أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - جواد البشيتي - رحلة شيِّقة مع د. همام غصيب في عوالم -النسبية-!















المزيد.....



رحلة شيِّقة مع د. همام غصيب في عوالم -النسبية-!


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 3479 - 2011 / 9 / 7 - 23:09
المحور: الطب , والعلوم
    



تفتقر المكتبة العلمية العربية إلى الكُتُب التي يتوفَّر مؤلِّفوها على بَسْط وشَرْح النظريات العلمية الكبرى بما يجعلها في متناوَل عقول العامة من الناس، ويساهم، من ثمَّ، في نشر وإشاعة الثقافة العلمية؛ فإنَّ ما يحزُّ في النفس أنَّ النظريات الفيزيائية والكوزمولوجية الكبرى لا تشغل حتى الآن ولو حيِّزاً ضئيلاً من اهتمام وتفكير الناس في بلادنا.

الأستاذ الدكتور همام غصيب تجشَّم مهمة في منتهى الصعوبة هي بَسْط وشَرْح نظرية "النسبية الخاصة" لآينشتاين؛ فذكَّرَتْني محاولته الصعبة؛ لكن الناجحة والموفَّقة، بالجهد العظيم والناجح الذي بذله من قبله لانداو ورومر في مؤلَّفهما الشهير "ما هي نظرية النسبية؟".

الأستاذ الدكتور غصيب، أستاذ الفيزياء النظرية في الجامعة الأردنية، وعضو مَجْمَع اللغة العربية الأردني، اختار لمؤلَّفه عظيم الأهمية العلمية عنواناً جميلاً هو "السندباد الفيزيائي ونسبية آينشتاين"، وكأنَّ "مفارقة التوأمين" لآينشتاين تستبدُّ بتفكيره وخياله العلميين.

لقد قرأته في إمعان شديد؛ فكانت لي رحلة ساحرة حقَّاً مع السندباد الفيزيائي في دنيا "النسبية" الفاتنة.

وإنِّي لأنصح كل مهتمٍ بهذه النظرية، وبمعانيها التي تتخطَّى "الفيزيائي" إلى "الفلسفي" من حياتنا الفكرية، أنْ يقرأ هذا الكتاب، ويتمثَّل معانيه (http://www.humamghassib.com/ar/).

يقول الكاتب: "لا غرو أنَّ النسبية ما زالت تثير الرعب والهلع في نفوس طلاَّبها، رغم انقضاء نحو قرن من الزمان على ميلادها؛ ناهيك عن المثقف العادي الذي يخالها ضرباً من الطلاسم والرموز الهيروغليفية.. مع أنها مثال نادر على الوضوح والبساطة والسهل الممتنع، وعلى الاقتصاد في التفكير والتعبير!".

إنَّ كثيراً مِمَّا تضمَّنه كتاب الأستاذ الدكتور همام غصيب يستحق النقاش؛ لكنَّني سأكتفي، في هذه المقالة، بمناقشة بعض الأفكار ولاسيِّما فكرة "ثبوت سرعة الضوء (في الفراغ)"، وفكرة "التزامن".

نظرية "النسبية ("النسبية الخاصة" و"النسبية العامة")" لآينشتاين ليس كمثلها نظرية فيزيائية، أو علمية، في استعصائها وعُسْرِها، فالعقل الذي لا يثور على ما يستبد به من مسلَّمات، أكانت مفاهيم وأفكار أم طرائق في التفكير والنظر، لن يَسْهُل عليه هضم وتَمَثُّل مفاهيمها وأفكارها.

إذا سافر إنسان في مركبة فضائية، تزايدت سرعتها حتى قاربت سرعة الضوء، إلى كوكب يبعد عن الأرض مسافة يقطعها الضوء في عشرة ملايين سنة (مثلاً) فإنه يستطيع الوصول إلى هذا الكوكب، والعودة منه إلى الأرض، في عشر ساعات (مثلاً) بحسب ساعة هذا المسافر (الذي تباطأ سير الزمن لديه).

هذا المسافر لم يَزِدْ عُمْره فعلاً سوى عشر ساعات؛ لكن عُمْر الأرض زاد بنحو 24 مليون سنة.

مسافرنا هذا سيعود إلى الأرض ليجد أنَّ 24 مليون سنة قد مرَّت على الأرض بينما هو زاد عمره عشر ساعات فحسب.

سرعة الضوء هي "السرعة القصوى" في الكون والطبيعة؛ فلا وجود لشيء (جسماً كان أم جسيماً) يُمْكنه أنْ يَسْبِق الضوء، أو أنْ يسير بسرعة تتجاوز سرعته، فالأشياء جميعاً، وعلى ما نَعْرِف حتى الآن، إمَّا أنْ تصل مع الضوء وإمَّا أنْ تصل بعده.

ولو سُئِلْت "كم هي سرعة الضوء؟"، لأجَبْتَ الإجابة التي حفظناها جميعاً عن ظهر قلب، وهي "300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة".

لكنَّ هذه الإجابة الصحيحة، من حيث المبدأ والأساس، قد تغدو خاطئة، إذا لم نتمثَّل جيِّداً معاني الفرضية الشهيرة الثانية في نظرية "النسبية الخاصة" لآينشتاين، التي أعلنها ونشرها سنة 1905.

بحسب هذه الفرضية، يسير الضوء في "الفراغ (Vacuum)" بسرعة ثابتة (لا تزيد، ولا تنقص) مقدارها بالضَّبْط 299.792.458 (أي 300.000 تقريباً) كيلومتر في الثانية الواحدة، على أنْ يقيسها "مراقِب مخصوص"، وليس أي مراقِب؛ وهذا "المراقِب المخصوص" هو "المراقِب غير المتسارِع، عديم الوزن، غير المتأثِّر بالجاذبية، والموجود هو نفسه في الفراغ، أو الفضاء الفارِغ، أي في خارج حقول الجاذبية، وبعيداً عنها".

ثمَّة "مختبَر (محل، موضع، إطار مرجعي) مخصوص"، يقيس منه المراقِب سرعة الضوء في الفراغ (وفي الفراغ فحسب) فيجدها دائماً 300 ألف كيلومتر في الثانية، تقريباً.

