أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جواد البشيتي - بعضٌ من أوجه المَسْخ الدِّيني للمادة















المزيد.....


بعضٌ من أوجه المَسْخ الدِّيني للمادة


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 3451 - 2011 / 8 / 9 - 13:03
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في كثيرٍ من المواقع الدينية الإلكترونية، يتوجَّه كثيرٌ من المؤمنين من الشباب إلى المفكِّرين والعلماء من رجال الدين، على اختلاف أديانهم، بالسؤال عن الأدلَّة على وجود خالِقٍ للكون، فهذا السؤال، مع السؤال عن الخالِق ذاته، يشغل تفكير كل مؤمِنٍ، أو متديِّنٍ، يريد لإيمانه، أو تديُّنه، مزيداً من الصلابة والقوَّة.

ومع أنَّ المجيبين لا يعترضون على السؤال، من حيث المبدأ، ويجتهدون في إجاباتهم، فإنَّ بعضهم ينهى عن السؤال والتفكير في الذات الإلهية ذاتها على اعتبار أنَّ ذلك لا يؤدِّي إلى نتيجة فكرية أو معرفية، فخالِق الكون ليس كمثله شيء، ولا يُمْكِن، من ثمَّ، أن تكون ذاته موضعا للبحث والتفكير والمعرفة.

إنَّني مع السؤال مهما كان، فليس من سؤالٍ محرَّم أو ممنوع؛ ولأنَّ تحريم سؤال ما، أو منعه، لا يمنع العقل من أن يظل مُلِحَّاً به؛ ولست ضدَّ أن يجيب أولئك المفكِّرين والعلماء من رجال الدين بما أجابوا به.

وعندما كنتُ صغير السنِّ، أُفَكِّرُ كثيراً في الذات الإلهية، أذْكُر أنَّني لم أسأل نفسي قط السؤال الذي يسأله كثيرون وهو "مَنْ خَلَق الله؟"؛ ذلكَ لأنَّني لم أجِدْ في هذا السؤال شيئاً من المنطق؛ لكنَّني طالما فكَّرتُ وتساءلت في صفات الذات الإلهية، والتي لا يُمْكنها أن تكون كذلك، أي صفات لخالِق الكون، إذا لم تكن "مٌطْلَقَة". وكنتُ أسأل وأتساءل عن بعضٍ من تلك الصفات، وعن صفة "القدرة على كل شيء"، على وجه الخصوص. وكان سؤالي أو تساؤلي هو: هل يكون قادرا، ما دام قادرا على كل شيء، أن يَخْلِق الأقوى منه؟!

وهل يكون قادراً، مثلا، على جَعْل حجرٍ قذفته إلى أعلى مُعلَّقاً في الهواء، فلا يسقط أرضاً؟!

وفي صفات كمثل "العادل"، "الرحيم"، "الغفور"، تساءلتُ قائلاً: كيف له أن يمارِس تلك الصفات (المُطْلَقَة) قبل خلقه الكون، أي قبل وجود كائنات (كالبشر) يكون عادلا، ورحيما، وغفورا، في معاملته لهم؟!

وهل كانت تلك الصفات "مُعطَّلة" قبل خَلْقِه تلك الكائنات؟!

ولكن، هل يجوز أن "تتعطَّل" عن العمل صفة مُطْلَقَة من صفات الذات الإلهية؟!

لِنَعُدْ إلى مبتدأ حديثنا، فيكفي ما سردت من ذكرياتي الفكرية عندما كنتُ صغير السن.

المجيبون جميعاً إنَّما أجابوا بما يكشف ويؤكِّد وجود خلل كبير في المنطق الكامن في إجاباتهم، فَهُم يتصوَّرون "المادة"، أو "الطبيعة"، على هيئةٍ، لا وجود لها في الواقع الموضوعي.

وعملاً بهذا التصوُّر، يَنْفون عن "المادة" كل خاصية أو صفة يمكن أن يقودهم نفيها إلى تأكيد وإثبات وجود خالِق للكون، فَمِنْ ذاك النفي يصنعون أدلة الإثبات والتأكيد.

