام إلا فى حالات أهمها الثورة الوطنية المسلحة أو الحرب الأهلية الطويلة الأمد. وإذا تحدثنا عن نمط الإنتاج الرأسمالى فإن فترة الثورة الشعبية بدورتها القصيرة المعهودة لا يمكن أن تخلق وسائل الإنتاج الحديثة الضرورية للرأسمالية، جنبا إلى جنب مع النظريات والاختراعات اللازمة لذلك، ومع خلق طبقة عاملة فى المدينة والريف بتجريد الملاك الصغار من ملكياتهم فى سياق شامل من تكوين طبقات اجتماعية جديدة هى عماد المجتمع الرأسمالى الحديث، وخلق سوق عالمية، وغير ذلك من العناصر المترابطة لنمط الإنتاج الرأسمالى والحضارة الرأسمالية. كل هذا يحتاج إلى مئات السنين وكلما سبق بلد إلى الرأسمالية بلدانا أخرى فإنه يُرْسِى الأساس لتطور هذه البلدان الرأسمالية الأخرى (باستثناء البلدان التابعة) فى فترات أقصر نسبيًّا، بالاستفادة العميقة من منجزات الرأسمالية فى بلدان أخرى مع تفادى ويلاتها، إذا استعملنا عبارة شهيرة ﻟ-;- ماركس.
7: ولا مناص لطمأنة "الثوار" من الإشارة إلى أن المنتجين المباشرين، أىْ الشعوب، هم الذين يقومون بكل هذا التطور، وبالتالى فإن استبعاد أن تكون الثورة الشعبية، بمعناها الصحيح، محرِّك التاريخ لا ينبغى أن يُخْفِى عنَّا حقيقة أن الشعوب هى محرِّك التاريخ وصانعه العظيم بقيادة تنبع منها وتنفصل عنها. وهذا الدور التراكمى فى تحريك التاريخ وصُنْعه وتحويله أهم بما لا يُقاس مما يمكن صُنْعُه أثناء الدورات القصيرة لثورات شعبية، حتى عندما تتزامن الثورة الشعبية مع عملية تحوُّلٍ من الإقطاع إلى الرأسمالية (الثورات الفرنسية، والروسية، وغيرهما).
8: وعند استبعاد الثورات الشعبية من أن تكون محرِّك التاريخ، أو عند التوضيح الموضوعى القاسى بالضرورة لحدودها، يبرز لغز هو: كيف سنصل إلى المجتمع اللاطبقى بدون ثورات شعبية؟ وفى النظرية، سيجد هذا اللغز حله عندما يظهر مفكِّرون أكفاء يفكُّون عقدته، وفى الممارسة، عندما يأتى زمن التحول إلى المجتمع الخالى من الطبقات، وهو مجتمع بعيد للغاية كما تُعلِّمنا ثورات القرن العشرين المسماة بالثورات الاشتراكية. وينبغى أن نسجل أن الماركسية بمعظم طبعاتها ترى أن الشيوعية ليست نتيجة ثورة مباشرة بل هى تطور تدريجى فى اتجاه الوفرة الاقتصادية واضمحلال الدولة فى قلب نظام اشتراكى يشترط ثورة اشتراكية.
9: وفى الوقت الحاضر، وقبل ذلك المستقبل البعيد بكثير، يواجهنا أبو الهول بأسئلته الصعبة وحتى الملغزة والصادمة، فكيف نحقق أىّ تقدُّم اجتماعى-اقتصادى إلى الأمام مع استبعاد أىّ دورٍ للثورات حتى فى حدود تحقيق التحرر من التبعية الاستعمارية، أو، بكلمات أخرى، فى تحقيق الانتقال إلى رأسمالية متطورة، وناهيك بالانتقال إلى الشيوعية. وإذا كان الواقع يتهدَّدنا قائلا: هذا أو الطوفان، التقدم الجذرى أو الهلاك، فكيف يكون ذلك انطلاقا من وضعنا التابع الكارثى، وفى ضوء دراسات مفزعة لمراكز أبحاث ديموجرافية مهمة فى الغرب عن مصير العالم الثالث الذى يشهد التراجع التاريخى صوب انقراض مُرجَّحٍ لشعوب العالم الثالث، أىْ عالم الفقراء (لأنه لا فكاك فى ظل الرأسمالية من قانون زيادة الأغنياء غنًى وزيادة الفقراء فقرا، بكل نتائجه التى لا تقف عند حدّ "التهميش")؟
10: وهناك شيء مهم للغاية وهو أنه لا يجب أن نتحفظ مسبَّقًا على البحث العلمى فى القضايا الاجتماعية والسياسية وغيرها، ونُصادره، بحجة ضرورة حساب تأثير نتائج هذا البحث على اندفاع الحركة عن طريق طبعها بطابع اليأس أو الفتور. ذلك أن البحث النظرى العلمى الموضوعى ضرورى بغضّ النظر عن تأثير نتائجه على الممارسة الاحتجاجية المباشرة، مع افتراض أن العلم الحقيقى هو الذى يمكن أن يقود إلى الممارسة الصحيحة، ولهذا نبحث علميا ثم ندرس علاقة نتائج هذا البحث بالحركة والممارسة، فيما نواصل نشاطنا وحركتنا ومقاومتنا لرأس المال.
