أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - ياسين الحاج صالح - الجامعات الأسيرة صورة عامة للحال الجامعية السورية















المزيد.....


الجامعات الأسيرة صورة عامة للحال الجامعية السورية


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 982 - 2004 / 10 / 10 - 10:15
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    


في عام 1959 رفض رئيس جامعة دمشق، الدكتور احمد السمان، ان يسجل صدام حسين طالبا فيها لأنه لا يملك الثبوتيات اللازمة. ولم يستطع عبد الحميد السراج، رجل سوريا القوي أيام الوحدة مع مصر، ثنيه عن موقفه. وقتها انتقل صدام الهارب من العراق إثر محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم إلى مصر حيث الجامعات اقل استقلالية لينال من هناك شهادة الحقوق.
قبل ذلك، وفي بداية الخمسينات كان لحزب البعث العربي حضور مميز في أوساط المدارس وجامعة دمشق، إلى درجة ان نظام الدكتاتور أديب الشيشكلي منع في بداية عام 1952 إضرابات الطلاب والمدرسين وحظر مساهمتهم في المظاهرات والنشاط السياسي كوسيلة للحد من نمو الحزب، قبل أن يشمل بإجراءاته القمعية الحزب نفسه، ثم يردفه بالأحزاب الأخرى جميعا، بعد ان كان ابتدأ بحظر حزب الإخوان المسلمين والحزب التعاوني الاشتراكي.

الاعتقال مستتب
... وفي 24 نيسان من عام 2004 اعتقل في دمشق 11 طالبا جامعيا، خمسة من جامعة حلب وستة من جامعة دمشق. وبعد أسبوعين افرج عن تسعة منهم فيما أحيل الباقيان إلى محكمة أمن الدولة فائقة الشهرة. وقد وقع الاعتقال على خلفية خشية الجهات الأمنية المقررة من اتساع قاعدة النشاط العام في الوسط الجامعي بعد أن شهدت جامعة حلب عاما نشيطا يذكر، وإن من بعيد، بعام 1979-1980، آخر ذرى النشاط الطلابي المعارض والمستقل. كانت ذروة النشاط الحلبي اعتصام الطلاب في 25 شباط احتجاجا على المرسوم رقم 6 الذي يخلي الدولة من التزامها بتوظيف الراغبين من خريجي كليات الهندسة. وكان هذا الالتزام قد واكب ما دعي بسياسة الاستيعاب، اي قبول حائزي الثانوية العامة جميعا في الجامعات السورية. وقد استهدفت هذه السياسة وقتها احتواء طلاب الجامعات وضمان ولائهم لنظام الرئيس حافظ الأسد.
كان المرسوم رقم 6 قد صدر بالأسلوب الارتجالي المعتاد: دون تدرج ودون أية إجراءات تصحيحية تعدل من آثاره. لقد رأى فيه الطلاب بحق تبرعا مجانيا للبطالة التي لا تشكو من قلة صفوفها أصلا. وهو، قبل ذلك، تخل من طرف واحد عن التزام تعاقدي بضمان العمل لخريجي الهندسة، دون تنازل مقابل عن الامتيازات السياسية البعثية، ودون الإقرار بحق المتضررين في الاحتجاج والتنظيم والتعبير عن النفس، بل ودون ان يكون عنصرا في سياسة تحرير اقتصادي متكاملة.
ووجه الاحتجاج الطلابي وقت وقوعه بقمع معتدل. وكان اللافت أن جهات حزبية هي التي تولت فض الاعتصام وقمع الطلاب. فقد ضرب الطلاب البعثيون زملائهم، ثم جرجروهم غصبا، طلابا وطالبات، إلى مقر فرع الجامعة لحزب البعث، قبل أن يسلموا إلى مخفر شرطة قريب حيث أطلق سراحهم. وبقدر ما كان اعتصام 25 شباط مثالا باكرا على الاحتجاج الاجتماعي ضد مخاطر البطالة، فإن توسيع الاحتكار القمعي ليشمل البعثيين يعطي مؤشرا أول على نوعية القمع الذي يمكن ان يتعرض له مثل هذا الاحتجاج. وينبغي لذلك ان يكون مقلقا وأن ينظر إليه كلعب خطير وغير مسؤول بالأوضاع الجامعية والعامة في البلاد. فالتساهل في نثر القمع في المجتمع من العوامل المزعزعة للسلم الأهلي والمؤهبة لتكون سلطات وعدالات وبؤر عنف مستقلة تعمل لحساب القائمين عليها. وإذا بادر كل مسؤول حزبي أو محلي إلى فتح مقاولة قمعية عندما يرتأي فلن يكون المستقبل مبشرا. من المفترض، على كل حال، أن لا يتوافق نثر العنف مع وجود فائض من الأجهزة المختصة بالوظيفة القمعية.
بيد أن توسيع الاختصاص القمعي ليس بدعة جديدة. لقد سبق له أن سار يدا بيد مع اتساع القاعدة المقموعة أو المستهدفة بالقمع. وأصوله تعود إلى فترة اواخر السبعينات ذاتها التي شهدت اشكالا متنوعة، لم تكن كلها عنيفة، من الاحتجاج الاجتماعي. ودلالته اليوم لا تختلف عن دلالته بالأمس: هيمنة قوى ووعي ما دون الدولة على الدولة، وتشكيلها للدولة على صورتها ومثالها، واستعدادها غير المحدود لنثر العنف وتوزيعه، ما يشكل نقيضا تاما للمفهوم الفيبري للدولة كاحتكار للعنف المشروع. هنا سر التوافق بين أجهزة مختصة بالقمع وبين بقاء الباب مفتوحا امام احتمال تلزيمه لوكالات قمعية مستقلة.