وهذا "المختبَر المخصوص" يمكن أن نتخيَّله على هيئة "حجرة زجاجية (شفَّافة)"، موجودة في خارج حقول الجاذبية، بعيداً عن النجوم والكواكب..، وفي داخلها يُوْجَد مراقب، مزوَّد أدوات ووسائل وأجهزة للقياس، منها على وجه الخصوص، "ساعة"، و"متر" على هيئة "قضيب معدني".

في هذا "الوسط (الفيزيائي) المثالي"، أي في هذا الفضاء الفارغ (من "المادة") والحُرُّ من الجاذبية، تسير (أي يجب أنْ تسير) هذه الحجرة (أو هذا "الإطار المرجعي" المخصوص) بسرعة ثابتة منتظَمة، وفي الاتِّجاه نفسه، أي في خطٍّ (أو مسارٍ) مستقيم؛ وهذه السرعة قد تكون 100 متر، أو 1000 كيلومتر، أو 100 ألف كيلومتر، أو 290 ألف كيلومتر، في الثانية الواحدة.

المراقب في داخل هذه الحجرة (التي هي "إطار مرجعي"، أو "زمكان"، خاصٌّ به) هو مراقِب عديم الوزن، غير متسارِع، غير متأثِّر بالجاذبية. إنَّه مراقب موجود في داخل "مختبَرٍ ساكن"؛ فإنَّ السير في الفضاء بسرعة ثابتة منتظَمة، وفي مسارٍ مستقيم، هو، "حركة" لا يمكن تمييزها من "السكون".

وفي أمْر "السرعة"، نسأل: ما معنى أن تقول إنَّ هذا الجسم يسير بسرعة 100 متر في الثانية الواحدة؟

معناه هو أنَّ هذا الجسم يسير "مبتعداً عنك"، أو "مقترباً منك"، 100 متر في كل ثانية؛ فهو بعد 10 ثوانٍ من انطلاقه من حيث تَقِف، مبتعداً عنك، مثلاً، يصبح على بُعْد 1000 متر منك.

في الفراغ، يسير الضوء (الذي في جزئه الأصغر يشبه "رصاصة" أو "قذيفة") بسرعة ثابتة، مقدارها 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة؛ فإذا كنت موجوداً في "الفضاء الفارغ (من المادة)"، أي في خارج حقول الجاذبية، وقِسْتَ سرعة "رصاصة ضوئية (أي الضوء)" أطْلَقْتَها، وأنتَ واقِفٌ، ثابتٌ، لا تتحرَّك، فسوف تجدها 300 ألف كيلومتر في الثانية؛ فهذه "الرصاصة"، وبصرف النظر عن الاتِّجاه" الذي فيه تتحرَّك، تبتعد عنك 300 ألف كيلومتر كل ثانية، أي أنَّها بَعْد 10 ثوانٍ، مثلاً، تصبح مبتعدةً عنك 3 ملايين كيلومتر.

وإذا أطْلَقْتها في الاتجاه نفسه الذي تسير فيه أنتَ بسرعة ثابتة مقدارها 100 ألف كيلومتر في الثانية (مثلاً) فإنَّ سرعتها تظل، بحسب قياسك لها، 300 ألف كيلومتر في الثانية؛ إنَّها لن تكون 200 ألف كيلومتر في الثانية.

وإذا أطْلَقْتها في الاتجاه نفسه الذي تسير فيه بسرعة ثابتة مقدارها 250 ألف كيلومتر في الثانية (مثلاً) فإنَّ سرعتها تظل، بحسب قياسك لها، 300 ألف كيلومتر في الثانية؛ إنَّها لن تكون 50 ألف كيلومتر في الثانية.

وإذا أطْلَقْتها في الاتجاه المعاكس وأنتَ تسير بسرعة ثابتة مقدارها 250 ألف كيلومتر في الثانية (مثلاً) فإنَّ سرعتها تظل، بحسب قياسك لها، 300 ألف كيلومتر في الثانية؛ إنَّها لن تكون 500 ألف كيلومتر في الثانية.

إنَّ سرعة الضوء (في الفراغ) ومهما كان اتِّجاهها لا تتأثَّر أبداً بسرعة المراقب (الموجود في خارج حقول الجاذبية) ما دامت سرعة هذا المراقب منتظمة؛ وبهذا المعنى نفهم سرعة الضوء على أنَّها "سرعة مُطْلَقَة".

في "الفضاء الفارغ (من المادة)"، أو في خارج حقول الجاذبية، "فحسب" يسير الضوء (في خطٍّ مستقيم) بسرعة ثابتة مقدارها 300 ألف كيلومتر في الثانية، مهما كان اتِّجاه حركته أو سرعته، ومهما كانت سرعة "مَصْدَر" هذا الضوء، "إذا ما (أي بـ "شرط")" كان المراقب الذي يقيسها موجوداً هو أيضاً في هذا الفضاء نفسه، ويسير بسرعة ثابتة (مهما كان مقدارها) في الاتِّجاه نفسه، أي في خطٍّ، أو مسارٍ، مستقيم.

هذا المراقب يكفي أنْ "يتسارع" كأنْ يزيد مقدار سرعته (أو يحيد عن الاستقامة في خطِّ سيره) حتى تتغيَّر سرعة الضوء في الفراغ؛ فكلَّما زادت سرعته (مثلاً) زادت سرعة الضوء (في الفراغ) بحسب قياسه لها؛ إنَّها لن تظل 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة؛ فهي يمكن أن تصبح (مثلاً) 400 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة.

مراقبنا هذا كان موجوداً في داخل حجرة (زجاجية) صغيرة الحجم والكتلة؛ وهذه الحجرة (الموجودة في خارج حقول الجاذبية، أو في "الفضاء الفارغ") كانت غير متسارعة؛ لأنَّها كانت تسير بسرعة ثابتة منتظَمة، في خطٍّ مستقيم.

وهذا إنَّما يعني أنَّ مراقبنا هذا كان وزنه صفراً؛ ففي داخل حجرته لا وجود لأيِّ أثر للجاذبية.

تخيَّل أنَّ سرعة تلك الحجرة كانت تزداد 1000 متر في الثانية، كل ثانية.

