|
زمن المقالة وأزمة الثقافة
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 846 - 2004 / 5 / 27 - 03:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
خلال بضع السنوات الأخيرة برز صنف جديد من المثقفين في سورية: كتاب مقالة الرأي. الصنف جديد رغم أن عددا غير قليل من الكتاب قدماء، وبعضهم مثقفون معروفون: شعراء او روائيون او صحفيون أو حتى ممثلون. وهو جديد أيضا لأن كتابة المقالة والكتابة المستقلة غير الأدبية قد تعرضت لما أصاب الثقافة في البلد من مصادرة وانقطاع، طوال أكثر من ربع قرن، عن أية تراكمات ماضية. وإذا جازت نسبة الثقافة السورية إلى النوع الكتابي المهيمن فيها فإن من السليم تماما أن ننسبها إلى المقالة، ونسميها ثقافة المقالة.
1 من الطبيعي، والحالة هذه، أن يكون بطل الثقافة المكتوبة في السنوات المنقضية من القرن الحادي والعشرين السوري هو كاتب المقالة بلا منافس. لماذا؟ بسبب تواطؤ عارض بين حدثين كبيرين، سياسي وتكنولوجي: الأول هو وفاة الرئيس حافظ الاسد في 10 حزيران من عام 2000 ومناخ الانفراج النسبي الذي تلا، والثاني دخول البلاد عصر الانترنت. لقد أتاح التقاء غياب الرجل الذي استطاع فرض صمت نقدي مطبق على سياسات نظامه داخل سوريا، وخارجها، الفرصة لكتابة سورية معارضة في الصحافة اللبنانية ("النهار" وملحقها الثقافي بصورة خاصة)، لكن أيضاً في رفع سقف النقد في الصحف الأخرى، اللبنانية والعربية المهاجرة. والتقاء تغير العهد مع دخول الانترنت مكن من تعميم هذه المقالات وسط جمهور واسع ("النهار" ممنوعة من دخول سوريا، ومع ذلك قد تكون مواد منشورة فيها، لسوريين ولبنانيين، هي الأكثر تداولا وتوزيعا في البلد). وهكذا تحالف انحسار سلطة المنع مع حضور "سلطان" إعلامي يكسر لأول مرة احتكار السلطة للإعلام لإتاحة الفرصة لقول كلام مختلف لم يكن قوله ممكنا في عهد الراحل.
2 لكن لماذا المقالة؟ العامل المباشر هنا هو الصحافة اليومية كوسيط لكتابة المقالة دون غيرها؛ والانترنت كوسيط لتعميم المقالة ولتوسيع دائرة كتابها في الوقت نفسه، وبالطبع لكسر الرقابة؛ وأخيرا لأن المقالة ملائمة أكثر من غيرها لمتابعة تسارع الوقائع السورية خلال الأعوام الأربعة المنصرمة. لقد تسنى، بفضل الانترنت، مجال أوسع لإنتاج المعلومات ونشرها وتوصيلها، كما لإبداء الرأي وإعلان الموقف، وإيصال ذلك كله إلى جمهور مهتم، أي لمشاركة أوسع في جميع حلقات السلسلة الإعلامية. ومن ناحية أخرى، كشفت الانترنت عن طاقة تواصلية لا تقل عن طاقتها الإعلامية، ولا يقل افتقارا إليها السوريون المعزولون عن بعضهم وعن العالم. وهي في ذلك كله تحوز مفعولا ديمقراطيا أكيدا، هداما وبناء في الوقت نفسه. فهي تهدم الرقابة وتحتال عليها بيد، وبيدها الأخرى تقدم زادا تواصليا وتعارفيا لمجتمع يعاني من من مجاعة تواصلية حقيقية. الانترنت تتيح للسوريين أن ينتقدوا السلطة، لكن الأهم أنها تمكنهم من التواصل فيما بينهم من وراء ظهرها، أي من تجاهلها والاستقلال عنها ونسيانها (وربما ليس بنا حاجة أكبر من الحاجة لنسيان السلطة). من بين أنواع الكتابة، تبدو الانترنت الوسيط المناسب جدا لمقالة الرأي (وللبيان السياسي أو الحقوقي)، اي لمادة صحفية لا يتعدى حجمها ألفا أو الفي كلمة ويمكن أن تقرأ خلال ربع ساعة. وعبر وظيفتيها، الإعلامية الكاسرة للرقابة والتواصلية المحتالة الكاسرة للعزلة، أتاحت تكون ما قد يسمى "مجتمعا مدنيا انترنتيا" لا تمر العلاقة بين أفراده عبر السلطة وأجهزتها ومنظماتها كلية الحضور. كذلك شكلت الشبكة ساحة عامة افتراضية تعوض بعض الشيء عن غياب الميدان العام السياسي. وأداة تواصل ذلك المجتمع المدني الافتراضي هي، بصورة أساسية، مقالة الرأي التي تشكل طبقا رئيسيا على مائدة المواقع الإلكترونية السورية المستقلة والمعارضة: أخبار الشرق، الرأي، المواطن، كلنا شركاء... (كلها اليوم تعاني من أزمات مختلفة المظاهر والأسباب). 