أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - في السنة الحادية والأربعين فصل حزب البعث عن الدولة ضمانة له ولسوريا















المزيد.....



في السنة الحادية والأربعين فصل حزب البعث عن الدولة ضمانة له ولسوريا


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 772 - 2004 / 3 / 13 - 10:04
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


حزب ودولة
لا تختلف كثيرا المشكلات التي تعرض لحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في سورية بوصفه حزبا عن تلك المترتبة على موقعه كحزب "قائد للدولة والمجتمع" في نظام الحزب الواحد. فبينما قد يشكو أي حزب آخر من مشكلات فكرية وسياسية وتنظيمية، تعالج عبر آليات النقاش العلني والمراجعة والنقد والتصحيح، التي واكبت، على العموم، نشأة الحزب السياسي الحديث وتطوره، فإن أمر حزب البعث مختلف. إن مشكلات الحزب الذي ينفرد بحكم سورية منذ 41 عاما ليست محض مشكلات حزبية، ولا تشبه في شيء المشكلات التي تواجهها الأحزاب الأخرى في سورية وغيرها، لكنها من جهة أخرى تماثل مشكلات أحزاب انفردت بحكم مجتمعاتها زمنا طويلا. وهي مشكلات متولدة عن "وصل" الحزب والدولة، وتنصيب إيديولوجية الحزب الحاكم عقيدة للبلد المحكوم، ومطابقة مصلحة الحزب مع "المصلحة الوطنية العليا" و"مصالح الشعب الحقيقية". ولا تترك المطابقات المذكورة التي تؤسس لنظم الحزب الواحد في أي مكان مجالا لآليات النقاش المفتوح والنقد والمراجعة التي لا يعرف الاجتماع السياسي الحديث - والحزب السياسي من تنظيماته - غيرها لمعالجة مشكلاته ومصاعبه. وهو ما يعني، في سياق تناولنا لحزب البعث السوري في الذكرى الحادية والأربعين لاستيلائه على السلطة، أن هناك تعارضا بين حل مشكلات الحزب وبين النظام السياسي المنسوب لهذا الحزب. أو بعبارة أبسط: لا حل لمشكلات حزب البعث ضمن إطار سلطة الحزب الواحد البعثية.
هذا ما لا يبدو أن القيادة القطرية السورية لحزب البعث على بينة منه. ففي تعميمين طرحتهما على أعضاء الحزب الذين يبلغ عددهم اكثر من مليون ونصف (اقل بقليل من 10% من السوريين)، واهتمت بأن ينشرا في وسائل إعلام غير سورية، طولب "الرفاق البعثيون" بأن يسهموا في "البحث عن سبل التطوير والتحديث لمفاهيمنا وانماط تفكيرنا ووسائل عملنا"، دون ان يميز التعميمان، الوفيان لعقيدة المطابقة، بين "أنماط تفكيرنا..." كحزب و"أنماط تفكير" الدولة، ودون أن تفتحا النقاش ليشمل السوريين المحكومين كلهم. البعث حزب ودولة، أما السوريون الآخرون فيحتلون موقع الموضوع.
عبر تناول الوثيقتين البعثيتين وتحري منطقهما الداخلي والنظر في سياقهما المحلي والإقليمي، نسعى إلى الدخول في نقاش مع حزبنا الحاكم. ننطلق من أن حزب البعث أهم من ان يترك للبعثيين وحدهم. فعبر عقود حكمه الأربعة وحجم عضويته الهائل التصق حزب البعث بالدولة السورية إلى درجة تحتاج إلى جهود السوريين جميعا للفصل بينهما. إن فصل الحزب عن الدولة شرط لا غنى عنه لسورية أكثر حيوية وشبابا.

هل البعث وسوريا واحد؟
توزعت اسئلة التعميم الأول على "محاور فكرية" ثلاث تطابق ثالوث أهداف الحزب: وحدة، حرية، اشتراكية؛ فيما اختص تعميم آخر بمحور التنظيم على الصعيدين القومي(العربي) والقطري (المحلي السوري). كذلك تشكلت أربع لجان لمتابعة المناقشات الداخلية، وتقديم تقارير عن المحاور الأربعة إلى القيادة القطرية في شهر آذار الجاري.
يستهل التعميم الأول بالقول: "في مسيرة التطوير والتحديث خيارنا الاستراتيجي أن يبقى حزب البعث العربي الاشتراكي مرجعيتنا، وتنظيمنا الشعبي والسياسي، ومشروعنا القومي الذي يبني الإرادة السياسية...". ولا يتضح في أي مكان من النص ما إذا كان "الخيار الاستراتيجي" هو خيار السوريين أم البعثيين منهم فحسب، ولا ما إذا كان حزب البعث مرجعية لأعضائه أم للسوريين جميعا. والثابت أن الوثيقة تصادر على تطابق الطرفين وإنكار تمايزهما. ومن الطبيعي إذاً أن توصد أي باب للتساؤل عن شرعية هذه المطابقة، وأن تقصى إلى مجال ما يستحيل التفكير فيه أسئلة من نوع: ما وضع السوري غير البعثي؟ وما حقوق المعارض لسلطة حزب البعث؟ وما مصير غير المعترف بشرعية نظام الحزب الواحد أصلا؟ وكيف يعبر هؤلاء عن خياراتهم ويحددون مرجعياتهم؟
في مسألة "الوحدة العربية" تتساءل الوثيقة عن مفهوم الوحدة: سياسي أم ثقافي أم اقتصادي أم أمني. وكيف الوصول إلى الوحدة؟ اتفاقا أم بالقوة؟ وكيف تستعاد وحدة الأمة العربية ثقافيا؟ وما شكل دولة الوحدة: اندماجية ام اتحادية؟ إلخ.
لكنها تدخر كل أعراض الحساسية لاسئلة محور الحرية. يقول النص: "في الأربعينات والخمسينات كان مفهوم الحرية ليبراليا، وفي الستينات ارتكز على نظرية الصراع الطبقي وحزب الطليعة الثورية، وبعد الحركة التصحيحية في السبعينات ارتكز المفهوم على تجديد حقوق الفرد والمجتمع وتنظيم المجتمع في منظمات ونقابات وإجراء انتخابات مجلس الشعب ومجالس الإدارة المحلية وإصدار الدستور الدائم وإقامة الجبهة الوطنية التقدمية على أسس التعددية السياسية والحزبية".

