|
الجفاف السياسي يجعل المجتمع سهل الاحتراق
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 920 - 2004 / 8 / 9 - 09:40
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
كان ثمة دائما أحزاب وتنظيمات تناهض نظام الحكم القائم في سوريا، لكن في السنوات الأخيرة فقط أخذت تلك القوى تعي نفسها عبر مفهوم المعارضة. يعكس دخول هذه المفهوم إلى التداول تحولا في الحقل السياسي السوري وفي الثقافة السياسية للنخب السورية في آن معا. ففي نهاية العقد الأخير من القرن السابق، وقد وافق المرحلة الأخيرة من حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد وخروج أعداد كبيرة من المعتقلين السياسيين من السجون، تحقق شيئان: الأول نيل أحزاب معارضة عانت من قمع قاس واستئصالي شرعية أمر واقع يصعب إلغاؤها (الوجه الآخر لذلك ضعف شديد لتلك الأحزاب)؛ الثاني تحول تلك الأحزاب ذاتها من منهج إسقاط السلطة إلى منهج الإصلاح، ومن ثقافة الانقلاب إلى ثقافة المعارضة وتداول السلطة. وحتى حين عاد الكلام عن التغيير بعد اصطدام الروح الإصلاحية بصخرة الرفض الرسمي، تصور المعارضون التغيير على أرضية الإصلاح لا على أرضية الاستيلاء على السلطة. فقد بدا أن الإصلاح غير ممكن دون تغيير سياسي، وأن هذا، تاليا، مطلب إصلاحي. لكن تحول وعي أحزاب وتيارات متنوعة لذاتها كمعارضة إصلاحية كان أيضا وعيا لأزمة متعددة الوجوه: أزمة دور اجتماعي وأزمة فاعلية سياسية وأزمة جاذبية ذاتية. بعبارة اخرى حضرت المعارضة وحضرت معها الأزمة، ولم نكد نشرع بالكلام على معارضة حية حتى أخذنا نتكلم عن تأزمها وتعثرها( نجد تعبيرا مبكرا عن أزمة المعارضة السورية في ملف خاص نشر في جريدة "النهار" البيروتية في ايار وحزيران 2002). ولعل الجوانب المختلفة لأزمة تلك الأحزاب والتنظيمات الداعية للإصلاح والتغيير والديمقراطية تعكس في جانب أساسي منها التحول العسير وغير المكتمل من نظام الطليعة والبديل والانقلاب أو إسقاط السلطة أو الاستيلاء عليها (وقد كان النظام المهيمن في وعي وتكوين النخب السورية، قومية ويسارية وإسلامية) نحو نظام المعارضة والإصلاح وتداول السلطة. وبينما يبدو من السهل التفريق بين النظامين، وبينما يمكن لأي ناشط سوري اليوم ان يتعرف على التمييز بينهما في خبرته الشخصية، فإنه لم يجر نقاش فعلي مهما يكن نطاقه حول هذا التحول. لعلنا لا نهدر جهدا، إذن، بالمزيد من توضيح الفرق. إن مفهومي إسقاط السلطة والمعارضة لا ينتميان إلى عالم واحد أو إلى ثقافة سياسية واحدة. فحيث نتحدث عن إسقاط السلطة لا يمكن أن نفكر بأنفسنا كمعارضة، وبالعكس حيث ندرك أنفسنا كمعارضة فإن منهاجنا وهدفنا ليس إسقاط السلطة. بالمقابل ينتمي نهج إسقاط السلطة إلى عالم مدركات مثل الطليعة الثورية والبديل والتناقض التناحري، والمفهوم المطلق للوطن أو الأمة، والفئة الناجية والجاهلية، وإكسسوارات الحزب الواحد جميعا. بينما ينتمي مدرك المعارضة إلى ثقافة سياسية مكونة من أفكار مثل التعددية والحلول الوسط والتسوية والتفاوض والقانون والحقوق والنسبية. والمفارقة