هذا "التصوُّر الفاسد" يقودهم حتما إلى السؤال الآتي: "هل أوْجَدت الطبيعة (التي لا تعقل ولا تفهم..) نفسها بنفسها أم أنَّها وُجِدَت مصادفةً؟".

ثم يتساءلون قائلين: "كيف لقوى المصادفة أن تَخْلِق هذا الكون الذي هو في منتهى التنظيم؟"؛ و"كيف للمادة المنفعلة، والتي لا تكتسب كمالها من ذاتها وإنَّما من غيرها، أن تُوْجِد نفسها بنفسها؟".

إنَّ الطبيعة، على ما يقولون ويسألون ويتساءلون، فاقِدةً ذاتياً لكل قوى تَجْعَلها على ما هي عليه من تنظيم، فكيف لفاقِد الشيء أن يعطيه؟!

وإذا قُلْنا إنَّ الطبيعة أوْجَدت نفسها بنفسها فهذا إنَّما يعني، بحسب منطق تفكيرهم وقولهم، أنَّها جاءت من "العدم"، أي من لا شيء؛ لكن هل (وكيف) يُمْكِن أن يعطي العدم وجوداً؟

وهذا تساؤلٌ لهم أيضاً.

ثمَّ يتأمَّلون شيئاً بعينه (أي شيء) فيقودهم تأمُّلهم إلى استنتاج مؤدَّاه أنَّ هذا الشيء لا بدَّ له من أن يكون "محدوداً"، في مكانه، وزمانه، وفي خواصه؛ وفي وجوده على وجه العموم.

وبَعْدَ هذا الاستنتاج الذي لا ريب في صحته وصدقه يقولون: إنَّ وجود "المحدود" يُمْكِن ويجب أن يكون خير دليل على وجود "اللا محدود"، الذي هو خالِق الكون.

ويتأمَّلون أيضا "السلسلة السببية" في الطبيعة، فينتهي بهم التأمُّل إلى العثور على دليل آخر على وجود، ووجوب وجود، خالِق للكون، هو، بحسب منطق "السببية"، "العلَّة التي لا تحتاج إلى عِلَّة"، فلا يصح، في العقل والمنطق، وجود فِعْلٍ من غير وجود فاعل، فَفِعْلٌ كفِعْل بناء منزل هو خير دليل على وجود، ووجوب وجود، بانٍ لهذا المنزل.

وفي "سؤال الدهشة" الذي يجب، على ما يقولون، أن يقود إلى الإيمان بوجود خالِقٍ للكون، يُوْرِدون الآتي: سُئِل الإمام الشافعي عن الدليل على وجود خالِق للكون فقال للسائل انْظُر إلى ورقة توت ففيها الدليل الذي تسأل عنه. هذه الورقة تأكل منها دودة القز، فتخرج لنا حريراً، وتأكل منها النحلة، فتخرج لنا عسلا، ويأكل منها الإبل، فيخرج لنا لحما، فَمَن القادر على ذلك؟!

بيننا وبين الشيء حاجز معرفي هو "الصورة".. صورة الشيء التي اسْتَحْدثناها له في عقولنا، والتي من خلالها نَنْظُر إلى الشيء ونفهمه ونُفَسِّره؛ مع أنَّ الشرط الأوَّلي لمعرفة واكتشاف "الحقيقة الموضوعية" هو نَزْع تلك "الصورة" من أذهاننا، وأنْ نَنْظُر إلى الشيء، من ثمَّ، كما يَدْعونا واقعه الموضوعي إلى أن نَنْظٌر إليه.

قد أتصوَّر أنَّ هذا "الحجر" لا يُمْكنه أبداً أن يكسر لوحاً من الزجاج إذا ما قذفته به، فإذا كسره تتملَّكني الدهشة؛ لكنَّني بدلاً من أن أتخلى عن تلك "الصورة" التي ثَبُت وتأكَّد بطلانها وزيفها، أبحث عن تفسير يوافِقها، ويبقي عليها، فأتوصَّل، من ثمَّ، إلى "تفسير" من قبيل أنَّ هذا الحجر "العاجِز (ذاتياً)" عن كسر لوح الزجاج قد تمكَّن من كسره إذ استمدَّ قوَّة من غيره، الذي هو من طبيعة مثالية ميتافيزيقية.