عندئذٍ، ومن وجهة نظر مراقب أرضي مثلاً، تصبح الثانية الواحدة عند مراقبنا أطول كثيراً من الثانية الأرضية، ويصبح متره، الموجود على هيئة قضيب معدني، أقصر كثيراً من المتر الأرضي. وقياس السرعة (كل سرعة) إنَّما يستلزم وجود "الساعة" و"المتر".

افْتَرِضْ أنَّ مراقبنا المتسارع هذا قد قاس سرعة الضوء في الفراغ فوجدها 500 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة. إنَّ هذه الزيادة النسبية (أي نسبةً إليه) في سرعة الضوء (في الفراغ) هي النتيجة المترتبة حتماً على تباطؤ الزمن، وتقلَّص المتر. وهذا التقلُّص، وذاك التباطؤ، هما النتيجة المترتبة حتماً على تسارع تلك الحجرة (مع ما يولِّده هذا التسارع من جاذبية في داخلها).

أمَّا إذا أردت جَعْل سير الزمن في الحجرة أبطأ من ذي قبل فإنَّ عليك أنْ تزيد التسارع نفسه (وأنْ تولِّد، من ثمَّ، في داخل الحجرة جاذبية أشد وأقوى).

افْتَرِضْ أنَّك فَعَلْتَ هذا (أي زِدتَّ التسارع نفسه) فهل تظل سرعة الضوء في الفراغ مثلما قِسْتها من قبل؟

كلاَّ، لن تظل؛ فهي قد تصبح الآن 700 ألف كيلومتر في الثانية.

الحجرة بتسارعها المتزايد لا بدَّ لها من أن تبلغ، بعد انقضاء زمن معيَّن، سرعة تقارب سرعة الضوء؛ فإذا توقَّفت عن التسارع، وظلَّت تسير (في الاتِّجاه نفسه) بسرعة ثابتة منتظَمة مقدارها (مثلاً) 250 ألف كيلومتر في الثانية، فإنَّ مراقبنا سيجد سرعة الضوء في الفراغ، لدى قياسه لها، قد عادت لِتَعْدِل سرعته الاسمية (300 ألف كيلومتر في الثانية).

مراقبنا غير المتسارِع وَضَعَ في طريق الضوء (أو الرصاصة الضوئية، أو "الفوتون") جداراً سميكاً من الزجاج، فوجد أنَّ سرعة الضوء قد قلَّت قليلاً عن 300 ألف كيلومتر في الثانية في أثناء سيره في داخل هذا الجدار؛ لكنَّ الضوء ما أنْ خرج من الجدار الزجاجي إلى الفراغ، أو الفضاء الفارغ، حتى استأنف السير بسرعته الاسمية، أي بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية؛ فسرعة الضوء تقلُّ قليلاً جداً عن سرعته الاسمية في أثناء اختراقه بعض المواد، كالهواء والماء والزجاج؛ وفي أثناء سيره في معظم أجزاء الفضاء بين النجوم؛ ويتناسب التضاؤل في سرعة الضوء مع كثافة المادة المنتشرة في الفضاء بين النجوم.

الآن، أراد مراقبنا غير المتسارِع، والموجود في الفضاء الفارغ، أو في خارج حقول الجاذبية، أنْ يقيس سرعة الضوء الذي يسير ليس في الفضاء الفارغ وإنَّما على مقربة من "ثقب أسود"، أي في الفضاء الأقرب إلى سطح "الثقب الأسود"، والمسمَّى "أُفْق الحدث"؛ لقد قاسها، فوجدها تساوي بضعة أمتار في الثانية الواحدة.

لِنَفْتَرِضْ أنَّ هذا المراقب، مع حجرته، انطلق نحو "ثقب أسود"؛ ثمَّ شرع يسقط سقوطاً حرَّاً نحو سطحه، بعد دخوله حقل الجاذبية الخاص بهذا الجسم (أي "الثقب الأسود").

مراقبنا هذا، مع حجرته، يسقط سقوطاً حرَّاً؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ حجرته (وهو أيضاً) تسقط نحو سطح "الثقب الأسود" بسرعة تزداد كل ثانية. هذه الحجرة هي الآن في تسارع لم تتسبَّب به "قوَّة خارجية"، فأيُّ جسم يسقط سقوطاً حرَّاً ضمن أيِّ حقل من حقول الجاذبية لا بدَّ له من أن يتسارع، في سقوطه.

وفي أثناء هذا السقوط الحر، وبسببه، لا يَعْرِف مراقبنا شيئاً من الجاذبية في داخل حجرته، فهنا لا وجود للجاذبية، مع أنَّ الحجرة نفسها تسقط (سقوطاً حرَّاً) ضمن حقل للجاذبية الشديدة.

كل جسم في داخل هذه الحجرة الساقطة يفقد وزنه؛ وكأنْ لا فَرْق يُذْكَر بين أن يكون مراقبنا في داخل حجرته التي تعوم بحرية في خارج حقول الجاذبية وبين أن يكون في داخلها وهي تسقط سقوطاً حرَّاً ضمن حقل للجاذبية.

ولو دارت الحجرة نفسها حول "الثقب الأسود" بسرعة ثابتة المقدار فإنَّ هذا الدوران لا يأتي بما يجعله مختلفاً عن "السقوط الحر"، فـ "الدوران (ولو بسرعة ثابتة)" هو نوع من "السقوط الحر"، فلا يرى مراقبنا، من ثمَّ، في داخل حجرته الدائرة شيئاً من الجاذبية، مع أنَّ الحجرة نفسها تدور ضمن حقل الجاذبية (الخاص بـ "الثقب الأسود").

إذا أراد مراقبنا الآن، حيث يسقط سقوطاً حرَّاً، قياس سرعة الضوء الذي يسير على مقربة من سطح "الثقب الأسود" فسوف يجدها تقلُّ كثيراً عن سرعته الاسمية؛ أمَّا إذا أراد، في الوقت نفسه، أن يقيس سرعة الضوء الذي يسير في الفضاء البعيد عن "الثقب الأسود"، وفي خارج حقول الجاذبية، فسوف يجدها تفوق أضعافاً مضاعفةً سرعته الأسمية؛ فهو، أي مراقبنا، يمكن، مثلاً، أن يجد سرعة الضوء الذي يسير في خارج حقول الجاذبية 100 مليون كيلومتر في الثانية الواحدة؛ وقد يجدها تريليون كيلومتر في الثانية الواحدة!