الحقيقية هنا أن السلطة في سوريا تنتمي إلى عالم الإسقاط والاستيلاء وثقافة الانقلاب وليس إلى عالم تداول السلطة وثقافته. إن المعارضة رغم كل نواقصها وضعفها اقرب إلى الثقافة التعددية لكنها تصطدم بسلطة تقوم على الاحتكار والاستيلاء على الأراضي الاجتماعية كافة ولا تكف عن إسقاط من قد تعتبرهم خصوما. وهذا ما يقوي الأصوات الانقلابية في الطيف المعارض، ويضعف التحول المنسجم نحو ثقافة سياسية ديمقراطية. ومنذ الان يلاحظ المتابع انتشارا متزايدا لمزاج انقلابي، هائج ومتوتر، مضاد للسلطة والمعارضة والسياسة معا، في أوساط كانت على هامش التنظيمات التي ناهضت العهد السابق في الربع الأخير من القرن العشرين. ولا يغير من ذلك أن تكون انقلابية اليوم بنت زمانها وبيئتها: فمن غير المحتمل أن تكون عسكرية يقوم بها ضباط طامحون، أو ثورية يلعب الدور الأساسي فيها حزب او نخبة عقائدية؛ إن صورتها المرجحة احتلالية من النمط الذي شهدناه في العراق، أو مخابراتية يقوم بها سياسيون مغامرون ووكلاء مخابرات أجنبية ومجموعات داخلية متطرفة وتآمرية ومعادية للسياسة. لكن لسنا هنا في معرض رصد هذا التحول المهم الذي يتخلق في عتمة تلافيف المكبوت السوري. في الحقل السياسي السوري ثمة مشكلات عيانية ترتبط بانبثاق المعارضة من الطليعة على الصعد السياسية والتنظيمية والنفسية والفكرية، وبالخصوص في ظل تعرض كل اشكال العمل العام المستقل لكل أشكال التضييق والاضطهاد من قبل أجهزة السلطة. فتحول حزب معارض نحو تنظيم تعددي في داخله ومفتوح على خارجه خطر حقيقي في ظل الحيوية لامتجددة لـ "مؤسسة" الاعتقال السياسي. ومن الصعب جدا إغلاق باب الانقلاب أو إسقاط السلطة دون فتح باب تداول السلطة أو التوجه نحوه في المجتمع والحياة السياسية. وليس غير الشخصية ذات البعد الواحد، المتمركزة حول عقيدتها الوحيدة الصحيحة، تنمو في ظل شروط تدفع نحو العمل السري وترفع الطلب التعبوي. ومن الناحية الفكرية فإن ضبط الطوبى المطلقة وشعشعة الاعتقادية المتشددة بالشك والنسبية عسير دون حرية الرأي والتعبير. لكن مقابل هذه الصعوبات والمخاطر، بات الحزب السري، العقائدي، الانقلابي، الرسالي، شيئا من الماضي، شيئا رجعيا بالفعل، لا يغري إلا أوساطا ضيقة. وكما قد نتوقع تندرج أزمة في أزمة أوسع في ازمة السياسة في سوريا. فالنظام السياسي لا يعترف بالشعب سياسيا، اي لا يعترف بحريته السياسية وبحقه في التعبير عن الرأي والتجمع والاعتراض والاحتجاج وإنتاج واستهلاك الأحزاب السياسية. لا يزال نمط إنتاجنا السياسي، إن صح التعبير، يقوم على احتكار المبادرة العامة وتحريم العمل السياسي المستقل، بل ومنع اي شكل من اشكال النشاط الجمعي المستقل حتى لو كان بلديا أو ثقافيا. والمقر الوحيد المعترف به اليوم للوطنية هو السلطة وليس الشعب، ومن الطبيعي أن تكون لذلك وطنية إيديولوجية ودولانية و"أوامرية" وليست وطنية اجتماعية ومدنية واستيعابية. والقصد ان أزمة المعارضة السياسية هي أزمة السياسة في مجتمع منكفئ على ذاته (أو ذواته المتعددة) ونظام حكم مضاد للسياسة. دون ماء سياسي يجري بحرية لا تنبت ولا تزدهر أحزاب سياسية، ودون تفاعلات اجتماعية مستقلة ومبادرات طوعية لا يتعضى ويتمايز مجتمع حديث، ودون اعتراف بتعدد المصالح الاجتماعية وشرعية تنافسها في ميدان عام مفتوح لا تقوم سلطة عمومية. ما الذي يزدهر في إطار مجتمع منزوع الاجتماعية وأحزاب منزوعة السياسية وسلطة منزوعة العمومية؟