أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - مذهب الضربات الوقائية والعقلانية في النظام العالمي















المزيد.....


مذهب الضربات الوقائية والعقلانية في النظام العالمي


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 991 - 2004 / 10 / 19 - 09:00
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تخيم الانتخابات الأميركية على الذكرى الثالثة ليوم 11 ايلول الذي دشن انعطافا حادا في تاريخ العلاقات الدولية والنظام العالمي. ابرز ملامح هذا الانعطاف هي ما يسمى أميركيا الحرب ضد الإرهاب أو الحرب العالمية الرابعة.
لماذا الرابعة؟ لا يهم إن كانت رابعة أو ثالثة، المهم أنها حرب، وأنها تندرج ضمن تحقيب حربي للتاريخ، وضمن نزعة مركزية أميركية لا تختلف عن المركزية الأوربية إلا بارتدائها لباس الميدان. لكنها بالفعل عالمية، العالم كله مسرحها والعالم كله مطالب باتخاذ موقع منها وفيها.
وايا تكن نتيجة الانتخابات الأميركية بعد عدة أسابيع من اليوم، فإن ما سيترتب عليها من تغير محتمل في السياسة الأميركية سيكون ادنى بما لا يقاس من التغير الذي أحدثه 11 ايلول. فالحدث تأسيسي ومستمر، وقد تبنين في مذاهب وأجهزة وقوانين وتفضيلات سياسية واستعدادات نفسية، ليس من المتوقع أن تمسها المنافسات الانتخابية ولا تبدل الإدارات المحتمل في المستقبل المنظور.
يتخذ هذا المقال من مذهب الضربات الاستباقية الذي تبنته إدارة الرئيس بوش في أيلول 2002 نقطة استدلال للنظر في أسس النظام الدولي الواقعية والفكرية، ومحاولة لتحديد موقعنا الراهن وآفاقنا المأمولة في عالم اليوم.


تأسس مذهب الضربات الاستباقية على افتراض أن العدو الجديد، "الإرهاب"، يفتقر إلى العقلانية ولا يستند إلى حساب عقلاني لميزان القوى حين يقرر الضرب. ومن وجهة نظر الثقافة السياسية الأميركية والغربية، وهي الثقافة التي تأسس عليها النظام القانوني الدولي، تبدو هجمات 11 أيلول مستحيلة ثقافيا قبل أن تكون مدانة أخلاقيا وصعبة التخيل تقنيا وغير مبررة سياسيا. وهي من باب الاستحالة هذا مقلقة جدا. فهي غير عقلانية لأنها ترفض حساب المردود (الواقع أنها تدمج عناصر فوق عقلانية في حسابها: الاستشهاد والثواب..). وهذه عناصر لا تدخل في حساب الأفراد والدول والجماعات في الغرب.
كان رد الفعل الأميركي الأول هو العجز عن الفهم، وهو عجز لا يعود إلى جهل بمنفذي الاعتداء وتاريخهم فقط، ولا إلى انحياز "حضاري" أميركي متأصل ضد العرب فقط، ولكن أيضا إلى الطابع العجائبي والخيالي للفعل. وإذا كنا نحن العرب نستغرب ما ينطوي عليه الفعل من تصميم ومن حقد دفين، ونندهش لشيطانية التخطيط الكامن وراءه، فإنه يمتزج في استغراب الأميركيين له فعاليته الرمزية (قلق الخصاء)، وطابعه الملحمي، وجذريته القتالية، وجسارته المطلقة، وعبقرية التخطيط والتنسيق الكامنة وراءه لتحقيق غاية تدميرية، وبالخصوص ما ينطوي عليه من كراهية فائقة. إنه بالفعل حدث فاتن (مغو ومثير للشقاق)، وموضوع للتأمل لا يكاد يستنفد.
ومن يلجأ إلى هذا النوع من السلاح المطلق، استخدام الجسد كقذيفة (قامت الطائرات بدور غلاف القذائف ومسرعها ومصدر فتكها)، يستهين بالقوة ولا يبالي بأي تحليل عقلاني لميزان القوى. وإنه لمصدر إضافي للقلق أن صفة السلاح المطلق التي لم تكن تمنح إلا للسلاح النووي معرضة للإلغاء بفضل القذيفة - الجسد، وهو ما يهدد بانكشاف أمني غير مسبوق لأميركا والغرب.