الخلل الأكبر في تفكيرهم ومنطقهم إنَّما يكمن في "الصورة".. في صورة "المادة"، أو "الطبيعة"، التي اسْتَحْدثوها لها في أذهانهم، وشرعوا يَنْظُرون إليها من خلالها.

إذا شبَّ حريق في منزل أحدهم، ثمَّ جاء بالماء وسكبه عليه فانطفأ، فإنَّه يَفْهَم ويُفَسِّر ما حدَث على النحو الآتي: الماء بحدِّ ذاته ليس بقادِر على إطفاء النار، التي بحدِّ ذاتها لا تنطفئ إذا ما أثَّرْنا فيها بالماء.

هذه هي "الصورة الذهنية" التي من خلالها يَنْظرون إلى الماء والنار، وإلى تأثير إحداهما بالأخرى.

كان ينبغي له إذ رأى الماء تُطْفئ الحريق في منزله أن ينزع تلك الصورة من ذهنه، وأن يُفَسِّر ويَفْهَم ما حدث على أنَّه دليل، وخير دليل، على أنَّ الماء يملك من القوى والخواص ما يُمَكِّنه، إذا ما اسْتُوفِيَت بعض الشروط المادية، من أن يُطْفئ النار، وأنَّ الماء لا يُمْكنه أن يُوْجَد إلاَّ وهو مالكٌ لتلك القوى والخواص، فَلِمَ يتصوَّرون الماء تصوُّراً تؤكِّد لهم تجربتهم مع الماء، وفي استمرار، بطلان وزيف هذا التصوُّر؟!

إذا الحجر الذي قذفناه إلى أعلى سقط أرضاً قد يوافِقونكَ الرأي في أنَّ هذا الذي حَدَث مَظْهَرٌ من مظاهر عمل وفعل قانون الجاذبية؛ لكنَّهم يسرعون في العودة إلى "الصورة الذهنية (الدينية)"، فلولا "المهندس" و"المُنَظِّم" الميتافيزيقي للكون وظواهره لَمَا كان للجاذبية من وجود في هذه العلاقة المتبادلة بين الحجر والأرض!

إنَّهم يتصوَّرون وجود "مادة" مُفْرَغة (أو مجرَّدة) من قانون الجاذبية حتى يُمْكنهم أن يقيموا "الدليل" على وجود، ووجوب وجود، مَنْ أدْخَل، ووَضَع، في تلك المادة قانون الجاذبية، بأن أوْحى إليها أن تصبح مادة ممتلئة بالجاذبية!

الشيء (كل شيء) لا يُوْجَد إلاَّ إذا اكتملت أسباب وشروط وجوده؛ فإنْ هي اكتملت، ونشأ الشيء، من ثمَّ، يتساءلون في دهشة وحيرة (لا مُبرِّر لهما) قائلين: هل كان ممكنا أن يُوْجَد هذا الشيء لو أنَّ "المقدار" من هذا السبب أو ذاك من أسباب وجوده كان أقل أو أكثر؟!

إنَّ "المقادير"، و"النِسَب"، التي نراها في هذا السبب أو ذاك من أسباب نشوء ووجود الشيء، هي ما تَحْملهم على القول بوجود، وبوجوب وجود، "المُقَدِّر" الميتافيزيقي لتلك المقادير والنِسَب، وكأنَّ الشيء يُمْكنه أن يُوْجَد من غير أن يستوفي الجانب الكمِّي من سبب وجوده.. كأنَّ الماء يُمْكنه أن يتحوَّل إلى بخار إذا لم تصل درجة حرارته إلى 100 درجة مئوية!

متى يُمْكننا، وينبغي لنا، أن نقول بوجوب وجود العلَّة غير المحتاجة إلى علَّة؟

عندما نصل في "السلسلة السببية"، في الطبيعة، إلى "الحلقة (الطبيعية) الأولى"، أي إلى شيء لا يمكن أن نَعْثُر على علَّة (طبيعية) لوجوده؛ فهل وصلوا إلى شيء كهذا حتى يقولوا لنا: توقَّفوا، ها نحن بلغنا تخوم تلك العلَّة غير المحتاجة إلى علَّة!