وهذا يُظْهِر الفرق النوعي والكبير بين أن يكون مراقبنا في داخل حجرته يعوم بحرية في خارج حقول الجاذبية وبين أن يكون في داخلها وهي تسقط سقوطاً حرَّاً ضمن حقل الجاذبية الخاص بـ "الثقب الأسود"، أو ضمن أي حقل للجاذبية.

مراقبنا أراد، في أثناء سقوطه الحر، أنْ يقاوِم هذا السقوط، مسْتَعْمِلاً "قوَّة خارجية"، هي صواريخ حجرته، فأطلق هذه الصواريخ، دافعاً حجرته في اتِّجاه معاكس (أي إلى أعلى).

من قَبْل، كانت حجرته تسقط سقوطاً حرَّاً (متسارعاً) نحو سطح "الثقب الأسود"؛ أمَّا الآن (أي بعد إطلاقه لصواريخ حجرته) فأصبحت تصعد إلى أعلى، مقاوِمةً السقوط الحر؛ لقد أصبحت متسارعة تسارعاً تسبَّبت به تلك "القوَّة الخارجية". وبسبب تسارعها هذا تولَّدت في داخلها جاذبية.

مراقبنا قرَّر أن يتوقَّف عن مقاومة السقوط الحر، وأنْ يَسْتأنِف، من ثمَّ، سقوطه الحر نحو سطح "الثقب الأسود"؛ فدعونا نتخيَّل أنَّه يقف الآن على هذا السطح.

من موضعه الجديد هذا (أي من "إطاره المرجعي" الجديد، أو من "زمكانه" الجديد) قاس سرعة الضوء في خارج حقول الجاذبية، فوجدها، مثلاً، 1000 (أو 100000) مليون كيلومتر في الثانية الواحدة؛ وهذا الرقم الهائل إنَّما يعكس البطء الشديد للزمن عنده، والتقلُّص الهائل لمتره.

تخيَّل الآن أنَّ في الفضاء الملاصِق لسطح "الثقب الأسود" يمتد أنبوب شفَّاف، طوله، بحسب قياس مراقبنا الموجود على سطح "الثقب الأسود"، 900 ألف كيلومتر.

من أحد طرفيه (الطرف A) انطلقت "رصاصة ضوئية (أو "فوتون")"، فسارت في داخله حتى خرجت من طرفه الآخر (الطرف B).

مراقبنا أراد قياس سرعة هذا الضوء، فوجدها 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة؛ ذلك لأنَّ تلك "الرصاصة الضوئية" قطعت المسافة 900 ألف كيلومتر في الثانية في 3 ثوانٍ؛ فهل يوافقه الرأي مراقِبٌ يعوم بحرية في خارج حقول الجاذبية؟

كلاَّ، لا يوافقه.

هذا المراقب غير المتسارع (أي الذي يعوم بحرية في الفضاء الفارغ) سيقول لمراقبنا (الموجود على سطح "الثقب الأسود") إنَّ طول ذلك الأنبوب، من وجهة نظري أنا، ليس 900 ألف كيلومتر؛ وإنَّما 300 متر فقط (مثلاً). وسيقول له أيضاً إنَّ الثانية الواحدة عندك تَعْدِل (مثلاً) 50 ثانية عندي؛ وإنَّني، من ثمَّ، أرى أنَّ تلك "الرصاصة الضوئية" قد اجتازت أنبوباً طوله 300 متر في 5 ثوانٍ، أي أنَّ سرعة الضوء عندك، ومن وجهة نظري أنا، ليست 300 ألف كيلومتر في الثانية، وإنَّما 6 أمتار في الثانية.

ولنتخيَّل الآن أنَّ أنبوباً شفَّافاً يمتد في "الفضاء الفارغ"، أو في خارج حقول الجاذبية، وأنَّ طوله، من وجهة نظري أنا المراقب غير المتسارع، أي الذي يعوم بحرية في هذا الفضاء، يبلغ 900 ألف كيلومتر.

لقد انطلقت "رصاصة ضوئية" من طرفه A فخرجت من طرفه B، قاطعةً تلك المسافة في 3 ثوانٍ، فكانت سرعتها، من ثمَّ، ومن وجهة نظري، 300 ألف كيلومتر في الثانية.

مراقبنا الموجود على سطح "الثقب الأسود" لن يوافقني هذا الرأي، وسيقول لي إنَّ طول هذا الأنبوب ليس 900 ألف كيلومتر، وإنَّما 9 ملايين كيلومتر، وإنَّ "الرصاصة الضوئية" لم تقطع تلك المسافة في 3 ثوانٍ، وإنَّما في نصف ثانية مثلاً؛ وهذا إنَّما يعني (بحسب وجهة نظر مراقبنا الموجود على سطح "الثقب الأسود") أنَّ سرعة الضوء لديَّ لم تكن 300 ألف كيلومتر في الثانية، وإنَّما 18 مليون كيلومتر في الثانية.

إذا نظر المراقب غير المتسارع (الموجود في "الفضاء الفارغ"، بعيداً عن "المادة" وحقول الجاذبية) إلى ضوء يسير في الفضاء الأقرب إلى سطح كوكب شديد الجاذبية، وإلى ضوء آخر يسير في الفضاء الأقرب إلى سطح كوكب ضعيف الجاذبية، فسوف يجد أوَّلاً أنَّ سرعة الضوء في كلا الكوكبين تقلُّ عن سرعة الضوء عنده (أي تقل عن 300 ألف كيلومتر في الثانية). وسوف يجد، من ثمَّ، أنَّ الضوء في الكوكب الأوَّل أبطأ من الضوء في الكوكب الثاني.

"الزمن الكوني" لا يَعْرِف، ولن يَعْرِف أبداً، ما يُدْعى "الآن (الكونية) الواحدة المُطْلَقَة"، فإنَّ "الآنية"، بمعناها هذا هي شيء مستحيل الوجود.