استقرار ضد الاستقرار
نحتاج هنا إلى وقفة ممعنة ومتأنية عند مفهوم الحرية بعد الحركة التصحيحية قبل أن نستانف السجال مع أسئلتها الموجهة إلى القاعدة البعثية.
يتغافل النص عن أن ما يشير إليه من أجهزة ومنظمات لم تأت في سياق انشغال بقضية الحرية، ولم يستحدثها دستور صدر عن جمعية تأسيسية. لقد أحدثت بالأحرى في سياق تنظيم السلطة بما يلبي رداً على تكرر الانقلابات العسكرية ويضمن استقرار العهد وتماديه. لذلك واكبها منذ البداية تطوير كبير للأجهزة الأمنية، وتوسيع هائل لسرايا الدفاع التي استلمها رفعت الأسد منذ أواخر الستينات، وأضحت رمزاً للاعتباط والإذلال في دمشق منذ أواسط السبعينات حتى حلها عام 1984.
ليس الاستقرار شيئا لا قيمة له بالطبع، لكنه مختلف عن الحرية من حيث المبدأ، وقد كان عملياً ضدها. فالاستقرار الذي خبرته سورية خلال مرحلة ما بعد 1970 هو استقرار جهازي وليس مؤسسيا، ركيزته هي القوة وليس القانون، والإرادة المشخصة وليس القاعدة العامة المستقرة. ولذلك كان استقراراً لنظام الحكم وليس للمجتمع السوري. بل إن سورية في الواقع شهدت ثلاثة أو أربعة انقلابات اجتماعية وسياسية خطيرة أثناء عهد استقرارها ذاك. وهي انقلابات تفوق في أكلافها وآثارها أية انقلابات عسكرية شهدتها البلاد في عقدي الخمسينات والستينات.
وقع الانقلاب الأول في أواسط السبعينات في إطار تدفق المال النفطي التالي لحرب تشرين وما أتاحه من تمويل سياسة القوة محليا وأقليميا. المؤشر الأهم على هذا الانقلاب هو ارتفاع عدد المليونيرات في سورية من 55 عام 1963 إلى 2500 عام 1976 حسب باتريك سيل الذي يضع هذا الارتفاع في سياق تداخل الحكومة والتجارة بعد حرب تشرين 1973. وهو ما يفترض بأن "لجنة التحقيق في الكسب غير المشروع" تشكلت في صيف 1977 لمعالجته، "لكنها تراجعت حين وجدت نفسها مشتبكة مع شخصيات مقربة من النظام" حسب الكاتب البريطاني نفسه. ويرتبط الوجه الإقليمي لهذا الانقلاب بالتدخل السوري في لبنان، وما استلزمه وواكبه من استبطان منطق للسياسة الإقليمية مضاد جوهريا لأية تطلعات استقلالية وتحررية عربية ومنخرط في لعبة الهيمنة والقوة ومتفاعل معها.
الانقلاب الثاني وقع بين أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات في سياق محنة وطنية واجتماعية أقسى حتى من كارثة حزيران، وأسفرت عن احتلال ما تبقى من أرض اجتماعية مستقلة. وبينما هزم بنتيجة مواجهات تلك المرحلة الإخوان المسلمون السوريون، فإن الدولة السورية لم تنتصر. لا بل تفرغت من عموميتها واستقلالها المفترض عن أي طرف اجتماعي مخصوص، وانهارت آخر الحواجز السياسية والقانونية والأخلاقية في وجه القسوة والترويع.
الانقلاب الثالث وقع في النصف الثاني من الثمانينات حين انخفض سعر صرف الليرة السورية خلال أسابيع اربع مرات، وتدهورت مستويات معيشة السوريين بفعل تضخم انفجاري، وأوشكت البلاد على الإفلاس. ووقتها أعلنت ما يمكن تسميتها أحكام عرفية اقتصادية (محاكم أمن اقتصادي استثنائية، توقيف عرفي لحائزي العملات الأجنبية ومتداوليها، وضع اسعار صرف متعددة وغير عقلانية...). وبالنتيجة تعزز الطابع الأوامري للاقتصاد السوري من جهة ودخلت شرائح واسعة من الطبقة الوسطى ضمن دائرة الفقر من جهة أخرى. وخطا ميزان القوى بين السلطة والمجتمع خطوة إضافية خارج الاعتدال.
الانقلاب الرابع وقع في بداية التسعينات، حين شاركت سورية في التحالف الدولي ضد العراق بقيادة الولايات المتحدة، وهو انقلاب على العقيدة البعثية بالذات وعلى ثوابت النظرة القومية إلى العالم.

