|
من دُرر المُبدعات
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 3331 - 2011 / 4 / 9 - 01:50
المحور:
الادب والفن
أبدعَ الشاعرُ حافظ إبراهيم عندما شبَّه اللغة العربية بالبحر، وشبَّه عُشَّاقها ومحبيها بالغوَّاصين فهو يقول على لسان اللغة: أنا البحرُ في أحشائِهِ الدُّرُّ كامنٌ...فهلْ ساءلوا الغوَّاص عن صدفاتي؟! لم يتمكن العربُ من استثمار قصص المبدعات العربيات في مجالات اللغة والشعر والنثر في المسرح والسينما والفنون التشكيلية المختلفة، كما فعل فنانو اللغات الأجنبية بنسائهم فخلدوا الموناليزا ببسمتها الحالمة ، ورسموا ماري أنطوانيت المبذرة الباذخة، وصوروا كاترينا الثانية الحكيمة القائدة. وظلَّتْ نساءُ العربِ المبدعاتُ حبيساتِ كتب الّلغة، يرزحن تحت الإقامة الجبرية المفروضة عليهن في قصص التراث، بحيث ظلَّ كثيرون يعتقدُون بصدق قول المستشرقين عن المرأة العربية بأنها ليست سوى أَمَةٍ أو خادمَةٍ أو سبيَّة من السبايا، ولم يتمكن أدباؤنا ومثقفونا من نفض غبار الزمن عن تراثنا الأدبي، لنقرأ عن الأديبات والشاعرات والمبدعات والقائدات العربيات وما أكثرهن، ممن شاركن في صياغة حياتنا العربية! القصة الأولى، قصة فتاة جميلة رآها الخليفة الأُموي معاوية بن سفيان عَرضا فعَشِقها من طرف واحد، ولم يسألها عن قلبها وشعورها،إنها الفاتنة الجميلة ميسونة البحدلية، تزوجها معاوية باستخدام سطوته كأمير لا يُرفض له طلب، بدون أن يعرف بأنها كانتْ تعشق ابن عمها، وتفضله على الأمير، إلى أن سمعها ذات ليلة تغني هذه الأغنية مشتاقة إلى خيمة أهلها، مفضلة حياتها الأولى على حياة قصر معاوية المنيف الفاره: وبيتٍ تَخْفَقُ الأرواحُ فيه... أحبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ ولبسِ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني... أحب إليّ من لبس الشفوف وأكلِ كسيرةٍ في حجر بيتي... أحبُ إليَّ من أكل الرغيفِ وأصواتِ الرياح بكل فَجٍّ... أحبُ إليَّ من نقرِ الدُّفوف وكلبٍ ينبحُ الطُّرَّاقَ دوني... أحبُ إليَّ من قِطٍّ أليفِ وخِرْقٍ من بني عمي ضعيفٍ... أحبُ إليَّ من عِلْجٍ عنيفِ كيف تمكنتْ هذه المقطوعة الشعرية، في تخليص معاوية بن أبي سفيان من طغيان الولاية وجبروت الإمارة فإعادته إلى إنسانيته، فور سماعه للأبيات من وراء مقصورتها، وكانت هي لا تعرف أنه يسمعها، لدرجة أنه أصدر أمرا بإعادة ميسون إلى عشيقها وخيمتها الأولى؟!! فهل يعود السبب إلى نَدَمِهِ وخطيئته في حق عاطفتها؟ أم أن السرَّ يكمن في محارة اللغة ودرَّتِها؟ أم أن السبب يعود إلى مهارة ميسون في صناعة الصدفة الُّلغوية ، بحيثُ تمكنتْ ميسون بمغزلها البدوي من نسج ثوبٍ لُغوي فائق الجمال والروعة؟ أم أن سِرَّ الجمال يكمن في موسيقى الأبيات ونغماتها السريعة الجميلة؟ أم أن لأغنيتها البديعة لونين متقابلين، العتمة والنور،الحب والكره، البساطة والتعقيد،الأفق الواسع، والسجن المعتم؟ نعم إنها بالتأكيد معجزة الدُّرَّة اللغوية العربية ومكوناتها، ففي هذه الدرة كل المكونات الجميلة، فيها أصوات اللآلئ، وصفير الرياح، فيها صورة الخيمة والعباءة وكسرة الخبز ، الممزوجة كلها بكبرياء الفتاة العربية التي تركتْ لنا مساحةً واسعةً من الظن والفكر والتخمين، لنغوص في أعماقها ، ونتوحَّد معها في ألمها وعاطفتها، ونشاطرها مأساتها ومعاناتها، مستخدمةً في نسيجها اللُّغَوي خيوطا وبرية مزركشة ، تُشكِّل لوحةً نادرة للحسناوات العربيات اللاتي لم يكتفين بجمالهن الخَلْقي، بل مزجنه بجمال إبداعي خالد! وفي بروازٍ ثانٍ للمرأة العربية المبدعة ، نضعُ صورةً أخرى لفتاة جديدة تمكَّنتْ من إقناع زوجها بخطئه في حقها، ولم تكن وسيلتها في الإقناع السطوة والقوة، ولا المالُ والحُظوة، ولا التهديد بالعشيرة والعُزوة، بل كانت وسيلتَها في ذلك كمالُ عقلها، فقد أثبَّتَتْ بأنها ليست أقلَّ من الرجل فكرا وثقافة، وليست أقلُّ منه حكمةً وفلسفة أيضا. إنها زوجة أبي حمزة الضبي، فتاة ثانية، لم يرزقها الله بغلام، فقد ولدتْ البناتٍ فقط، فهجرها أبو حمزة في خبائها وصار ينام بعيدا عنها، ولكن إبداعها الأدبي، ونبوغها الشعري أعاد زوجها إلى رشده ، عندما سمعها تُغني أغنيتها : ما لأبي حمزة لا يأتينا... يظّلُّ في البيت الذي يلينا غضبانَ ألا نلد له البنينا... فوالله ما ذاك بأيدينا ! فنحن كالأرض لغارسينا.... نُنْبِتُ ما قد غرسوه فينا! إنها اللغة أيضا، هي التي يمكنها أن تؤثِّرَ وتُغيّرَ، تُعمِّرَ وتُدَمِّرَ، وتُبَرعمَ وتُثمر، وتقود وتُسيِّر، إنها الدُّرَّةُ العربية التي تحتاج دائما إلى الغوَّاصين الأكْفاء!
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من قتل الملك داود
-
اغتيالات تكنلوجية
-
من يوميات مكتوم
-
ما سرُّ عبقرية محمود درويش؟
-
مرض القهر التراكمي
-
المستبدون في كتاب محظور
-
كاوبوي إسرائيل
-
هل سيصمد مفاعل ديمونا للزلازل؟
-
ألفية صراع الأعراق
-
من مقامات الحاكم بأمره
-
ذكرياتي مع العقيد
-
قانون حنين زعبي وعزمي بشارة
-
حكام بعقود
-
تحليل إسرائيلي 2011/2/12
-
أركاننا وأركانهم
-
بكائية على أطلال الإعلام
-
أمراء التطهير العرقي
-
وداعا مائير داغان
-
هههههه
-
ترسانة التربية والتعليم
المزيد.....
-
فيلم -معركة تلو الأخرى-.. دي كابريو وأندرسون يسخران من جنون
...
-
لولا يونغ تلغي حفلاتها بعد أيام من انهيارها على المسرح
-
مستوحى من ثقافة الأنمي.. مساعد رقمي ثلاثي الأبعاد للمحادثة
-
جمعية التشكيليين العراقيين تستعد لاقامة معرض للنحت العراقي ا
...
-
من الدلتا إلى العالمية.. أحمد نوار يحكي بقلب فنان وروح مناضل
...
-
الأدب، أداة سياسية وعنصرية في -اسرائيل-
-
إصدار كتاب جديد – إيطاليا، أغسطس 2025
-
قصة احتكارات وتسويق.. كيف ابتُكر خاتم الخطوبة الماسي وبِيع ح
...
-
باريس تودّع كلوديا كاردينال... تكريم مهيب لنجمة السينما الإي
...
-
آخر -ضارب للكتّان- يحافظ في أيرلندا على تقليد نسيجي يعود إلى
...
المزيد.....
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
المزيد.....
|