لماذا؟

لأنَّ "المعلومة (الكونية)" من "ضوء"؛ والضوء الحامِل (الناقِل) المعلومة على متنه، والذي بفضله نرى ونَعْرِف ونَكْتَشِف الأشياء، لا يَنْتَشِر (مِن مَصْدَرِه إلى عيوننا) انتشاراً "لحظياً (فورياً)"، فهو يَنْتَشِر (يسير، يَنْتَقِل، يسافِر) في (أو عَبْر) الفضاء (أو الفراغ) بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة (تقريباً). إنَّها سرعة عظيمة (بل هي السرعة القصوى في الكون والطبيعة) لكنْ محدودة.

هي "السرعة القصوى"؛ لأنَّ الأشياء جميعاً إمَّا أنْ تَصِل "مع" الضوء، وإمَّا أنْ تَصِل "بَعْدَه"؛ وليس من جسم، أو جسيم، يمكنه أنْ يسبق الضوء، أي أنْ يَصِل "قَبْله". و"المادة التي لها كتلة Mass (أي تملك ولو نزراً ممَّا يسمَّى "كتلة السكون")" لا يُمْكِنها أبداً أنْ تسير بسرعة الضوء؛ أمَّا "المادة التي لا تَمْلُك شيئاً من الكتلة"، أي "الطاقة"، فهي وحدها التي تسير (وينبغي لها أنْ تسير) بسرعة الضوء.

في إحدى ليالي 1987، أضاءت السماء (الكونية) فجأةً، فإنَّ نجماً ضخم الكتلة والحجم انفجر "في تلك الليلة"؛ وهذا الانفجار، الذي لغزارة ضوئه كاد أنْ يَجْعَل "ليل" الكون "نهاراً"، هو ظاهرة كونية تسمَّى "سوبر نوفا (Supernova)"، أو ظاهرة انفجار النجم المستعر الأعظم.

"الخبر الصحافي" ينبغي له (حتى يكون "خبراً") أنْ يتضمَّن إجابة سؤالين، هما: "أين حدث هذا الذي حدث؟"، و"متى حدث؟"؛ ونحن اعتدنا أنْ نفهم "متى" على أنَّها شيء منفصل ومستقل عن "أين".

ذلك الانفجار (في إجابة سؤال "أين وقع؟") وقع في المجرَّة المجاوِرة لمجرَّتنا ("درب التبانة") والتي تُدْعى "سحابة ماجلان الكبيرة" Large Magellanic Cloud. وهذه المجرَّة تَبْعُد عنَّا نحن سكَّان كوكب الأرض نحو 190 ألف سنة ضوئية (الضوء يقطع في كل ثانية 300 ألف كيلومتر).

متى وقع (ذلك الانفجار)؟

إنَّ اثنين من سكَّان كوكب الأرض مِمَّن شاهدوا الانفجار لن يختلفا في إجابة هذا السؤال؛ فالانفجار وقع، على ما شاهدوا، "في تلك اللحظة من تلك الليلة من سنة 1987".

أمَّا سكَّان كوكب موجود على مقربة من "مسرح الحدث"، أي من موضِع حدوث ذلك الانفجار، فلن يتَّفِقوا معنا في الإجابة، وسيقولون لنا: إجابتكم خاطئة، فالانفجار شاهدناه قبل أن تشاهدوه بنحو 190 ألف سنة!

في تلك اللحظة من تلك الليلة من سنة 1987، يستطيع المشاهِد الأرضي (الذي شاهد الانفجار) أن يقول: "الآن" وقع؛ لكنَّ سكَّان ذلك الكوكب البعيد (الافتراضي) لهم كل الحق في أنْ يعترضوا قائلين له: هذا الانفجار وقع "من قبل"، أي قبل نحو 190 ألف سنة، ولم يقع "الآن".

تخيَّل أنَّ "مصوِّراً" كان هناك، أي حيث وقع الانفجار، وأنَّ هذا "المصوِّر" التقط (بكاميرته) صورة لهذا الانفجار، وانطلق، من ثمَّ، نحو كوكب الأرض، حاملاً معه تلك الصورة، ليرينا إيَّاها.

وَلْتتخيَّل أيضاً أنَّ هذا "المصوِّر (الذي هو كناية عن "الضوء")" يسير بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية.

لقد وصل إلينا سنة 1987، منهياً رحلة فضائية استغرقت نحو 190 ألف سنة؛ ثمَّ أرانا تلك "الصورة" التي التقطها (قبل نحو 190 ألف سنة).

إنَّ ما شاهدنا (في السماء) في تلك اللحظة من تلك الليلة من سنة 1987 ليس سوى "صورة (ضوئية) قديمة"؛ إنَّها "صورة" الْتُقِطَت للانفجار قبل نحو 190 ألف سنة؛ لكنَّها لم تصل إلى عيوننا إلاَّ في تلك السنة، فهذه "الآن (الكونية)" تخصُّ حادثاً حدث في الماضي السحيق (أي قبل نحو 190 ألف سنة).

سكَّان كوكب آخر، يَبْعُد عن "مسرح الحدث" 200 ألف سنة ضوئية لن يشاهدوا ما شاهدناه، نحن سكان كوكب الأرض، إلاَّ بَعْد 10 آلاف سنة؛ فإنَّ "المصوِّر" الذي زارنا سنة 1987، وأرانا "الصورة"، والذي استأنف، على الفور، رحلته الفضائية نحوهم لن يصل إليهم إلاَّ بعد 10 آلاف سنة.

الانفجار نفسه هو، على ما رأينا، "اجتماع الأفعال الثلاثة معاً (الماضي والحاضر والمستقبل)".

سنة 1987، رأينا ذلك الانفجار، والذي هو انفجار نجم ضخم الكتلة والحجم؛ فإذا أردنا أنْ نَعْرِف الهيئة التي يوجد عليها "الآن" النجم الذي انفجر فإنَّ علينا الانتظار 190 ألف سنة، فـ "الصورة (مع "المصوِّر")" ما زالت تخطو خطواتها الأولى على الطريق إلينا.

إنَّكَ لن ترى من الأشياء جميعاً "الآن" إلاَّ "صورها القديمة"، أي الصور (الضوئية) التي فيها تَظْهَر الأشياء في الهيئات التي كانت عليها في ماضيها "الأقرب"، أو "القريب"، "الأبعد" أو "البعيد".