أجهزة الاحتواء
أما الجبهة الوطنية التقدمية فهي بالفعل جهاز الموت السياسي وليس الحياة السياسية، وقد كانت على الدوام الغطاء الشرعي لنزع سياسية الأحزاب المشاركة فيها وتعطيل أي دور عام مستقل لها. وهو ما وقع أيضاً للأحزاب المعارضة لكن عبر الاعتقال والتعذيب والسجن. يمكن القول إن الجبهة الوطنية التقدمية استمرار للسجن بوسائل أخرى.
إلى ذلك لا يمكن لمنظمات ونقابات غير مستقلة، تعمل في سياق غير تنافسي، أن تخدم قضية الحرية. فهي، مثل أحزاب الجبهة، أجهزة لاحتواء قطاعات واسعة من الشعب السوري، تبدأ بتلاميذ المدارس الابتدائية المعبئين في منظمة الطلائع، لتمتد إلى طلاب المدراس والجامعات والمهنيين (أطباء، مهندسين، محامين ...) والعمال والفلاحين، مع تبعيث تام وإجباري للجهاز التعليمي. وسيكون غريبا كل الغرابة أن يربط احد بين منظمة طلائع البعث التي استلهمت من كوريا الشمالية، وبين الحرية. فهذه المنظمة التي تقوم عمليا بغسل أدمغة أطفال بين السادسة والثانية عشر هي التجسيد الأمثل للاحرية. والأهم ان التنظيمات الاجتماعية الواحدية وغير الطوعية (طلائع البعث، اتحاد الشبيبة... اتحاد الكتاب، نقابة المعلمين، إلخ) لا يختلف دروها عن الروابط الأولية الأهلية من طوائف وعشائر، بقدر ما يتعارض مع دور النقابات والاتحادات الحديثة. فهي مثل الروابط الأهلية مضادة للسياسة والاستقلال الذاتي، ومثلها أيضا قناة للامتياز والسلطة. وبينما يفترض مفهوم المنظمة الاجتماعية التعدد والطوعية والتنافسية، فضلا عن الانفتاح أو اللاحصرية، فإن "المنظمة الشعبية" تعرض جميع الخصائص المناقضة: واحدة، إكراهية أو امتيازية، احتكارية، وحصرية. وبينما أهم ادوار المنظمة الاجتماعية (وهي "عنصر" المجتمع المدني) تشكيل سلطة اجتماعية مستقلة عن سلطة الدولة وقادرة على الاعتراض والضغط عليها سعيا وراء مطالب جزئية أو عامة، فإن وظيفة "المنظمة الشعبية" منع تكون أية سلطة اجتماعية مستقلة واحتلال أية أرض اجتماعية مستقلة وإدماجها بالشبكة الجهازية الشاملة لنظام الحزب الواحد. ولذلك فإن فرض منظمات شعبية إجبارية هو عمليا قطع لسيرورة تمدين المجتمع السوري، وبالتالي حرمانه من أهم وسائل تلطيف انقساماته العمودية.
وقد كان من آخر ثمار هذه السياسة المستمرة ما يعرف بقضية الأربعة عشر في حلب الذين كانوا بصدد حضور محاضرة عن حالة الطوارئ. فرغم كونهم تجسيد حي لامتزاج وتفاعل شتى المكونات المذهبية والإثنية للشعب السوري، فقد اتهموا بالقيام بأعمال من شأنها "الحض على النزاع بين عناصر الأمة". في هذه المحاكمة يتجسد ايضا التعارض بين مطلب السلطة المتطرف في السيطرة والذي يقضي بحل كل اشكال الانتظام الاجتماعي المستقل، وبين حاجة المجتمع السوري إلى الاندماج والتعضي والتي تقتضي نمو أشكال متنوعة من الانتظام الاجتماعي المستقل. ومغزى ذلك أن النظام الواحدي أضحى حائلا دون تعارف السوريين وإنتاج عمومية وطنية عابرة للروابط الأهلية.
يبقى الدستور. في مجال الحريات العامة تحديدا ثمة نص مهيمن على الدستور، أساسي أكثر منه، هو إعلان حالة الطوارئ المقيمة منذ عام 1963. إذ بينما ينص دستور 1973 على قدسية الحرية الشخصية ويكفل حرية التعبير وحق التظاهر السلمي، فإن دستور الدستور، أعني حالة الطوارئ والمحاكم الاستثنائية التي أنشئت في ظلها، تكفل أن يكون السوريون جميعا متهمين حتى تثبت براءتهم. وليس في ذلك أي تهويل أو افتعال للمفارقات. فنص التعميم البعثي الأول ذاته يربط بين ما يسميه "ديمقراطية عامة تطلق الحريات الواسعة" وبين إفساح المجال لظهور أحزاب "أهدافها ومنطلقاتها وارتباطاتها" قد تكون "في مصالح المجتمع" أو لا تكون؛ رابطا في الوقت نفسه بين الديمقراطية الشعبية وبين "أمن المجتمع ووحدته" والتزام "قضايا الشعب والمصالح العليا للوطن". هذا الكلام لا يصدر إلا عن لاشعور سياسي لا تجتمع فيه الحرية والوطنية معا. فكأن السوري لا يكون وطنيا إلا مكرها، ولا يطالب بالحرية إلا ليقيم "ارتباطات" مشبوهة.
وفي هذا السياق كان لافتا أن المرسوم الرئاسي القاضي بإلغاء المحاكم الاقتصادية قد قوبل بالترحاب على أرضية أن هذه المحاكم استثنائية وأن المواطن السوري متهم أمامها حتى تثبت براءته. لكن أحدا من المرحبين لم يقل إنه ليس هناك قضاء غير استثنائي في سورية، وأن القضاء العادي يحكمه استثناء المال بقوة قد تفوق ،خلال بضع السنوات الأخيرة، قبض سلطة الطوارئ على محكمة أمن الدولة (معتقلي ربيع دمشق) والقضاء العسكري (قضية الأربعة عشر في حلب) والمحاكم الميدانية (سجناء داريّا). إن التعددية القضائية تهديم للعدالة بقدر ما أن التعددية الأمنية تقييد للحرية.
أسهبنا في تناول العهد قبل الحالي لأن هياكله وبناه تشكل حاضرنا، ولغته توجه إدراكنا، وخياراته تتحكم بقدرنا.
"ما رأيك بمفهوم الديمقراطية؟"
تجاهل التعميم الحزبي هذه المعطيات يعطي فكرة عن مناهج التفكير البعثية وعن حجم المراجعة المتوقع منها.
مخاطبا الرفيق الحزبي، يسأل التعميم: "ما رأيك بمفهوم الديمقراطية، هل هي شعبية تحافظ على أمن المجتمع ووحدته وتلتزم قضايا الشعب والمصالح العليا للوطن، أم ديمقراطية عامة تطلق الحريات الواسعة وتفسح المجال لكل الاراء والأفكار والأحزاب بغض النظر عن أهدافها ومنطلقاتها وارتباطاتها، سواء أكانت في مصالح المجتمع أم لا؟" فيما عدا محاباة الذات التي يتضمنها السؤال، هو أيضا سؤال إيحائي يحث المسبورين على تفضيل إجابة معينة. لكن للسؤال فضيلة الربط بين الديمقراطية الشعبية وكل من "أمن المجتمع" ووحدته والتزام قضايا الشعب إلخ، دون الإصرار على أن له علاقة بالحرية. ولا يبين التعميم ما هي "مصالح المجتمع" و"المصالح العليا للوطن"، ولا يحدد آلية تعرّفِه عليها. ويسكت بالطبع، وهو الصادر عن جهة غير منتخبة، عن احتمال أن تحدد كل جهة تلك المصالح بطريقة تراعي مصالحها هي أولاً.
يتساءل الاستبيان أيضا: "هل يتعارض مفهوم الديمقراطية مع التعددية السياسية والحزبية في إطار الجبهة الوطنية التقدمية؟ أم أنه يعبر عن الخيار الديمقراطي لمصالح الشعب والوطن؟" سؤال: هل توجد "مصالح الشعب والوطن" قبل تحديد السوريين، المنثورين أمام أعيننا، لها؟ وهل يستطيع اي حزب سياسي أو فرد أو فئة اجتماعية معرفة "مصالح الشعب والوطن" بطريقة غير سؤال "الشعب" وسكان "الوطن"؟ وهل هناك وسيلة لمعرفة موقف السوريين من الجبهة الوطنية التقدمية غير سؤالهم عنه؟
نجد هنا، وفي كل وعي ولاوعي الاستبيان، التصور اللاتعاقدي للشعب والوطن. وهو ذاته التصور التطابقي الذي يجعل من الحزب بديلا عن الوطن والقائد بديلا عن الحزب وفقا لآلية معروفة في الأنظمة الشيوعية السابقة.
عن الاشتراكية تقول الوثيقة إن "الحزب تبنى الاشتراكية طريقا لتحقيق التقدم والنهوض وتحرير الفرد من الظلم والاستغلال". وتسأل: "هل الاشتراكية ملكية الدولة لجميع وسائل الإنتاج وإدراتها؟ وهل هي ملكية العمال والفلاحين لوسائل الإنتاج؟ وهل الدولة قادرة بمواردها على تحقيق التنمية؟ هل الاشتراكية صراع طبقي وقطاع عام فقط؟ أم هي تعددية اقتصادية وطريق لتحقيق العدالة الاجتماعية ورفع مستوى معيشة الشعب وتوفير متطلبات المجتمع؟" إلخ.
تشف الأسئلة جميعا عن ذات علية تعرف "متطلبات المجتمع" وتعمل على توفيرها وتضحي لرفع مستوى معيشة الشعب (وقبل ثلاث سنوات أنكر اصحاب هذا الموقف على السوريين حرياتهم العامة بحجة أنهم منهمكون في رفع مستوى معيشتهم). والحال لا يمكن لأي طرف اجتماعي أن يحدد "مصالح المجتمع ومتطلباته" بطريقة غير تعاقدية إلا إذا كان فوق المجتمع. وهذا الموقف الفوقي متأصل في اللاشعور البعثي كما سنرى.
في تعميمها الآخر تطرح قيادة حزب البعث أسئلة عن تعريف الالتزام الحزبي و"من هو الرفيق الحزبي" .. و"هل المشاركة في نشاطات الحزب وندواته وحملاته الانتخابية وتبني سياسته ومواقفه والتصدي لخصومه شروط كافية" لتعريفه؟ "هل نقصر إجراء الفصل [ من الحزب] على من يخالف فكر الحزب وأخلاقياته؟" وهناك أيضا أسئلة حول التنسيب إلى الحزب، وما إذا كان اعتماد الكم او التنسيب في الصفوف المدرسية أسلوبا مناسبا. وهناك سؤال غريب عن تجارب الأحزاب الأخرى في هذا المجال، دون تحديد ما إذا كان المقصود الأحزاب السورية رهينة محبسي الجبهة وحالة الطوارئ، أم الأحزاب غير السورية، الأمر الذي يهدد بخدش حياء خصوصيتنا وديمقراطيتنا "النابعة من تقاليدنا وتراثنا". السؤال غريب لأنه يتعارض مع بنية خطاب التعميمين المغلقة التي لا آخر فيها ولا تحيل إلا إلى الذات.
بنظرة عامة يبدو أن وظيفة الاستبيان تتصل بتطوير قدرة القيادة الحزبية على التكيف مع تغيرات قد يكون التكيف معها اضطراريا. ولعله يحوز أيضا وظيفة داخلية تتصل بتمويه الاضطرار بإظهاره كاختيار ديمقراطي للقاعدة البعثية، وتمويه التكيف بإظهاره تطويرا "لأفكار حزبنا".

