"الفوز في الحرب ضد الإرهاب، نزع سلاح العراق، ووضع حد للصراع العربي الإسرائيلي"، هي العناصر التي ضمنها كولن باول وزير الخارجية الأميركي "مبادرة الشراكة الأميركية الشرق أوسطية" التي قدمها في الشهر الأخير من العام 2002. وتأسيسا لهذه الاستراتيجية ثلاثية الأركان شخص باول ثلاثة فجوات في "الشرق الأوسط" أو "العالم العربي" الذين ينتقل المخططون الأميركيون من أحدهما إلى الآخر دون إشكال: فجوة العمل وفجوة الحرية وفجوة المعرفة، ويقترح لعلاجها اقتصادا مفتوحا ونظاما سياسيا مفتوحا وفتح النظام التعليمي.
وبعد احتلال العراق بشهر واحد، في شهر أيار الماضي، اقترح وليام بيرنز، مساعد باول لشؤون الشرق الأدنى، استراتيجية للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط مكونة من أربع نقاط: التغيير الديمقراطي، إعادة بناء العراق، تحقيق رؤية الرئيس بوش الخاصة بدولتين للإسرائيليين والفلسطينيين، وتحديث الاقتصاديات العربية. وضع الرجل كلامه في سياق تصحيح السياسة الأميركية الشرق أوسطية التي "لم تول اهتماما كافيا لما ينطوي عليه تحقيق انفتاح بعض الأنظمة السياسية من أهمية على المدى الطويل، خصوصا في العالم العربي". وقبله بقليل، ولكن في سياق بلورة سياسة أميركية جديدة حيال الشرق الأوسط، كان الرئيس بوش قد اقترح انشاء منطقة تجارة حرة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط. وفي اليوم الثاني من شهر آب الفائت نشرت جريدة "الحياة" اللندنية حوارا مع إليزابث تشيني، المسؤولة في الخارجية الأميركية عن برنامج تنمية الديمقراطية، ترى فيه أن الديمقراطية العربية مصلحة أميركية. ومثل بيرنز تتقبل ابنة نائب الرئيس الأميركي نقد السياسة الأميركية بأنها لم تهتم بالديمقراطية في الشرق الأوسط: "عززنا هذا النوع من التغيرات (الديمقراطية) في أنحاء أخرى من العالم لكننا تجاهلنا الشرق الأوسط"، لكنها تفعل ذلك في سياق إنكار أي اسباب أخرى لعدم صدقية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وعليه ليس من المفاجئ أن تبرز تشيني "حاجة المنطقة إلى الإصلاح التربوي والاقتصاديي والسياسي والديمقراطية وتعزيز دور المرأة".
من السهل انتقاد الخطط والاستراتيجيات الأميركية وكشف تحيزها، وخصوصا إذا قارناها بالسجل الفعلي للسياسة الأميركية حيال القضايا العربية، لكن يصعب ألا يرى المرء أننا حيال استراتيجية تزداد تماسكا، وتستكمل أكثر وأكثر عناصر التأثير: القوة الأميركية، الرؤية الواضحة والعقيدة المشرعة، الاستعداد للعمل، وبالطبع المصلحة الأكيدة. وتزداد فرصها بعدم وجود استراتيجية مضادة من أي نوع، بل ولا حتى إمكانية جدية لرفضها.
النقطة الأهم التي تستحق الانتباه في المبادرات والعروض الأميركية أن العالم العربي يوجد فيها موحدا، لكن فقط من حيث كونه بندا في الأجندة الأميركية. فالولايات المتحدة تخطط للمجال العربي الواسع الذي انتهى إلى العجز عن التخطيط لنفسه. وهي تستطيع فعل ذلك لأنها منذ الآن تسيطر على أنساق التفاعلات بين الدول العربية وتحدد لها، بطرق مباشرة أو غير مباشرة، هوامش الاستقلالية والمبادرة الذاتية. فالطريق بين العواصم العربية إما أن يمر عبر واشنطن أو أن يتجنب أي تعارض مع طرق واشنطن وطرائقها. ولا يستطيع الأميركيون، وهم يخططون للعالم العربي، إلا أن يتعاملوا معه ككل موحد، لكنه موحد بالتبعية، أي كموضوع أو كمجال لفاعليتهم هم وليس كفاعل قادر على الاختيار والرفض والانتظام في أطر خاصة به. لكن المؤكد أن الأميركيين إذ يخططون لعالم عربي واحد يقومون بكل ما في وسعهم للحيلولة دون تحول هذه الوحدة السلبية إلى وحدة فاعلة وحقيقية. فعلى "الوحدة العربية" أن تنعقد في واشنطن، ولا يجوز أن تنعقد في غير واشنطن. وهذا جانب من مغزى رفض الولايات المتحدة أن يكون للدول العربية أي أقنية تأثير مستقلة في العراق، أو أن تكون هي الممر الإلزامي لأي نفاذ عربي (أو غير عربي في الواقع) إلى الشأن العراقي. وهو أيضا مغزى منعها الدول العربية من التدخل في "خريطة الطريق".