لو رأيتَ "الآن" حادث انفجار وقع في مكان يبعد عنك 300 ألف كيلومتر فإنَّ هذا الذي رأيته "الآن" هو حادث حدث قبل ثانية واحدة من رؤيتكَ له؛ ولو وقع في مكان يبعد عنك 150 ألف كيلومتر فإنَّكَ ستراه في ماضيه أيضاً، فهو وقع قبل نصف ثانية من رؤيتك له؛ ولو وقع في مكان (في الكون) يبعد عنك 10 بلايين سنة ضوئية فإنَّكَ ستراه في ماضيه السحيق، فهو وقع قبل 10 بلايين سنة من رؤيتك له (الآن).

إنَّ كثيراً من الأشياء التي تراها الآن في السماء قد اختفت من الوجود قبل ملايين، أو بلايين، السنين؛ وإنَّ كثيراً من الأشياء الموجودة الآن في الكون لم تَرَها بَعْد؛ لأنَّ "صورها (أي الضوء المنطلق منها)" لم تَصِل إلينا بَعْد.

تخيَّل أنَّ سكَّان كوكب يبعد عنَّا 80 مليون سنة ضوئية، وأنَّ لديهم من "العيون الاصطناعية (كالتليسكوب)" ما يمكِّنهم من رؤية كوكب الأرض في وضوح، فما الذي يرونه "الآن"؟

إنَّهم يرون كوكب الأرض وقد امتلأ بالديناصورات، فالإنسان، بحسب مشاهدتهم، لم يَظْهَر بَعْد.

"المعلومة (الكونية)" أو صورة الجسم (مجرَّة أو نجم أو كوكب..) هي "ضوء".. هي جسيم يسمَّى "فوتون"، ويسير بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية، فنحن بفضل الضوء المنبعث من الجسم، أو المرتد عنه، نرى هذا الجسم.

والتليسكوب يشبه "آلة الزمن" التي من خلالها نزور الأشياء (في الكون) في ماضيها، فأنت َ برويتكَ (من خلال التليسكوب) كوكباً يَبْعُد عنَّا 10 ملايين سنة ضوئية، مثلاً، تزور هذا الكوكب في ماضيه السحيق، أي تراه في الهيئة التي كان عليها قبل 10 ملايين سنة؛ وكلَّما نَظَرْتَ (عبر التليسكوب) إلى الأبعد (مكاناً) في الكون زُرْتَ الأقدم، أي الأبعد (زماناً).

ولفهم "الآن"، لجهة صلتها بـ "الماضي" و"المستقبل"، تخيَّل أنَّك تقود سيَّارة في طريق مستقيمة لا نهاية لها؛ فإنَّكَ كلَّما اجْتَزْتَ مسافة، ولو صغيرة جداً، زاد طول المسافة المُجْتازة؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ "الآن" تُسْتَنْفَد، مضاعِفَةً حجم "الماضي"، من غير أن تقلِّل حجم "المستقبل"؛ لأنَّ حجمه لا نهائي.

إنَّ "الآن" هي "لحظة قَيْد التحوُّل إلى ماضٍ، أو إلى مزيدٍ من الماضي، أو إلى الماضي الأقرب"؛ لكنَّ هذا "الماضي الجديد" لن يتحقَّق إلاَّ مع تحقُّق ما كان منتمياً إلى "المستقبل"، أي مع تحوُّل هذا الذي كان منتمياً إلى "المستقبل" إلى "حاضرٍ جديد"؛ وهذا هو المعنى المزدوج لـ "زوال الحاضر (أي لزوال "الآن")".

و"المعرفة الكونية" تظلُّ غير واضحة، يكتنفها كثيرٌ من "عدم اليقين"؛ لأنَّ جسيم الضوء هو "الفوتون"؛ و"الفوتون" لا يختلف في الخواص والجوهر عن "ضديده"، فالضوء بحدِّ ذاته لا يحيطنا عِلْماً بماهية المادة التي إليها ينتمي الجسم الذي يرينا إيَّاه، فمادة هذا الجسم قد تكون من جنس "المادة المضادة" Antimatter.

إنَّ الضوء (المرئي) هو الذي بفضله نرى الأجسام في الكون، ونستدل على وجودها، أو على أنَّها كانت موجودة؛ لكن ثمَّة نوع من الأجسام من فَرْط جاذبيته، أو لشدَّة انحناء "الزمكان (Spacetime)" الخاص به، لا يستطيع حتى الضوء، وعلى سرعته التي لا تفوقها سرعة، الإفلات من قبضة جاذبيته؛ وهذا النوع هو ما يسمَّى "الثقب الأسود" Black hole.

"الثقب الأسود"، وبحسب خواصه الفيزيائية التي يتصوَّرها، أو يفترضها، معظم الفيزيائيين الكونيين، هو أشبه ما يكون (من الوجهة الفلسفية) بـ "الشيء الكانطي (نسبةً إلى الفيلسوف الألماني كانط)"، أي الشيء الذي لن يتمكَّن العقل البشري أبداً من معرفة ماهيته.

هذا الجسم هو "الكثافة المطلقة"، المتأتية من اجتماع "الكتلة المحدودة" و"الحجم الصفري (أو المعدوم)"؛ وهو، من ثمَّ، "الانحناء الأقصى (إنْ لم يكن المطلق) للزمكان"، أو "الجاذبية التي في منتهى القوَّة والشِّدة".

وهذا إنَّما يعني أنْ لا شيء، ولو كان الضوء نفسه، والذي يسير في الفراغ بسرعة هي السرعة القصوى في الكون، يمكنه الإفلات من قبضة جاذبيته؛ والنتيجة المترتبة على ذلك هي استحالة معرفة ماهية "الثقب الأسود"، فالمعرفة هي "معلومة يحملها الضوء"؛ والضوء لا يمكنه أبداً مغادرة هذا الجسم.

لكنَّ استحالة معرفة ماهية هذا الجسم لا تعني أنَّ الاستدلال على وجوده هو أيضاً أمْرٌ مستحيل، فإنَّ تأثير الجاذبية القوية لهذا الجسم في كل ما يقع على مقربة منه من أجسام ومواد هو ما يُثْبِت ويؤكِّد وجوده.