هل البعث حزب حاكم؟
مهما يكن رصد التناقضات الذاتية للوثيقتين أمرا مغريا فإن ما هو أهم منه هو ما تشفان عنه من وعي ذاتي بعثي من جهة، وما تغفلانه من سياق إقليمي ودولي ومحلي لا يمكن فهمهما من دونه من جهة أخرى.
لن يخطر ببال قارئ للتعميمين لا يعرف شيئا عن سورية أن حزب البعث العربي الاشتراكي ينفرد بحكم البلاد منذ 41 عاما. فتجربة الحكم تبدو خارج أفق واضعي الوثيقتين ودون تأثير على "أفكار حزبنا"، ويبدو لهذه تاريخا مستقلا لا يختلط بتاريخ الحكم ولا يتأثر به.
لقد استطاعت القيادة الحزبية أن تتحدث عن الاشتراكية دون أن تشير إلى الفساد والبطالة وانتشار الفقر واتساع الفجوة الاجتماعية عما كانته في أي يوم من أيام "الإقطاع والبرجوازية"، وعن وجود ما بين 80 و120 مليار دولار من الأموال السورية في الخارج بينما الناتج الوطني الإجمالي أقل من 20 مليار دولار عام 2002. وتمكنت من الحديث عن الحرية دون أية إشارة إلى حالة الطوارئ، والتعددية الأمنية والقانونية والقضائية التي تنعم بها البلاد في ظل واحدية سياسية وعقيدية وإعلامية مفروضة بالإكراه ومرسخة عبر تعليم محتكر ومتدني المستوى. وتحدثت عن الوحدة العربية دون أن تنغصها ذكرى العلاقة بين النظامين البعثيين أو تشعر بالحاجة لقول شيء عن العلاقة مع لبنان والفلسطينيين. وتكلمت عن سن التنسيب المناسب للحزب دون أن تقول شيئا عن "منظمة طلائع البعث"!
وتظهر محاور التعميمين أن القيادة الحزبية تعتقد أن أفكار الحزب ونظامه الداخلي، وليس نظام حكمه، هي التي تحتاج إلى مراجعة. وقد يكون في ذلك ما يوحي بأنها مستعدة لتعديل العقيدة كي تحافظ على السلطة. والحال رغم أن العقيدة البعثية باتت مفوتة بالفعل، ولم تعد تفيد في بلورة خطط واستراتيجيات وطنية يمكن لأكثرية سورية واضحة ان تلتف حولها، فإن المشكلات الأهم التي تواجه سورية، بما فيها المشكلة البعثية، تنبع من نمط السلطة لا من مضامين عقيدة الحزب الذي في السلطة.

