أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - هل الإرهاب هو نمط الصراع الدولي المناسب لصراع الحضارات؟















المزيد.....


هل الإرهاب هو نمط الصراع الدولي المناسب لصراع الحضارات؟


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 686 - 2003 / 12 / 18 - 05:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أزمة العالمية
في مقال سابق (صدام الحضارات: صراع طائفي على الصعيد العالمي) حاول كاتب هذه السطور التقريب بين صراع الحضارات أو صدامها وبين الصراع الطائفي، وكذلك بين النظام العالمي (أو العالمية التي تشكل نظرية صدام الحضارات استجابة إيديولوجية يمينية لأزمتها) وبين النظم الوطنية غير المستقرة في بلادنا العربية خاصة. وقد ملنا إلى تصور أن المشكلة الطائفية التي عانت منها بعض هذه النظم تعكس مرض الاجتماعية بوصفها الوجه الداخلي للوطنية ( وجهها الخارجي هو الاستقلال والسيادة وانعدام التبعية). وكما أن النزاع الطائفي ينشأ على أرضية التقليل من أهمية المشترك الوطني إن لم نقل اعتبار هذا المشترك عبئا وقيدا ينبغي التحرر منه، فإن نظرية صراع الحضارات تقوم على تجاهل المشترك العالمي، القانوني والمؤسسي والقيمي، فضلا عن إغفال حقل المبادلات المادية والإعلامية الكثيفة التي دفعت مارشال ماكلوهان قبل قرابة 25 عاما إلى الحديث عن العالم كقرية صغيرة. ليس هذا فقط، بل إن فكرة الصراع الحضاري تقتضي في الحقيقة تقليص هذا المشترك أو اعتباره هو بالذات وجها من وجوه السيطرة العالمية المعقود لواؤها للحضارة الغربية، وبالتالي التعامل مع المنظمات الدولية التي تجسد هذا المشترك كواجهات للنفوذ الغربي العالمي وللقيادة الأمريكية ضمن الغرب. قد يكون هذا هو الواقع فعلا، لكنه واقع مؤسف من وجهة نظر هذه المنظمات وفلسفة التعاون الدولي والوحدة العالمية التي تقوم عليها. أما من وجهة النظر "الحضارية" فهو واقع ينبغي فرضه وتثبيته بكل الوسائل بما فيها القوة إن اقتضى الأمر. على  كل حال تفسر الرغبة في تحجيم المشترك العالمي ميل الولايات المتحدة خلال بضع الأعوام الأخيرة إلى التحلل من عدد من الاتفاقات والمعاهدات الدولية أو رفض التوقيع عليها. ففي العام المنصرم وحده رفضت أمريكا التوقيع على اتفاقية كيوتو حول حماية بيئة الكوكب الأرضي، وألغت في الشهر الأخير منه معاهدة ABM الخاصة بحظر الأسلحة المضادة للصواريخ الباليستية. واتخذت موقفا مشينا في مؤتمر ديربان لمناهضة العنصرية الذي انتهت أعماله قبل يومين أو ثلاثة من ضربات 11 أيلول؛ إذ لم تكتف برفض إدانة استعباد الأفارقة والاعتذار عنه ودفع تعويضات لهم، بل توجت كل ذلك بالانسحاب من المؤتمر متأبطة إسرائيل كالعادة. ولم يمض وقت بعيد على اتخاذ إدارة كلينتون عقوبات لأحادية الجانب ضد الشركات الأوربية التي تتعاون مع إيران وكوبا والسودان. وبأسلوبها المتغطرس المعتاد لخصت مادلين ألبرايت  وزيرة خارجية كلينتون موقف حكومتها من العراق إبان أزمة 1998: سنتصرف بالتعاون مع الآخرين إذا أمكن وإلا فبشكل منفرد كما يقضي واجبنا. بهذا التحلل المتكرر من القواعد الناظمة للعلاقات الدولية وبتحدي إرادة أكثرية دول العالم وشعوبه تعطي الولايات المتحدة مثالا بالغ السوء عن القانون الدولي الذي يفترض أن تكون راعيته الأولى بحكم موقعها ودورها العالميين. ولا ننسى أن مفهوم الدول المارقة أو العاصية التي وضع بوش الأب قطف رؤوسها على رأس جدول أعمال إدارته يقتضي وحدة القانون الدولي وعموميته وسيادته؛ وإن كان من ناحية أخرى يجعل من الولايات المتحدة القيّم الوحيد على تفسير القانون وتنفيذه، أي قاضيا وشرطيا، فوق كونها خصما.