إنَّهم لم يَسْتَنْفِدوا، ولن يَسْتَنْفِدوا، "السببية (المادية)" فَلِمَ تَعَجَّلوا في إذاعة "خبر" اكتشافهم للعلَّة التي لا تحتاج إلى علَّة؟!

حتى "المصادفة"، التي يلعنونها ويناصبونها العداء، تُفْهَم عندهم فَهْما لا وزن له في ميزان الحقيقة الموضوعية.

إذا جِئت ببذورٍ سليمة لنبتة ما، وزرعتها، مهيِّئا لها أسباب وشروط النمو، فلا بدَّ لها من أن تنمو؛ ولسوف تراها تنمو. ونموها هذا إنَّما هو "ضرورة طبيعية".

ولكن قد يَحْدُث في أثناء نموِّها أن تهبَّ ريح (غير متوقَّع هبوبها) فتقتلعها. هذا "الحادث"، أي هبوب هذه الريح، هو ما يَكْمُن فيه مفهوم ومعنى "المصادفة". وهذه "المصادفة" إنَّما هي أحد نصفي الحقيقة، ففي النصف الآخر أرى "الضرورة" في تلك "المصادفة"، فالريح ما كان لها أن تهب، وأن تؤثِّر في النبتة على النحو الذي أثَّرت، لو لم تجتمع وتتهيَّأ لها الأسباب الطبيعية لهبوبها وتأثيرها.

لقد حان لهم أن يفهموا "المصادفة"، في الطبيعة، فَهْما يقيهم سؤالاً من قبيل "هل مصادفةً جاء الكون؟".

إنَّهم يَنْظرون إلى الكون فيرون فيه "مشهد النظام"، فهذا النجم لا يصطدم بذاك..

ولو توسَّعوا في النَظَر لرأوا ما يسمُّونه "الفوضى" و"الاضطراب"، ففي مشهد كوني آخر نرى مجرة تلتهم مجرة، وجسما كونيا ("ثقب أسود") يلتهم نجماً.

رأوا "النظام"، فقالوا بوجود، وبوجوب وجود، "المُنَظِّم"، فما هو قولهم إذا ما سمحوا لأبصارهم وبصائرهم بأن ترى في الكون ما يسموُّنه "الفوضى" و"الاضطراب"؟!

وإذا كان القمر يدور حتى الآن، وكما يدور، حَوْل الأرض، وإذا كان هذا المشهد الآني، على قِدَمِه، يدعوهم إلى القول بوجود، وبوجوب وجود، "المُنَظِّم" الميتافيزيقي لدوران القمر حَوْل الأرض، فهل يستمر القمر على هذه الحال إلى الأبد؟!

"ورقة التوت" ذاتها تؤثِّر في الأشياء تأثيراً مختلفاً، يمكن ويجب أن نَعْزوه إلى اختلاف طبائع تلك الأشياء، فإنَّ "س" تؤثِّر في "ص" بما يَتَّفِق مع طبيعة "ص"، فهذا التيار الكهربائي يُعْطي "البرودة" في "البرَّاد"، ويُعْطي "الحرارة" في المدفأة. وهذا الماء الذي يسبِّب الحياة لهذه النبتة يمكن أن يُسبِّب لها الموت في ظروف مختلفة.

ليس بالأمر الذي يبعث على الدهشة أن نرى ورقة التوت حريراً في دودة القز، وعسلا في النحلة، ولحما في الإبل، فالأمر الذي يبعث على الدهشة حقاً أن نراها حريرا في النحلة، وفي الإبل، أيضا.

ليس بالأمر الذي يبعث على الدهشة أن نرى الحجر الذي قذفناه نحو السماء يسقط أرضا؛ فالأمر الذي يبعث على الدهشة حقاً أن نراه مُعلَّقا في السماء إلى الأبد.