لا تتساءل الثقافة السياسية الأميركية عما إذا كان اليأس من تعديل ميزان القوى هو الدافع وراء الخروج على منطقه العقلاني، لا تتساءل أيضا عما إذا كانت هناك علاقة بين استحالة الحرب (بين الدول) وبين اللجوء إلى "الإرهاب" (من قبل أطراف دون الدولة)، ولا عن العلاقة بين استنفار عقلانية متعالية ولا جدوى العقلانية المشتركة. وإذ هي تفترض أن اللاعقلانية سبب الضعف، فلن تتساءل عن سبب اللاعقلانية (الجواب الرائج اليوم هو "الحضارة"، مقلصة بدروها إلى نواتها الدينية)، ولا بالخصوص عن احتمال أن تكون العلاقة معكوسة، اي أن يكون الضعف هو سبب اللاعقلانية.
ولد مذهب الضربات الاستباقية ليرد على التحدي الإرهابي غير العقلاني وليسكن القلق الثقافي والأمني اللصيق به، وذلك في سياق عملية إعادة هيكلة السياسة الدولية للولايات المتحدة بعد 11 ايلول. لكن شرط إمكانه هو القدرة الأميركية الفعلية، تقنيا وعسكريا واقتصاديا، على ضرب أي خصوم محتملين وسحقهم. وإلى جانب فكرة الضربات الاستباقية تضمنت إعادة الهيكلة المذكورة تغليبا للنزعة الانفرادية أو أحادية الجانب على تعددية الأطراف والعمل من خلال المنظمات الدولية. وتشكل الضربات الاستباقية مع النية المعلنة بالحفاظ على التفوق العسكري الأميركي على أي خصوم محتملين ركنا ما يعرف بمذهب بوش.
ولا يبعد أن يكون المذهب قد وضع بمثابة تسويغ قبلي للحرب على العراق التي حسم قرارها في الفترة نفسها (ايلول 2002 أيضا)، وتعويضا عن افتقار تلك الحرب إلى أدلة مقنعة تبررها. فما لا تبرره الأدلة المتوفرة يحتاج إلى مذهب كامل.

تفكيك مذهب توازن القوى
كان توازن القوى حجر الأساس في تنظيم العلاقات الأوربية في القرن التاسع عشر والدولية بعد الحرب العالمية الثانية. لكن يجب القول إنه في الحالين توازن على مستوى القمة وحدها: بين القوى الأوربية في القرن التاسع عشر، وبين المعسكرين الرأسمالي الغربي والشيوعي الشرقي في القرن العشرين. ويتضمن هذا الأساس ذاته افتراضا مضمرا ينص على أن الأطراف المشاركة في النظام تقرأ الوقائع قراءة متماثلة أو متقاربة، بحيث أن أيا منها لن يستخلص من الوقائع المعنية دروسا مناقضة لما يحتمل أن يستخلصه الآخرون. ومن هذا الباب ينطوي كل تحليل يقوم على فكرة توازن القوى على عنصر تفاؤلي، بل طوبى تفاؤلية. فهو يتضمن طبقة أولى من الافتراضات ترى، أولا، أن العقل التحليلي هو القاسم المشترك الأعظم بين الناس؛ وتسلم، ثانيا، أن إمكانية نشوب النزاعات تقل حتى الصفر وفرص حلها تكبر حتى اللانهاية بقدر ما تتجه العلاقة بين الأطراف نحو التوازن.
لكن العنصر التفاؤلي مغروس في تربة تشاؤمية. فالمشكلة أن نعم للتوازن باتت تعني بالضرورة نعم للقوة، وأن ضبط القوة لم يعدد ممكنا بغير قوة موازنة. إنه سباق لا ينتهي.
وهناك بعد طبقة افتراضيات أعمق مستمدة من المذهب النفعي الذي يشكل عنصرا أساسيا في بنية الثقافة الغربية الحديثة، والذي ينص على أن الهدف العقلاني لكل سلوك فردي (والفرد هو الحقيقة القياسية في هذا المذهب) هو أكبر قدر من السعادة (وهذه تأخذ شكل متع قابلة للقياس الكمي حسب جيرمي بنتام) وأقل قدر من الألم؛ وهو مذهب يستبطن بدوره عملية العلمنة الفعلية للحياة في الغرب الصناعي والراسمالي وتراجع وزن الدين في توجيه سلوك الأفراد والأمم.