11: والحقيقة أن الممارسة "الثورية" الجارية منذ أكثر من قرن ونصف القرن، منذ زمن ماركس، ترتكز على النظرية الثورية والبحث العلمى لرأس المال ثم بحث شروط مقاومته، دون أن يتوقف النشاط العفوى فى انتظار النتائج النهائية لهذه الدراسات والأبحاث. وإذا قبلنا بفكرة أن لدينا ظاهرتين اجتماعيتين كبيرتين متمايزتين تماما فإن التسميات لن تُشكِّل مشكلة، ومهما تتعدد التسميات تظل لدينا ظاهرتان "فقط لا غير"، وحتى استخدام تسمية ثورة لهاتين الظاهرتين المختلفتين كما يحبّ البعض لا تمثل قضية: وقد يتشابه الوَصْفانِ جدًّا وموصوفاهما متباعدانِ!
12: ومن ناحية أخرى، لا يحُول انتهاء الدورة القصيرة المألوفة لثورة شعبية دون تأكيد أن ما كان يمكن تحقيقه بسرعة فى مجال الديمقراطية الشعبية من أسفل، والثورة فى أوجها وعنفوانها وذروتها، يظلّ قابلا للتحقيق ربما بإيقاع أبطأ ولكنْ بعزيمة أصلب ووعى أعلى وخبرة أنضج.
13: وإذا كان لا يمكن إحلال تعبير "الثورة الاجتماعية"، أىْ الثورة الرأسمالية فى عصرنا الحديث، محل التحول الاجتماعى-السياسى؛ فهل يمكن أن يفيدنا هذا التعبير لوصف ثورات شعبية تأتى فى سياق مزدوج للانتقال من النمط الإقطاعى إلى النمط الرأسمالى (حيث تعانى الطبقات الفقيرة من استغلال واضطهاد الإقطاع الآفل والرأسمالية الصاعدة وتثور ضدهما معا فى الحقيقة!) إذا كانت تخدم الطبقة الرأسمالية وتجرى بقيادتها ويجرى توظيفها لخدمتها فى المحل الأول؟
14: ومن ناحية أخرى قد يفضِّل البعض تسمية الثورة الاجتماعية على التحوُّل الاجتماعى لتأكيد أن هذا التحول إلى نمط إنتاج جديد يُحْدِث فى نهاية المطاف ثورة/انقلابا فى مختلف جوانب الحياة بالقياس إلى نمط إنتاج سابق، فينقلنا من پارادايم (إطار معرفى) قائم إلى پارادايم جديد، تماما كما يمكن أن نتحدث عن اختراق علمى كبير بأنه "ثورة" تنقلنا إلى پارادايم جديد، مثل الثورة الكوپرنيقية.
15: وهناك، بالطبع، ثورات شعبية تأتى فى سياق نظام اجتماعى مستقر خالص؛ نظام عبودى خالص، أو إقطاعى خالص، أو رأسمالى خالص، وبالتالى غير انتقالى، يدور فيه الصراع الطبقى فى حالةٍ من استحالة إحلال طبقة محل طبقة. فرغم أن الطبقة الاجتماعية القديمة موجودة إلَّا أن الطبقة الاجتماعية الجديدة لم توجد بعد، ورغم أن الاقتصاد القديم موجود إلَّا أن الاقتصاد الجديد لم يوجد بعد. وقد حدثت ثورات شعبية فى عهود عبودية أو إقطاعية أو رأسمالية واستمرّ النظام العبودى أو الإقطاعى أو الرأسمالى، كما كان. وبالطبع فإن النظام الاجتماعى الطبقى لا يكون نقيًّا خالصا، حيث توجد فى المجتمع هياكل اجتماعية-اقتصادية متعددة، والمقصود هو أن النظام الاجتماعى اللاحق لم يوجد بعد.