اغتيال الجامعة
إن ما ما نسميه اغتيال الجامعة في سوريا يعود إلى تلك الأيام.
تم الاغتيال بوسيلتين: الأولى هي سياسية الاستيعاب الشمولية، والثانية هي الاحتلال الحزبي والمليشاوي والأمني للجامعة (إطار الإحالة في هذا المقال هو جامعة حلب أواخر السبعينات حين كان كاتب هذه السطور طالبا).
زامنت سياسة الاستيعاب السورية طفرة التعليم الجامعي العالمية في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، أو تأخرت عنها قليلا. لكنها اعطت ثمارا مناقضة تماما لما أعطته هذه السياسة في جنوب شرقي آسيا وامريكا اللاتينية، دون أن نتكلم عن أوربا الغربية والولايات المتحدة. فقد تسبب اندراجها ضمن طفرة في القمع السائل والهيكلي (إحكام تنظيمات الشمولية) في تجريدها من المضمون الديمقراطي المحتمل كما من الثمار العلمية والتنموية المفترضة.
كانت سياسة الاستيعاب عنصرا من عناصر سياسة ضبط اجتماعي طموحة ومتعددة الوسائل وواسعة المدى. ففي أواسط السبعينات استوردت سوريا من كوريا الشمالية منظمة طلائع البعث. وفي الوقت نفسها تحولت منظمة اتحاد شبيبة الثورة من منظمة للشبان البعثيين إلى منظمة إلزامية للمراهقين والشبان السوريين جميعا. كذلك شُدَّ وثاق "الاتحاد الوطني لطلبة سوريا" إلى الحزب الحاكم بقدر ما شد وثاق الحزب والإدارة والمجتمع ككل إلى الوظيفة الأمنية التي شهدت ازدهارا جهازيا غير مسبوق. وبموازاة توطين تنظيمات الشمولية هذه جرت عملية شخصنة، غير مسبوقة هي الأخرى للسلطة، وتمت محورة السياسة والإعلام والثقافة والتعليم حول شخص الرئيس حافظ الأسد.
إلى ذلك فقد نظر إلى استيعاب حائزي الثانوية العامة في الجامعات من وجهة نظر خطاب "المنجزات" و"الانتصارات" لا من وجهة نظر حاجات التنمية او مقتضيات العدالة والمساواة بين السوريين. ومن الطبيعي والحالة هذه أن يكون المردود المأمول للاستيعاب هو ما يدره من شرعية علجلة وفورية على النظام، لا ما يعود به آجلا على المجتمع السوري من كوادر وكفاءات وعلماء، أو ما يؤمنه للفئات الدنيا من فرص لتحسين مواقعها في النظام الاجتماعي.
الهاجس الذي يحكم خطاب المنجزات والتكوين السياسي المنتج له هو الكم والحجم (اللامتناهي السيء بلغة هيغل) وليس النوعية ولا الأمثلية. لذلك لم يكن من الغريب أن تزامنت سياسة الاستيعاب مع تدن سريع في المستوى العلمي والتعليمي والمعنوي للجامعات. وابرز مجالات التدني هو العملية التعليمية ذاتها التي أخذت تعتمد التلقين والحفظ، ثم اختلال العلاقة بين الوظيفتين التعليمية (طلاب واساتذة ومعيدون...) والإدارية لمصلحة الأخيرة، ثم إقحام وظيفة سياسية وحزبية طارئة تتدخل بين أطراف العملية الجامعية، ثم اختلال العلاقة بين الطلاب أنفسهم نظرا لمرورها الإجباري عبر اقنية هذه الوظيفة الأخيرة وملحقها النقابي (اتحاد الطلبة).
باختصار، أخضعت العملية الجامعية لمعايير خارجية، وخسرت الجامعة استقلاليتها، وتدهور أداءها العلمي والمدني معا. ويتكثف هذا الخسران المضاعف، رمزيا، في اسمي الجامعتين اللتين تأسستا بعد "الحركة التصحيحية": جامعة تشرين في اللاذقية 1972 وجامعة البعث في حمص 1979.
بفضل الاستيعاب الارتجالي (والاختراق الأمني والحزبي) تضخم جسم الجامعة كثيرا، بينما كان رأسها يضمر إلى أن باتت عمليا دون رأس ذاتي. التعويض المعتاد هو رأس ضخم غير ذاتي: قسم خاص بالطلاب في كل فرع أمني، وفرع لحزب البعث في الجامعة يراقب النشاط السياسي للطلاب؛ كذلك ستنشط فروع الأمن في تجنيد عملاء لها بين الطلبة للوشاية بزملائهم وكتابة التقارير عنهم. والطلاب الوشاة هم الذين ينالون الأفضلية في السكن الجامعي وفي الإيفاد إلى الخارج، أوربا الشرقية بالخصوص.
والخلاصة ان سياسة الاستيعاب كانت عنصرا في عملية الضبط الاجتماعي الشمولي وليست خطوة نحو دمقرطة التعليم أو حفز التنمية أو تحقيق العدالة الاجتماعية. الجامعة هي أحد حيزات هذه العملية فحسب.