هذا المذهب لا يزيل أية نزعة بطولية لكنه يجري تحولا عميقا عليها: إن البطل هنا هو ليس المضحي بحياته أو الشهيد بل الرائد في أي ميدان علمي أو أدبي أو تقني، هو الفاتح أو المؤسس. إن علمنة البطولة هي وجه من وجوه العلمنة الشاملة للحياة الفردية والجمعية. وعل عملية العلمنة هذه تلقي ضوءا على اختلاف مفهوم الشجاعة بين المجاهدين الإسلاميين وبين أعدائهم من الجنود الإسرائيليين والأميركيين.
ومن المناخ الفكري للقرن التاسع عشر تسرب إلى نظرية العلاقات الدولية ما يشبه نظرية اليد الخفية في الاقتصاد الكلاسيكي، اي افتراض تحقق المنافع للجميع إذا سعى كل منهم وراء مصالحه الخاصة الأنانية فحسب. فالميزة التي ينالها أي طرف (دولة) تتعلق بقدرته على حيازة قدر من القوة أكبر مما يناله الآخرون، الذي سيضطرون إلى مجاراته إن شاؤوا الحفاظ على موقعهم ومصالحهم. ويشكل الموقع الذي يحتله كل طرف في نظام توازن القوى، ومذهب توازن القوى ذاته القائم على افتراض عقلانية مرجعية مشتركة بين الجميع، أساسي نظام من العلاقات يشمل الأطراف جميعا.
وأعمق من كل هذه الافتراضات الضمنية هناك افتراض مؤسس ينص على أن فرص كل من حيازة القوة واكتساب العقلانية ممنوحة للجميع بلا أدنى عوائق، وبالخصوص ليس هناك دول أو أطراف تعوق اكتساب دول واطراف أخرى للقوة والعقلانية. وهذا الافتراض مؤسس على النموذج الليبرالي التنافسي لاقتصاد السوق الحر. فاليد الخفية لا تعمل إذا كانت هناك تدخلات "خارجية"، أي من خارج العملية الاقتصادية الليبرالية المحكومة بمبدأ "دعه يعمل" وحده. وقد كان المذهب الليبرالي تسجيلا لأمر واقع في أوربا القرن التاسع عشر، العصر الذهبي للمنافسة الحرة، لكنه لم يعد كذلك في عصر الامبريالية والحرب الباردة وصولا إلى ايام "الحرب العالمية الرابعة" التي نعيشها اليوم. فالنظام الدولي اليوم، وبصرف النظر عن أي نقاش حول الامبريالية والاحتكارات، قائم على احتكار صريح للقوة يبعده عن النموذج التنافسي ويده الخفية وعقلانيته المرجعية المتاحة بالتساوي لجميع الأطراف.
تعود الأصول الحديثة لمذهب توازن القوى، كأساس للنظام الدولي، إلى نظام الوفاق الأوربي التالي لمؤتمر فيينا الذي تلا بدوره هزيمة نابليون عام 1815. ومن أهم علائم سياقه التاريخي تقارب القوى الأوربية الأساسية، أكثر فأكثر، في تأويل الوقائع، واشتراكها في فهم متماثل للقوة. إذ رغم أنها لم تكن متكافئة التطور وقتها، فقد كانت منخرطة في ديناميكية تاريخية واحدة، أثمرت خلال ما لا يزيد عن نصف قرن عن كوكبة من الدول- الأمم، اقتصادها رأسمالي، نخبها القائدة عقلانية على العموم، ومجتمعاتها المدنية تشترك في نزعة دنيوية تعكس تطابق أو تقارب فكرة هذه الدول الأمم عن نفسها مع واقعها المعاين. إن العلمنة وجه اساسي في هذه السيرورة التي كانت تسمى: التقدم.

تفجر نظام التوازن الدولي
في أوربا ذاتها مثلت النازية مشكلة مقلقة في بدايات الثلث الثاني من القرن العشرين بسبب عقيدتها اللاعقلانية ونزعتها الحربوية المتأصلة التي لا تبالي إلا تكتيكيا ووقتيا بقاعدة توازن القوى، وتطيح بإمكانية تكون نظام دولي على أساسها. وكذا كانت الشيوعية السوفييتية (كعقيدة وليس كسياسة فعلية) مشكلة لهذا المذهب السياسي الواقعي في بعض الأوقات، بسبب نزعتها الثورية المضادة للأمر الواقع وتصورها المختلف للتقدم. لكن المشكلة الأكبر ستمثلها حركات التحرر الوطني بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم "التنظيمات الإرهابية" بعد نهاية الحرب الباردة.