لقد صوَّروا "المادة"، أو "الطبيعة"، تصويرا إنْ صَلُح فلا يَصْلح إلاَّ لشيء واحد فحسب هو أن يؤسِّسوا منطقا لقولهم بوجود، وبوجوب وجود، العلَّة التي لا تحتاج إلى علَّة!

"السببية" هي المبدأ، أو القانون، الفلسفي والعلمي الأهم الذي اكْتُشِفَ، والذي لَمْ يُسْتَنْفَد (ولن يُسْتَنْفَد أبداً) بَحْثاً، وفَهْماً؛ ولَمْ (ولن) تنتهِ أسئلته، والمساعي المبذولة من أجل إجابتها، إجابة موضوعية، أو إجابة مجافية مجانبة، عن عمد، للحقيقة الموضوعية، عِلْماً أنَّ كل إجابة لا تُوْلَد إلا ومعها أسئلة وتساؤلات جديدة.

وليس من مبدأ، أو قانون، حُورِبَ، وشُوِّه، كـ "السببية"؛ لأنَّها جوهر العِلْم، منطقاً، ومنهجاً، وتفكيراً، ونتائج، فالعِلْم، مع كل فكر يقوم عليه، ويَضْرِب جذوره عميقا في حقائقه، هو المِعْوَل الذي به تُهْدَم الأوثان والأصنام الفكرية، التي صنعها البشر بأيديهم، ليعبدوها، ولتستعبدهم، وهو الذي يُقلِّص، في استمرار، حُصَّة الوهم والخرافة من المعرفة البشرية، التي ستظلُّ في صراعٍ لا ينتهي بين جانبها هذا وبين جانبها الآخر المضاد وهو الحقيقة، فليس من عَصْرٍ إلا وله ما يُمَيِّزه من الحقائق والأوهام.

لقد اسْتَمَعْتُ إلى "مُفَكِّر"، معادٍ لمبدأ "السببية"، وهو يُمْعِن في هذا المبدأ مسخا وتشويها، عَبْر "فضائية" عربية. وشاهدتُ جمهور المعجبين به، وهُمْ أناس لا يملكون من الوعي إلا ما يَجْعَل لهم آذاناً لا تسمع، وعيوناً لا تُبْصِر، وعقولاً لا تَعْقِل.

هذا "المُفَكِّر"، الذي فَكَّر، فَسُمِّي مُفَكِّراً، "اكتشف" مَوْضِعاً في "أرض الفيزياء"، يَصْلُح "تُرْبةً"، يَغْرِس فيها شيئاً من بقايا الميتافيزيقيا، فَبَيْن "السبب" و"المسبَّب (النتيجة)" أقام "جِسْراً ميتافيزيقياً"، ينبغي لـ "السبب" أن يَعْبُره حتى يغدو "سبباً"، أي حتى يؤدِّي إلى ما يؤدِّي إليه. وجوهر "اكتشافه"، أو الفكرة الجديدة التي أبدعها، نَقِفُ عليه في المثال الذي أوْرَد.

لقد قال مخاطِباً جمهوره الذي يُصَدِّق؛ لأنَّه يريد أن يُصَدِّق: أُنْظُروا إلى حبَّة الأسبرين. إنَّها دواء يشفي من الصداع؛ لكن ليس دائماً، فهي إنْ شَفَت هذا من الصداع فرُبَّما لا تشفي غيره. هناك مَنْ يَعْتَقِد أنَّ تلك الحبَّة هي "السبب".. سبب الشفاء من الصداع، وأنَّ هذا الشفاء هو "النتيجة".. نتيجة تناولها. هذا وَهْمٌ، فهناك مَنْ جَعَل الشفاء في الدواء!

وتَذَكَّرْتُ لافتة، تُعلَّق في كثيرٍ من العيادات الطبية، كُتِبَ فيها ما يفيد المعنى الآتي: "العلاج" من الطبيب، و"الشفاء" من الله.

هذا هو مبدأ "السببية" في صياغته الميتافيزيقية الجديدة ـ القديمة، فثمة قوَّة ميتافيزيقية يَرْجِع إليها الفضل في جَعْل الدواء سبباً للشفاء، فحبَّة الأسبرين بحدِّ ذاتها لا تشفي من الصداع، وإنْ ظَنَّ بعضنا (وهذا الظنُّ من الإثم) أنَّها هي "سبب" الشفاء من الصداع، فهذا لا يمكنه أبداً أن يكون سبباً لذاك إلا إذا أرادت له تلك القوَّة (أي الله) أن يكون كذلك!