السيطرة والقيادة
إن هذه الوقائع إذ تشير إلى غلبة أمريكية لا جدال فيها تطعن جديا في قيادة الولايات المتحدة العالمية، أعني في جدارتها القيادية. والحقيقة أن الغلبة أو الأرجحية الأمريكية ليست موضع تحد أو مراجعة إلا لأنها لا تشكل وحدها أرضية صالحة للقيادة العالمية، وإلا لكان كل طاغية متغلب قائدا لشعبه. ففي مفهوم القيادة عناصر معنوية مدارها القدوة والريادة والحكمة التي تبعث على الانقياد الطوعي والاقتداء والرضا الذاتي عن السير خلف القائد. وما نريد الخلوص إليه من هذه الإشارات السريعة هو تجسيد التعارض بين الموقع الواقعي والموضوعي للولايات المتحدة على رأس الهرم العالمي وبين وعيها وممارساتها الذاتية التي رأى بعض حلفاء أمريكا الغربيين بالذات أنها تقوم على البلطجة والتنمر واحتقار القانون. وهي بهذا السلوك الذاتي المتجبر تنتهك روح فكرة القيادة حتى وإن استولت على جسدها وتقمصت رسومها. كما تتجاهل دروس الماضي والحاضر التي تقول إن سياج السلطة هو الشرعية، وإن توفر الشرعية والقدرة هو الذي  ينجب القيادة الناجحة. قد تستطيع الولايات المتحدة احتكار العنف على الصعيد العالمي لكن شرعية العنف لا تنبع من مجرد القدرة على احتكاره، حتى لو أمكن لهذا الاحتكار تخويف الجميع وفرض الصمت عليهم.
القصد أن إضعاف أو تعطيل قواعد الشراكة العالمية سيبيح لكل طرف من حيث المبدأ أن يفعل ما يحلو له، وبالتالي سيدفع العالم إلى حالة من الفوضى وسيادة قانون الغاب واستشراء العنف. أما من حيث الواقع فنحن نعلم أن خيار العنف ليس متاحا، ولا مباحا بالطبع، إلا للقوي الذي يستطيع ممارسته دونما خشية من عقاب وتحميل تكاليفه للضعفاء. والحقيقة أن المبرر الأهم لوجود قانون دولي (أو وطني) هو الحد من عنف الأقوياء ضد الضعفاء وتوفير فسحة من الأمان حتى لمن لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. إن غياب هذه الفسحة الآمنة مقياس دقيق للارتداد العالمي (أو الوطني) نحو البربرية والتوحش الذي لا يشكل السعار الأمني الراهن إلا مظهرا واحدا من مظاهره. ولعلنا، نحن العرب، من أكثر شعوب العالم معرفة للتناسب العكسي بين "الأمن" والأمان: فكلما نمى الهاجس الأمني وتكاثرت أجهزة الأمن لدى دولنا تراجع الأمان والسلم الأهلي، بل والأمن الوطني الحقيقي. علاوة على ذلك تبدو الدول الأكثر إيمانا بسياسة القوة، سواء تجاه مواطنيها أو تجاه جوارها وغيرها، هي الأكثر تعرضا للمنازعة العنيفة والانتقام الإرهابي. فكأن إيمانها المفرط بالقوة ونجوع الحلول المعتمدة عليها ينتقل بالعدوى أو بالاضطرار إلى خصومها. ولعل الحكمة البسيطة التي ينبغي استخلاصها في هذا السياق هي أن من يزرع التطرف سيحصد الإرهاب، باعتبار أن التعويل المفرط على الأمن ومنطق القوة هو شكل أكيد من أشكال التطرف.