والمعرفة الكونية تزداد تعقيداً مع افتراض أنَّ معظم المادة في الكون هو من جنس "المادة الداكنة" Dark matter. إنَّها "داكنة (أو مظلمة)"؛ لأنْ لا ضوء (ولا معلومة من ثمَّ) يمكن أن يصدر عنها؛ وهي، أيضاً، يُسْتَدلُّ على وجودها من خلال تأثير جاذبيتها بـ "المادة العادية"، وبـ "الخواص الهندسية" للفضاء.

والقسم الأعظم من "المادة الداكنة" يُوْجَد، على ما يفترض فيزيائيون كونيون الآن، على شكل "طاقة داكنة" Dark energy، يَنْسِبون إليها ظاهرة "التمدُّد الكوني"، و"تسارع" هذا التمدُّد الآن.

تخيَّل أنَّ "زُمْرة (ما) من المجرَّات" تبعد "الآن" عن كرتنا الأرضية 9000 م. لقد انطلقت منها "الآن" رصاصة (هي كناية عن الضوء) نحو الكرة الأرضية.

افْتَرِضْ أنَّ سرعة هذه الرصاصة (أي الضوء) 3000 م في الثانية الواحدة.

لو كان الفضاء ثابت الحجم، لا يتمدَّد، لوصلتنا الرصاصة بعد 3 ثوانٍ من انطلاقها؛ وسنقول، عندئذٍ، في يقين، إنَّ الرصاصة قطعت مسافة 9000 م في 3 ثوانٍ، وإنَّ تلك "الزُّمْرة من المجرات" ما زالت تبعد عنَّا 9000 م (أي أنَّها ما زالت في موقعها الكوني نفسه).

لكنْ تخيَّل الآن أنَّ المسافة التي قطعتها الرصاصة أصبحت، بسبب تمدُّد الفضاء بين النقطة (الفضائية) التي من عندها انطلقت الرصاصة وبين الكرة الأرضية، 13500 م؛ لقد ابتعدت "زُمْرة المجرَّات" عن تلك النقطة (الفضائية) 4500 م، وزادت، في الوقت نفسه، المسافة بين النقطة والأرض 4500 م، فأصبح طول هذه المسافة عند وصول الرصاصة 13500 م.

لقد سارت الرصاصة في مسارٍ (فضائي) يزداد طولاً كل ثانية؛ فهي تقترب من كوكب الأرض الذي يبتعد عنها في الوقت نفسه؛ لكنَّها وصلته أخيراً، قاطعةً في 4.5 ثوانٍ مسافة 13500 م، وليس مسافة 9000 م؛ فنقول، من ثمَّ، إنَّ "زُمْرة المجرَّات" تلك تبعد عنَّا "الآن" 13500 م (لكنَّ بُعْدها الفعلي هو 18000 م).

كان ينبغي للرصاصة أن تصل إلينا بعد 3 ثوانٍ من انطلاقها؛ لكنَّها وصلت بعد 4.5 ثوانٍ.

كان ينبغي لها أن تقطع مسافة 9000 م؛ لكنَّها قطعت مسافة 13500 م.

كان ينبغي لـ "زُمْرة المجرَّات" تلك أن تظل بعيدة عنَّا 9000 م؛ لكنَّها أصبحت تبعد عنا (لدى وصول الرصاصة) 18000 م.

في خلال 4.5 ثوانٍ زاد طول المسار 4500 م، أي أنَّ سرعة تمدُّد الفضاء كانت 1000 م في الثانية؛ وهي سرعة أقل من سرعة الضوء (أو الرصاصة) والتي في مثالنا التخيُّلي هذا تبلغ 3000 م في الثانية.

إنَّ الفضاء هو وحده (بحسب نظريات آينشتاين) الذي يستطيع أنْ يكون أسرع من الضوء في تمدُّده؛ فإذا افترضنا أنَّ الفضاء بين "النقطة" تلك وبين كرتنا الأرضية قد تمدَّد بسرعة 3500 م في الثانية (وظل يتمدَّد بهذه السرعة، أو بسرعة أكبر) فهذا إنَّما يعني أنَّ تلك الرصاصة (الضوء، أو كل تأثير فيزيائي) لن تصل أبداً إلى أرضنا.

اكتشاف وجود "سرعة قصوى" في الكون هو، بلا شك، من أهم الاكتشافات العلمية والفيزيائية الحديثة؛ و"الضوء"، أو "الفوتون" الذي هو جسيم لا يملك شيئاً من "كتلة السكون"، هو صاحب هذه السرعة القصوى، والتي مقدارها (تقريباً) 300 ألف كيلومتر في الثانية، إذا ما كان يسير في "الفراغ"، أو في ما يسمَّى "الفضاء الفارغ" Empty space.

ومع أنَّها "القصوى" فهي "محدودة (المقدار)"؛ إنَّها، فحسب، 300 ألف كيلومتر في الثانية. قد يسير الضوء في بعض أنواع المادة بسرعة أقل؛ لكنه لا يسير أبداً (في الفراغ، أو في غيره) بسرعة أكبر من 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة.

وإنَّ كل مادة تملك، ولو نزراً، من "كتلة السكون"، كجسيم الإلكترون، لا يمكنها أبداً، ومهما زيدت، أو تزايدت، سرعتها، أنْ تسير بسرعة تَعْدِل، أو تفوق، 300 ألف كيلومتر في الثانية، فالمادة التي يمكنها أن تَسْبِق الضوء لا وجود لها أبداً.

وللضوء خاصية في منتهى الأهمية هي أنَّه ما أنْ يَخْرُج من المادة (من الماء مثلاً) التي أبطأت سيره فيها، وجعلته (أي جعلت سيره) بسرعة تقل عن 300 ألف كيلومتر في الثانية، إلى "الفراغ"، حتى يَسْتأنِف السير بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية.

لكنَّ الخاصية التي تثير، أو يمكن أن تثير، الجدل والخلاف، هي خاصية "الثبات" في سرعته في "الفراغ"؛ فَلِمَ كل هذا "التعصُّب" لدى الفيزيائيين لخاصية "ثبات" سرعة الضوء؟!

وإنَّني لأرى أنَّ وجود "السرعة القصوى" في الكون لا يتعارض (ويجب إلاَّ يتعارض) مع نفي صفة "الثبات" عنها، فسرعة الضوء (في الفراغ) يمكن (وأكاد أن أقول "يجب") أن تكون "متغيِّرة (غير ثابتة)".