أنتَ، بحسب تلك الفكرة الخرقاء، تَعْطَش، فَتَشْرَب الماء، فترتوي، أي يزول عطشكَ، أو شعوركَ بالعطش؛ لكن هناك مَنْ أوحى إلى الماء أن يؤثِّر في العطشان (الذي شربه) كما أثَّر، جاعِلاً الماء، من ثمَّ، "سبباً" للارتواء، وزوال العطش، فالماء بحدِّ ذاته لا يؤثِّر أي تأثير في أي شيء.. لا يروي؛ لا يزيل العطش؛ لا يُطفئ النار؛ لا يؤدِّي إلى انحلال الملح إذا ما وَضَعْناه فيه. إنَّه بحدِّ ذاته "عديم الخواص والقوى والتأثير". إنَّ هناك مَنْ أوحى إلى الماء، أيضاً، أن يطفئ النار، وأن يَحُلَّ الملح الموضوع فيه.

هذا "المُفَكِّر" يَقْبَل العِلْم؛ على أن يَلْزَم حدوده، ويكف عن التطاول على "مملكة الميتافيزيقيا"، فـ "العِلْم" من حقِّه، بحسب شريعة هذا "المُفَكِّر"، أنْ يسأل، مُسْتَعْمِلاً أسماء استفهامٍ مثل "كيف"، و"متى"، و"أين"؛ أمَّا كلمة "لماذا" فلا يحق للعلماء استعمالها إلا إذا كانوا "علماء دين".

مِنْ حقِّ العِلْم أن يسأل، مثلا، "كيف (أو مِمَّ) يتكوَّن جزيء الماء؟"؛ ومِنْ حقِّه، أيضاً، أن يجيب قائلاً: إنَّ غازي الأوكسجين والهيدروجين (ذرَّة أوكسجين واحدة وذرَّتا هيدروجين) يتفاعلان كيميائيا، فَيَنْتُج من تفاعلهما مُرَكَّب، أو جزيء، الماء.

أمَّا "لماذا" يؤدِّي تفاعلهما، أو اتِّحادهما، إلى نشوء الماء، ولا يؤدِّي إلى نشوء "بيضة" مثلاً، فهذا إنَّما أمْرٌ يَحِقُّ لـ "علماء الميتافيزيقيا" فحسب، تفسيره، ولو كان من قبيل "تفسير الماء (بَعْد جهد) بالماء"، فثمَّة قوَّة ميتافيزيقية أرادت لاتِّحاد الأوكسجين والهيدروجين، أو لتفاعلهما الكيميائي، أن يُنْتِجَ ماءً (وليس "بيضة") فأنْتَجَ. ولو أرادت له أنْ يُنْتِج بيضة (وليس "ماءً") لأنْتَج.

تلك القوَّة، التي لا يُعْجِزها شيء، ولا تَعْجَز عن فعل أي شيء، أرادت لـ "1+1" أنْ يساويا "2"؛ ولو أرادت لهما أنْ يساويا "5" لكان لها ما أرادت!

إذا جِئْتَ بسلك نحاس، وعرَّضته للتسخين، فإنَّه "يتمدَّد"، ثمَّ "ينصهر". العِلْم اكتشف، في هذه الظاهرة الطبيعية من ألفها حتى يائها، قانونا فيزيائيا موضوعيا، مادِّياً من ألفه حتى يائه، هو قانون "التمدُّد الحراري للمعادن"، فللمعدن خاصيَّة أنَّه يتمدَّد (قبل أن ينصهر) بالحرارة. العِلْم أخضع كل معدن للتجربة ذاتها (تجربة التسخين) فاستنتج بعد ذلك، ومن خلال ذلك، أن كل المعادن تتمدَّد بالحرارة، فـ "تكرار" الظاهرة الفيزيائية ذاتها (في أمكنة وأزمنة مختلفة) إنَّما هو خير دليل على وجود قانون فيزيائي (موضوعي) يتحدَّانا أن نكتشفه، وأن نستخدمه من ثمَّ.