المشكلة التي تطرحها هذه الأطراف الجديدة والمستجدة أنها أضعف بكثير من أن يلائمها القبول بتوازن القوى كأساس للنظام الدولي، وهي كذلك أضعف بكثير من أن ترى في عقلانية ميزان القوى شيئا غير إيديولوجية تسوغ سيطرة محتكري القوة. وقد تفجرت هذه المشكلة بالفعل بعد عقدين أو ثلاثة من نهاية الحرب العالمية الثانية حين تبين أن طريق التقدم ليس متاحا للجميع، وأن فرص السيادة وحيازة القوة ليست موزعة بالتساوي على جميع الدول. وخلافا لقراءة غربية مهيمنة، ليست هذه الأطراف قليلة العقلانية لأنها تصدر عن مواريث وثقافات و"حضارات" مختلفة عن التراث والثقافة الغربية أو معادية لهما، بل إن عجزها عن الاندماج في النظام الدولي من موقع فاعل هو الذي يجعلها، أو بالأحرى يجعل أطرافا من مستوى ما دون الدولة فيها، تجد النظام الدولي القائم على توازن القوى غير مقبول وغير عقلاني. وهو بالفعل غير مقبول وغير عقلاني: غير مقبول لأنه يتجاهل ضعف القادمين الجدد في عالم مؤسس على القوة ويعتبر الضعف عاهة وعارا، وغير عقلاني لأنه يتغافل عن حقيقة ان حاجتهم إلى القوة مطلب حيوي للتوازن العالمي نفسه.
والمشكلة في الواقع ناجمة عن عدم ملاءمة قاعدة توازن القوى بين الدول لتأسيس النظام العالمي إثر دخول عدد كبير من الفاعلين الجدد نادي الدول السيدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. هذه الدول الجديدة تعيش تناقضا ممزقا: فهي مبرمجة بحكم مفهومها كدول سيدة على السعي وراء حيازة القوة ومراكمتها، لكنها ممنوعة بحكم ما سيسمى في زمن الحرب الباردة بالاستقطاب الدولي من امتلاك القوة الذاتية. ففي ظل نظام القطبين ستستخدم هذه الدول لضبط لعبة التوازن على مستوى القمة. ولذلك ستستفيد من تحويلات قوة، على شكل اسلحة وخبراء ودعم دبلوماسي ومساعدات اقتصادية من هذا القطب او ذاك، بما يحافظ على التوازن بين الجبارين.
والولايات المتحدة، وليس هؤلاء الفاعلين، هي الذي ستتخلى بعد نهاية الحرب الباردة عن قاعدة التوازن، وذلك عبر التحول الامبراطوري (احتكار القوة والشرعية) وتبني سياسات نشطة لمنع تبلور أقطاب قوة جدد ولمعاقبة من لا ينضبط بالشريعة الامبراطورية. كانت السياسة الأميركية (والغربية) متناقضة على الأقل: فهي مؤسسة على القوة، لكنها لا تتيح للدول الضعيفة فرصة أن تنمي قواها وتعدل الميزان شيئا فشيئا. بمعنى آخر، إن عقلانيتها في التعامل مع الدول الجديدة منقوصة أو هي عقلانية محافظة. فهي تقبل بمتغير القوة مقياسا لتفاوت مواقع الدول في النظام الدولي، لكنها تستغل قوتها بأشكال متنوعة لإبقاء بعض الدول ضعيفة. إنها بعبارة أخرى تجمد الدينامية الدولية بما يبقيها في موقع امتيازي ويغلق آفاق تقدم دول أخرى.
وهكذا لم تعد ثمة عقلانية مرجعية يمكن للأطراف أن تتفاهم وتتفاوض على ارضيتها وتستند إليها في شرح مطالبها وهواجسها.