الإرهاب والعنف غير المشروع 
بالرغم من المجد الذي ناله مفهوم الإرهاب في الشهور الأخيرة فإن المفهوم الأوضح والأدق هو مفهوم العنف غير القانوني أو اللامشروع، أي الذي تمارسه أية سلطة دون تخويل أو تفويض شرعي. فممارسة الولايات المتحدة للعنف في أفغانستان وقبلها في البلقان غير شرعية رغم الشرعية الأكيدة لسلطتها في مجالها الإقليمي. وممارسة العنف الإسرائيلي في الضفة والقطاع غير شرعية بقدر ما أن سلطة الاحتلال كذلك. وهذه النقطة هامة. فشرعية سلطة الدول من وجهة نظر القانون الدولي لا تضمن شرعية كل ممارسة للعنف من جانبها. بالمقابل إن عدم شرعية جهة ما من وجهة نظر القانون الدولي ذاته( حركات المقاومة الوطنية، الانتفاضات الثورية ضد أنظمة طغيانية) لا تعني أن كل ممارسة للعنف تقوم بها هذه الجهة غير شرعية بالضرورة. أما قصر مفهوم الإرهاب على العنف الذي تمارسه تنظيمات ما دون الدولة واعتباره هو الشكل الوحيد للعنف غير المشروع فهو بالذات قرار اعتباطي وغير شرعي، إن لم نقل إنه إرهابي فعلا. بيد أنه يجب القول أن الشرعية الأخلاقية التي قد تحوزها تنظيمات ما دون الدولة كحركات المقاومة والتحرر لا تضمن شرعية كل تصرفاتها وأفعالها. فسلامة السياسات من وجهة نظر القيم الإنسانية لا تشتق من عدالة القضايا التي تمارس تلك السياسات باسمها.
تكشف السطور السابقة عن التعقيد الشديد لمفاهيم العنف والشرعية والإرهاب. وهو تعقيد متولد عن ارتباطها بأنظمة المصلحة والقوة ورهاناتها واستراتيجياتها، أي باختصار ارتباط المعرفة والسلطة. ومن الأسئلة التي نرى أن من المفيد لنا كعرب الانشغال بها في هذه المرحلة بدلا من التبرؤ من الإرهاب أو رمي الآخرين به: متى تكون الحرب، أي ممارسة الدولة للعنف خارج حدودها، شرعية؟ ومتى يكون القمع، أي العنف تمارسه الدولة في إقليمها، غير شرعي؟ وما وضع الحرب الأهلية حيث تكون الشرعية مأزومة أو معلقة؟ والعنف الذي يمارسه بعض مواطني الدولة ضدها؟ أو ضد دولة صديقة لها؟ أو عدوة لها؟  لا ينبغي أن نكتفي بإسقاط أوضاعنا وقضايانا عند التفكير في هذه المسائل ونعتبر الإجابات بديهية. فاتخاذ مسافة من قضايانا قد يكون شرطا ضروريا لتجديد النظر وأساليب العمل حيالها. نحن نعيش في هذا العالم، ولا يكفي الرضا النرجسي عن الذات إلا في المزيد من عزلنا عنه وعدم فهمه لنا. الواضح على كل حال أن مفهوم الإرهاب لا يكاد يفيد شيئا في فهم معظم الحالات المذكورة دون تحليل ملموس للأسباب والدوافع وجذور النزاع…وليس هناك أي تعريف عام ومرسل للإرهاب على النسق السائد اليوم لا يقود إلى تناقضات وإحراجات للجهة التي أصدرته بالذات، حتى لو خرج لتوه من مخابر المخططين الاستراتيجيين الأمريكيين أنفسهم.  
لنأخذ التعريف التالي: "الإرهاب استخدام مدروس للعنف والتهديد بالعنف والتخويف والإكراه لأغراض سياسية أو دينية" حسب كراسات عسكرية أمريكية. يقتبس تشومسكي (الولايات المتحدة بين الإفراط في القوة وفي السيطرة، الإرهاب سلاح الأقوياء؛ لو موند ديبلوماتيك ـ كانون الأول 2001) هذا التعريف ويعلق عليه:  "المشكلة في هذا التعريف أنه يطاول في شكل دقيق تقريبا ما سمته الولايات المتحدة حربا خافتة وتبنيها هذا النوع من الممارسة" [الترجمة على مسؤولية المصدر]. من "الحروب الخافتة" التي تخطر فورا  على البال حرب الوكالة ضد نيكاراغوا الساندينية، الحرب المماثلة لها ضد أنغولا حتى وقت غير بعيد… ويضيف تشومسكي: "عندما تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول/ ديسمبر 1978 قرارا ضد الإرهاب، تمنعت عن التصويت دولة واحدة هي هندوراس فيما اعترضت عليه دولتان هما الولايات المتحدة وإسرائيل. لماذا اعترضتا؟ بسبب مقطع من القرار يشير إلى أن ليس المقصود به إعادة النظر في حق الشعوب في الكفاح ضد نظام استعماري أو ضد احتلال عسكري". ليس غرضنا من هذا الاقتباس إثارة المشاعر ضد الولايات المتحدة بل تقديم مثال من عشرات على " مروق" الولايات المتحدة وعصيانها وخروجها على الإجماع الدولي.