الحقيقة في السوق
فليس هناك عقائد "جيدة"، سواء كانت دينية او دنيوية، دون حقل مفتوح أو سوق إيديولوجية حرة يجري تداول وتفاعل ومراجعة الأفكار والعقائد والنظريات فيها. وليست جودة الأفكار السياسية والاجتماعية مستمدة من ذاتها أو مما تعلنه من قيم بل من موقعها في السوق الإيديولوجية المفتوحة. إن الفكرة الصحيحة هي التي تقبل التصحيح، أي غير الممتنعة على المراجعة و"التفنيد" و"التجربة الحاسمة"، والقابلة أن تخضع لقواعد مشتركة مع اية أفكار أخرى. والعقيدة الصالحة هي العقيدة التي تقبل الإصلاح، أي المراجعة والإضافة والتنقيح و"التحريف"، وتقاوم إغراء النقاء والعفة. العقيدة الصالحة، بعبارة أخرى، هي التي يثبت "فحص شرعي" عدم عذريتها. وفي كل حال ليس هنك أفكار صحيحة أو عقائد صالحة دون حقل ثقافي تتداول فيه الاقتراحات والتفضيلات و"الحقائق" والأوهام بحرية. بل إن معايير التمييز بين حق وباطل وصحيح وخاطئ لا تتبلور دون سوق اجتماعية للحق والباطل والأخطاء. فالمعايير الجيدة لا توجد قبل الأفعال السيئة والأفكار الخاطئة.
وبالمثل، ليس هناك أحزاب جيدة دون سوق سياسية حرة، أي إلا ضمن نظام سياسي تعددي. بعبارة أخرى ليس هناك حزب واحد جيد، مهما تكن دعاويه السياسية وفلسفته الاجتماعية.
وفي الأصل يحيل مفهوم الحزب السياسي، وهو من مقولات الحداثة السياسية، إلى تعددية المصالح والخيارات والتفضيلات داخل المجتمع من جهة، وإلى شرعية حيازة هذه المصالح والتفضيلات لتمثيلات خاصة بها في المجال العام من جهة أخرى. لذلك فإن مفهوم الحزب الواحد متناقض، اي غير ممكن دون الخروج على منطق الحداثة ومسلماتها. ولذلك تمثل أنظمة الحزب الواحد نكوصاً نحو شكل قبل حديث للتنظيم الاجتماعي. ولذلك أخيرا تنزع نظم الحزب الواحد والنظم التي تحرم الأحزاب كنظام القذافي إلى إنتاج نسختها الخاصة من الدم الأزرق. ومن الطبيعي أن يكون دم الملوك الأزرق وراثيا وغير تعاقدي.
في الإطار العام هذا حال حزب البعث والعقيدة البعثية. فقد فرض الحزب الذي انتزع السلطة بانقلاب عسكري مطابقة إلزامية بين تفضيلاته السياسية والإيديولوجية و"خياراته الاستراتيجية" وبين تفضيلات السوريين وخياراتهم. وكرس نفسه عبر دستور 1973 حزبا قائدا للدولة والمجتمع دون أن يمكن السوريين، الذين يفترض أنهم اقترعوا للدستور بنسبة تسعة وتسعينية أن ينالوا الحريات العامة التي تضمنها ما صوّتوا عليه. ويفترض أن عدم التزام أحد الطرفين المتعاقدين بالعقد الدستوري، رغم أنه صاغه "على كيفه" وقياسه، يجعل العقد ذاته لاغيا.
على أن جوهر المشكلة التي تتسبب بها الأنظمة الواحدية، وذات الطموح الشمولي بخاصة، هي منع السكان من التفكير الحر، وبالتالي حرمانهم من بلورة معايير التمييز بين ما يفيد وما يضر، وتحجيم نموهم الروحي والفكري والسياسي، ومنعهم من التمرس بمصاعبهم واكتساب الأهلية على معالجة مشكلاتهم. باختصار: إبقاء الناس قصرا عاجزين عن المبادرة والاختيار. هذا هو التخلف الحقيقي.