وبينما كانت فرصة عقلنة النظام العالمي مرتبطة بدعم الغرب القوي والمتقدم للدول الضعيفة من أجل إنقاذها من "الفشل"، ودعم سيادتها لتشارك في العقلانية المرجعية للنظام، فإن التعامل التمييزي مع مختلف دول العالم هو المسؤول الأول عن حالة الفوضى العالمية الراهنة، وذلك عن طريق: (1) التسبب بوجود "دول فاشلة" عاجزة عن الحرب، علما أن من يعجز عن الحرب يعجز في ظل هذا النظام عن السياسة أيضا (ولعل "الإرهاب العربي" متولد عن هذا العجز المزدوج عن الحرب والسياسة)؛ وتاليا (2) عبر تقويض أية قاعدة مطردة وقابلة للتعميم لاستقرار النظام الدولي. هذا يجعل استيعاب منطق النظام وتوقع مساراته ضربا من ضروب التنجيم. إن عالما أقل توازنا هو عالم أقل عقلانية بالضرورة.
والمقلق اليوم هو دخول عناصر قربى ثقافية ودينية و"حضارية" في ترتيب العلاقات الدولية وتوزيع القوة والضعف على الدول. إن هذا الميل الزبوني في العلاقات لدولية لن يفضي إلى مفاقمة اللاعقلانية والفوضى في النظام الدولي فحسب، بل إن من شأنه كذلك تطبيع الحروب الدينية والعرقية في عالم يزداد تشابكا.

قواعد مضادة!
ماذا بدلا عن مذهب توازن القوى الذي تفجر في نهاية الحرب العالمية الثانية وحل محله توازن الرعب على مستوى القمة الدولية؟ ولدت نهاية الحرب الباردة مذهبا، وولد 11 ايلول مذهبا آخر: نظرية "صراع الحضارات" ومذهب الضربات الاستباقية. وكلا المذهبين أميركي، الأمر الذي ربما يقول لنا شيئا، لا عمن يهيكل العالم فقط بل من يقترح نماذج لتفسيره أيضا.
بيد أن هذين المذهبين، كما سنرى للتو، يمثلان رفضا تحكميا لأية قاعدة أكثر مما هما محاولات للبحث عن قواعد جديدة. لكن بينما يتيح رفض القانون أن تديم الولايات المتحدة أسبقيتها غير المقيدة في مجال القوة، فإن هذا الرفض ذاته يحت القدرة القيادية للدولة الأعظم. فالقيادة قوة وشرعية، أو سلطة و"دستور"، وإلا لكان كل طاغية قائدا لشعبه.
لا تصلح نظرية هنتنغتون قاعدة للنظام الدولي. فنظرية "صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي" (وهو العنوان الكامل لكتاب هنتنغتون) تدخل عاملا غير عقلاني وغير قابل للتعميم، هو "الحضارة"، وهو عامل يجعل "الصدام" أساساً للنظام الدولي من جهة، ويرتب الصدام ترتيبا محتوما على اختلاف الحضارات من جهة أخرى، لكنه لا يفسر لنا لماذا العلاقة بين بعض الحضارات أشد عدائية من بعضها الآخر. أما مذهب الضربات الاستباقية فينفض اليد مقدما من أية مسؤولية عن لا عقلانية العدو، ويكتفي بإبادة "الإرهابيين". بل إن هذا المذهب يجعل لاعقلانية العدو خصيصة ذاتية له يحملها معه أينما ذهب، إنها علة ذاتها. وبدلا من محاولة تفسير هذه اللاعقلانية يكتفى بوصف العدو بأنه شرير، وربما يشتق شره من "حضارته". وتشكل الأخلاقوية (مبدأ "الوضوح الأخلاقي" الخاص بالرئيس بوش) أرضية لتشريع مذهب الضربات الاستباقية، بقدر ما هي بحد ذاتها "ضربة استباقية" ضد أي تحليل عقلاني للإرهاب والعنف السياسي.
على أن المحدد الأساسي لمذهب الضربات الاستباقية هو، في تقديرنا، التأثير المفسد لفائض القوة غير المسبوق الذي تتمتع به الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة. فالقوة تصنع مذاهبها وعقلانيتها وأخلاقيتها. والقوة التي لا تقف بوجهها قوة أو قوى موازنة تنمو نموا سرطانيا قد يقضي في النهاية على صاحبها نفسه. (هل هذا رجم بالغيب؟ ربما. لكن ليس ثقل الحاضر ومجد المنتصرين أفضل من ينبغي استشارته لتقدير اتجاهات عالم اليوم).