: مرض الجفاف السياسي، وأعراضه: الانكفاء على الذات وانعدام الثقة بالغير، انحلال الرابطة الاجتماعية والوطنية، والتآمر، واللاعقلانية في تحليل الواقع وفي السلوك الفردي والجمعي، المشاكسة وثقافة الكراهية، باختصار مزاج الحرب الأهلية. وتدين هذه الأعراض بظهورها وتفاقمها إلى تراجع غير عكوس في القدرة القمعية النازعة للسياسة مع بقاء نمط الإنتاج السياسي المعتمد على القمع دون تغيير. إن العنف اللفظي، المكتوب (في الانترنت بخاصة) والمحكي، والذي ينتشر بسرعة الوباء في الأشهر الأخيرة على يد طلائع الانحلال الاجتماعي، مؤشر مهم على حرب بالقوة لا تنتظر إلا فرصة لتترجم ذاتها إلى حرب بالفعل. الجفاف السياسي يجعل المجتمعات سهلة الاحتراق.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار حول بعض قضايا الحاضر السوري
-
شكوى من فخري كريم وتوضيح من ياسين الحاج صالح
-
سنوات الأسد الثاني الأربعة وتحدي -الاستقلال الثاني- لسوريا
-
عرب وأميركيون وديمقراطية
-
إعادة هيكلة الوعي القومي الكردي
-
حظر الأحزاب الكردية ونزع مدنية المجتمع السوري
-
المسألة الأميركية في النقاش السوري
-
عن الحياة والزمن في السجن - إلى روح الصديق المرحوم هيثم الخو
...
-
ماذا فعلتم بجمعيات الأكراد؟
-
المثقفون وقضية امتهان الإنسان
-
حول مفهوم اليسار الديمقراطي وسياسته
-
غاية الإصلاح: إبدال نظمنا الكاملة بنظم ناقصة
-
أوربا تخطئ بإضعاف سوريا
-
حزيران 1967 وما بعده تفاعلات الحرب والسلطة
-
أخطاء تطبيق في الماضي وانتخابات حرة في ...المستقبل
-
اضمن طريق للديمقراطية في العالم العربي -تغيير النظام- في ...
...
-
عرض كتاب -صور محطمة: نهضة حركة تحطيم الأيقونات النضالية في س
...
-
زمن المقالة وأزمة الثقافة
-
ما بعد القامشلي الشأن الكردي والنظام السياسي في سوريا
-
أسامة بن لادن، هيغل، وما بعد الحداثة
المزيد.....
-
-العثور على صدام حسين في سجن صيدنايا-.. كيف حدث تزييف الصورة
...
-
لأول مرة.. بلينكن يقر علنًا بإجراء أمريكا اتصالات -مباشرة- م
...
-
قصة أول قائدة طائرات مغربية التي قتلت برصاص في الرأس
-
تركيا تعيد فتح سفارتها في دمشق بعد سقوط الأسد
-
ألمانيا.. عشرات المتعاطفين مع الأكراد يعتلون سطح القنصلية ال
...
-
أحمد الشرع: الثورة السورية انتصرت وينبغي بناء سوريا لتصبح دو
...
-
أمين عام حزب الله: منعنا تل أبيب من القضاء على المقاومة ومن
...
-
قديروف يحدد خيارا وحيدا للجنود الأوكران للبقاء على قيد الحيا
...
-
مدفيديف: الغرب يحاول -بائسا- الحفاظ على هيمنته
-
سيناتور روسي: ماكرون على حافة الهاوية بعد تعيينه بايرو رئيسا
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|