صراع القبائل
قد يوافق القارئ على ما سبق ، لكنه سيتساءل : ما علاقة كل ذلك بصراع الحضارات؟ وجوابنا هو أن اعتبار العالم مجموعة من الكيانات الحضارية أو الثقافية أو الدينية المغلقة على ذاتها والمتنافسة يقدم تبريرا لسيطرة الأقوى من بينها التي ستمنح نفسها شرعية القوة والغلبة. بعبارة أخرى بقدر ما يتآكل مفهوم الشراكة العالمية وتزول أية معايير موضوعية أو مستقلة تحدد التعاقدات والالتزامات المنتظرة من الدول، فإن مفهوم الحضارة وصراع الحضارات يقدم التسويغ المناسب للتنافس الوحشي المنفلت من كل عقال. فما لا تسوغه الشرعية والقيادة ـ وهي تفترض بداهة مشتركا عالميا مستقرا ـ تسوغه الغلبة والشوكة المنسوبة إلى "حضارتنا الغربية". والمشكلة في مفهوم الحضارة في نظرية هنتنغتون أنه كيفي وذاتي جدا لا يترك مجالا للغة مشتركة أو لمقياس إنساني يمكن أن يتواضع عليه الجميع. القضية الأكيدة هنا أنه لا يمكن تأسيس قانون دولي عام على تصور العالم مكونا من كيانات خاصة متخارجة لا يجمعها جامع. فضمن هذا التصور ما من شيء يحول دون أن تفرض القبيلة الأقوى من القبائل (الحضارات) العالمية مشيئتها الاعتباطية على القبائل الأخرى وفق قانون العصبية والغنيمة والصراع من أجل البقاء الذي نعرفه جيدا في تاريخنا، وتكثفه كلمة "الجاهلية".
على أن نظرية صراع الحضارات تستجيب أيضا لحاجات الحفاظ على تماسك التحالف الغربي المعرض للوهن بعد زوال "الخطر الشيوعي" الذي كان يشد من تلاحمه. فبجعل "الحضارة" محورا لصراعات المستقبل يستعيد الغرب مستوى من الوحدة كانت قد غمرته أمواج الأمم والطبقات والإيديولوجيات في القرن العشرين. وهي، أعني نظرية الحضارات، أيضا وأيضا فرصة لإعادة بناء الضمير الغربي ومصالحته مع نفسه (خير تعبير عن هذه المصالحة نظرية نهاية التاريخ لفوكوياما) بعد أن تعرض لتمزقات خطيرة في مرحلة نزع الاستعمار وبروز النزعات العالم ثالثية في حضن الغرب ذاته، فضلا عن حركات الحقوق المدنية التي غطت المشهد الغربي في الستينات وبعض السبعينات. من هنا الطابع الثأري المميز لسياسات اليمين الأمريكي خصوصا. ومن هنا الروحية "المتحررة من الأوهام" والمحافظة التي تميز مذهب ما بعد الحداثة الذي يتحدث عن نهاية الحكايات الكبرى والأساطير الخلاصية. فهذه النهاية هي أيضا نهاية صدع الضمير الغربي وتتويج ماكر لنظرية النسبية الثقافية التي انتقدت الإمبريالية الثقافية لكنها حطمت أيضا قواعد التفاهم والشراكة والعمومية الإنسانية. وبرفضها المحق للمركزية الأوربية أو الغربية ارتمت النسبية الثقافية في أحضان نوع من الوثنية البابلية حيث لا يفهم أحد على أحد ولا يحس أحد بأحد.       
    لا تستنفد الوحدات الحضارية النظام الدولي ولا يستغرق صدام الحضارات الصراعات والتوترات الدولية لحسن الحظ؛ لكنها مع ذلك تعكس وجها حقيقيا من وجوه واقع العلاقات الدولية في عالم ما بعد الحرب الباردة، الوجه الذي تسعى دوائر اليمين الغربي لتغليبه وتسويده. قد يغرينا أن نتحدث عن إعادة بناء الإيديولوجيا الاستعمارية على قاعدة صدام الحضارات و"الحرب ضد الإرهاب". لكن في كل الأحوال، وسواء استسلمنا لهذا الإغراء أم لا، فإننا حيال طور جديد من أطوار السيطرة العالمية. والأرجح في تصورنا أن الطور الجديد سيتميز بمستويات غير مسبوقة من العنف والإخضاع والنهب والوحشية من جانب الولايات المتحدة. وبالمقابل هناك دول وشعوب ستصبح في وضع ميؤوس منه باطراد، وسيتم إخلاؤها من المركب كما ترمى الحمولة الزائدة من المراكب الموشكة على الغرق.