16: أما الثورة الشعبية التى تأتى فى حالة الازدواج بين نمط إنتاج قديم يتجه إلى أفوله ونمط إنتاج جديد صاعد يشهد فجره المقبل (الثورات الفرنسية والإنجليزية والأمريكية والروسية والصينية؛ وغيرها) فلها شأن آخر، حيث يمكن أن تُزيل عقبات فى طريق التحول الاجتماعى-السياسى الجارى حتى دون ثورة، على العكس من الثورات الشعبية التى تأتى فى مجرى أنظمة اجتماعية خالصة مستقرة (العبودية (ثورة سپارتاكوس)، الإقطاع (حرب الفلاحين فى ألمانيا، أو ثورات مصر الإقطاعية)، الرأسمالية المتقدمة (والثورات هنا نادرة: مثلا ثورة ضد العنصرية)، وحتى فى ظل الرأسمالية التابعة المنكفئة على تبعيتها (ثورات العالم الثالث الاستقلالية ضد محتلّ أجنبى على سبيل المثال (مثل ثورة 1919 فى مصر) فإنها لا تساعد حتى على إزالة مثل هذه العقبات.
17: ويمكن تركيز الحديث السابق فى أنه يقوم على التمييز التام بين ظاهرتين مختلفتين تماما (أو مسارين مختلفين تماما فى التاريخ)، ولا ينبغى مواصلة الخلط بين وظيفتيهما المختلفتين تماما، كما ظلت الماركسية تفعل طوال تاريخها الفكرى: الظاهرة الأولى ترتبط بأساس حركة التاريخ، وهى خالق أو صانع أنماط الإنتاج الاجتماعية، وتتمثل فى التطور التصاعدى لإنتاجية العمل، بفعل القوانين التقنية التصاعدية. وتكمن مأثرة ماركس الكبرى فى اكتشاف نظريته للتاريخ بتطوره الاجتماعى-الاقتصادى المؤدِّى إلى تعاقب أنماط الإنتاج الاجتماعية، والتى تمثل قطيعة حاسمة مع النظريات السابقة "واللاحقة" للتاريخ. وتتمثل الظاهرة الثانية، على خلفية أن أنماط أو أنظمة الإنتاج الطبقية (العبودية، والإقطاع، والرأسمالية) أنماط أو أنظمة اجتماعية ظالمة، فى احتجاج الشعوب، أىْ الطبقات الاجتماعية الفقيرة، ضحايا الاستغلال والاضطهاد والديكتاتورية الطبقية على هذا الظلم، وأعنى ظاهرة الثورات الشعبية التى يتمثل مضمونها فى تحسين شروط عمل وحياة الطبقات الاجتماعية الشعبية.
18: ولدينا هنا، بالتالى، 1: أنماط إنتاج تصاعدية بقواها الإنتاجية وعلاقاتها الإنتاجية الاجتماعية؛ ولكنها أنماط إنتاج طبقية استغلالية وظالمة، و 2: ثورات شعبية ضد استغلال وظلم أنماط الإنتاج التى تتميز، بطبيعة الحال، بسيطرة الطبقات المالكة/الحاكمة (طبقات مُلَّاك العبيد، والإقطاعيِّين، والرأسماليِّين، على التوالى) التى تستغل، فى المحل الأول، طبقات العبيد، والأقنان، والعمال المأجورين. ويشهد التاريخ ثورات الطبقات المحكومة ضد الطبقات الحاكمة، وهى ثورات احتجاجية وانفجارية ذات دورات قصيرة لفترات استمرار كل ثورة (باستثناء حروب الاستقلال المسلحة أو الحروب الأهلية الطويلة الأمد، كما سبق القول)، وهى ثورات تقع على مسافات غير قصيرة، لأنها تشترط تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وبالتالى الأحوال المعيشية للشعب، إلى حدود لا تُحتمل بعد الصبر الطويل، مع عوامل ظرفية تساعد على الانفجار.