طفرة في عسكرة الجامعة
انطلقت عملية عسكرة الجامعة في أواسط السبعينات حين خصص للطلاب الذكور غير المعفيين من خدمة العلم يوم من 6 ساعات في الأسبوع لمادة اسمها "التدريب العسكري الجامعي"، إضافة إلى معسكر صيفي لمدة أسبوعين. ولم تكن تنقص النظام البلاغة العقيدية التي تمتح من ثقافة الطوارئ لتسويغ العسكرة، بل ولتخوين كل من قد ينتقدها. ففي البدء كانت عسكرة الثقافة. وقد مثلت الخطوة التمهيدية على درب عسكرة المجتمع السوري والاستيلاء على وعيه. وكان التجريم المعنوي والثقافي للمعترضين على العسكرة أو لخصوم النظام هو التمهيد الضروري لسحقهم. وينبغي القول إن النقد الديمقراطي للعسكرة والشمولية لم يكن موجودا وقتها. وقد كانت الأحزاب والإيديولوجيات السورية جميعا تشارك في ثقافة سياسية طوارئية وحربية ومعادية صراحة للديمقراطية. وحين بدات عملية إعادة اعتبار للديمقراطية كان المجتمع السوري والسياسة والثقافة والعلم والقانون قد فقدت جميعا اي اعتبار.
شارك تيار العنف الإسلاموي بدءا من أواخر السبعينات في اغتيال الجامعة، وذلك باتخاذها ميدان مواجهة عسكرية مع نظام متمرس بالقوة ولا ينضبط بحد. كان ذلك التيار يسعى إلى تعطيل العملية الجامعية في حلب من باب تحدي النظام وإظهار عجزه عن ضمان سير الحياة الطبيعية في المدينة. ولم يمتنع تحقيقا لهذا الهدف عن القيام بتفجير في كلية الزراعة، ومحاولة إدخال متفجرة أخرى إلى الكلية ذاتها في ربيع عام 1980.
وفرت أمثال هذه الأعمال مناخا مناسبا لتحقيق قفزة نوعية في عسكرة الجامعة واختراقها كما سنرى.
سجل صيف عام 1980 قفزة في العسكرة وفي الهستيريا الطوارئية. فقد احتلت الدبابات الجامعة، وتم تشكيل فصائل طلابية مسلحة من البعثيين، وأجرى طلاب وطالبات بعثيون دورات قفز مظلي، وتمت تربيتهم على أن "الثورة" ثورتهم وأن عليهم واجب حمايتها من الأعداء الداخليين. مقابل ذلك نالوا امتيازات سلطوية ومادية وتعليمية على زملائهم. وبدء من ذلك العام ايضا صار الطالب البعثي أو الشبيبي ينال بضع درجات إضافية تخوله الدخول إلى كليات لا تؤهله لها إمكانياته العلمية. والواقع ان الامتياز كان فاحشا في بداية الثمانينات إذ كان يمنح البعثي، والمظلي بخاصة، حق الدخول إلى اية كلية بصرف النظر عن درجاته في الثانوية العامة.
في الوقت نفسه كان مئات الطلاب يعتقلون بتهمة الانتماء إلى الإخوان المسلمين. لكن تبين أن الاعتقال يفتح الشهية. إذ لم تلبث السجون أن فتحت فاها وابتلعت ألوف الشبان السوريين من مختلف المنابت الإيديولوجية والمشارب السياسية، وكان لها اليد العليا في الفجوة الجيلية التي تعاني منها سوريا اليوم. ولهذه الفجوة الفضل الأول في شيخوخة الأحزاب السياسية السورية المعارضة. لقد تحقق للنظام انتصار مهول لم تقطف كل ثماره المشؤومة بعد.
كانت الشراسة والتصميم والتلقين العقيدي الذي يزور الوقائع وينفي الجذر السياسي لأزمة الثمانينات، إضافة إلى تعميم الخوف وتحويله إلى نظام شامل، كان كل ذلك في أساس استبطان البعثيين لعقيدة ان البلد لهم وحدهم والجامعة جامعتهم هم. وإنما على هذه الخلفية امكن لطالب بعثي أن يتحمس في ضرب زملاءه إثر اعتصام 25 شباط الماضي، ويعلن لهم إن "الجامعة للبعثيين، واللي ما عاجبه يكش لبرّا". (الواقع أن هذه العقيدة عممت على السوريين جميعا، وأعدمت كل رواية منافسة. فقبل ايام قليلة فقط استطاع شخص، عيّن في منصب نقيب المهندسين بعد حل مجالس النقابات المهنية المنتخبة واعتقال أعضائها في ربيع عام 1980، أن يقول إن مجزرة تدمر... "شائعة").