نظريات السيطرة
نميل كذلك إلى الاعتقاد أن السنوات القادمة ستشهد طلبا متزايدا على نظريات عرقية وعنصرية ودينية تشرع لنمط السيطرة الجديد ومشاريع الإبادة المرتبطة به. ولعلنا يجب أن نقلب تصورنا للعلاقة بين النظرية الحضارية ونظام السيطرة الدولية الأمريكي الذي أخذ يتبلور مع نهاية الحرب الباردة ورسوخ نظام القطب الواحد. فليست النظرية المذكورة، ولا النظريات عموما، هي التي ترسم ملامح السياسات التي ستطبق، بل إن نشوء وتكون نظام جديد للسياسة والسلطة هو الذي يحرض "إبداع" نظريات تعكسه وتسوغه في آن معا. لقد ارتبطت نظرية الرسالة التحضيرية بالاستعمار الفرنسي ونظرية عبء الرجل الأبيض بالاستعمار البريطاني. وراجت في الحقبة الاستعمارية الكلاسيكية النظريات العرقية التي تتحدث عن أعراق عليا ودنيا، وتفرعت عنها نظريات متفاوتة القيمة العلمية من مثل تقسيم اللغات والأعراق ( سامية، حامية،  آرية…) فضلا عن وفلسفة التاريخ "التقدمية" المبنية على المركزية الأوربية. وفي مرحلة نزع الاستعمار راجت نظريات الامبريالية والتخلف والتنمية وجميعها تنكرـ ولعلها تبالغ في إنكارـ دور العوامل "الحضارية" والثقافية في تحقيق التقدم وتسبيب التأخر، كما تشترك في رد الفوارق بين المجتمعات إلى نظمها الإنتاجية وتوفر عناصر التنمية لديها. وبينما توافقت مرحلة نزع الاستعمار مع مؤسسات من نوع حركة عدم الانحياز  والتضامن الآسيوي الأفريقي ومنظمة اليونسكو والصحة العالمية…فإن المرحلة الاستعمارية طورت مؤسسات الحماية والوصاية والانتداب التي تشرع لدول الغرب المتقدمة التحكم بمصير الشعوب الملونة التي لا تستطيع أن تقرر مصيرها بنفسها. وليس لدينا أي سبب اليوم لاستثناء نظام السيطرة الدولية الجديد من قاعدة إنتاج نظرياته المشرعة ومؤسساته المنظمة. وقد ألمحنا قبل قليل إلى ارتباط مذهب ما بعد الحداثة مع النزعات المحافظة في الغرب في مرحلة ما بعد انهيار الشيوعية وهزيمة حركات التحرر الوطني في البلدان المتخلفة.  وما يجب أن نستنتجه من ذلك هو أن النظريات التي تنتشر في مرحلة لا تعكس وقائع موضوعية فقط بقدر ما تلبي أيضا مطالب عملية وتستجيب لنوعية القوى الصاعدة في المرحلة المعنية ولجدول أعمالها. فبشيء من التبسيط نقول إن نظرية صراع الحضارات هي مذهب تشريع نظام السيطرة الأمريكية العالمي في مرحلة ترسيخ نظام القطب الواحد.