19: ويمكن أن تتقاطع هاتان الظاهرتان، بمعنى حدوث الثورة الشعبية فى سياق عملية الانتقال من نمط إنتاج سابق إلى نمط إنتاج لاحق، أىْ فى سياق الوجود الفعلى لازدواج بين بقايا النمط القديم وقوى النمط الجديد. وهنا لا ينبغى أن نتصوَّر كما فعل ماركس، عند تحليله لثورة 1789 الفرنسية العظمى، أن هذه الثورة هى التى تنقل المجتمع من النمط القديم إلى النمط الجديد. غير أن ماركس الذى اعتقد أن "الثورة" هى "داية كل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد"، والذى ترك لنا هذه المسألة الجدالية العويصة، أرشدنا فى مناقشتها بتأكيده أن الثورة ("العنف") تطور لاحق لحدوث "حمل المجتمع القديم بالمجتمع الجديد" وهو ما يعنى أن الرأسمالية تشكلت وتكونت وتطورت إلى درجة كافية فى رحم الإقطاع وليس بعد الإطاحة بالإقطاع. ويطرح هذا بالطبع مسألة أن الرأسمالية التى حمل بها المجتمع القديم كانت لم تَعُدْ بحاجة إلى ثورة شعبية مثل حدث 1789 لإحداث الانتقال الذى تحقق بفضل عوامل أخرى.
20: وبالطبع فإن الثورة الشعبية التى تأتى فى سياق دينامية مثل هذا الانتقال، وليس فى سياق انكفاء نظام اجتماعى مستقر على نفسه، تقوم بدور لا يمكن إنكاره فى تمكين الرأسمالية الصاعدة من الإزالة السريعة والفورية فى بعض الجوانب لعقبات تعترض سبيل سير الرأسمالية إلى الأمام.
21: غير أن الثورة الشعبية إنما هى نتيجة للرأسمالية وليست سببا لها، بل إنها ليست حتى سببا من أسبابها. ومن أسباب الدور المهم للثورة التى تتقاطع مع الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية أنها ليست مجرد احتجاج انفجارى للفقراء فى سياق أزمة اقتصادية واجتماعية كبرى، وهو احتجاج تستطيع الطبقة الحاكمة احتواءه فى نهاية الأمر أو حتى إغراقه فى الدم. بل هى ثورة ذات دينامية خاصة استمدتها من دينامية الانتقال، لأنها تشتمل على طبقة استغلالية جديدة (الطبقة الرأسمالية التى حمل بها النظام القديم أيضا)، وهى طبقة مدجَّجة بأسلحة فعالة منها مواقعها الاقتصادية، وانتقال مواقع للسلطة والإدارة إليها بصورة تدريجية فى زمن الحكم المطلق (قبل الثورة)، كما أنها "مدجَّجة" بإرادة حديدية يُغذِّيها اندفاعها إلى السيطرة على الاقتصاد والسلطة، وبسلاح الخبرة والمعرفة والقدرة على استغلال حركة الشعب فى زمن الأزمة بخلق تحالف خادع معها، "مدجَّجةً" أيضا بشعارات برَّاقة (الحرية، والإخاء، والمساواة) التى لم تَرَ النور مطلقا حيث انقلبت جميعا إلى النقيض.
22: والخلاصة أن نمط الإنتاج والثورة (وهى دائما ثورة شعبية) ظاهرتان متمايزتان تماما. وتتقاطع الثورة دائما مع نمط الإنتاج، الذى يكون مستقرًّا فى غير أزمنة الانتقال فتكون الثورة "إستاتيكية" لا تؤثِّر فى نمط الإنتاج، وتقف عند حدود الاحتجاج بهدف تحسين شروط العمل والحياة، والذى يمكن أن يكون فى زمن الانتقال فتكون الثورة "دينامية" يمكن أن تؤثِّر فى نمط الإنتاج، فى حدود تقديم العون للرأسمالية التى تقود الثورة فى تحقيق أهدافها الطبقية، وهنا يخرج الشعب من الثورة بلا "حُمُّص"، إلا من حيث انتقال البشرية إلى الحضارة الجديدة، الرأسمالية، المتَّجِهَة بخُطًى حثيثة نحو مرحلتها الإمپريالية.