العالِم، أو الفيزيائي، يُخْبِرنا أنَّ "النار" تؤدِّي، حتماً، إلى تمدُّد، فانصهار، فتَبَخُّر، المعدن الذي نضعه فيها. ويُخْبِرنا، أيضا، أنَّ كل ظاهرة فيزيائية يمكن ويجب أن يتكرَّر حدوثها عندما تستوفي أسبابها وشروطها. وفي هذا يكمن مبدأ "الحتمية الطبيعية"، الذي لن تنال من قوَّته نظريات، عِلْميَّة في ظاهرها، ميتافيزيقية في باطنها.

ثمَّ يأتي إلينا "مُفَكِّر" يُمَثِّل الفكر البائس لينفث في رَوْعنا أنَّ "النار" بحدِّ ذاتها لا تؤدِّي، ولا يمكنها أن تؤدِّي، إلى "تمدُّد" سلك النحاس؛ لأنَّها، بحدِّ ذاتها، لا تؤدِّي إلى أي شيء، فالقوَّة الميتافيزيقية العليا هي التي جَعَلَت في النار تلك الخاصيَّة.. هي التي أوْحَت إلى "النار" أنْ كوني "سبباً" لتمدُّد سلك النحاس الذي وُضِعَ فيها، فكانت؛ ولو أرادت تلك القوَّة أن تَجْعَل "النار" تَنْزِل على رأس "مُفَكِّرنا" ذاك بردا وسلاما لنزلت.

لقد أدَّت النار إلى "تمدُّد" المعادن، فجاءوا بسؤالهم "لماذا أدَّت النار إلى تمدُّد المعادن ولَمْ تؤدِّ إلى تقلُّصها؟"؛ أمَّا لو كانت النار تؤدِّي إلى "تقلُّص" المعادن، لسألوا "لماذا أدَّت النار إلى تقلُّص المعادن ولَمْ تؤدِّ إلى تمدُّدها؟".

"النار"، بحسب هذا المنطق المتهافِت، شيء، وخواصُّها شيء، فثمَّة "نار" بحدِّ ذاتها، وهي نار "عديمة الخواص"، وثمَّة "نار" أُوْحي إليها أن تؤثِّر في غيرها من الأشياء تأثيراً معيَّناً، وكأنَّ الشيء، أي شيء، يمكن أن يُوْجَد، وأن تقوم له قائمة، من غير خواصه وسماته الجوهرية (التي تُمَيِّزه عن غيره).

ولو أردتُ أن أبسط لكم آراءهم لبسطتها على النحو الآتي: في البدء، كانت (أي خُلقت) النار بحدِّ ذاتها؛ وكانت لا تَحْرِق، ولا تُبخِّر الماء، ولا تُمدِّد المعادن، ولا..

كانت النار التي ليست بـ "سببٍ" لأي شيء؛ لأنْ لا وجود لـ "السبب" من غير "المُسَبِّب (الميتافيزيقي)". ثمَّ جاءت القوَّة الميتافيزيقية العليا، فأدْخَلَت في تلك "النار" إدْخالاً كل خواص النار التي نَعْرِف، فهذه القوَّة هي التي جَعَلَت "الدفء" و"الحرق" و"التمدُّد (للمعادن)".. في تلك "النار (البدائية، الأوَّلية)".

وهذا "الإدخال" لـ "خواص الشيء" في "الشيء" لا يختلف، منطقا، عن إدخال "الروح" في التمثال الطيني، فـ "الطبيعة (أو المادة)" التي قد يعترفون بوجودها إنَّما هي الطبيعة الميتة، الخامدة، الهامدة، التي ليست بـ "دينامية"، بحدِّ ذاتها، و"المُفْرَغة" من قوانينها وخواصِّها وقواها.. ومن "السببية المادية الموضوعية".