وأعني بـ "تغيُّرها" أنَّها كانت في ماضيها الكوني السحيق تختلف عمَّا هي الآن؛ وأنَّها، مستقبلاً، قد تختلف (أو يجب أن تختلف) عمَّا هي الآن؛ مع بقائها دائماً "السرعة القصوى" في كل المراحل العُمْرية للكون.

وربَّما نكتشف مستقبلاً قانوناً فيزيائياً كونياً، يتأكَّد فيه، ويتَّضِح، وجود صلة سببية (ما) بين "سرعة الضوء" و"سرعة تمدُّد الفضاء"، فالفضاء، وعلى ما أعتقد فلسفياً، لا يتمدَّد، ولن يتمدَّد، بما يتسبَّب بجعل بعض أجزاء الكون منفصلة (فيزيائياً) تماماً عن الكون؛ وكأنَّني أقترب من القول بفرضية مؤدَّاها أنَّ "سرعة الضوء"، وسرعة كل تأثير فيزيائي، من ثمَّ، يجب أن تتناسب مع "سرعة تمدُّد الفضاء"، إذا ما سلَّمنا بفرضية، أو نظرية، أنَّ الفضاء نفسه هو الذي يتمدَّد.

وهذا إنَّما يعني، بحسب هذا الافتراض الذي أكاد أن أقول به، أنَّ الفضاء لن يتمدَّد بسرعة تفوق 300 ألف كيلومتر في الثانية من غير أنْ يتسبَّب ذلك بزيادة سرعة الضوء، لتظل "السرعة القصوى" في الكون، وليظل الكون نفسه، وكلُّه، في وحدة فيزيائية لا انفصام فيها.

الفيزيائيون الكونيون يقولون الآن بـ "التمدُّد المتسارع (في استمرار)" للفضاء الكوني، أو، في دِقَّة أكثر، للفضاء بين "مجموعات (أو زُمَر) المجرَّات". ويترتَّب على هذا القول أنْ يسلِّموا بفرضية تضاؤل، وزيادة، تضاؤل، عدد "زُمَر المجرَّات" التي يضمها كوننا؛ ذلك لأنَّ "زُمَر المجرَّات" الأبعد تنفصل، ويجب أن تنفصل، فيزيائياً، عن كوننا (المرئي). ينبغي لهم أنْ يسلِّموا بهذه الفرضية إذا ما أرادوا لنظرياتهم الكوزمولوجية أن تظل على وفاق مع نظرية "ثبات سرعة الضوء (وثبات سرعة سائر التأثيرات الفيزيائية التي تحملها جسيمات عديمة الكتلة)".

أمَّا الأخذ بفرضية، أو نظرية، "السرعة الكونية القصوى؛ لكن المتغيِّرة"، فيسمح لنا بالقول الآتي: إنَّ أيَّ ضوء، أو تأثير فيزيائي، لم يصل إلينا بعد لا بدَّ له من أنْ يصل إلينا في آخر المطاف، ومهما طال الزمن؛ فالكون لا يمكن أن يتطوَّر بما يتعارض مع مبدأ "وحدة الكون الفيزيائية والكوزمولوجية التي لا انفصام فيها أبداً".



#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إشكالية -حُرِّيَّة الإرادة-.. إسلامياً وماركسياً!
- من نيويورك يبدأ -الربيع الفلسطيني-!
- الولايات المتحدة تكيد ل -الربيع العربي-!
- كيف نفهم -توقُّف الزمن-؟
- -حزب الله- خَلَع -الغار- ولبس -العار-!
- -الربيع العربي- في محاذيره الثلاثة!
- العبوس.. أردنياً!
- اليوم سقط ثالثهم.. وغداً رابعهم!
- نارٌ سوريَّة تُنْضِج -الطبخة الليبية-!
- -ارْحَلْ- إذ وصلت إلى -السفير- و-السفارة-!
- ما هو -الفضاء-؟
- إنَّه عدوٌّ للسوريين والفلسطينيين معاً!
- لم يَفْقِدْ الشرعية وإنَّما العقل!
- بعضٌ من أوجه المَسْخ الدِّيني للمادة
- محامون عن -جريمة حماة-!
- أزمة الإرادة الشعبية!
- -الآن- في الكون هي الماضي!
- الثورة المصرية إذ أشهرت إسلامها!
- تأمَّلوا هذه -الشعوذة الكوزمولوجية- للدكتور زغلول النجار!
- ثورات وقودها -الخوف-!


المزيد.....




- قيامة عثمان على تلفزيونك.. استقبل تردد قناة الفجر على القمر ...
- سامسونغ تكشف عن هاتفها الجديد وتقنياته الممتازة
- واتساب أعمال بميزة جديدة!.. تنزيل وتساب أعمال whatsapp busin ...
- اكتشاف مذهل: السرطان قد ينشأ دون حدوث طفرات جينية
- ماذا كشفت صور الأقمار الاصطناعية عن المقابر الجماعية في مستش ...
- غزة: ماذا نعرف عن المقابر الجماعية عند مجمع ناصر الطبي؟
- حتى يقبل جسمها كلية خنزير.. شاهد ما فعله جراحون لمريضة كلى
- تشكل بحيرات في مناطق دبي تظهرها صور الأقمار الصناعية (صور)
- استطلاع: الأهل يعانون من الإرهاق الشديد والعزلة والوحدة.. ما ...
- الصين تتهم الولايات المتحدة بتشديد العقوبات وفرض حصار تكنولو ...


المزيد.....

- المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B / أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
- ‫-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط ... / هيثم الفقى
- بعض الحقائق العلمية الحديثة / جواد بشارة
- هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟ / مصعب قاسم عزاوي
- المادة البيضاء والمرض / عاهد جمعة الخطيب
- بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت ... / عاهد جمعة الخطيب
- المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض / عاهد جمعة الخطيب
- الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين / عاهد جمعة الخطيب
- دور المايكروبات في المناعة الذاتية / عاهد جمعة الخطيب
- الماركسية وأزمة البيولوجيا المُعاصرة / مالك ابوعليا


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - جواد البشيتي - رحلة شيِّقة مع د. همام غصيب في عوالم -النسبية-!