أصول التخلف الثقافي
مصادرة وإغلاق الحقل السياسي والإيديولوجي للمجتمع السوري هو المصدر الدينامي للتأخر الفكري الواسم للوثيقتين البعثيتين ذاتيهما. ويتعدى هذا الشرط الحزب الذي استغنى بالسلطة عن إعمال العقل، ليشمل سورية كلها بجميع تياراتها الثقافية وأحزابها السياسية. لكن البعث يحتل الموقع الذي يرتب عليه المسؤولية الأولى والكاملة عن هذه الحال. وبينما يرتبط التخلف الثقافي، بصورة عامة، مع مصادرة الحياة السياسية والثقافية الملازمة بدروها لنظام الحزب الواحد، فإن أنسابه تتحدر بصورة مباشره من صلب قرار وزير الإعلام الأسبق أحمد اسكندر أحمد "إنشاء جيل من مثقفي الثورة"، بعد ان اعترض أهم المثقفون السوريون على التدخل السوري في لبنان عام 1976. كانت النتيجة عزل أو "تطفيش" أو إسكات المثقفين المستقلين، دون بروز جيل "مثقفي الثورة" المنتظر.
وتزامن قرار إنتاج مثقفين بالجملة هذا مع تدشين مشروع هائل لصناعة الكاريزما أشرف عليه وزير الإعلام نفسه، ورفع الرئيس الراحل حافظ الأسد فوق المرتبة البشرية. هنا بدئ بحقن منطق الحزب الواحد العقائدي والمجرد من حيث المبدأ بعنصر ولائي شخصي، لا ينبع بالضرورة من العقيدة البعثية، وإن كان إغراء طبيعيا لكل واحدية عقيدية وسياسية.
ما يهمنا في ما قد نسميه نظام الحزب الواحد الولائي، أنه بالفعل صراع دائم يفوز فيها الأسوأ، ويستبعد منه الكفؤ والمختلف والمبدع. فبإقصاء المنافسة الحرة، السياسية والاقتصادية والثقافية، أحيلت المطامح الارتقائية السوية للأفراد والجماعات إلى التسابق المهووس على الإمّعية والولاء للحاكم و"التصدي لخصومه". وهو ما ولّد منذ أواخر السبعينات تمييزا صريحا بين حائزي الثانوية العامة السوريين لصالح من أجروا دورات مظليين أو التحقوا بهذه الميليشيا "الرسمية" أو تلك. كما خص بعثيون ومحاسيب بإيفادات الجامعة للدكتوراه، وخصوصا في مجال الإنسانيات. ويقول محمد كامل الخطيب إن عودة هؤلاء في أوائل الثمانينات "أسهمت في أفراغ الجامعة من مثقفيها ودورها في الحياة الثقافية في البلد". وقد أشرف بعض هؤلاء على رسائل للدكتوراه "لا تشرف البحث العلمي والأدبي".
مفعول هذا التمييز هو انهيار قيمة العمل والجهد، وإغلاق فرص الارتقاء أمام أولئك الذين يعتمدون على علمهم وعملهم وكفائتهم لمصلحة الفاشلين المستعدين، بطبيعة الحال، للاستزلام والوشاية و"التصدي للخصوم". هذا اسمه تهجير الأدمغة. وبفضل اجتماع كسر الرؤوس الأمني مع تهجير الأدمغة المحاسيبي وصلنا إلى ... هنا.
على كل حال يفسر "قانون" البقاء للأسوأ هذا تدني المستوى الفكري والسياسي والأخلاقي والمهني لنخبة الحكم. وبذلك نكون قد انتقلنا بعد 41 عاما من التخلف البسيط إلى تخلف مركب: تخلف موضوعي ضرب تخلف النخبة السياسية، ما يعني أن احتياطي سورية من فرص التقدم يقارب الصفر.