لقد شوَّهوا ومسخوا مبدأ "السببية" إذا أقاموا برزخا (ميتافيزيقيا) بين "السبب" و"المُسَبَّب (النتيجة)"، قائلين بوجود، وبوجوب وجود، "المُسَبِّب (الميتافيزيقي)" لـ "الأسباب"، وكأنَّ "النار بحدِّ ذاتها"، أي النار التي لَمْ يُجْعَل فيها بَعْد سبب التمدُّد للمعادن، هي "مسلَّمة"، ليس من حاجة إلى إثبات وجودها، أو إلى إثبات أنَّها ممكنة الوجود.

ألا يحقُّ لنا أن نسألهم: لماذا افْتَرَضتم أنَّ النار ما كان لها أن تَحْرِق إلا بَعْد أن أوْحَت إليها القوَّة الميتافيزيقية العليا أن تكون سببا للحرق؟!

أين هي النار التي إنْ وَضَعْنا فيها معدنا فلا تؤدِّي إلى تمدُّده؟!

وأين هو المعدن الذي إنْ وَضَعْناه في النار لا يتمدَّد؟!

وقبل ذلك، قطعوا "سلسلة السببية"، التي لا نهاية لها، فقالوا بشيء أوْجَدَته القوَّة الميتافيزيقية العليا من لا شيء، أي من العدم، مع أنَّ كل شيء في الطبيعة يؤكِّد لنا أن لا شيء إلا ويَنْتُج من شيء آخر، أو من أشياء أخرى.

"السلسلة" قطعوها، مع أنَّ كل شيء يتحدَّاهم أن يأتوا ولو بدليل واحد على أنَّ "العدم" كان ولَمْ يكن من شيء، أو على أنَّ "العدم" فرضية تنطوي ولو على نزر من الحقيقة الموضوعية، فـ "العدم" الذي لا دليل عليه أصبح، في منطقهم، "مسلَّمة"، مثلما أصبح مسلَّمة "الشيء بحدِّ ذاته"، أي الشيء الذي بحدِّ ذاته لا يمكنه أن يكون سببا لأي شيء.

إنَّ كل منطقهم يَصْدُر عن "مسلَّمات" يتحدَّاهم العِلْم، والواقع، والمنطق، أن يُثْبِتوها قبل أن يتِّخذوها "مسلَّمات"، وكأنَّ العِلْم "الحقيقي" عندهم هو الذي يقوم على استعمال "ما هو في حاجة ماسَّة إلى الإثبات" دليل إثبات أو نفي لغيره!



#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محامون عن -جريمة حماة-!
- أزمة الإرادة الشعبية!
- -الآن- في الكون هي الماضي!
- الثورة المصرية إذ أشهرت إسلامها!
- تأمَّلوا هذه -الشعوذة الكوزمولوجية- للدكتور زغلول النجار!
- ثورات وقودها -الخوف-!
- حاجتنا إلى الفلسفة لن تنتهي أبداً!
- إلاَّ السعودية!
- توضيح ضروري في شأن -ثبات سرعة الضوء-
- -المؤمن- و-الملحد-.. و-ثالثهما-!
- فساد ميتافيزيقي يعتري -الرياضيات الكونية-!
- مصر تَطْلُب مزيداً من الثورة!
- -ثورة- إبليس!
- كان ينبغي ل -الزيدي- أنْ يَخْرُج في استقباله!
- ردٌّ على أسئلة وتساؤلات
- لماذا نحتاج إلى تخطِّي التناقض بين نيوتن وآينشتاين؟
- ردود على ردود
- معالي الوزير.. سعادة النائب!
- في القرآن.. لا وجود لفكرة -الخلق من العدم-!
- هذه هي خُطَّة بشار للبقاء!


المزيد.....




- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال قيادي كبير في -الجماعة الإسلامي ...
- صابرين الروح جودة.. وفاة الطفلة المعجزة بعد 4 أيام من ولادته ...
- سفير إيران بأنقرة يلتقي مدير عام مركز أبحاث اقتصاد واجتماع ا ...
- بالفصح اليهودي.. المستوطنون يستبيحون الينابيع والمواقع الأثر ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جواد البشيتي - بعضٌ من أوجه المَسْخ الدِّيني للمادة