"غريزة أساسية"
تعضى الموقف من الحراك الاجتماعي المستقل في عقيدة واجهزة واستعداد نفسي، وامسى غريزة اساسية للنظام.
وعلى هدي هذه الغريزة اعتقل طلاب الجامعة في الربيع الماضي، وعلى هديها أحيل محمد عرب ومهند الدبس إلى محكمة أمن الدولة، وعلى هديها ايضا قرر مجلس جامعة حلب "رد التظلمات التي قدمت احتجاجاً على القرار 1575 والذي تضمن فصل 5 طلاب فصلاً نهائياً و2 لمدة عام على خلفية أحداث (25 شباط) والتي شهدت اعتصاماً سلمياً مطلبياً هو الأول من نوعه وذلك احتجاجاً على المرسوم6 السيئ الصيت والذي أنها التزام الدولة بتوظيف خريجي كليات الهندسة في مؤسساتها"، حسب بلاغ عممته "لجنة الدفاع عن الطلاب المفصولين من جامعة حلب" في 5/9/2004. وعلى الهدي نفسه رفعت لجنة الانضباط في جامعة حلب عقوبة أحد الطلاب من الفصل عاما واحدا إلى الفصل النهائي من الجامعة، وفصلت طالبا إضافيا عاما جامعيا واحدا. اللجنة الطلابية المذكورة محقة في رؤية هذه التوجهات المتشددة "استمرارا للنهج الأمني والسياسة القمعية التي ترى فيها السلطة في سورية أداة للتعامل مع كل حراك مدني مستقل يخرج عن نطاق سيطرة مؤسساتها التي سيطرت عليها السياسات الأمنية والقمعية ذاتها بما فيها الاتحاد الوطني لطلبة سورية".
اليوم، وبعد 30 عاما على تدشين سياسة الاستيعاب و25 عاما على القضاء على بقايا الاستقلال الجامعي تتواتر المؤشرات على أن السلطات تنظر إلى الجامعات العامة كعبء ترغب في إنزاله عن كاهلها. فقد تم خفض نسبة القبول في الجامعات العامة بنسبية 5% فيما رفعت نسبة المقبولين في التعليم الموازي بنسبة 15%. ويقول الأستاذ الجامعي عمر شابسيغ الذي أورد هذه الأرقام إنه لا يعرف ما المقصود بالتعليم الموازي (نشاركه الجهل طبعا)، لكنه يخمن أنه الجامعات الخاصة(د. عمر شابسيغ: أزمة التعليم العالي في تفاقم مستمر. نشرة "كلنا شركاء" الإلكترونية، 8/8/2004).
وهكذا تنتقل الجامعة من كونها مركزا لإنتاج الولاء لا يختلف عن غيره إلى كونها عبئا اقتصاديا أثقل حتى من غيره من معامل وشركات القطاع العام. المشترك بين الاثنين هو أولوية الكسب العاجل. تنتقل الجامعة السورية من ذاك إلى هذا دون أن تمر بمفهوم الجامعة كفسحة للعلم والحرية، ولا حتى بمفهوم الجامعة التنموي الذي يراها كاستثمار استراتيجي يتقدم على كل ما عداه. وهناك في رأيي عنصر ظلامي معاد للجامعة للعلم كمنهج استقصاء متجرد وكمصدر لسلطة مستقلة وكاساس لاستقلال مهني ومادي، في موقف نخبة السلطة السورية هذا. ولعل نظرة سريعة إلى أصول وتكوين هذه النخبة تكفي لتفسير موقفها من الجامعة. إن عالمها هو عالم أعظم كسب في اسرع وقت، وشعارها شعار محدثي النعمة في كل حين: كل شيء، وفوراً.