كان لمبدأ توازن القوة على الصعيد الدولي والمنظمات الدولية متعددة الأطراف التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية مفعولا مقاربا لمبدأ انفصال السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية من حيث الحد من توسع السلطة وتركيزها، وضمان الحقوق الليبرالية للأفراد، وصولا إلى ديمقراطيات دولة الرفاه في النصف الثاني من القرن العشرين في الغرب. من المفهوم، لذلك، أن اختلال التوازن الدولي أفضى إلى سلطة عالمية تنزع نحو الدكتاتورية حتى في تعاملها مع حلفائها، ونحو تطبيع الضربات الوقائية حيال أي خصوم محتملين.
ولعل ما يؤكد أن مذهب الضربات الاستباقية يدين لحالة اختلال التوازن الجذرية في النظام هو أننا نجدها كممارسة لا كنظرية ومذهب في غير منطقة وفي غير مرحلة الحرب الباردة، وبالخصوص في "الشرق الأوسط". فقد اعتمدت إسرائيل منذ إنشائها ممارسة الضربات الاستباقية لإجهاض أي خطر عربي مقدر، سواء كانت حوامله دولا أو منظمات أو أفرادا (علماء فيزياء نووية مثلا). وهي تستند في ذلك إلى قوتها المتفوقة بالطبع، لكن كذلك إلى اعتبار عدم الاعتراف العربي بها ثم باحتلالها أراضي عام 1967 شيئا غير عقلاني بل مستحيلا.
واعتمدت المبدأ نفسه جميع الدول العربية في تعاملها مع خصومها السياسيين في الداخل، وأحيانا في الخارج. وكما وجهت إسرائيل ضربة استباقية إلى المفاعل النووي العراقي عام 1981 (كمثال واحد بين عشرات)، كان نظام صدام حسين (كمثال بين عشرات أيضا) يسدد ضرباته الاستباقية إلى خصومه السياسيين في العراق وخارج العراق. وتصدر هذه السياسة هنا أيضا عن فارق القوة المطلق بين الطرفين كما عن اعتبار أنظمتنا الحاكمة أن أي اعتراض عليها هو خروج على العقل والمنطق معا. ومن الطريف المأساوي أن المعتقلين السياسيين يسمون في بعض الدول العربية "موقوفين احترازيين"، رغم أنهم يمكن أن يقضون عقدا أو عقودا من السنين في السجن، لا مجرد أيام.
والخلاصة أن مذهب الضربات الاستباقية يؤسس للسلطة التحكمية وغير الشرعية، سواء على الصعيد العالمي أم الإقليمي أم المحلي.
ولعل عبارة الضربات الاستباقية بحد ذاتها تعطي فكرة دقيقة عن النظام العالمي اليوم. فالحديث عن ضربات (استباقية) يوجهها طرف محدد، لا عن حرب (استباقية) بين طرفين، لا يضمر غياب التوازن بين الطرفين فقط بل غياب الطرف الآخر ذاته. وما يغيب بغياب الطرف الآخر هو الطرف الأول: فهو يكف عن كونه طرفا ليصبح هو الحكم والسلطة الشرعية. هذا هو معنى الامبراطورية. والامبراطوريات وحدها هي التي توجه الضربات الاستباقية. ومن يحدد أن الاستباق ضروري أو واجب؟ إنه بالطبع القوي القادر على الضرب. هذا يمنح القوي العقل والعدل معا، ويضع الشرعية والسلطة في يد واحدة. وليس هناك، فيما نعلم، تعريف للدكتاتورية يتفوق على توحيد ومركزة السلطة والشرعية في اليد ذاتها.
إن عصرا من التحكم والعسف ينسبط امام عالم مطلع القرن الحادي والعشرين.

نافذة للطوبى
ما نريده ختاما هو أن القوة لم تعد تصلح أساسا لتوازن النظام الدولي. فحيث القوة ثمة الامبراطورية واللاتوازن بالضرورة، وحيث التوازن ثمة عالم ما بعد القوة. بعبارة أخرى فات وقت تأسيس التوازن على القوة. وهو ما يعني الحاجة إلى مفهوم جديد للتوازن يتسع للتعدد والوحدة العالمية في الوقت نفسه: لتعدد لا ينزلق إلى الفوضى ولوحدة لا تنزلق نحو الطغيان الامبراطوري. هذه هو الأفق الذي تقمع استكشافه عقيدة القوة والتفوق الامبراطوري.