3 لكن للميدالية وجهها الآخر. ففيما عدا أن عدد مشتركي الانترنت في سورية لم يتعد بعد 130 الف مشترك، ما يجعل الشبكة وسيلة إعلام واتصال نخبوية، فإنه من المشروع التساؤول عن تأثير هذا النوع من التواصل على أشكال أكثر مباشرة، وربما ديمقراطية، من التفاعل الإنساني. إنها بالفعل تشكل مجتمعا مستقلا عن السلطة لكنه مجتمع افتراضي، وهي تكسر العزلة لكنها لا تضع ذلك في سياق بناء إرادة عامة او إرادة نازعة نحو العمومية. إنها في الواقع تفترض احتكار العام السياسي وتسلم به وتصدر عنه. ومن الآثار السلبية التي يمكن رصدها منذ الآن أن الأحزاب والمنظمات التي سميناها الحركة الديمقراطية السورية تكاد تكتفي بالانترنت وسيلة لتوصيل بياناتها ومواقفها ووثائقها إلى المهتمين، ما يضعف دروها في بناء رأي عام ديمقراطي، وما يضفي على التفاعل السياسي طابعا لا شخصيا، متعارضا بعمق مع الطابع الشخصي، بل الجسدي، للسلطة الحاكمة. وانقرض بالكامل تقريبا الشكل "الحرفي" القديم، الخطر أيضا، أعني توزيع البيانات باليد على البيوت والمواقع المستهدفة. وقد أفضى تفاعل الانترنت مع عودة الحياة السياسية إلى البلاد إلى ما يمكن تسميته صناعة إنتاج البيانات والعرائض بالجملة. وتعطي هذه الصناعة المزدهرة شعورا مخدرا بفاعلية سياسية مؤثرة، فيما هي في الواقع غياب عن المجتمع الحي وتغييب له. لقد كان ثمن نجاح الحركة الديمقراطية السورية في ريادة فضاء الانترنت الافتراضي تحولها هي بالذات إلى حركة افتراضية يسهل تعريفها بموقعها وبالسلب (اللاسلطة) بينما يعسر تحديدها بفاعليتها السياسية ودورها الاجتماعي.
4 على أن التاثير السلبي المهم للانترنت يتركز في مجال الثقافة. فمجد مقالة الرأي وكتّابها هو الوجه الآخر لتراجع قراءة الكتاب التي تحتاج إلى أيام. ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك تسطيحا للثقافة وخلوا لها من العمق والغنى، فوق تسييسها الشديد. ومنذ الآن يرصد المتابع نموا متصاعدا للغوغائية الانترنيتية، اعني لنشر مقالات ونصوص فقيرة بسويتها الثقافية، غير منضبطة بمعايير قيمية واضحة، نزاعة إلى الهياج والشجار. هذه الغوغائية ثمن ديمقراطية الشبكة وثمن غياب الديمقراطية في الدولة والمجتمع في آن معا. وهي ظاهرة عربية، وليس سورية فحسب، وقد تكون عالمية ايضا. ومن غير المستبعد أن تفاقم الانترنت الفوضى الثقافية والقيمية، وتضيف تواضعا إلى تواضع مستوى الحركة الديمقراطية على ذينك الصعيدين. هذا المستوى ينذر بأن يسقط الحراك الجاري إلى مستوى الجلبة والمادية البدائية، وأن ترتد الديمقراطية إلى محض إيديولوجية منافسة على السلطة كغيرها. ما فائدة انتصار الديمقراطيين عندئذ؟ 5 إذا كانت ثقافتنا ثقافة المقالة، فقد كانت سياستنا مقالية أيضا: احتجاج مقول، أو تسوية بين الاحتجاج العملي، العسير والمكلف، وبين تأمل الواقع. وهي بهذا المعنى سياسة مواقفية، المقالة وسيطها الأنسب. وقد يكون هذا مفهوما. فالمجتمع الذي اضرب عن السياسة، بعد أن "ضُرِب حتى شبع"، لا يمكنه أن يفطر على السياسة الكبيرة (هل نقول الملحمية؟) لمجرد أنه لم يعد يضرب. هذا مفهوم، لكنه سيئ. لكن، فيما وراء تسارع إيقاع الوقائع السورية ووراء كون المقالة هي النوع الكتابي المهيمن فيها، لماذا الثقافة مقالية؟ ليست ثقافتنا مقالية لأن المقالة مهيمنة فيها بل المقالة مهيمنة لأن ثقافتنا مقالية، أي ببساطة قصيرة النفس، ضعيفة اللياقة، غير قادرة على تأمل ذاتها. وقد يعود ذلك إلى ضعف التراكم الثقافي الحديث وضيق قاعدة الفاعلية الثقافية. لكنه قبل كل شيء ثمرة غياب الحرية وإخضاع الثقافة للسلطة. إن الحياة الثقافية السورية التي تميزت على الدوام بالتسيس ورفض الواقع تدفع اليوم ثمن سبات إجباري دام ربع قرن. كانت السياسة أقوى محرك للثقافة في سوريا، وسواء أعجبنا ذلك أو لم يعجبنا، فإن من الصعب ألا يكون الأمر كذلك في هذا البلد الذي تتشكل هويته الوطنية من التمرد على كيانه وإنكار شرعيته. هذا الارتباط ليس مقصورا على سوريا، لكنه أميز فيها من الدول العربية جميعا، ربما باستثناء فلسطين. أخذ ارتباط السياسة والثقافة شكلا سلبيا في في ربع القرن الأخير من القرن العشرين: طردت السياسة فهربت معها الثقافة، منع الناس من الاهتمام بالسياسة والتدخل فيها فيبست شجيرة الثقافة. وحين اخذت السياسة تعود في سنوات القرن الحادي والعشرين بدأت الثقافة ترجع معها شيئا فشيئا. قد تكون المقالة إذاً حبو ثقافة لا تستطيع الوقوف على قدميها بعد. لكن عصر السياسة والثقافة من المجتمع السوري أفضى إلى جفاف معناه وهويته. وهذا هو أبرز فارق تسجله سوريا القرن الحادي والعشرين عن سوريا منذ نشوء كيانها الحديث قبل أقل من تسعة عقود. فلأول مرة تبدو الهوية الوطنية السورية ملتبسة، وهي التي لم تشك يوما إلا من اليقين وفرط التحديد. هذا يطرح تحديات جديدة وغير مسبوقة على الثقافة والمثقفين في سوريا. المقالة التي تقع عند تقاطع طرق ثقافية وسياسية وتكنولوجية ساعدتنا على استكشاف عالم يعود بمشقة إلى التفكير والسياسة، لكنها لم تعد كافية للرد على تلك التحديات ولا على استكشاف عالمنا الجديد. ماذا بعد المقالة؟ ماذا بعد الثقافة الصغيرة والسياسة الصغيرة؟ مستقبل غير واضح لبلد اليقين. دمشق 17/5/2004
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما بعد القامشلي الشأن الكردي والنظام السياسي في سوريا
-
أسامة بن لادن، هيغل، وما بعد الحداثة
-
اعتقال طلاب الجامعة سياسة العزل السياسي والجيلي
-
بين عهدين: قضايا تحليل الانتقال السوري
-
-العقد الاجتماعي- البعثي وتناقضاته
-
نظام الاستثناء الشرق أوسطي
-
ثلاثة برامج قتل وفكرة عزلاء
-
اضطرابات الجزيرة ضرورة تجديد التفاهم الوطني السوري
-
سوريا أمام المنعطف مــن هنا إلى أيــــن؟
-
اعتصام دمشق فاعلون مترددون وإعلام يقيني
-
طبائع العمران وصناعة الواقع في الدولة الحزبية
-
في السنة الحادية والأربعين فصل حزب البعث عن الدولة ضمانة له
...
-
صـــراخ فـي لـيــل عــراقــي
-
سوريون ضد حالة الطوارئ!
-
هل سيكون 2004 عام التحول في سورية؟ عرض تقرير -التحديات السيا
...
-
سورية والتحديات الخارجية عرض لتقرير -مجموعة الأزمات الدولية-
-
نقاش حول الدفاع الوطني
-
بلاد الموت السيء
-
نحو مؤتمر تأسيسي لحزب ديمقراطي يساري - مناقشة عامة لمشروع مو
...
-
وقــائــع ثــلاثــة أشـــهـر زلـزلـت ســـوريــا
المزيد.....
-
الكشف عن قائمة أفضل المطاعم في العالم لعام 2025
-
شركة الكهرباء الإسرائيلية: ضربات إيرانية تتسبب بانقطاع في ال
...
-
طاقم CNN يشهد قصفًا إسرائيليًا واسع النطاق في طهران أثناء ال
...
-
الضربات الأميركية تصيب البنية النووية الإيرانية.. ماذا عن ال
...
-
صور أقمار اصطناعية تشير لأضرار بالغة بموقع فوردو والشكوك قائ
...
-
لقاء في حزب الوحدة الشعبية بمناسبة الإفراج عن الرفيق د. عصام
...
-
خبايا صراع الظلام بين إسرائيل وإيران
-
إعلام إسرائيلي: الضربة الأميركية غير كافية وإيران قد تصنع قن
...
-
ضربات ترامب لإيران.. بين حسابات الردع وضغوط الحلفاء
-
هكذا سيهيمن الذكاء الاصطناعي على المهن بحلول 2027
المزيد.....
-
كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف
/ اكرم طربوش
-
كذبة الناسخ والمنسوخ
/ اكرم طربوش
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|