الجامعة لا تجمع!
سار نزع السياسة من الجامعة يدا بيد مع نزع العلم منها، وكانا وجهين لعملية واحدة: نزع استقلالية الجامعة وجعلها مركزا لإنتاج الولاء. وبينما يمكن من حيث المبدأ أن يمنع الطلاب من العمل السياسي وأن ترتفع السوية العلمية للجامعة، فإن أولوية الولاء و"الأمن" والتبعية قد فرغت الجامعة من كل ما ينبض بحياة مستقلة، علما ام سياسة ام ثقافة أم محض تفاعل مستقل بين الطلاب. كانت النتيجة اغتيال الجامعة كمركز لتأهيل سلطة اجتماعية مستقلة وإفقادها شخصيتها وطابعها والتماع الروح الشابة فيها.
حياة الجامعة هي استقلالها. واستقلال الجامعة بشؤونها ومعايير أدائها وشرعيتها الخاصة مشروط، في الحالة السورية، باستقلالها عن أية سلطة خارجية وشرعية خارجية (بالمقابل الاستقلال عن يتأسس على الاستقلال بـ). إذ لا يمكن للجامعة أن تنتج سلطتها الخاصة بينما هي مستتبعة لسلطات أمنية وحزبية وإيديولوجية تتعارض مع مفهومها ومعيارها الذاتي.
والصلة وثيقة في نظرنا بين عجز الجامعة عن توحيد الطلاب وبين انعدام شخصيتها وضياع استقلالها. فالجامعات السورية تمثل معرضا لانقسام الطلاب على اسس مناطقية ومذهبية وإثنية ودينية. بل لعلها معرض مبالغ فيه للانقسام بدلا من أن تكون إطارا للمشاركة والتعارف والاختلاط بين الطلاب. وهنا يجد القانون العام تصديقه: إن النزع الوسواسي للسياسة من المجتمع السوري قد أفضى إلى تسييس شامل لكل شيء، اي إلى تعميم للنزعة الانقسامية. ولو دققنا في الأمر نتبين ان أصل النزعة الانقسامية في الجامعة وفي المجتمع السوري هو إصرار السلطة أن تشرف على التفاعلات الاجتماعية جميعا وأن تكون الممر الإلزامي لكل أشكال التواصل بين السوريين. بعبارة اخرى إنها تحتل الموقع الذي يمكنها من التحكم بعمليات التوحيد والتقسيم، الدمج والعزل، موقع الممسك بالبلاد واهل البلاد. وبالطبع لا يمكنها ان تحتل هذا الموقع إن كان المجتمع أو الجامعة متماسكين ذاتيا. إن المجتمع الممسوك والجامعة الممسوكة نتاجان سياسيان وليسا معطيين سوريين طبيعيين.
والخلاصة أن الجامعة تعجز عن توحيد الطلاب لأنها فاقدة للتماسك الذاتي وللدينامية الذاتية وعاجزة عن إنتاج هوية طلابية متميزة.