لعل الأمر الأكثر إلحاحا على الصعيد الفكري إعادة ترتيب العلاقة بين مفاهيم القوة (السلطة) والعقلانية والشرعية. وبالخصوص تأسيس الشراكة العالمية على شرعية لا تنفي العدالة وليس على عقلانية شكلية وأداتية. العالم مكون من اطراف فاعلة ومتفاعلة، من ذوات مقابل ذوات، وليس من ذوات ومواضيع أو أدوات. ولا ينبغي لتقادم مفهوم السيادة، التعبير السياسي عن تكافؤ "ذوات" العالم، أن يحرر العلاقة بين الذوات من أي شكل اشكال التكافؤ. إنه دافع، بالأحرى، للسعي وراء تعاقد عالمي جديد وعدالة عالمية جديدة.
لقد دفع انفصال العقلانية عن الشرعية نحو فهم أداتي للعقلانية، إي إلى تسخير العقلانية لخدمة القوة أو السلطة. وبالمقابل دفع حلم القوة إلى طرد الطوبى من آفاق التفكير والسياسة كأنها روح شريرة.
لكن "حين تجف الواحات الطوباوية، تنتشر صحراء من التفاهة والحيرة" في الوعي والاجتماع الإنساني كما يقول هابرماز بحق. وهناك ما هو أسوأ أيضا: فطرد الطوبى لم يقد إلى العقلانية بل إلى احتلال تحكم الأقوياء وأصوليات من كل الأنواع نوافذ العالم.
لقد انتقل نظام القوة بمنطقه الذاتي من التوازن الأوليغارشي إلى التحكم الامبراطوري. إن رؤية لعهد من الديمقراطية العالمية هي وحدها التي يمكن أن تمنح للعالم أفقا ولإرادة الحرية فرصة جديدة.
دمشق 9 /2004



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فليستقل مدير عام مؤسسة الاتصالات!
- الجامعات الأسيرة صورة عامة للحال الجامعية السورية
- على أثر العاديين ...في شاتيلا
- في ذكرى اعتقال رياض سيف: احتجاج على شركتي الخليوي
- ما العمل إن لم يكن لمفاوضة الطالبان ومقاتلي الشيشان بديل؟
- نظام الهيمنة وإصلاح العلاقة السورية اللبنانية
- السوريون والمسالة اللبنانية: أسرار الصمت
- الرغبة في تقديس حكامنا؟!
- أدونيس يهدر فرصة أن يبقى ساكتا
- الجفاف السياسي يجعل المجتمع سهل الاحتراق
- حوار حول بعض قضايا الحاضر السوري
- شكوى من فخري كريم وتوضيح من ياسين الحاج صالح
- سنوات الأسد الثاني الأربعة وتحدي -الاستقلال الثاني- لسوريا
- عرب وأميركيون وديمقراطية
- إعادة هيكلة الوعي القومي الكردي
- حظر الأحزاب الكردية ونزع مدنية المجتمع السوري
- المسألة الأميركية في النقاش السوري
- عن الحياة والزمن في السجن - إلى روح الصديق المرحوم هيثم الخو ...
- ماذا فعلتم بجمعيات الأكراد؟
- المثقفون وقضية امتهان الإنسان


المزيد.....




- انجرفت وغرق ركابها أمام الناس.. فيديو مرعب يظهر ما حدث لشاحن ...
- رئيس الوزراء المصري يطلق تحذيرات بشأن الوضع في رفح.. ويدين - ...
- مسؤولون يرسمون المستقبل.. كيف ستبدو غزة بعد الحرب؟
- كائن فضائي أم ماذا.. جسم غامض يظهر في سماء 3 محافظات تركية و ...
- هكذا خدعوهنّ.. إجبار نساء أجنبيات على ممارسة الدعارة في إسطن ...
- رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز يقرر البقاء في منصبه
- هجوم إسرائيلي على مصر بعد فيديو طريقة تدمير دبابة -ميركافا- ...
- -حتى إشعار آخر-.. بوركينا فاسو تعلق عمل وسائل إعلام أجنبية
- أبراج غزة.. دمار يتعمده الجيش الإسرائيلي
- مصر.. تحركات بعد الاستيلاء على أموال وزير كويتي سابق


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - مذهب الضربات الوقائية والعقلانية في النظام العالمي