التجربة المكونة
في 8 آذار يحتفل البعثيون ( والسوريون بالتبعية) بالذكرى الحادية والأربعين لـ"ثورة 8 آذار المجيدة". كانت التجربة المكونة لنظام حزب البعث استيلاء عسكري على السلطة مع فرض فوري لحالة الطوارئ، وهو ما يطعن في قول وزير الإعلام أحمد الحسن إن "قانون الطوارئ المعلن في سورية منذ 41 عاماً سببه وجود قسم من ارضها تحت الاحتلال"؛ (الحياة، 29 شباط 2004). فحالة الطوارئ ارتبطت تكوينيا بالاستيلاء على السلطة لا باستيلاء العدو على قسم من أرضنا. ولم يقدم أي مسؤول سوري إثباتا مقنعا لتأثير حالة الطوارئ الإيجابي على فرص استعادة الأرض المحتلة، بينما تتوفر كل الإثباتات على أنها كانت غطاء شرعيا لاعتقال ألوف السوريين دون محاكمة أو تقديمهم لمحاكم استثنائية بعد سنوات طوال، وهي اليوم قيد على أية مبادرة اجتماعية وسياسية مستقلة.
أكثر ما يعبر عن تأثير التجرية المكونة هو المثل العربي الذي يقول "العلم في الصغر كالنقش في الحجر". وفي غريزة حزب البعث أو سجله الوراثي "نقش" منذ النشأة الأولى موقف استيلائي وامتلاكي حيال ما في البلد ومن فيها. ويعكس دوام حالة الطوارئ ثبات النظرة الغريزية إليهم كمصدر خطر محتمل.
ومعلوم أنه تم تجديد شباب التجربة المكونة على نطاق أوسع وأعنف وأقسى في الفترة بين 1979 و1982.
لعل مرد "الغريزة الأساسية" تلك أن الحزب لم يكن يوما حزبا شعبيا، كما يؤكد مراقب لا شك في تعاطفه مع حكم الرئيس الراحل على الأقل: باترك سيل. وقد تعكس عضوية أكثر من مليون ونصف فيه هواجس تخص شعبيته أكثر مما هي إثبات لها.

بعض عناصر السياق التاريخي
الذكرى 41 مختلفة عن كل ما سبقها. هناك بعث واحد بعد 35 عاما على الأقل من وجود بعثين. ومع أن البعث الاخر كان خصما لدودا طوال سنوات عمره تقريبا فقد كان "عمقا استراتيجيا" للبعث حزبا وعقيدة (لا لسورية). فرغم الخصومة، كان لوجود البعث العراقي مفعول تطبيعي على شقيقه السوري، اي أنه كان يقلل من غرابته ويجعله مألوفا أكثر. لذلك تسبب سقوطه السهل في انكشاف البعث السوري معنويا وسياسيا، وفي دفعه خطوة نحو عالم الغرابة والاستثناء. وكان لتسليط الضوء على السجل المريع لنظام البعث العراقي تأثير مزلزل أخلاقيا أيضا.
لقطع سلسلة التداعيات التي تربط بين البعثين، عمد مسؤولون سوريون، حزبيون وحكوميون، إلى إنكار أية صلة لهم بنظام البعث العراقي، وأكدوا أنهم فصلوا هذا من "الحزب" منذ عام 1966. قال البعثيون السوريون إن علاقتهم بالبعث العراقي كانت أسوأ من علاقة الولايات المتحدة به، وهذا حق؛ وقالوا إن سقوطه يؤكد صحة مبادئهم وسياساتهم، وهم على ضلال مبين في ذلك. فتعادي البعثين لا ينهض دليلا على اختلافهما ولا يؤثر على إنتاجية التذرع الأميركي بتماثل نتائجهما؛ وهو، من جهة ثانية، لا يكفي لقطع مسار عدوى مقارنة خبيثة بينهما تفاعلت في خواطر السوريين.
الأساسي أن سورية تواجه تحديا من نوع مختلف عما ألفته خلال عقود حكم الرئيس حافظ الأسد. وهو تحد يمس نظام الحزب الواحد رغم أنه لم ينشأ عنه: وجود القوة الأميركية الكلي الحضور في المنطقة، مع تحول العراق "إقليما قاعدة" لخططها المعلنة حول تغيير الأنظمة وبناء شرق أوسط كبير وجديد. المسؤولون السوريون يرفضون مشاريع الإصلاح الأميركية لأن "الاصلاحات يجب ان تنبع من خصوصيات المنطقة وليست باملاءات قوى خارجية" كما قال وزير الإعلام السوري في المصدر ذاته المشار إليه سابقا. لكنهم يمتنعون عن إجراء ما كان يمكن أن يمنح رفضهم للإصلاحات البرانية درجة من الإقناع والتماسك، أعنى "إصلاحات تنبع من خصوصيات المنطقة". فبقدر ما يتعلق الأمر بالخصوصيات، لطالما اعتبروا نظامهم، بطوارئه المعمرة ومحاكمه الاستثنائية وسجونه العامرة، التعبير الأمين عن خصوصيتنا. بل إنه باسم الخصوصية تحول العالم العربي، وسورية في قلبه، إلى مجال لفعل القوى الأكثر عمومية والأقل نوعية والأشد افتقارا لأية خصوصية: إدمان السلطة وجشع الثروة والاستخدام الأداتي للعقائد جميعا.
من عناصر السياق المهمة أيضا ارتفاع أصوات سورية متعددة المصادر تطالب بالديمقراطية تتجاوز أكثر من اي وقت سابق جيل ربيع دمشق من مثقفين وأحزاب ومعتقلين سياسيين سابقين. الجامعة تتحرك وإن ببطء وتدخل مطالب حياتية و"مطلبية" في الحراك الجديد. يلتقي هذان العنصران معا في اعتصام جرى في جامعة حلب في 25 شباط احتجاجا على تخلي الدولة من طرف واحد عن توظيف المهندسين، ما يعني في الظروف الحالية تركهم لمصيرهم. انفض الاعتصام باعتداء على الطلاب والطالبات، واحتجاز 14 منهم لبعض الوقت في شعبة الحزب في الجامعة مع مواصلة ضربهم فيها.
قد يؤذن تحرك من هذا النوع بعودة المشكلة الاجتماعية إلى خطاب ونشاط الحركة الديمقراطية. وبينما قد يعول على هذه العودة باختراق الأطر النخبوية التي انحبست فيها طوال السنوات الأربعة الماضية، فإننا نرجح أن الربط بين المطالب الاجتماعية الواسعة، البطالة والفقر بخاصة، وبين المطالب الديمقراطية هو الطريق السليم نحو تعاقد وطني جديد يتجاوز نظام الحزب الواحد.
ايا يكن فإن الحركة الديمقراطية السورية حاضرة في الورقتين البعثيتين بغيابها، ورغم عدم الاعتراف بوجودها أصلا. لقد تركت الحركة الديمقراطية أثرا على النقاش العام في سورية، تجاهله أصعب من الاعتراف به.