تحرير الجامعة
الحاجة ماسة اليوم إلى مفهوم جديد للجامعة وإعادة ترتيب العلاقة بين العلم والسياسة فيها.
النقطة الأساسية هنا هي الفصل بين السياسة والدراسة داخل الجامعة، أعني الامتناع عن النشاط السياسي في قاعة الدرس، وهو ما يستدعي التمييز القاطع بينها وبين الحرم الجامعي. لا سياسة ولا حرية في قاعة الدرس، كما لا "أمن" ولا "حزب" في الحرم الجامعي. هذا التمييز ضمانة للحريات الجامعية واستقلال الحرم الجامعي، ومن شأن الخلط بينهما أن يفتح الباب أمام اشكال الاختلاط الأسوأ القائمة الآن. إن استقلال قاعة الدرس بالعلم يؤسس لاستقلال الجامعة عن السلطة وللحريات الجامعية عموما.
ولا جدال في ان البعد التنموي سيكون قويا في اي مفهوم جديد للجامعة السورية. وبغياب بيروقراطية وطنية كفؤة وقادرة على التخطيط الاستراتيجي، ودون سوق نشطة للعمل والإنتاج تقدم طلباتها إلى الجامعة، فإن تنشيط البعد التنموي سيمر على الأرجح باستعادة الكرامة الجامعية وارتفاع مستوى التاهيل العلمي للجامعيين السوريين.
إن جلاء الأمنيين من الحرم الجامعي وحظر دخولهم إليه، وكذلك حظر امتلاك حزب البعث أو أي حزب بالطبع مقرات ومكاتب في الجامعة، وتحرير حق الطلاب في تشكيل جمعياتهم ونواديهم وملتقياتهم، هي إجراءات لا بديل عنها لإحياء الجامعة في سوريا. ومن وجوه العملية الإحيائية ذاتها ضرورة إخراج طلاب المدراس من التنافس السياسي، وهو ما يقتضي إلغاء عاجلا لمنظمة طلائع البعث. ومن وجوهها المهمة مفهوم جديد للسياسة والعمل السياسي. فمن الملح أن تتحرر الأحزاب السياسية من المفهوم الانتهازي للسياسة الذي يجعل منها منافسة وحشية لا تحكمها أية مبادئ للفوز بالناس والمواقع والقيم المادية والمعنوية. لقد ورثنا هذا المفهوم عن مرحلة الخمسينات حين كانت العلاقات بين الأحزاب السياسية حربا باردة على غرار ما كانت العلاقات بين القطبين المسيطرين على العالم. وهو أيضا المفهوم الذي تربى عليه حزب البعث ومأسسه في كل من "الجبهة الوطنية التقدمية" والسجون. وهو كذلك المفهوم الذي جعل احتلال الجامعة طبيعيا واعتقال الطلاب طبيعيا والتعذيب طبيعيا.
تصفية الحساب مع هذا المفهوم تحرر الحياة السياسية من خطط الاستئصال وعقائده وإغراءاته، وتحرر الجامعة من ضغوط وتجاذبات ممزقة، لتستطيع ترميم استقلالها وتطوير وظائفها العلمية والمدنية.
دمشق 17/9/2004