لا يهم أن تكون المبادرات المذكورة أعلاه قابلة أو غير قابلة للتطبيق، فهي ليست موضوعة في أفق برنامجي تنفيذي حقيقي أصلا؛ المهم أنها تثبِّت انفراد الأميركيين بوضع أجندة الشرق الأوسط واحتكار المبادرة فيه، وأنها وحدها القادرة على خلق ديناميكية سياسية في أوساط نخبه الحاكمة، وأن تلك المبادرات تشكل نوعا من الاستملاك الرمزي والمعنوي لهذا المجال الشرق أوسطي عبر احتكار تأويل أوضاعه وإدراجها في سرد متماسك. باختصار تصب كل المشاريع والخطط الأميركية في تثبيت المرجعية، إن لم نقل الملكية، الأميركية للشرق الأوسط. وهي بذلك "استمرار للحرب بوسائل أخرى" ولخدمة الهدف ذاته: احتلال الولايات المتحدة الموقع الذي يمكنها من التحكم بكامل نسق التفاعلات في المجال العربي برمته. فإن لم يضمن الأميركيون سيطرة فعالة على هذه التفاعلات وتسييرا دقيقا لها، فإنهم بالتأكيد يملكون القدرة على اعتراض أي خروج محتمل لها من السيطرة وأي خلل في سيرها المضبوط. وفي هذا السياق يبدو أن مذهب الضربات الوقائية يحاول أن يضفي معقولية وشرعية على هذه القدرة الاعتراضية، أو ما يصح أن نسميه "الحق في المطاردة". بعبارة أخرى تسعى الولايات المتحدة إلى الارتفاع بقدرتها على التحكم بالتفاعلات العربية إلى مستوى جعله "حق شفعة" في الضرب والاحتلال و"مكافحة الإرهاب".
لذلك نخطئ، أعني النقاد والمثقفين العرب، حين نكتفي بكشف تهافت الخطط الأميركية وعدم جديتها أو تعارضها مع السياسة الأميركية الفعلية. نخطئ حين نعتقد أننا نفحم بوش ونكشف تهافت مبادرة باول ونكذّب اعتراف بيرنز وتشيني برد افتقار الأميركيين للصدقية إلى عدم اهتمامهم بالديمقراطية..إلخ. فما نهمله أن مبادرات هؤلاء وخططهم لا تكتسب وزنها من تماسكها الذاتي ولا من القيم التي تنتحلها، بل من كونها عناصر في استراتيجية كبرى وظيفتها احتواء العرب في "الشرق الأوسط"، ومنعهم بالتالي من التكون كطرف فاعل تتغلب تفاعلاته الداخلية على تفاعلاته مع الخارج (في الأصل التفاعلات هي التي تصنع الداخل، والخارج هو ما وراء حدودها).
حين يصف جيمس وولسي، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بين عامي 1993 و1995، "الشرق الأوسط العربي" بأنه ذلك "الجزء الفريد من العالم الذي لا يملك أية خبرة تاريخية عن الديمقراطية، وقد نبذ بعنف التدخلات الخارجية"، فإن الرد عليه لا يكون بكشف التعارض بين بالديمقراطية والتدخلات الخارجية، ولكن بالعمل على جعل رفض التدخلات الخارجية لحظة في توسيع الداخل الوطني العربي بالديمقراطية. وهذا لأن الاستقلال حيال الخارج قد ينقلب احتلالا للداخل وتضييقا له. فبدلا من أن يكون الاستقلال الخطوة الأولى نحو الحرية والحضارة، تحول إلى الخطوة الأخيرة في مسار تحرري جهيض يقودنا اليوم بإيقاع متسارع وبخط مستقيم نحو عودة الاستعمار. هذا المسار هو الذي ترك لأميركا اليد العليا في ضربنا وفي الديمقراطية معا.
لا يمكن لنقدنا أن يكون مفيدا إلا إذا وضع الاعتراض على الخطط الأميركية في سياق بناء إرادة التغيير وتمثيل الذات، أي في سياق الانتقال من رفض خطط الآخرين إلى التخطيط لأنفسنا وإطلاق ديناميات تغيير ذاتية. فالأمريكيون لا يملأون فراغا تخطيطيا في العالم العربي، ولكن كذلك فراغا تغييريا. وهذا الفراغ التغييري، أعني امتناع العرب عن تغيير أحوالهم وعن بلورة آليات تغيير ذاتية، هو الذي يستدعي الأميركيين لملأه.
إن بناء الداخل هو الخطوة الأولى لاحتواء ضغوط الخارج وتدخلاته. وإن إنتاج التغيير الذاتي هو الحماية الحقيقية من التغيير الاضطراري الخارجي. بهذا يمكن أن ننتزع الديمقراطية من الملكية الأميركية. وبهذا أيضا يمكن لمواجهتنا للحروب والضغوط الأميركية أن تستند إلى سجل الكفاح التحرري والديمقراطي العالمي، بينما تعود هذه الحروب والضغوط ذاتها إلى منبعها الأصيل: السجل العريق للاستعمار والعدوان والعنصرية.
دمشق 2/9/2003