البعث في "المجتمع المدني"!
هل يستطيع البعث إصلاح أمره والتحول إلى حزب بدلا من "الحزب"؟ حزب في المجتمع المدني بدلا من الحزب في السلطة؟ ليس ثمة ما يشير إلى احتمال كهذا في التعميمين الذين تناولناهما هنا.
مستقبل حزب البعث في رأينا مرهون بقدرته على التحرر من نظام الحزب الواحد. بعث حزب البعث هو تحرره من السلطة. فإذا أصر على أن يكون "خيارا استراتيجيا" للسوريين جميعا، وثابر على التماهي مع السلطة الواحدية، فسيكون قد أفتى بأن التحول نحو الديمقراطية هو نهاية مطافه. ومن جهة أخرى، إن الحزب الذي لا يحكم دون حالة طوارئ غير مقننة وغير موقوتة، إنما يشهد بأن حكمه غير طبيعي ويجازف بأن يكون طارئا في تاريخ بلاده.
أمام السوريين، بعثيين وغير بعثيين، تنبسط مرحلة غير واضحة الملامح، لكن الأكيد أن نظام الحزب الواحد والتمييز بين السوريين بمعيار الولاء أو الانتماء الحزبي استنفد معناه وقدرته على التجدد، وبات رجعيا بكل معنى الكلمة. الدلائل تتكاثر اليوم على أن الغريزة البعثية لم تعد كافية وحدها لحكم البلد. وما جرى في جامعة حلب مؤشر مهم هنا أيضا. فالاندفاعة الغريزية اتجهت نحو قمع الطلاب وضربهم وتوقيفهم، وكانت شعبة الحزب أحد مسارحها. لكن يد الغريزة لم تعد طليقة لأسباب متعددة ألمحنا إلى بعضها. وهو ما ينعكس في احجام "عقلاني" متكرر يتلو أقداما غريزيا منفعا. طلاب حلب الموقوفون نقلوا إلى مخفر الشرطة حيث عوملوا معاملة حسنة، وأطلق سراحهم خلال ساعة.
الخيار الأحسن لسورية اليوم هو ايضا أحسن لحزب البعث أيضا (العكس غير صحيح). وهو ليس خيارا بين وجود البعث أو عدمه بل بين وجوده حزبا ودولة ووجوده حزبا بين أحزاب أخرى في حياة سياسية طبيعية.
لمصلحة سورية والسوريين أن يوجد حزب سياسي سوري اسمه حزب البعث العربي الاشتراكي في... المجتمع المدني.
دمشــق، 3 آذار 2004



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صـــراخ فـي لـيــل عــراقــي
- سوريون ضد حالة الطوارئ!
- هل سيكون 2004 عام التحول في سورية؟ عرض تقرير -التحديات السيا ...
- سورية والتحديات الخارجية عرض لتقرير -مجموعة الأزمات الدولية-
- نقاش حول الدفاع الوطني
- بلاد الموت السيء
- نحو مؤتمر تأسيسي لحزب ديمقراطي يساري - مناقشة عامة لمشروع مو ...
- وقــائــع ثــلاثــة أشـــهـر زلـزلـت ســـوريــا
- من الحزب الشيوعي إلى اليسار الديمقراطي
- لم ننجح في حل المسألة السياسية، فنجحت المسألة السياسية في حل ...
- الآثار السياسية للعولمة واستراتيجية التعامل معها
- بداية العولمة ونهاية إيديولوجيتها1 من 2
- المثقف المستشار والرائي الأميركي
- تغيير الأنظمة وإعادة تشكيل المجال الشرق أوسطي
- المثقفون والأزمة العراقية ردود قلقة على واقع مأزوم
- فوق العالم وفوق التاريخ التحول الامبراطوري للولايات المتحدة
- الوطنية الاستبدادية والديمقراطية المطلقة
- نزع الديمقراطية من الملكية الأميركية
- الولايات المتحدة، العراقيون، والديمقراطية قضايا للنقاش
- جدول الحضور والغياب في الميدان السوري العام


المزيد.....




- بالأسماء والتهم.. السعودية نفذت 3 إعدامات السبت بحق يمني ومو ...
- -أمام إسرائيل خياران: إما رفح أو الرياض- - نيويورك تايمز
- صدمتها مئات الاتصالات -الصعبة- في 7 أكتوبر.. انتحار موظفة إس ...
- مفاوضات -الفرصة الأخيرة-.. اتفاق بشأن الرهائن أم اجتياح رفح! ...
- مذكرة أمريكية تؤكد انتهاك إسرائيل القانون الدولي في غزة
- زيلينسكي يخفي الحقيقية لكي لا يخيف الشعب
- الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع -حماس-
- ميزات جديدة تظهر في -تليغرام-
- كيف يمكن للسلالم درء خطر الموت المبكر؟
- كازاخستان تنفي بيعها مقاتلات خارجة عن الخدمة لأوكرانيا


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - في السنة الحادية والأربعين فصل حزب البعث عن الدولة ضمانة له ولسوريا