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- على أثر العاديين ...في شاتيلا
- في ذكرى اعتقال رياض سيف: احتجاج على شركتي الخليوي
- ما العمل إن لم يكن لمفاوضة الطالبان ومقاتلي الشيشان بديل؟
- نظام الهيمنة وإصلاح العلاقة السورية اللبنانية
- السوريون والمسالة اللبنانية: أسرار الصمت
- الرغبة في تقديس حكامنا؟!
- أدونيس يهدر فرصة أن يبقى ساكتا
- الجفاف السياسي يجعل المجتمع سهل الاحتراق
- حوار حول بعض قضايا الحاضر السوري
- شكوى من فخري كريم وتوضيح من ياسين الحاج صالح
- سنوات الأسد الثاني الأربعة وتحدي -الاستقلال الثاني- لسوريا
- عرب وأميركيون وديمقراطية
- إعادة هيكلة الوعي القومي الكردي
- حظر الأحزاب الكردية ونزع مدنية المجتمع السوري
- المسألة الأميركية في النقاش السوري
- عن الحياة والزمن في السجن - إلى روح الصديق المرحوم هيثم الخو ...
- ماذا فعلتم بجمعيات الأكراد؟
- المثقفون وقضية امتهان الإنسان
- حول مفهوم اليسار الديمقراطي وسياسته
- غاية الإصلاح: إبدال نظمنا الكاملة بنظم ناقصة


المزيد.....




- بوركينا فاسو: تعليق البث الإذاعي لبي.بي.سي بعد تناولها تقرير ...
- الجيش الأمريكي يعلن تدمير سفينة مسيرة وطائرة دون طيار للحوثي ...
- السعودية.. فتاة تدعي تعرضها للتهديد والضرب من شقيقها والأمن ...
- التضخم في تركيا: -نحن عالقون بين سداد بطاقة الائتمان والاستد ...
- -السلام بين غزة وإسرائيل لن يتحقق إلا بتقديم مصلحة الشعوب عل ...
- البرتغاليون يحتفلون بالذكرى الـ50 لثورة القرنفل
- بالفيديو.. مروحية إسرائيلية تزيل حطام صاروخ إيراني في النقب ...
- هل توجه رئيس المخابرات المصرية إلى إسرائيل؟
- تقرير يكشف عن إجراء أنقذ مصر من أزمة كبرى
- إسبانيا.. ضبط أكبر شحنة مخدرات منذ 2015 قادمة من المغرب (فيد ...


المزيد.....

- فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال ... / المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
- الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري ... / صالح ياسر
- نشرة اخبارية العدد 27 / الحزب الشيوعي العراقي
- مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح ... / أحمد سليمان
- السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية ... / أحمد سليمان
- صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل ... / أحمد سليمان
- الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م ... / امال الحسين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - ياسين الحاج صالح - الجامعات الأسيرة صورة عامة للحال الجامعية السورية