الإرهاب الصغير والإرهاب الكبير
ليس الإرهاب الصغير هو الذي يهدد العالم تهديدا جديا. فمهما أمكن للضربات الإرهابية التي قد تنفذها منظمات حسنة التنظيم وقوية الانضباط أن تكون مؤذية فإنها تبقى أدنى بكثير مما تستطيع أصغر الدول فعله. لا مجال للمقارنة بين الحرب الأهلية في رواندا التي تسببت في مئات ألوف القتلى والمهجرين، أو حرب روسيا في الشيشان أو طبعا حرب إسرائيل في فلسطين ناهيك عن حرب الولايات المتحدة "ضد الإرهاب" وبين ضربات 11 أيلول الأمريكية، لا من حيث عدد الضحايا ولا من حيث حجم الخسائر بالقياس إلى ثروات البلدان المعنية وعدد سكانها. وستبقى ضربات من نوع 11 أيلول نادرة رغم ثبات الشروط التي تسببت بها بل ورسوخ هذه الشروط. ولا شك أن "القاعدة" ستبقى استثناء لا يقاس عليه وربما لن يتكرر. الخطر الحقيقي يكمن فيما سميناه في مقال سابق بالشرط الإرهابي، أي ذلك المزيج المتفجر من الطغيان السياسي وتراكم الفقر والبؤس واللامساواة ومن انسداد الآفاق واليأس. فإذا أضيف اليوم لكل ذلك نظام رقابة ووقاية وعقاب بالغ التطور تقنيا ومعمم عالميا فقد نشهد على مستوى الجماعات وحتى الشعوب اليائسة والمقيدة توجيه الإرهاب ضد الذات على شكل انتحارات جسدية أو روحية واسعة النطاق. وهل يشكل توسع الجريمة وإدمان المخدرات وحالات التفسخ الاجتماعي المرصودة في العديد من الدول العربية غير أشكال أولية للانتحار والتدمير الذاتي؟!
ردا على السؤال الذي طرحناه في عنوان هذا المقال نقول: ليس هناك علاقة ضرورية بين الإرهاب الصغير وصراع الحضارات إلا على مستوى شديد العمومية، أي من حيث أنهما معا مؤشران على أزمة العالمية. لكن عالما تتحكم بوعيه مذاهب عنصرية وقتالية من نوع صراع الحضارات هو عالم أشد عنفا وأكثر وحشة ووحشية وأقل أمنا حتى من العالم الذي شهد الحربين العالميتين وناغازاكي وهيروشيما.  وإذا أضيف الكمال التقني للحضارة المتفوقة فقد يصبح الإرهاب الصغير نوعا من الفلكلور المثير للحنين، لأن السلطة والشرعية والذاكرة ستدين عندئذ للإرهاب الكبير.
دمشق ـ 10/1/2002



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ربـيـع حـقـيـقـي فـي سـوريـا أم سـنـونـوة تـائـهـة؟
- عـقـد مـع ســوريــا
- القوة الامبراطورية والضعف العربي أية استراتيجية ممكنة؟
- نهاية الدولة الوظيفية العربية
- نافذة يسارية
- خريف دمشـــــق
- بعض عناصر خطاب الحرب الأمريكي
- المهاجرون في الأرض
- ثقافة الطوارئ نقد الثقافة السياسية السورية
- الحكم العضوض والتغيير الممنوع
- نحو إعادة بناء الإجماع الوطني في سوريا
- بعد دكتاتورية صدام ديمقراطية فسيفسائية في العراق
- صدام الحضارات: صراع طائفي على الصعيد العالمي
- ماكبث بغداد...وإخوته
- أزمة الإبداع في الثقافة العربية المعاصرة
- السلطة والتبعية -تحالف- الأمير والأميركان
- الإرهاب العربي-: بعض الأصول والمحددات
- احتلال من باطن نظام إقليمي جديد في -الشرق الأوسط-؟
- ندوة حول الارهاب وعالم ما بعد 11 ايلول - المشاركون: د. صادق ...
- الشــرط الإرهــابي تمزق معنى العالم


المزيد.....




- هدده بأنه سيفعل بأخته ما فعل به لإسكاته.. رجل يتهم قسيسًا با ...
- مصر تفتتح أكبر مراكز بيانات -مؤمنة- في تاريخها تحتوي على كل ...
- يوتيوبر أمريكي ينجو من الموت بأعجوبة (فيديو)
- السعودية.. جدار غباري يجتاح وادي الدواسر وزوبعة ضخمة تظهر ش ...
- بوريل: لسنا مستعدين للموت من أجل دونباس
- السيسي للمصريين: علموا أولادكم البرمجة بدلا من كليات الآداب ...
- محمد صلاح.. يلمح إلى -خطورة- الأسباب وراء المشاجرة الحادة بي ...
- الزي الوطني السعودي.. الحكومة توجه موظفي الحكومة بارتدائه اع ...
- الشرطة الليبية.. ردود فعل واسعة بعد تدافع رجال أمن خلف شاحنة ...
- حمزة يوسف أول رئيس وزراء مسلم لاسكتلندا يستقيل قبل تصويت مقر ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - هل الإرهاب هو نمط الصراع الدولي المناسب لصراع الحضارات؟